الفصل الثالث

الكتب والطبقة الوسطى

لقد اقترنَت — زمنيًّا تقريبًا — الظروف التي جَعلَت التعليم مُتاحًا ووفَّرَت قنوات نقل المعرفة بصورة من الصور، مع ظاهرة من طبيعة مختلفة شَجَّعت على انتقال المعرفة هي الكتب. وهي ظاهرة ذات طابع مادي أثَّرت على سكان القاهرة، كما أثَّرت على غيرهم من سكان مدن الدولة العثمانية، ونَتج عنها أن أصبح الكِتاب في متناوَل أيديهم. وكانت — أيضًا — ظاهرة ذات بُعد إقليمي. والواقع أن انتقال الاهتمام بالكتب من الطبقة العليا إلى الطبقة الوسطى — الذي يطرحه هذا الفصل — اقترن أيضًا باتجاه مماثل في أوروبا في تاريخ سابق وعلى نطاق مختلف. فقد ارتبط انتشار الكتب في أوروبا بالطباعة. ولكن الشرق الأوسط لم يعرف الطباعة إلا في تاريخ لاحِق لاختراعها في أوروبا؛ فلم تعرفها مصر إلا في القرن التاسع عشر. غير أن ثَمَّة تطورات مُهمَّة حدَثَت في بواكير العصر الحديث، أتاحت فرصة انتشار الكتب بين أفراد الطبقة الوسطى الحَضَرية، ويعني ذلك أننا بحاجة إلى تحديد الظروف التي يَسَّرت سبيل ذلك، بعيدًا عن عامِل استخدام المطبعة.

هناك مؤلَّفات ضخمة تتحدث عن انتشار معرفة القراءة والكتابة واقتناء الكتب في بلاد كثيرة، مثل فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وإنجلترا، كشفت النقاب في السنوات الأخيرة عن إقبال سكان المدن على الكتب، وأثرها على ما كان يُكتَب. وقد ارتبطت هذه الظاهرة بنمو المدن الأوروبية واستخدام الطباعة.

ومن الأهمية بمكان أن نفهم الطريقة التي تطوَّرَت بها هذه الاتجاهات فيما وراء الحدود السياسية لبلاد أوروبا، وأن نحدِّد عوامل انتشارها عَبْر الحدود. ويذهب بيتر بيرك إلى أن تَتجِير الكتب جاء نتيجة انتشار الرأسمالية التجارية، وهو عامِل له فاعليته فيما يتعلق بالقاهرة.١ وعلى كلٍّ، القضية معقدة، وتحتاج إلى أن نَضع في اعتبارنا عددًا من العوامل التي يطرحها هذا الفصل.

إن نمو ثقافة الكتب عند الطبقة الوسطى الحَضَرية القاهرية، التي لم تَكن تنتمي إلى الطبقة الحاكمة التي صُنعَت من أَجْلها الكتب ذات المستوى الفني الرفيع، ولا إلى المُؤسَّسة الدينية التي ارتبط بها التعليم الديني، يُعدُّ ظاهرة ثقافية ذات مغزًى. ولا بد أن يكون لمثل هذه الظاهرة أثرها على الإنتاج الفعلي للكتب، وعلى المادة التي تتضمَّنها، ويهتم هذا الفصل بدراسة هذا الاتجاه وما تَرتَّب عليه من نتائج بالنسبة لسوق الكتب وقرائها.

والواقع أن هذا الاتجاه جاء نتيجة لمجموعة من العوامل المختلفة؛ فقد اقترن اقتناء الكتب بالحالة الاقتصادية للمشتري التي تتيح له فرصة اقتنائها، ومن ثَمَّ لا نستطيع أن نفصل بين دخول قطاعات عديدة من الطبقة الوسطى الحَضَرية في إطار الرأسمالية التجارية، وقُدرَتهم على إنفاق الأموال على سلعة كمالية مثل الكُتب. وهناك عامِل آخَر بالِغ الأهمية هو وجود أدلة على تناقُص أسعار الكتب تناقصًا كبيرًا، وأن الكُتب الرخيصة كانت متاحَة في أواخر القرن السابع عشر لأسباب، سنأتي على ذِكرها فيما بعد.

ويرتبط انتشار الكتب على نطاق واسع باستخدام الطباعة، وهناك دراسات كثيرة تَناولَت أثر الطباعة والتوسُّع الكَمِّي في إنتاج الكتب الذي أدَّى إلى انتشار تداولها ورخص أسعارها بصورة غير مسبوقة. ولكن، هل كانت الحاجَة إلى الكتب نتيجة أو سببًا لاختراع الطباعة؟ إن النظرة السائدة عند مؤرِّخِي مصر أن استخدام الطباعة — بمبادرة من الدولة في عهد محمد علي — جاء نتيجة زيادة الطلب على الكُتب في القرن التاسع عشر، ولكن هذا الرأي لا يصلح لتفسير انتشار الكتب في بواكير العصر الحديث، وحتى نفهم لماذا أصبحت الكُتب سلعة مطلوبة عند الطبقة الوسطى، نحتاج إلى إيضاح عوامل أخرى؛ من بينها الطلب على الكتب. والطلب على الكتب جاء نتيجة تَمتُّع الطبقة الوسطى الحَضَرية بمستوًى معيشي مُريح في فترة زمنية مُعيَّنة، وتحقيقها لمستوًى مُعيَّن من معرفة القراءة والكتابة والتعليم، على نحو ما رأينا في الفصول السابقة. وحتى نفهم العوامل التي ساعدَت على تلبية الطلب على الكتب، لا بد أن نضع في اعتبارنا بعض العوامل المادية، التي أدَّت إلى تخفيض أسعار الكتب بدرجة جعَلَتها في مُتناوَل أَيْدِي أعداد كبيرة من الناس.

أضف إلى ذلك أن قضية التَّحقيب تحتاج إلى إعادة نظر. فيثير روجر شارتبيه الشك حول فكرة اعتبار أن استخدام الطباعة — التي تحتل أهمية كبرى في التاريخ الأوروبي — له أهمية بالغة في انتشار الكتب في كل مكان، ويذهب إلى أن الثقافات الأخرى عَرفَت انتشار الثقافة المدوَّنة بوسائل أخرى مختلفة.٢ والمادة التي بين أيدينا عن الكتب في القرن الثامن عشر تحتاج إلى إعادة النظر في بعض الأمور والبحث عن تفسير لما حدث من توسُّع في إنتاج الكتب بعيدًا عن استخدام الطباعة. إننا لا نستطيع أن نُقلِّل من أهمية الطباعة كعامِل في انتشار الكتب، ولكننا يجب ألا نتجاهل التطورات التي سبقت إدخال الطباعة في مصر.

وبذلك يمكن القول إن ثمة مرحلة وسيطة، سَبقت إدخال المطبعة والطباعة التجارية، حدث خلالها انتشار ملحوظ للكُتب. ويَفترِض هذا الفصل أن انتشار الورق الرخيص قَدَّم عنصرًا جديدًا في هذا المجال كان من العوامل الرئيسية التي ساعدت على إنتاج وانتشار كُتب رخيصة نِسبيًّا قَبْل الطباعة.

ولهذا التفسير عدَد من المزايا؛ فهو يُلقِي الضوء على ظاهرة مُعيَّنة شهدها القرنان السابع عشر والثامن عشر في القاهرة وربما في غيرها من المدن؛ مثل: حلب، ودمشق، وإسطنبول، لم نضع أيدينا — حتى الآن — على تفسير لها، وتتمثل هذه الظاهرة في وجود أعداد كبيرة من الكتب التي تم نَسخُها، وكذلك أعداد كبيرة من النصوص الشفاهية تم تدوينها، ثم نوعية الأسلوب اللغوي المستخدَم في كثير من هذه النصوص (الذي نعالجه في فصل مستقل)، وأيضًا الطبيعة الشعبية لكثير من النصوص التي كُتبِت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأخيرًا تُقدِّم هذه الظاهرة تفسيرًا لاتجاه آخر يعرفه المؤرِّخون المشتغِلون على أرشيف المحاكم في العالَم العثماني، وهو أن الورق — في صورة الوثائق المدوَّنة — له أهمية خاصة في هذا الإطار، فمن المعروف أن شهادة الشهود أمام المحكمة دليل كافٍ لإثبات صحة الوثيقة من الوجهة الشرعية الإسلامية، وفي حالة نشوب نزاع بين طرفين يُقدِّم الشهود شهادتهم بطريقة أو بأخرى لصالح هذا الطرف أو ذاك. ولكن، حدَث خلال القرن السابع عشر تعديل في الإجراءات؛ فقد استُخدِمت الوثيقة المدوَّنة كثيرًا كدليل أخذت به المحاكم الشرعية باعتباره أداة إثبات معترَفًا بها. هذه الحقيقة تقوم دليلًا على التوسُّع في استخدام الورق.

وتكشف سِجلَّات المحاكم الشرعية أن العقود والحجج، لم يَكتفِ الموظفون بتدوين نصوصها في السِّجلَّات فَحسْب، بل كانت الأطراف المَعنِيَّة — وهم في الغالب من سكان المدينة — يحصلون على نُسخ معتمَدة مما هو مسجَّل بالدفاتر؛ ليقوموا بتقديمها كدليل على صحة دعواهم في حالة نشوب نزاع بين أحد الأطراف والطرف الآخر. فعلى سبيل المثال؛ عندما رفعت امرأة قبطية تُدعَى مريم بنت يوحنا قضية ضد زوجها السابق شحاتة بن سليمان، أمام محكمة الباب العالي في عام ١١٤١ﻫ/١٧٢٨م، تطالب بنفقة مُستحَقة لها عندما كان الزواج قائمًا، وتناقَضت أقوال الطرفين، قَدَّمَت المدَّعِية للمحكمة حُجة مُستخرَجة حديثًا من سِجلَّات محكمة قوصون قُرئت جهرًا في المحكمة، وبعدها قَدَّم المدَّعَى عليه حُجة أخرى صادرة من محكمة الصالح لتأييد موقفه.٣ ويعني ذلك أن الوثائق التي احتفظ بها كل طرف استُخدِمت كدليل إضافي لشهادة الشهود وليس بديلًا لها. ويعني ذلك أيضًا أنه سواء كان الأفراد (مثل مريم بنت يوحنا) يعرفون القراءة أو يجهلونها، فقد كانوا يحتفظون بالوثائق النافعة لهم في بيوتهم؛ مثل: عقود الزواج، وحُجج الملكية، وسَندات القروض، وغيرها من الوثائق التي يُمكِن استخدامها لحماية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم أمام المحاكم. ولا يُبيِّن لنا ذلك الطريقة التي طوَّر بها النظام القضائي عمله لمواكبة الظروف الجديدة فَحسْب، بل يُبيِّن لنا — أيضًا — أن الناس اهتموا بالاحتفاظ في بيوتهم بنُسخ رسمية من الحُجج والعقود المُسجَّلة بدفاتر المحاكم.

وهناك أيضًا بُعد إقليمي لهذه المسألة، فقد شهدت السنوات الأخيرة اهتمامًا بدراسة الكُتب وانتشار قراءتها، فأُجرِيت بحوث في هذا المجال على إسطنبول، وتسالونيك، ودمشق، ولبنان، وألبانيا وغيرها من الأماكن، على معرفة القراءة والكتابة، وعلى المكتَبات الخاصة والعامة. غير أن الاهتمام بدراسة الظاهرة لم يتجاوز مُدنًا بعينها داخل الدولة العثمانية، ولم يَمتدَّ إلى خارج حدود الإقليم. غير أن حقيقة وجود توسُّع ملحوظ في اقتناء الأفراد للكتب في بضعة مدن عثمانية أخرى، لا يجعل تفسير تلك الظاهرة محدودًا بظروف مدينة القاهرة، أو دمشق، أو إسطنبول، أو محصورًا داخل حدود مُعيَّنة، بل علينا أن نلتمس تفسيرًا أوسع نطاقًا منها جميعًا.

وتُقدِّم لنا دراسة انتشار الكتب مثالًا نموذجيًّا لما قد يترتَّب على التركيز على مجال محدود مثل موقع مُعيَّن أو جماعة مُعيَّنة من غياب الدِّقة، وتُبيِّن لنا أهمية تَجاوُز تلك الدراسات لما هو محلي إلى ما هو إقليمي، فيما يتصل بالتيارات الثقافية على وجه الخصوص. وقد نُشرت بعض المقالات مؤخرًا عن معرفة القراءة والكتابة والكتب في الدولة العثمانية. ففي دراستهما «كُتب أهل دمشق نحو ١٧٠٠م» ذكر كوليت ستابليه وبول باسكال أن تَرِكات عدد مُعيَّن من عامة الدمشقِيِّين احتوت على الكتب،٤ وتتفق هذه النتائج التي توصَّلا إليها مع ما جاء بدراسة برنارد هيبرجر عن المسيحيِّين في سوريا ولبنان في القرنين السابع عشر والثامن عشر.٥

وتُبيِّن هذه الدراسات الفردية التي ركَّزت على مواقع محلية بعينها مدى الحاجة إلى تقديم تفسير عام لظاهرة تجاوَزت الحدود الإدارية للولايات، وإلَّا توصَّل الباحث إلى نتائج مضلِّلة، عندما تصل إحدى الدراسات إلى أن معرفة القراءة والكتابة واقتناء الكتب كانت ملمحًا بارزًا لفئة مُعيَّنة مثل المسيحيِّين في سوريا ولبنان مثلًا. فلا يتضح معنى الظاهرة إلا من خلال منظور أوسع مدًى، يضعها في السياق العام.

ومن السهولة بمكان تبَيُّن أعداد المخطوطات التي كتبت خلال الفترة بالرجوع إلى كتالوجات المخطوطات بالقاهرة وغيرها من المدن والبلاد. فكتالوجات المخطوطات العربية في العالم العربي، وتركيا، وأوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية تحتوي على مئات الآلاف من تلك المخطوطات، كُتبت أو نُسخ كثير منها في مطلع العصر الحديث، وتشير إلى ما كان لثقافة الكُتب من أهمية بالِغة. إن إمعان النظر في كتالوجات المخطوطات العربية الموزَّعة على مكتبات العالم يُعد دراسة ممتِعة يمكن من خلالها تَعرُّف الفترات التي نشط فيها إنتاجها تأليفًا ونسخًا، وكذلك تغير أذواق القراء بالنظر فيما تم إنتاجه من كتابات.

وتؤيِّد الكتالوجات الرئيسية للمخطوطات العربية الاتجاه نفسه، وخاصة الزيادة الملحوظة في أعداد المخطوطات التي نُسخَت في القرن الثامن عشر، بِغَض النظر عن تاريخ تأليفها، فقد فاقَت أعدادها بكثير أعداد المخطوطات التي نُسِخَت في الفترات السابقة على ذلك القرن. وينسحب ذلك على كثير من مجالات المعرفة؛ مثل: العلوم، والأدب، والتاريخ، والحَوْليَّات، وغيرها. ومن أمثلة ذلك الحَوْليَّات التي كُتبت في عصر المماليك، فالكثير مما وصلنا منها نُسِخ في العصر العثماني وليس في عصر المماليك. كما أن غالبية المخطوطات العلمية تحمل تواريخ نسخِها في العصر العثماني في القرنين السابع عشر والثامن عشر، بما في ذلك كثير مما تم تأليفه قبل ذلك بقرون عدة، وهي حقيقة يؤكِّدها فهرست المخطوطات العلمية المحفوظة بدار الكتب المصرية الذي أعده دافيد كنج. فقد تضمن مجموعة كبيرة من المخطوطات التي تم نسخُها في القرن الثامن عشر في الفَلك والرياضيات، وغيرها من العلوم الأخرى، يفوق مُجمَل ما تم نسخُه في غيره من القرون. ويشير كتالوج المخطوطات العربية بالمكتبة الوطنية بباريس إلى الظاهرة نفسها؛ حيث تفُوق أعداد المخطوطات التي نُسِخَت في القرنين السابع عشر والثامن عشر مُجمَل ما نُسِخ في القرون السابقة عليهم؛ خاصة في الأدب، والحكايات، والطرائف والنوادر، والتاريخ، والحَوْليَّات، وبذلك يتأكد شيوع هذه الظاهرة.

ويُلاحَظ أن ثَمَّة كثافة في نسخ في القرون السابقة عليهم؛ خاصة في الأدب، والحكايات، والطرائف والنوادر، والتاريخ والحَوْليَّات، وبذلك يتأكد شيوع هذه الظاهرة.

ويلاحظ أن ثمة كثافة في نسخ الكُتب المسيحية القبطية في القاهرة بصورة موازية للكثافة في حركة نسخ المخطوطات العربية الأخرى؛ فيشير مجدي جرجس إلى تَزايُد أعداد المخطوطات الدينية القبطية التي مَوَّل نَسْخَها أراخِنة الأقباط (وهم أعيان الأقباط العَلمانيين وليسوا رجال الكهنوت) الذين أثروا ثراءً كبيرًا. ففي دراسته لكتالوجات المخطوطات القبطية اتضح أن نحو نصف عدد المخطوطات قد تم نَسْخُه في القرن الثامن عشر، وأن هذه الظاهرة لم تَقتصِر على القاهرة وحْدَها، بل امتدَّت إلى الصعيد أيضًا. وهكذا توصَّل مجدي جرجس من خلال مصادر غير تلك التي رجعنا إليها إلى نتائج مماثلة لما توصَّلْنا إليه؛ فيشير إلى أن حركة نَسْخ المخطوطات القبطية وترجمة بعض المخطوطات الإثيوبية والسريانية سادَت القرن الثامن عشر. ومن المحتمَل أن العوامل نفسها كانت وراء التوسع في نَسْخ المخطوطات القبطية خلال الفترة نفسها.٦
figure
ورقة من مخطوط ديني قبطي بجودة عالية مؤرَّخة عام ١٧٦٤م.
figure
ورقة من مخطوط قبطي بجودة أقل.
والنتائج التي توصَّل إليها مجدي جرجس من دراسته للأرشيف القبطي، يُدعِّمها ما تم نَشرُه في كتاب صدر حديثًا يُسجِّل الرسوم والزخارف في المخطوطات القبطية المحفوظة في مكتبة الدار البطريركية بالقاهرة، والمتحف المصري، ومكتبات كنائس وأديرة قبطية متنوِّعة، يتَّضح من خلال هذا الرَّصْد، نقطتان؛ الأولى: أن عديدًا من هذه الرسوم والزخارف تعود إلى الفترة التي نتحدَّث عنها؛ القرن السابع عشر وبشكل أكبر القرن الثامن عشر، وذلك يؤكِّد أن هذه الفترة شهدت اهتمامًا بإنتاج ونَسخ الكتب. كما أنها تشير إلى تنوُّع مستويات النوعية من الأبسط، الذي رُسم بالأبيض والأسود إلى مستوى الجودة الرفيع من الصور والزخارف، التي رُسمت بالألوان وزُخرفت بالذهب بعناية فائقة.٧

ويمكن استخلاص نتائج مماثلة من مصدر آخر هو قوائم التَّرِكات؛ فقد تضمَّنَت الكتب التي ذُكرت بياناتها تفصيليًّا: العناوين، والأعداد، والقيمة المادية، وبذلك نستطيع أن نُكوِّن فكرة واضحة عن المكتبات الخاصة بالأفراد، وقيمة الكتب وأحجامها، ولَمَّا كانت سِجلَّات المحاكم عديدة؛ وتغطي فترة زمنية طويلة، فإن باستطاعتنا أن نرصد اتجاه اقتناء الكتب فيما بين أوائل القرن السابع عشر وأواخر القرن الثامن عشر، وهنا نستنتج من تَعدُّد تلك المكتبات الخاصة أن الكتب قد أصبحت في متناول أيدي عديد من الناس.

ويمكن ملاحظة آثار هذا الاتجاه على مستوَيات متعدِّدة؛ فالأرقام الواردة بسجلات التَّرِكات تشير إلى وجود زيادة واضحة في عدد الأفراد الذين امتلكوا مكتبات خاصة فيما بين أوائل القرن السابع عشر حتى نحو منتصف القرن الثامن عشر. ونظرة فاحصة إلى تلك السِّجلَّات في محكمة القسمة العسكرية، حيث كان يتم النظر في تَرِكات العسكر، ومحكمة القسمة العربية حيث كان يتم النظر في تَرِكات الرعايا المدنِيِّين، ففي السنوات العشر (١٦٠٠–١٦١٠م) تبين وجود ٧٣ مكتبة خاصة.

وفي القرن الثامن عشر زاد هذا الرقم زيادة كبيرة على نحو ما يتضح من سِجلَّات تَرِكات السنوات العشر (١٧٠٣–١٧١٤م)، حيث بلغ عدد المكتبات الخاصة ١٠٢ مكتبة (أي إنها زادت بمقدار الثلث خلال قرن واحد). وتشير سِجلَّات الفترة (١٧٣٠–١٧٤٠م) إلى وجود زيادة كبيرة في أعداد تلك المكتبات لتصل إلى ١٩٠ مكتبة خاصة. ونحو منتصف القرن بدأت أصداء الأزمة الاقتصادية تترَدَّد بين مختلف قطاعات المجتمَع، ومن ثَمَّ حدث انخفاض في عدد المكتبات الخاصة؛ ففي الفترة (١٧٤٩–١٧٥٩م) بلغ عدد المكتبات الخاصة بالتَّرِكات ١٠٢ مكتبة.

جدول ٣-١: المكتبات الخاصة وما بها من كتب
التاريخ عدد المكتبات عدد الكتب
١٦٠٠–١٦١٠ ٧٣ ٢٤٢٧
١٧٠٣–١٧١٤ ١٠٢ ٣٥٣٥
١٧٣٠–١٧٤٠ ١٩٠ ٥٩٩١
١٧٤٩–١٧٥٩ ١٠٢ ٢٠٧٧
يلاحظ أن عدد الكتب لم يُذكَر في بعض الحالات، ويُشار فقط إلى أن التركة تضم كتبًا (دون تحديد لأعدادها أو عناوينها)، وبالتالي لا تُعبِّر أعداد الكتب المذكورة بالجدول عن الواقع.

ولهذه الأرقام مَغزاها، خاصة إذا تَذكَّرنا أن التَّرِكات لا ينتقل أَمرُها إلى المحكمة إلا في حالة نشوب نزاع حَوْلها بين الورثة، أو عندما يكون بين الورثة قُصَّر. وكان بعض أصحاب المكتبات الخاصة يقومون بوقفها، ومن ثَمَّ لا تظهر ضمن تَرِكاتهم. ومعنى ذلك أن أعداد المكتبات الخاصة بالبيوت لا بد أن تكون أكبر كثيرًا، مما يمكن استخلاصه من قوائم التَّرِكات.

كذلك أضافت القيمة الإجمالية للكُتب التي تَضمَّنَتها تَرِكات أصحاب المكتبات الخاصة مبالغ مالية كبيرة (بمعايير العصر)، وإن كانت القيمة الموضحة بالجدول التالي تَقتصر على المكتبات الخاصة، التي حُدِّدت أسعار ما تضمَّنَته من كُتب في قوائم التَّرِكات.

جدول ٣-٢: إجمالي قيمة الكتب بالتَّرِكات
السنوات القيمة (بالنصف فضة) القيمة التقديرية (بالقرش)
١٦٠٠–١٦١٠م ٣٦٥٩٦٤ ١٢١٩٩
١٧٠٣–١٧١٤م ٣٣٢٢٢٠ ١١٠٧٠
١٧٣٠–١٧٤٠م ٧٩٧٧٠٣ ٢٦٥٩٠
١٧٤٩–١٧٥٩م ٦٠٠٧٠٦ ٢٠٠٢٤
ملحوظة: النصف هو البارة، وكل ٣٠ بارة — تقريبًا — تساوي قرشًا واحدًا.

وسعيًا للوقوف على أسباب التوسع في إنتاج الكتب، وانتشار تداولها، لا بد أن نستنبط بعض تلك الأسباب؛ فبالنسبة للورق، هناك أدلة ثابتة على وفْرَته، وأن أسعاره جعَلَته في مُتناوَل الجميع. وهذا الجانب يمكن توضيحه من خلال إلقاء الضوء على إنتاج الورق وتجارته.

إن الدراسات الخاصة بالورق الذي استُخْدِم في العالم العربي، في القرنين السابع عشر والثامن عشر بالغة النُّدرة. فنحن نعلم أن مصر كانت تُنتِج الورق في العصور الوسطى، ثم دخلت صناعة الورق إلى أوروبا، وبدأ الورق المُنْتَج في إيطاليا يَرِد إلى أسواق الشرق الأوسط في منتصف القرن الثالث عشر. ويَسود اعتقاد بين الباحثين أن صناعة الورق تَدهوَرت بمصر في القرن الرابع عشر، وأن الورق الذي تم استخدامه كان مُستورَدًا من البندقية، وفيما بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حَلَّ الورق المنتَج في إيطاليا مَحلَّ الورق المنتَج محليًّا في معظم أسواق البلاد العربية.٨
وعندما تم إدخال صناعة الورق إلى أوروبا، كان إنتاجه محدودًا، ولكن مع اختراع الطباعة، زاد الطلب على الورق زيادة هائلة، أدَّت إلى انتشار صناعة الورق في بلاد لم تَكن تصنعه من قَبْل، ومن ثَمَّ حدثت تَطورات فنِّية في صناعته في القرن السابع عشر،٩ أدت إلى زيادة الإنتاج زيادة كبيرة، وانخفاض أسعار الورق انخفاضًا ملحوظًا، وقد استفاد إنتاج الكتب في القاهرة وغيرها من المراكز الثقافية بالإقليم من هذه الظاهرة قبل دخول الطباعة إليها بوقت طويل.

ويجب أن نضع في اعتبارنا وفرة كميات هائلة من الورق الرخيص الثمن؛ حتى نفهم السبب وراء إنتاج تلك الأعداد الضخمة من المخطوطات التي تُكوِّن الجانب الأكبر من مجموعات المخطوطات العربية، التي تم إنتاجها في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي نُسِخَت ضِمنها أعداد كبيرة من المخطوطات السابقة على ذلك العصر، بما في ذلك المخطوطات القِبْطيَّة. ومن الملاحَظ أن إنتاج وتجارة الورق في ذلك العصر لم تَنل حظَّها من الدراسة بالقَدْر الكافي، ولكن من الواضح أن السوق عَرفت أنواعًا مختلِفة من الورق، تَفاوتَت — تبعًا لذلك — أسعارها. وكان من بينها نوع فائق الجودة؛ فالأوراق التي صُنعت منها دفاتر المحاكم الشرعية سميكة ومتينة، قاومت عوامل الزمن — رغم سوء الطريقة التي حُفِظَت بها — لتظل باقية على مَرِّ القرون ولا بد أن نوعية أوراقها كانت ممتازة، غالية الثمن. غير أن إلقاء نظرة على كتالوجات المخطوطات العربية توحي لنا أن الأمور لم تكن دائمًا على هذا النحو الإيجابي، فالوصف المُقدَّم لتلك المخطوطات يُوضِّح أن بعض المخطوطات نُسِخَت على نوعية رديئة من الورق.

وتُبيِّن دراسة حديثة لناصر عثمان عن الورق والورَّاقين في القاهرة، اعتَمدت على سِجلَّات المحاكم الشرعية في القرن السابع عشر، أن أنواع الورق المتاحة بالسوق — عندئذ — بلغت نحو الستة عشر نوعًا، حُدِّد بعضها وفق الجهة التي ورد منها؛ مثل: الورق البُندقي، أو الجَنَوي، أو الرُّومي، أو البَلدي (المحلي)، كما حُدِّدت للورق مواصفات أخرى، مثل «ورق اللَّف»، «ورق اللَّف البلدي»، و«ورق رومي أبو إبريق»، ولسنا في موقف يسمح لنا بالتمييز بين تلك الأصناف المختلفة من الورق، ولكن ما يعنينا هنا هو تَعدُّد مصادر الورق، وتَنوُّع ما كان متاحًا بالسوق.١٠
وكانت مصر تستورد الورق من أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر؛ حيث جاءت واردات الورق من المدن الإيطالية (البندقية وجَنَوا) ثم من فرنسا؛١١ مما جعلها تستفيد من الانخفاض النِّسبي في تكلفة إنتاج الورق المُنتَج في أوروبا، ومن رخص أسعار الورق الذي تَرتَّب على اختراع الطباعة هناك والتوسُّع في الطلب على الكُتب. ومن ثَمَّ كانت أسعار الورق في مصر — عندئذ — أرخص مما كانت عليه في القرن الخامس عشر، نتيجة تطوُّر أساليب إنتاج الورق في إيطاليا وهولندا، والتوسع في إنتاجه؛ فقد عرف ذلك الورق الرخيص الثمن طريقه إلى السوق المصرية، وإلى غيرها من أسواق الولايات العثمانية الأخرى التي كانت لها علاقات تجارية مع أوروبا.
وكانت هناك مصادر أخرى للورق المحلي والمستورَد لا تتوافر لدينا معلومات عنها، ولا زال أثرها على الواقع المحلي غامضًا بالنسبة لنا. ورغم أن دراسة مَظاهر تجارة الورق مع الهند لم تُثِرْ — على ما يبدو — اهتمام الباحثِين، إلا أن المصادر الوثائقية تشير إلى استخدام الورق المُنتَج في الهند بالقاهرة.١٢ وكان مُعظم الورق يُستورَد من الخارج، لكن هناك إشارات إلى أن جانبًا من عملية الإنتاج كان يتم محليًّا.
والبحوث التي أُجرِيَت حول امتداد صناعة الورق في مصر إلى ما بعد القرن الخامس عشر قليلة؛ فبعض وثائق الجِنِيزا — التي تعود إلى القرن السادس عشر — كُتِبَت على أوراق محلية الصنع، ولكن غالبيتها كُتِبَت على ورق مُنتَج في أوروبا.١٣ وثَمَّة شواهد على وجود الإنتاج المحلي للورق من خلال الدعاوى التي رفعها أفراد أمام المحاكم. فتُشير الوثائق إلى أن طائفة «صقالين الورق» كانت موجودة بالقرنين السابع عشر والثامن عشر، وأنه كان من بين أعضائها مَن تخصص في صَقْل «الورق البلدي» (أي المحلي)، ومنهم من تخصص في صَقْل «الورق الرومي» الذي قد يكون مُستورَدًا من البلاد العثمانية. وتتضمن قائمة طوائف الحِرَف في عام ١٨٠١م — التي أعَدَّها أندريه ريمون — وجود طائفة «صَقَّالي الورق».١٤
فما سُمِّي بتدهور إنتاج الورق المحلي، يجب ألا يُنظر إليه على أنه قد أدَّى إلى اختفاء تلك الصناعة المصرية العريقة. وربما كان هناك تَدَنٍّ في جودة الورق المنتَج محليًّا، أو نقص في حجم الإنتاج، ولكن ذلك لا يعني الغياب التام لتلك الصناعة المحلية. ولعل هذه الصناعة — التي تحتاج إلى دراسة مُتعمِّقة — ظَلَّت تمد السوق بحاجتها من الورق منخفض الجودة الذي قلل من حجم صادراتها السابقة إلى الأسواق الخارجية. واستمرار هذه الصناعة في الوجود تُدعِّمه المصادر المعاصرة؛ ففي عام ١١٤٤ﻫ/ ١٧٣١م توجد إشارة إلى «مطبخ الورق» الذي كان يقع بخط الجامع الأزهر؛ بسويقة الشيخ حمودة.١٥ كما أن هناك إشارات كثيرة إلى «الورق البلدي». والإشارات المتعدِّدة بكتالوجات المخطوطات إلى رداءة نوع الورق، الذي نُسِخَت عليه بعض المخطوطات. فالأدلة على استمرار صناعة الورق المحلية مُتوفِّرة، ولكننا لا نعرف شيئًا عن حجم الإنتاج المحلي، وحصته من سوق الورق بمصر.
وهكذا … يمكننا تفسير انتشار اقتناء الكتب بالقاهرة على ضوء التوسُّع الكبير في إنتاج الورق بأوروبا الذي أعقب استخدام الطباعة. ولم يقتصر هذا الاتجاه على القاهرة وحْدَها، فقد وَجَد كوليت استابليه، وجان بول باسكال، أدلة على انتشار الكتب في دمشق؛ إذ كَشفت دراساتهما لسجلات التَّرِكات في دمشق وجود أعداد كبيرة من التجار (وخاصة تجار الأقمشة والصابون) والحِرَفِيِّين (وخاصة النَّسَّاجِين والصَّبَّاغِين والخَيَّاطِين) ممن اقتنوا الكتب. وقدَّر الباحثان أنه في عام ١٧٠٠م كانت خُمس البيوت في دمشق بها مكتبات خاصة.١٦ وحتى تحدث مثل هذه الظاهرة يمكن أن نستنتج أن إنتاج الكتب لم يكن في أغلبه إنتاجًا ترفيًّا وأنه كانت هناك إمكانية لإنتاج كُتب رخيصة الثمن. كذلك كان لتعليقات ألكسندر راسل على حَلَب في القرن الثامن عشر دلالتها؛ فقد عاش راسل فترة طويلة في حَلَب في منتصف القرن الثامن عشر، ولاحَظ أن عددًا كبيرًا من التجار الأثرياء أقبلوا على اقتناء الكتب خلال الفترة التي أقام فيها بحلب، وأن هذا الإقبال على شراء المخطوطات أَدَّى إلى ارتفاع أسعارها.١٧
ويمكن إرجاع أسباب ذلك — جزئيًّا على الأقل — إلى أسباب هذا الاتجاه نفسه الذي عرفته القاهرة؛ فلم تكن الكتب لتصبح في مُتناوَل الخيَّاطِين والصَّبَّاغِين وغيرهم من مُتوسِّطي الحِرَفِيِّين والتجار، لولا رخص أسعار الورق. وقد شهد القرن السابع عشر ظاهرة مرتبطة بذلك وقعت في إسطنبول، فقد تم تأسيس عدد من المكتبات العامة بمبادرة من الصدر الأعظم محمد باشا كوبرلي (١٦٥٦–١٦٦١م)، وتبعه في ذلك بعض كبار المسئولين.١٨ ويشير ذلك أيضًا إلى الاتجاه نفسه؛ حيث أصبحت الكتب متاحة لجمهور كبير من الراغبِين في الاطلاع.
وهناك ظاهرة أخرى متصلة بإنتاج الكتب رخيصة الثمن، تتمثَّل في وجود عدد كبير من النُّساخ الذين كان باستطاعتهم الاستفادة من وفرة الورق ورخص أسعاره. ويشير الجَبَرْتي إلى وجود طائفة خاصة بهم، ولكن قائمة الحِرَف التي أعدَّها عام (١٨٠١م) رجال الحملة الفرنسية، خَلَت من ذِكرها.١٩ غير أن الإشارات المتكررة بالمصادر إلى النَّسخ والنُّساخ تُرجِّح أنه حتى ولو كانت هناك طائفة للنَّساخِين، فإن كثيرًا من أعمال النَّسخ تم على أيدي أناس من خارج الطائفة مثل المعلِّمِين والطلاب والحِرَفِيِّين وأصحاب الدكاكين، الذين استعانوا بالنَّسخ على تدبير أمور معيشتهم؛ خاصة في الفترات التي زاد فيها الطلب على الكُتب، فقد مارس البعض النَّسخ كمصدر إضافي للدخل، إلى جانب عملهم الرئيسي. كما أن أولئك الذين عَجزوا عن الحصول على راتب من الأوقاف أو كَسَدت حِرفتهم؛ جذبتهم مِهنة النَّسخ للعمل بها بصفة مؤقتة أو دائمة.
وتدل الكميات الهائلة من المخطوطات التي نُسِخت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي بقيت حتى يومنا هذا ضِمن مجموعات المخطوطات العربية، على أن عددًا كبيرًا من الناس اشتغل بكتابتها ونَسخِها. ونستطيع أن نَتتَّبع بعض مشاهير النَّساخِين؛ مثل: الشيخ محمد بن سالم الحفناوي الشافعي الخلوتي، الذي دفعته الحاجة والعَوَز إلى نَسْخ الكتب كسبًا للرزق، والشيخ حسين المحلي الشافعي (المتوفَّى ١١٧٠ﻫ/١٧٥٦م) الذي كان فقيهًا وعالمًا، له خبرة بالحساب وتقسيم التَّرِكات، وله عديد من المؤلَّفات في العلوم الدينية؛ من بينها كِتاب في أحكام الشريعة على المذهب الشافعي، وحتى يَسد حاجات عيشه «كان يكتب تآليفه بخطه، ويبيعها لمن يرغب فيها، وكان له حانوت بجوار باب الأزهر».٢٠

وثمة عامِل آخر يجب إضافته إلى المعادَلة، له علاقة بالنَّسخ والنسَّاخِين؛ فيذكر الجَبَرْتي أن بعض النسَّاخين كانوا يستفيدون من مهارات الكتابة؛ ليزيدوا من سرعة إنتاجهم، فقد درج الشيخ رمضان الخوانكي (المتوفَّى ١١٥٧ﻫ/١٧٤٥م) على استخدام أسلوب فني أتاح له مُضاعَفة عدد الكتب التي يقوم بنَسخِها من أجل بيعها، فينتج بضعة نُسخ في وقت واحد، حتى إنه كان ينتج من الصفحة الواحدة أربع أو خمس نُسخ معًا، وبذلك استطاع إنتاج العدد نفسه من النُّسخ لكتاب واحد معًا في وقت واحد.

ومن الواضح أن هدف الناسخ كان السرعة ووفرة الإنتاج وليس الاهتمام بدقة النوعية. ومن الواضح — أيضًا — أن أولئك النُّسَّاخ مَيَّزوا بين العمل المتميِّز والعمل التجاري؛ فقد كان الشيخ مصطفى الخياط (المتوفَّى ١٢٠٣ﻫ/١٧٨٨م) حائكًا بحكم حِرفته، ولكنه اشتغل بنَسخ التقاويم فكان «يستخرج في كل عام دستور السَّنة من مُقوِّمات السيَّارة، ومواقع التواريخ، وتواقيع القبط، والمواسم، والأهِلَّة، ويُعرب السنة الشمسية لنفع العامة، ويَنقل منها نُسخًا كثيرة يتناولها العامة والخاصة.» والإشارة إلى العامة والخاصة هنا تبين إنتاجه لنوعية ذات طابع تجاري وأخرى ذات طابع متميِّز.٢١

ونتيجة لذلك، كان عدد الكتب ذات النوعية المتميِّزة التي بَرزَت فيها جودة الصَّنعة وجمال الخط، واستخْدَمت أحسن أنواع الورق، قليلًا نسبيًّا، بينما كانت الأعداد الكبيرة من الكتب تُنتَج لتلبية حاجة السوق، لمستهلِك لا يهتم كثيرًا بالنوعية أو الإخراج الفني. وكان لذلك نتيجتان؛ أولاهما: أن الكتاب قد أصبح سلعة تجارية، وليس قاصرًا على رُعاة الثقافة أو التعليم الديني وحده؛ وثانيتهما: أن إنتاج الكتب لم يكن مُكلِّفًا؛ وتؤكد ذلك الأسعار الرخيصة نسبيًّا للكتب.

figure
ورقة من مخطوط رخيص وكتابة ضعيفة مؤرخة عام ١١٩٥ﻫ/١٧٨٠م.
وليس غريبًا أن نجد هبوطًا في نوعية المخطوطات التي تم إنتاجها، فكثيرًا ما تُعلِّق كتالوجات المخطوطات العربية على سوء الخط وعدم التزام قواعده، مثل «كُتب بخط رديء …» أو «كُتب بنسخ مصري سيئ.»٢٢ هذا الهبوط في مستوى النَّسخ، والقُبح في الإخراج يَرجع إلى أن هذا السيل الجارف من الكتب جاء لِيُلبي حاجة السوق، لأغراض تجارية محضة، وليس لتحقيق رغبة النُّخْبة في اقتناء نُسخ قيمة من حيث نوعية الورق والجهد الفني الذي يُبذل في إخراجها بصورة جمالية. كما يشير هبوط مُستوَى النَّسخ إلى أن الطائفة لم يكن لها دور في ضبط أصول النَّسخ، ربما لكثرة من اشتغل بالنَّسخ من خارج الطائفة دون أن يتلقَّى هؤلاء تدريبًا كافيًا على أصول المهنة وقواعد الخط.

غير أن هذا الهبوط في مستوى نَسخ الكتب وإخراجها، لم يُؤثِّر على مُستوى الكتابة أو إنتاج الكتب تأثيرًا سلبيًّا. فقد استمر الطلب على النُّسخ عالية المستوى ذات الخط البديع، وخاصة في القرن الثامن عشر عندما كوَّن المماليك ثروات كبيرة، ولم تكن ملامح المشهد الثقافي عندئذٍ تُعبِّر عن غياب الكتب ذات المستوى الفني الرفيع، طالما كان المماليك يَسعَون لاقتناء النُّسخ الثمينة رفيعة المستوى منها طوال القرن الثامن عشر، ولكن كان ظهور النُّسخ المتواضعة المستوى نَسخًا وإخراجًا هي المَلمح البارز عندئذٍ.

ولا شك أن سعر الكتاب يُعدُّ عاملًا أساسيًّا في تيسير تداوله. ويبدو أن أسعار الكتب قد شهدت انخفاضًا كبيرًا في أواخر القرن السابع عشر. فقد جأر قاضٍ شامي عَمِل بالقاهرة — على سبيل المثال — بالشكوى من ارتفاع أسعار الكتب بالقاهرة في أواخر القرن السادس عشر «وأما الكتب، فإنها غاية ما يكون من غلاء الأسعار، والكِتاب الذي يُباع في دمشق يساوي ثلاثة أضعافه في هذه الديار.» على نحو ما جاء في خطاب كتبه القاضي محب الدين المُحِبِّي إلى صديقه الشيخ إسماعيل عام ١٥٨٠م.٢٣ ويمكن إرجاع الاختلاف في معدَّلات الأسعار بين دمشق والقاهرة عندئذٍ إلى الفَرق في سعر الورق. وكانت أسعار الكتب موضوعًا مُثارًا عندئذٍ أكثر مما كانت في فترة لاحقة.

ونستطيع أن نُخمِّن أسعار الكتب بين هذه الفترة، والفترة اللاحقة لها من خلال قوائم التَّرِكات التي تُعَد مصدرًا غنيًّا لتعرف أسعار الكتب؛ فقد كانت الكتب التي تتضَمَّنها تَرِكة المتوفَّى تُباع بالمزاد في سوق الكُتب، ويتم توزيع عائد البيع على الورثة حسب الأنصبة الشرعية. ولذلك يُمثِّل ما نجده في سِجلَّات التَّرِكات سعر البيع لكتب مستعمَلة.

جدول ٣-٣: أسعار الكتب (بالنصف).
الفترة الزمنية عدد التَّرِكات القيمة بالنصف وعدد الكتب لكل فئة
١–٣٠ ٣١–١٠٠ ١٠١–٣٠٠ ٣٠١–٥٠٠ ٥٠١–١٠٠٠ ١٠٠١–١٠٠٠٠ فوق ١٠٠٠٠
١٦٠٠–١٦١٠ ٢٥ ٧٢٣ ٦١٦ ٣٩١ ٩٨ ٤٥ ٣٧ ٠
١٧٠٣–١٧١٤ ٥٣ ١٤٥٩ ٩٩١ ٥٢٧ ١٣٠ ٦٢ ٤٥ ٠
١٧٣٠–١٧٤٠ ١٠٣ ٢٣٢٢ ١٦٩٢ ٨٨٢ ١٩٧ ١٥٥ ١٠٥ ١
١٧٤٩–١٧٥٩ ٤٦ ٨٩٨ ٥٠٤ ٢٨٦ ٦١ ٥٨ ٥١ ٠
الإجمالي ٢٢٧ ٥٤٠٢ ٣٨٠٣ ٢٠٨٦ ٤٨٦ ٣٢٠ ٢٣٨ ١

وتشير الأسعار الواردة بالجدول إلى أن نطاق الأسعار كان متَّسِعًا، فأرخص الكتب سعرًا هو ما بِيعَ بثلاثين نصفًا أو أقل، ولعلها رسائل صغيرة الحجم حيث كانت الخمس منها تباع بعشرة أنصاف، وأغلى الكتب ما بِيعَ بما يزيد قليلًا عن ١١٠٠٠ نِصف، وكان ضِمْن تَرِكة أحد العلماء؛ أي إن قيمته تبلغ مئات أضعاف الكُتب الرخيصة الثمن، كما يشير الجدول إلى أن غالبية الكتب كانت من الفئات الرخيصة الثمن، بينما القليل من الكتب (٢٣٨ من إجمالي عَدد الكتب الذي بلغ ١٢٥٦٢ كتابًا؛ أي بنسبة أقل من ٢٪) تراوحت أسعارها بين الأَلْف والعشرة آلاف نِصف، وهو ثَمن يَدل على أن المستوى الفني لإنتاجها كان رفيعًا، سواء من حيث الخط أو الزخرفة أو نوعية الورق. ولكن العدد الأكبر من الكتب هو ما بلغ ثَمنه ثلاثين نِصفًا فأقل وتبلغ نِسبَته نحو ٤٣٪. وهذه الأرقام لها دلالاتها؛ لأنها تُؤكِّد وفرة الكتب الرخيصة، ووجود فرق كبير في السعر بين الكتب العادية التي يُقبل عليها عامة الناس، والكتب الفاخرة التي تُنْتَج لطبقة مُعيَّنة من المستهلِكين.

ويمكن أن يرجع الفرق الكبير في السعر بين هذه النوعية وتلك إلى عوامل مختلفة؛ مثل: حالة الكتاب، ونوع الورق، ونوع الخط المستخدَم في النَّسخ، ووجود الزخرفة أو غيابها، وحجم الكتاب، وكلها عوامل لا تظهر في سِجلَّات التَّرِكات. واتساع نطاق الأسعار على هذا النحو يشير إلى أنها لم تكن جميعها مخطوطات فاخرة. والواقع أن مؤرِّخِي الفنون يَروْن أن تقاليد زخرفة ورسم المخطوطات قد تدهوَرت تمامًا في ذلك العصر.

ومن ناحية أخرى، نجد عناوين الكتب تظهر في تلك السِّجلَّات تحت أسعار مختلفة (للعنوان الواحد)، ويدل ذلك على اختلاف حالة النُّسَخ أو مستوى إخراجها، وهي أمور لا نستطيع التأكد منها. ولكننا نعلم — أيضًا — أن الكتب يتم إنتاجها لتلبية طلب نوع مُعيَّن من القراء ممن يستطيعون أو لا يستطيعون اقتناء النُّسخ الفاخرة. وتوضِّح المكتبات الخاصة الواردة بسجلات التَّرِكات وجود أعداد كبيرة من كُتب التصوُّف؛ مثل مؤلَّفات الشَّعراني، أو «دلائل الخيرات»، وهو كتاب في الأوراد الصوفية، فنجده دائمًا في جميع المكتبات الخاصة، سواء تلك التي تخص الطبقة الحاكمة أو التجار أو الحِرَفِيِّين.

وتشير هذه السِّجلَّات إلى وجود نُسخ زهيدة الثَّمن من «دلائل الخيرات»، وأخرى متوسِّطة الثَّمن، وثالثة غالية الثمن. فيباع الرخيص منها بسعر يتراوح بين ١٠–١٥ نصفًا، بينما تُباع النسخة الفاخرة منها ببضع مئات من الأنصاف. ويسري ذلك أيضًا على مؤلَّفات الشيخ عبد الوهاب الشَّعراني (المتوفَّى عام ١٥٦٥م)، وهو صاحب طريقة صوفية وشيخها، حَظِي بشعبية كبيرة في القرن الثامن عشر، وتوجَد نُسخ من كتابه متنوعة الأسعار في التَّرِكات الخاصة بأفراد ينتمون إلى مختلف القوى الاجتماعية.

وقبل حدوث تلك التطورات التي أدَّت إلى زيادة الطلب على الكُتب ورواج سُوقها، كانت الكُتب تُنتَج إما برعاية ودعْم من جانب إحدى الشخصيات البارزة، أو للعلماء والطلاب. وفي الحالتين كان مَن يحتاج إلى نسخة من كتاب ما يطلب من الناسخ كتابتها خصيصًا من أَجْلِه وَفْق المواصفات التي يحدِّدها من حيث نوع الخط والزخرفة ونوع الورق والتجليد … وغيرها. ففي خطاب وجَّهه القاضي محب الدين المُحِبِّي إلى صديقة الشيخ علي المالكي عام ١٥٧٢م يقول: «تكرر طلب الشيخ إسماعيل كِتاب تاريخ ابن حبيب الذي استكتبناه بخط إبراهيم … إنه يؤكد غاية التأكيد، ويلح في طلبه الإلحاح المزيد … المراد من لطفكم إبلاغ سلامنا لحضرة سيدي علي القدسي، وتشوُّقنا، وتطلبوا منه الجزء الأول من الكتاب المذكور.»٢٤ فقد احتاج الشيخ إسماعيل إلى الانتظار طويلًا وإجراء عديد من الاتصالات حتى يحصل على نسخة من الكتاب.

لقد وقع ذلك في أواخر القرن السادس عشر، في زمن كانت فيه هذه الطريقة تُمثِّل إحدى الوسائل العديدة للحصول على كتاب جديد. ولكن طلب نَسْخ نسخة من الكِتاب لم يَعُدْ أسلوبًا شائعًا بعد ذلك بوقت طويل، فالكثير من الكتب (المؤلَّفة أو المنسوخة) كان يُنتَج لاستخدام العلماء والطلاب ولكنها لم تكن سلعة في سوق الكتب. وكان الكثير من الكتب يُنتَج بِناء على طلب أفراد الطبقة الحاكمة، فعندما ازداد المماليك نفوذًا وثراءً، اتَّجَه كثيرون منهم إلى اقتناء المكتبات الخاصة التي تضم عددًا كبيرًا من الكتب.

وتشير سِجلَّات التَّرِكات إلى أن الكتب التي اقتناها المماليك كانت تساوي — أحيانًا — مَبالغ طائلة، فبلغت قيمة المكتبة الخاصة في تَرِكة عثمان كَتْخُدا — على سبيل المثال — ما يزيد عن ٨٢ ألف نصف.٢٥ فإنتاج النُّسخ الفاخرة من الكتب التي تحتاج إلى مواد مُكَلِّفة مثل الذهب للزخرفة، والأحجار الكريمة لتزيين التجليد، ووقت وجهد خَطاط بارع، كلها تحتاج إلى تمويل يفوق قدرة الناسخ المادية وَحْده، ومن ثَمَّ كانت الحاجة ماسَّة إلى رعاية مثل هذه الأعمال، التي ظلت باقية في صناعة الكِتاب طوال القرن الثامن عشر.
ويمكن تقدير مستوى النشاط في تجارة الكتب التي تَركَّزت قرب الأزهر من خلال المشتغلِين بها. وتعطينا حُجة مُسجَّلة بمحكمة الباب العالي، يعود تاريخها إلى ١١٥٥ﻫ/١٧٤٢م، فكرة عن مستوى النشاط في تجارة الكتب، فهي تُشير إلى اختيار شيخ طائفة الكُتبِيِّين، وهو اختيار يتم بمعرفة أفراد الطائفة وحْدَهم. وقد ورَدَت أسماؤهم بالحُجة، وأشير إلى الشيخ بعبارة «من أعيان التجار في الكُتب.» التي تعكس أهمية ودرجة ثرائه، كما أن استخدام هذه العبارة يدل على ما بَلغَته تجارة الكُتب من أهمية في ذلك العصر. وإلى جانب شيخ الطائفة كان هناك ١٦ تاجرًا آخَرُون تَركَّز نشاطهم في «سوق الكتب»؛ مما يعطي انطباعًا عن مستوى النشاط بتلك السوق.٢٦ وكان هؤلاء هم الذين يَلجأ إليهم القاضي عندما يحتاج إلى بيع المكتبات الخاصَّة التي تَتضمَّنها تَرِكات المُتوفَّين.

غير أن إنتاج الكتب للسوق، أضاف عنصرًا جديدًا للصورة، حتى لو كان يُمثِّل نسبة محدودة مما تم إنتاجه من الكتب؛ فرغم أن الكتب التي أُنتِجت للمعلِّمين والطلاب غَلبت على غيرها من الكتب التي تم إنتاجها؛ فإن كثيرين من الناس أَقبلوا على اقتناء هذه الكتب؛ مما جعل إنتاجها يَتَّجه إلى تلبية الطلب عليها في السوق.

ومن الأهمية بمكان — بالنسبة للمؤرِّخ — الوقوف على تأثير حركة الطلب على الكتب من حيث المحتوى، والموضوعات، ونوعية الإنتاج وحجمه، وكلها أمور جديرة بالدراسة لأهميتها بالنسبة لتاريخ الكتب، وتَطوُّر إنتاجها قبل دخول المطبعة وشيوع استخدامها، كما أنها ذات أهمية بالغة لهذه الدراسة التي نحن بصددها، وما تُبيِّنه لنا من نوعية الناس أو المجتمَع الذي تُنتَج هذه الكتب من أجْل تلبية حاجته.

ويُمكننا تَتبُّع اتجاهات تشير إلى من اقتَنَوا الكُتب، ونوعية ما اقتَنَوه منها، فأحيانًا ترتبط الكتب مباشرة بمهنة صاحبها، مثل طبيب يُدعى عبد الرحمن الشامي الحكيم اقتنى ١٨ كتابًا صغيرًا في الطب، قُدِّرت قيمتها بخمسين نصفًا، بينما اقتنى عَطار بخط الفحَّامين كِتابين في الطب ربما كان يستعين بهما في عمله.٢٧ وكثيرًا ما تَتواجد كُتب بِعَينها في غالبية المكتبات الخاصة مثل كُتب الدعاء كذلك الذي وُجِد ضِمن تَرِكة الشيخ محمد القبَّاني المتوَفَّى (١١٥١ﻫ/١٧٣٨م) وبلغَت قيمته ١٥ نصفًا، وكذلك نسخة من القرآن قُدِّرَ ثمنها بمائة وعشرين نصفًا كانت الكتاب الوحيد ضِمن تَرِكة عبد الفتاح بن يوسف البطاطي، وكان نِساجًا لنوع مُعيَّن من القماش. ولاحظ هيوارث دن أن أكثر الكتب شعبية عند التجار وأصحاب الدكاكين والحِرَفِيِّين كانت كُتب الأوراد وغيرها من النصوص الصوفية، ويرى أن الطرق الصوفية المتعددة، التي ظهرت في القرن الثامن عشر لعبت دورًا في تشكيل الذوق الأدبي عند الناس،٢٨ وهو بُعد مهم في تاريخ التصوف في ذلك القرن، يجب أن يُؤخَذ في الاعتبار عند دراسة تَطوُّر التصوف.
figure
ورقة من مخطوط بخط معتنًى به داخل إطار ذهبي وزخارف ذهبية.
وقد أَكَّدت مصادر أخرى، شعبية الأعمال الصوفية، من بينها ما يُعَد الأكثر مبيعًا بمصطلح اليوم، وهو كتاب اقتناه كل فرد، وُجِد في كل المكتبات الخاصة بأسعار مُتفاوِتة من أدناها إلى أعلاها، من بينها التقويم الذي يحدد مواقيت الصلاة الذي بِيعَت منه نُسخ كثيرة العدد؛ وكذلك «دلائل الخيرات» وهو كتاب صوفي صغير للدعاء.٢٩ ويَتَّضح من المكتبات الخاصة الواردة بقوائم التَّرِكات في القرن الثامن عشر أنه قد تم نَسخُه على نطاق واسع على مَرِّ القرون، وكان من بين مَحتوَيات مُعظَم المكتبات الخاصة. وقد ذكر الجَبَرْتي ثلاثة على الأقل من الخطَّاطِين الذين تَخصَّصوا في إنتاج «دلائل الخيرات»، مما يدل على شعبيتها وجَدْواها التجارية، حتى إن هناك من اقتصر كَسْب عَيشهم على إنتاجها والتجارة فيها.
ويشير الجَبَرْتي في وَفيات عام ١١٨٧ﻫ/١٧٧٣م إلى أن إسماعيل بن عبد الرحمن شيخ الخطَّاطِين بمصر تَخصَّص في إنتاج «دلائل الخيرات» بكميات كبيرة. كما يَذكر الجَبَرْتي — أيضًا — الشيخ عبد الله الرومي المصري (المتوفَّى عام ١١٩٥ﻫ/١٧٨٠م) الذي كان نسَّاخًا ﻟ «دلائل الخيرات»، ويذكر كذلك إسماعيل أفندي (المتوفَّى عام ١٢١١ﻫ/١٧٩٦م) الذي كان يَتكسَّب من بيع البُنِّ في دكان بالقرب من خان الخليلي، ومن نَسْخ القرآن، ودلائل الخيرات.٣٠ ومن الواضح أن تلك الأمثلة تُشير إلى إنتاج ذي طبيعة تجارية؛ حيث يُنتِج المشتَغِل بها سلعة يعلم أن هناك من يشتريها فهي لا تَتعرَّض أبدًا للركود، وهي تشير إلى أن انتشار الكتب جَلب معه نوعًا من التصنيف الاجتماعي، فكان أفراد طبقات اجتماعية مُعيَّنة يُقبلون على قراءة نصوص مُعيَّنة.
وتؤكد سِجلَّات التَّرِكات عند منتصف القرن الثامن عشر تواتُر وجود «دلائل الخيرات» بالمكتبات الخاصة أكثر من غيرها من الكتب، فقد احتوت عليها واحدة — على الأقل — من كل خمس من المكتبات الخاصة، وكان لدى المماليك الأثرياء نسخة واحدة أو أكثر منها، وكذلك لدى العلماء والشيوخ والتجار والحِرَفِيِّين. وحتى أولئك الذين تَضمَّنت تَرِكاتهم عددًا محدودًا من الكتب، كان «دلائل الخيرات» من بين تلك الكتب. وثمة دليل على استخدامها في حَلب في القرن الثامن عشر نجده في وَقْفيَّة الحاج موسى العامري، التي خَصص فيها راتبًا لمن يقرأ «دلائل الخيرات» يوميًّا من أجل مُنشِئ المسجد، مما يعكس الحالة المزاجية في كل من مصر والشام.٣١ ويمكن أن نقول الشيء نفسه عن الأنواع الأخرى من الكتب التي كَسَبت — على مَرِّ الفترة — بعض الشعبية؛ مثل: سير الأولياء، وكتب أخرى عن بعض الشخصيات الهامشية، وكتب الدعاء وتقاويم الصلاة، وجميعها كانت تُباع بأعداد كبيرة.

ولا يعني ذلك أن كل من اقتنى «دلائل الخيرات» قد قرأها، فقد يفعل البعض ذلك، بينما اعتاد البعض قراءتها بصوت جهوري في بيته، واحتفظ بها البعض الآخر تَبَرُّكًا بها دون أن يحاول قراءتها، وخاصة عندما تُمثِّل الكتاب الوحيد الذي لديهم، كما حَفظ البعض مُقتطَفات منها. وهكذا تَنوَّعت طريقة استخدام «دلائل الخيرات» والتعامل معها بتنوُّع الأصول الاجتماعية والثقافية لأصحابها، غير أنها كانت الكتاب الفريد الذي اهتم الجميع باقتنائه.

ولم يكن أصحاب الكتب يقرءونها وَحْدَهم؛ فقد وصلت محتويات الكتب إلى دائرة أوسع من المتلَقِّين بسبب عادة القراءة بصوت جهوري،٣٢ فكان هناك شخص واحد يعرف القراءة بين أفراد الأسرة؛ فهو يقرأ الكتاب على جميع أفراد أسرته. وقد ذكر الرحَّالة الإنجليزي إدوارد براون، الذي جاء إلى مصر في عام ١٦٧٣-١٦٧٤م، أن القراءة بصوت جهوري كانت عادة شائعة بين الناس الذين دَرجوا على الاستماع للقراءة في أوقات الفراغ.٣٣ فإذا كانت تلك العادة مُنتشِرة على نحو ما يَذكُره ذلك الرحالة، فلا بد أن تكون قد لعبت دورًا في تَسرُّب لغة التَّحدُّث إلى لغة الكتابة. وتعود القراءة الجماعية إلى فترة أسبق، فقد لاحظ بوز شوشان في القرن الخامس عشر أن الأدب الشعبي كان يُقرَأ في القاهرة على مجموعات من المستمعِين، ربما لقلة مَن يعرفون القراءة بينهم.٣٤

أضف إلى ذلك، أن الأرقام المتعلقة بالمكتبات الخاصة تدل على وجود تَقدُّم واضح في الإقبال على اقتناء الكتب عند أفراد ممن يشتغلون بالوظائف الدينية المتوسِّطة والصغرى، ومن الباعة وأرباب الحِرَف، وغيرهم ممن لم تُحدَّد مِهنهم، ولكنهم جميعًا لا يَنتمون إلى المُؤسَّسة الحاكمة.

ومع انتشار اقتناء الكتب، واتساع دائرة قُرَّائها، ومع دخول الكتب بيوت كثير من الناس، ظَهرَت أشكال أُخرى للقراءة، فَتغيَّرت المواقف تجاه القراءة والطريقة التي كانت تُقرأ بها الكتب. فقد كان أحد تلك الأشكال هو القراءة مع أحد المعلِّمين أو القراءة جهرًا؛ فكان الشيخ يَحتلُّ بؤرة عملية نقل المعرفة؛ لأن التلاميذ يقرءون النصوص عادة مع شيوخهم. وكان التلاميذ يُنسَبون إلى شيوخهم الذين دَرَسوا عليهم، فكانت ترجمة العالِم تستند إلى الشيوخ الذين دَرَس عليهم، وإذا أسْعَده الحظ، امتَدَّ ذلك إلى تلاميذه الذين نَقل إليهم خِبْرته؛ لِتتكوَّن بذلك سلسلة ممن اشتغلوا بنقل المعرفة.

وقد تَكون القراءة — أيضًا — عملًا تَدريبيًّا يُشرِف عليه الشيخ بصورة أو بأخرى. هذه العلاقة بين التلاميذ ومعلِّمِهم قد تنمو من خلال المؤسَّسات التعليمية أو بطريقة بعيدة عن الطابع الرسمي، فيحدثنا الجَبَرْتي عن تلاميذ أبيه الشيخ حسن الجَبَرْتي الذين عاشوا في بيته سنوات؛ حتى يَستفيدوا من الاتصال اليومي به، ويُوضِّح هذا الشَّكل من أشكال نقل المعرفة أن الشيخ كان يَتولَّى توجيه التلاميذ إلى القراءة، ويُعِينهم على فَهْم النص.

وبمجرد أن أصبح الكتاب سلعة تجارية متاحة في السوق للراغِبِين في شرائها، بعد أن كان ذلك قاصرًا على الطبقة الحاكمة، أصبح باستطاعة التجار والباعة والحِرَفِيِّين وشيوخ الطوائف وغيرهم اقتناؤها؛ دخل عنصر جديد في هذه العلاقة فقد أصبحَت الكتب تُقرَأ وتُفْهَم بالجهد الفردي ودون حاجة إلى توجيه مُعيَّن. ومن ثَمَّ ارتبطت القراءة الخاصة بوفرة الكتب وسهولة اقتنائها، ولا يعني ذلك أنها لم تكن موجودة من قَبل، ولكن يعني أنها لم تكن تحظى باهتمام كافٍ، ولم تكن على درجة كبيرة من الانتشار.

وقد لاحظَت إليزابيث سارتين في دراستها لجلال الدين السيوطي أن القراءة الخاصة كانت لا تزال تُعَد أمرًا سلبيًّا عند نهاية القرن الخامس عشر، وقد بنى أحد نُقَّاد السيوطي (ابن الكركي) نَقْده له على «إننا ندرس على الشيوخ ولكنك تقرأ الكتب وحدك.»٣٥ فقد سخر كل من السخاوي وابن الكركي من قيام السيوطي بالقراءة وَحْده على نطاق واسع، ويرجع ذلك إلى الاعتقاد بأن القراءة المنفرِدة للكتب قد تُؤدِّي إلى عدم فَهْمها جيدًا، ما لم يقم شيخ كفء بشرحها.
ومن الواضح أن الظروف التي شهدها القرن الثامن عشر استمرت تُثير اهتمام العلماء … هذا الاهتمام يَتَّضح من نصيحة إلى التلاميذ كُتِبَت في ١١٥٥ﻫ/١٧٤٢م بألا يترددوا في قراءة مَقامات الحريري، ولكن بتوجيه الشيخ الذي سوف يَتولَّى شرح معانيها لهم، وأن عمله هذا سيكون كالحلوى التي يختم بها الطعام.٣٦
غير أن تَطوُّر سُوق الكتب، وإتاحة الكِتاب، وجَعْلَه في مُتناوَل قطاع كبير من القراء، أثَّر على المواقف تجاه الكُتب وجلب نوعًا من القبول بالواقع المتغيِّر. ويبدو أن الموقف من الكِتاب ومن القراءة الخاصة قد شهد تغيرًا في أواخر القرن الثامن عشر نتيجة التوسع في إنتاج الكتب؛ خاصة النُّسخ ذات السعر الزهيد. فهناك مصدران أدبيان يبالغان في مدح القراءة الخاصة، أحَدُهما يضم حكايات وطرائف لمؤلف مجهول يحمل عنوان «أنيس الجليس»، يعود نَسْخه إلى عام ١١٨٧ﻫ/١٧٧٣م، الذي يجد فيه الإنسان عزاءً من متاعب الدنيا عندما يَنكَبُّ على قراءة الكُتب، فالكُتب أفضل من البشر؛ لأنها تقي قارئها شَرَّ الوحدة، فقد «دخل حكيم على حكيم في منزله وهو مُتوحِّد، فقال له: أيها الحكيم … إنك لصبور على الوحدة. فقال: ما أنا وحدي، إني آلف جماعة من الحكماء والأدباء، من كتب، منهم خاطبْتُه وخاطَبني. ثم ضرب بيده على الكتب بجانبه، فقال: هذا جالينوس حاضِر، وهذا بقراط يُناظِر، وهذا سقراط واعظ، وهذا أفلاطون لاقط … وهذا داود المعلِّم، وهذا الإنجيل يُبشِّر … فمن أحببتُ مذاكرته ذاكرْتُه، ومن أردت مخاطبَته خاطبْتُه، والكِتاب نعم المحدث.»٣٧
هذا الموقف ذاته عَبَّرت عنه شخصيات دينية بارزة لم يكن من المتوَقَّع أن تستجيب لتلك الأفكار. ومن هؤلاء الشيخ محمد المهدي، شيخ الأزهر عند نهاية القرن الثامن عشر؛ ففي إحدى حكايته عن شخص يُدعى عبد الرحمن الإسكندر، يتحدث عن ذلك الشاب الذي فَقَد أبويه، وأحس بالضياع رغم الثروة التي وَرِثها عنهما، ولم يكن يدري ما يفعل فاتَّبَع نصيحة شيخ كان صديقًا لوالده، وكانت تلك النصيحة أن يَتَّجه إلى سُوق الكتب، ويشتري كُتبًا في التاريخ والأدب؛ لأنها سوف تُعِينه على تنظيم حياته؛ فكانت هذه الكُتب علاجًا لما كان يعانيه ذلك الشاب من حُزن، وقد وصل إلينا هذا الكتاب في ترجمته الفرنسية التي قام بها مارسيل (ولا يوجد دليل على وجود النص العربي للمخطوط) ويقول المترجم إنه لم يهتم بترجمة قائمة الكتب التي اشتراها عبد الرحمن بسبب طولها.٣٨

وهكذا، نَتج عن التحوُّل الذي جاءت به الظروف المادية؛ قيام علاقة من نوع جديد بين الفرد والكِتاب، ويمكن أن نستنتج من ذلك وجود رابطة بين هذا الموقف الفعلي ووفرة الكتب نتيجة رخص أسعار الورق.

أثر انتشار الكتب على الطبقة الوسطى

تُعد سِجلَّات التَّرِكات مصدرًا غنيًّا لتحديد الفئات الاجتماعية التي اقتنت الكتب. وما يَتضح بجلاء من الأرقام الواردة بتلك السِّجلَّات أن اقتناء الكتب لم يكن — إلى حد كبير — قاصرًا على العلماء، والطبقة المشتغِلة بالتعليم.

جدول ٣-٤: مهن أصحاب المكتبات الخاصة*
الفترة الزمنية ١٦٠٠–١٦١٠ ١٧٠٣–١٧١٤ ١٧٣٠–١٧٤٠ ١٧٤٩–١٧٥٩ المجموع
عسكر ١٤ ١٠ ٤٥ ١٨ ٨٧
أفندية ٨ ١٤ ١٩ ١٢ ٥٣
تجار ٩ ١٠ ١٤ ١٥ ٤٨
علماء ٣٣ ٦ ١٣ ٧ ٥٩
متوسطو العلماء ٢ ٩ ٢٣ ١٢ ٤٦
حرفيون ٥ ١٧ ٢٤ ١٤ ٦٠
نساء ١ ٥ ٦
غير محدد ١ ٣٦ ٤٧ ٢٤ ١٠٨
المجموع ٧٣ ١٠٢ ١٩٠ ١٠٢ ٤٦٧
مع الأخذ في الاعتبار أن الأفراد الذين لم تُحدَّد مهنهم، ووَرَد ذِكرهم بألقاب مثل «الحاج»، «الشيخ»، «المحتَرم» كانوا من سكان الحضر العاديين، وليسوا من بين العسكر أو العلماء الذين يَرد ذِكْرهم عادة مصحوبًا بألقابهم الكاملة؛ ولذلك كان من لم تُحدَّد مهنهم على هذه الدرجة من الكثرة العددية (١٠٨) ينتمون في الغالب إلى الطبقة الوسطى.

لقد اقتنى الكتب أفراد قلائل من الطبقة الوسطى عند بداية القرن السابع عشر، وخلال العقد الأول من القرن نفسه كان حوالي ١٢٪ من المكتبات الخاصة، التي وردت بسجلات التَّرِكات تعود إلى أفراد الطبقة الوسطى، ممن يَشغلون وظائف دينية أو تجارية أو حِرَفية. وقد ارتفعت هذه النسبة في القرن الثامن عشر، فمن بين ١٠٢ مكتبة خاصة جاءت بالتَّرِكات في الفترة ١٧٠٣–١٧١٤م، كانت منها: عشر تعود إلى التجار، وسبع عشرة لحرفيين (عطارين، قبانية، صياغ)، مما يعني أن هناك ٢٧ من بين ٩٢ من السكان النَّشِطين اقتصاديًّا امتَلَكوا مكتبات خاصَّة، أي بما يعادل الثلث تقريبًا.

وكان هناك ١٤ مكتبة خاصة اقتناها الأفندية من رجال الإدارة. وعلى النقيض تضم هذه العَيِّنة ١٥ فردًا يشتغلون بمهن ذات طبيعة دينية مثل العلماء وأئمة المساجد وموظَّفي المحاكم مما يجعلها بعيدة تمامًا عن الحضور الغالب لرجال الدين. ويَصدق الشيء نفسه على الفترة ١٧٣٠–١٧٤٠م (١٩٠ مكتبة خاصة) منها ٣٦ مكتبة تعود إلى التجار والحِرَفِيِّين (١٢ للتجار، و٢٤ للحرفيين) وكان من بين أولئك الحِرَفِيِّين قبانية وعطَّارون وحريرِيُّون ونسَّاجون، و٤٥ مكتبة تعود إلى أمراء، و١٢ للعلماء، و٢٣ للمشتغلِين بالمهن الدينية الأخرى، و١٨ للأفندية. وفي السنوات العشر الأخيرة ١٧٤٩–١٧٥٩م كانت هناك ١٠٢ مكتبة خاصة، منها ١٥ للتجار، و١٤ للحرفيين (قبانية، باعة بُن، باعة سُكَّر، طحَّانِين)، و١٢ للأمراء، و٧ للعلماء، و١٢ للأفندية ومثلها للمشتغِلِين بالمهن الدينية الأخرى؛ مثل القضاة (وهذه الأرقام تعود إلى أناس تضمَّنت تَرِكاتهم كتبًا، ولكنها لا تضع في اعتبارها عدد الكتب أو حجم المكتبات التي تكوَّنَت منها).

وفي أوروبا، كان للطباعة الأثر نفسه في تحقيق وصول الكتب إلى عامة الناس من التجار والحِرَفِيِّين على نحو غير مسبوق، ففي فرنسا حيث أُجرِيت بحوث عديدة على الموضوع، هناك أدلة على زيادة حجم المكتبات الخاصة في القرن الخامس عشر. واعتمادًا على سِجلَّات التَّرِكات، وجد بيير أكيون أنه في الفترة ١٤٨٠–١٥٣٠م أصبح الحِرَفيون والتجار من بين من يَقتنون الكتب في أفينون، وروين، وآكس أون بروفانس، رغم أن عدد الكتب التي اقتَنَوها كان محدودًا؛ لا يتجاوز — أحيانًا — ثلاثة أو أربعة كُتب. وانتقلت المكتبات من الأديرة والكاتدرائيات إلى الكليات والجامعات، ومن مِلكية الأمراء والنُّبلاء، إلى مِلكية عامة الناس الذين لا يرتبطون بالسُّلْطة.٣٩ وبعبارة أخرى، انتشر الاتجاه نفسه في إقليم واسع لأسباب متباينة، وفي فترات مختلفة.

ويمكن قراءة هذه الأرقام — من مُنطلَق اجتماعي — بصورة أخرى. وفي كل الأحوال نحصل من تلك السِّجلَّات على صورة مُركَّبة، فعدد أولئك الذين يحتفظون بمكتبات خاصة في بيوتهم من الطبقة الوسطى الحَضَرية سواء كانوا من التجار أو الحِرَفِيِّين، كان ملحوظًا، وهي حقيقة تُناقِض المقولة السائدة من أن انتشار الكتب قبل استخدام الطباعة كان محدودًا. وأن أفراد الطبقة الحاكمة والعلماء وَحْدَهم كانوا قادِرِين على اقتناء الكتب، وأن أفراد الطبقة الوسطى لم يستطيعوا ذلك إلا في القرن التاسع عشر، كما أن وجود مكتبات خاصة بالبيوت لا يعني أن صاحبها وحده كان ينفرد بقراءتها، بل امتد ذلك إلى جميع أفراد الأسرة الذين قد يقرءونها مباشرة أو يستمعون إلى من يقرؤها بصوت جهوري؛ حيث كان ذلك النمط من القراءة شائعًا.

وتحتوي سِجلَّات التَّرِكات على مكتبات خاصة خلَّفها التجار وأعضاء الحِرَف المزدهِرة، فكثير من الحرف التي ذُكِرت في الفترة (١٧٤٩–١٧٥٩م) ارتبطت — بطريقة مباشرة أو غير مباشرة — بالتجارة الدولية مثل «السُّكَّرية» الذين اشتغلوا بصناعة السُّكَّر، و«البَنَّانِين» الذين اشتغلوا بتجارة البُنِّ، و«العطارين» تجار التوابل، و«القَبَّانية» الذين يقومون بوزن البضائع. كذلك كان كثير من أصحاب المكتبات الخاصة يشتغلون بحِرَف لا ترتبط مباشرة بالتجارة الدولية؛ مثل الحاج أحمد بن سليمان الشرشوحي الذي كان «مدولبًا في الطواحين» وكان من بين كتبه خطط المقريزي، وميزان الشعراني، وحُسن المحاضرة للسيوطي، وقُدِّرت قيمتها ﺑ ٣٥٠٠ نصفًا. كذلك كان مُنتِجو السلع الثمينة يُحققون دخلًا متميزًا من خلال تلبية طلب طبقة الحكام الأثرياء الذين ازدادت ثرواتهم في القرن الثامن عشر. فقد ترك الشيخ عبد الرحمن العناني الصائغ بخان الخليلي — على سبيل المثال — مكتبة خاصة صغيرة الحجم ضَمت «دلائل الخيرات»، و«مقامات الحريري».٤٠ أي إنه كان ثمة تَنوُّع في الأنشطة الاقتصادية عند أولئك الذين انضموا إلى جمهور القراء، ممن حرصوا على اقتناء الكتب.
وتُبيِّن سِجلَّات المحاكم أيضًا أن من شَغلوا الوظائف الدينية المتوسطة — ممن لا يُعدُّون من العلماء — كانت لهم مكتبات خاصة. ومن بين هؤلاء كَتبة المحاكم؛ مثل: الشيخ داود ابن الشيخ مكرم الله «ريس الكتاب بمحكمة باب السعادة والخرق»، فقد تَضمَّنت تَرِكَته أربعين كتابًا قُدِّرت قيمتها بخمسمائة نصف، وكذلك الشيخ محمد المقدسي بن يعقوب الحنبلي الكاتب بمحكمة الباب العالي، الذي تَضَّمنَت تَرِكَته عددًا من الكتب من بينها «دلائل الخيرات».٤١ وكان من يشغلون الوظائف الدينية الصغرى، مثل: «الواعظ» و«الميقاتي» يملكون الكتب أحيانًا، كما يتضح من تَرِكاتهم.

وإذا نظرنا إلى ظاهرة إقبال كثير من أفراد الطبقة الوسطى على اقتناء الكتب من منظور أوسع، فقد نجد أن هؤلاء كانوا من أكثر أفراد تلك الطبقة تمتُّعًا بالراحة المادية، ومن أكثرهم تعلُّمًا؛ أي أولئك الذين يعرفون القراءة ويستطيعون الإنفاق على شراء الكتب. ولكن نظرًا لكثرتهم العددية عن أفراد الطبقة الحاكمة أو العلماء، فقد كانوا عنصرًا مُهمًّا في رواج سوق الكتب. فقد تزامن رواج تجارة البُنِّ مع انخفاض أسعار الورق والإقبال على اقتناء الكتب، حتى إن قيمة الكتب التي خَلَّفها أفراد من الطبقة الوسطى ضِمن تَرِكاتهم كالحِرَفِيِّين ومتوسِّطي العلماء ومن لم تُحدَّد مهنهم، تُمثِّل نسبة كبيرة من القيمة الإجمالية للكتب الواردة بسجلات التَّرِكات في تلك الفترة؛ ففي الفترة ١٧٣٠–١٧٤٠م بلغ إجمالي قيمة الكتب بالتَّرِكات ٧٩٧٧٠٣ أنصاف، كان نصيب أفراد الطبقة الوسطى منها ١٧٢٥٠٣ أنصاف، بنسبة قدرها ٢١٪، وقد تناقصت هذه النسبة إلى ١٦٪ في الفترة ١٧٤٩–١٧٥٩م (٩٥٣٩٣ أنصاف من إجمالي قدره ٦٠٠٧٠٦ أنصاف)، وبذلك لم يكن وزن الطبقة الوسطى في سوق الكُتب كمُشترِين يمكن إغفاله، ولا شك أن ذلك أثَّر على نوعية الكتب التي طُرِحَت للبيع.

ولا شك أن إدخال الطباعة في عهد محمد علي كان أمرًا بالغ الأهمية أتاح فرصة انتشار الكتب بصورة أوسع نطاقًا مما كانت عليه الحال من قبل؛ خاصة وأن المطابع التجارية أخذت في الظهور، فقد أصبحت الكُتب زهيدة الثمن، مُتاحة لكثير من الناس، وزاد من اتساع نطاق تداولها الإصلاحات التعليمية، وإقامة نظام المدارس الحديثة، وزيادة أعداد من يعرفون القراءة والكتابة. غير أن هذه الحقائق لا يجب أن تجعلنا نغفل التطورات المهِمَّة التي سَبقت استخدام الطباعة، والتي لم تَكن لها نتائجها الاجتماعية فَحسْب، بل كان لها أثرها في استخدام الكتاب أداة للتعبير، كما كان لها أثرها فيما احتوت عليه الكتب.

فعلى الصعيد الأول، كانت هناك نتائج اجتماعية لانتشار الكتب والإقبال على اقتنائها، فوُجِدت أساليب جديدة للقراءة حَقَّقت نوعًا من التوازن بين الطبقة الوسطى المتعلِّمة والمدارس الدينية. ويمكن أن نضيف إلى التلاميذ الذين تَحلَّقوا حول مُعلِّمهم يقرءون معًا أحد الكتب، والأمير المملوكي الذي استمتع بالكتب المذهبة والمزخرفة، قطاعًا عريضًا من الناس أقبلوا على قراءة نوع مختلف من الكتب، قرءوها بطريقة مختلفة، وكان باستطاعتهم اختيار ما يقرءون من كُتب دون توجيه من أحد، على نحو ما كان يحدث بالمدارس حيث يحدد الأستاذ ما يقرؤُه تلاميذه من كُتب، ولعل ذلك كان عاملًا مهمًّا في ظهور طبقة وسطى متعلمة تختلف عن طبقة العلماء.

وأدى انتشار الكتب إلى إيجاد أبعاد جديدة للعلاقات بين مختلف القوى الاجتماعية، فكان إقبال أناس من مختلف الطبقات، تفاوتت مستوياتهم المادية، وكذلك مستوياتهم التعليمية، على قراءة الكتب نفسها، حَقق نوعًا من التمازُج الثقافي بين مختلف القوى الاجتماعية. كما أن الكتابة أصبحت بمثابة الساحة التي تستطيع مختلف الاتجاهات الثقافية والفكرية أن تعلن فيها عن نفسها. وحدَّدت الظروف السائدة في زمن ما المساحة التي شغلتها الطبقة الوسطى على تلك الساحة، كما كان ذلك يعني اتساعًا لنطاق التعبير عن المصالح، وأن قوًى أخرى — غير العلماء — استطاعت استخدام الكتابة وسيلة للتعبير، وسوف نناقش في الفصلَين التاليين درجة ذلك التعبير.

أضف إلى ذلك، أن تلك التطورات أتاحت للطبقة الوسطى فرصة تنمية قدراتها الثقافية بمعزل — إلى حد ما — عن المُؤسَّسة الدينية. وأتاحت لهم أداة يستطيعون من خلالها التعبير عن أنفسهم، كأناس كانت ثقافتهم شفاهية أساسًا، تم إدماجها في الثقافة المُدوَّنة.

وهناك أيضًا نتائج ثقافية تَرتَّبَت على انتشار الكتب على نطاق واسع، فقد كان ذلك يعني إتاحة وسيلة جديدة لانتقال المعرفة، استطاعت الطبقة الوسطى استخدامها. واعتمَدَت طريقة استخدامها كأداة للتعبير أو التواصل مع القُرَّاء على عوامل مختلفة.

فقد أدى إنتاج الكتب الرخيصة إلى مجاراة موضوعات الكتب ومحتواها لاحتياجات القُراء الجُدد من حيث اللغة والأسلوب والموضوعات، كنتيجة مباشِرة للظروف السائدة. فانتشار معرفة القراءة والكتابة في أوساط لم تَكن تنتمي إلى فئة العلماء أو الطلاب، كان له انعكاسه على الكتب التي أقبلوا على قراءتها، وعلى طريقة قراءتهم لها، ففي فرنسا — على سبيل المثال — كانت «المكتبة الزرقاء» سلسلة من الكتب الرخيصة التي نشرت أدب البلاط والبطولات في القرن السابع عشر، وحققت انتشارًا واسعًا.٤٢ وفي أماكن أخرى من أوروبا، صحب انتشار الكتب، غلبة الطابع الشعبي على محتواها، وهو ما عرَفَته مصر في الفترة التي نحن بصددها.

ونستطيع أن نذهب إلى أبعد من هذا، فنشير إلى ارتباط التوسع في إنتاج الكتب وانتشارها بالعصر الذي دَعَّمَت فيه الظروف التجارية وضَعْف السُّلْطة؛ ثقافة الطبقة الوسطى، ونحتاج إلى تَعرُّف الكيفية التي ساعدت بها ظاهرة انتشار الكتب على تشكيل تلك الثقافة وتمكينها من اجتذاب أناس من مؤسَّسة السُّلْطة إليها. ويحتاج الأمر إلى مزيد من البحث لتحقيق هذه الغاية، ولكن الفصلين التاليين سوف يحاولان إلقاء الضوء على هذه التساؤلات، ومحاولة تقديم إجابات مناسبة حولها.

هوامش

(١) Peter Burke, Popular Culture in Early Modern Europe, pp. 250–259.
(٢) Roger Chartier, Culture ecrite et societe, pp. 28-29.
(٣) محكمة الباب العالي، سجل ١١٤، م٣٨، ص١١، ١١٤١ﻫ/١٧٢٨م.
(٤) Establet, Colette “Les Inventaires après-deces, sources d’histoire culturelle, (Damas).” Etudes sur les villes du Proche-Orient XVIe-XIXe siecle, Hommage a Andre Raymond. Brigitte Marino, ed., 81–90. (Damascus: Institut francais d’etudes arabes de Damas, 2001); “Les Livres des Gens a Damas vers 1700,” In Livres et lecture dans le monde ottoman, Revue des Mondes musulmans et de la Mediterranee, 87-88 (1999): 143–172.
(٥) Bernard Heyberger, “Livres et pratique de la lecture chez les chretiens (Syrie, Liban) XVII–XVIIIe siecle,” In Livres et Lecture dans le monde ottoman” edited by Frederic Hitzel, In Revue des mondes musulmans et de la Mediterranee, 87-88 (1999): 209–224.
(٦) مجدي جرجس: أثر الأراخنة، ص٣٦-٣٧.
(٧) Nabil Selim Atalla, Illustrations from Coptic Manuscripts, (Cairo: Lenhert and Landrock), 2000, 14-15, 35–41.
(٨) Jean Irigoin, “Papiers orientaux et papiers occidentaux,” pp. 45, 54.
(٩) Dard Hunter, Papermaking, 153, 162-3.
(١٠) ناصر عثمان: طائفة الصحفيين في القرن السابع عشر، في: الطوائف المهنية والاجتماعية في مصر في العصر العثماني، تحرير: ناصر إبراهيم، القاهرة: الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، ٢٠٠٣م، ص٦٤–٦٥.
(١١) Andre Raymond, Artisans 1, pp. 174, 183, 343.
(١٢) محكمة القسمة العربية، سجل ٩٩، م١١٢، ص٧٢، ١١١٨ﻫ/١٧٠٦م؛ سجل ٢٩، م٥٢، ص٢٩، ١٠١٩ﻫ/ ١٦١٠م.
(١٣) Jonathan Bloom, Paper Before Print, p. 84.
(١٤) محكمة الباب العالي، سجل ١١٩، م٤٤٦، ص٨٣، ١٠٤٨ﻫ/١٦٣٨م؛ Andre Raymond, “Une liste”.
(١٥) القسمة العسكرية، سجل ١٣٤، ص٤١، ١١٤٤ﻫ/١٧٣١م.
(١٦) Colette Establet and Jean-Paul Pascual, “Les Livres des Gens a Damas Vers 1700,” p. 147.
(١٧) Alexander Russel, The Natural History of Aleppo, 2, p. 95.
(١٨) Frederic Hitzel, “Manuscripts, Livres et culture livresque a Istanbul,” pp. 24–26.
(١٩) الجَبَرْتي، ١، ص٦٠٣-٦٠٤.
(٢٠) الجَبَرْتي، ١، ٤٦١–٤٦٤.
(٢١) الجَبَرْتي، ١، ٢٧٢؛ ٢١، ٢٧٩-٢٨٠.
(٢٢) Mingana, Catalogue, pp. 441, 445.
(٢٣) محب الدين المحبي: كتاب نزهة النفوس والألباب، ص٤٧. وهو كتاب يضم مراسلات المحبي.
(٢٤) محب الدين المحبي، ص٣٤.
(٢٥) القسمة العسكرية، سجل ١٤٧، م٢٥، ص١٧–٣٤، ١١٥٢ﻫ/١٧٣٩م.
(٢٦) الباب العالي، سجل ٢٢٥، م٢٤٧، ص٢٤٧، ١١٥٥ﻫ/١٧٤٢م.
(٢٧) القسمة العربية، سجل ٧٨، م١٦٥، ص١٠٩-١١٠، ١١٢١ﻫ/١٧٠٩؛ سجل ٧٩، م١٩٥، ص١١٦، ١١٢٢ﻫ/١٧١٠م.
(٢٨) Heyworth-Dunne, An Introduction to the History of Education, pp. 10-11.
(٢٩) وصل إلينا عديد من النسخ، كثير منها لا يحمل اسم المؤلف، وبعضها يحمل اسم المؤلف: محمد بن سليمان بن داود بن بشر السلامي الشاذلي.
(٣٠) الجَبَرْتي، ١، ص٦٠٣-٦٠٤، ٢، ص٨٦، ٤٠٣.
(٣١) Jihane Tate, Une Waqfiyya du XVIIIe siecle a Alep: La Waqfiyya d’al Hagg Musa Al-Amiri, Institut francais de Damas, Damascus, 1990, p. 152.
(٣٢) القسمة العسكرية، سجل ١٤٦، م٣٢٢، ص٢٤٦، ١١٥١ﻫ/١٧٣٨م؛ م٦٥٨، ص٤٩١، ١١٥١ﻫ/١٧٣٨م.
(٣٣) Edward Brown, Le Voyage en Egypte. pp. 53-4.
(٣٤) Boaz Shoshan, “On Popular Literature in Medieval Cairo,” Poetics Today, 14:1, 1993, p. 350.
(٣٥) Elizabeth Sartain, Jalal Al-Din Al-Suyuti, p. 74, see also p. 123.
(٣٦) علي بن حسن العطاس باعلوي: كتاب العطية الهنية والوصية المرضية والحظوة المضيئة، القاهرة: مطبعة عبد الواحد الطوبي، ١٣٢٥ﻫ/١٩٠٧م، ص١٩.
(٣٧) مؤلف مجهول: أنيس الجليس، ورقة ٤أ، ب.
(٣٨) Muhammad Al-Mahdi, Contes du Cheykh El-Mohdy, translated by J. J. Marcel, vol. 1, pp. 45-46.
(٣٩) Pierre Aquilon, “Petites et moyennes Bibliotheques, 1480–1530,” In Histoire des Bibliotheques francaises, edited by Andre Vernet, Promodis Editions du Cercle de la Librairie, Paris, 1989, pp. 286-7.
(٤٠) القسمة العسكرية، سجل ١٣٩، م ٤٥٧، ص٣٥٤، ١١٤٧ﻫ/١٧٣٤م؛ سجل ١٤٠، م١٣٠، ص٩١، ١١٤٨ﻫ/١٧٣٥م.
(٤١) القسمة العسكرية، سجل ١٦٣، م٤٣٧، ص٢٩٤، ١١٦٦ﻫ/١٧٥٢م؛ سجل ١٣٩، م٤٣٩، ص٣٣٧، ١١٤٧ﻫ/ ١٧٣٤م.
(٤٢) Roger Chartier, Culture Ecrite et Societe, p. 219.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤