الفصل الخامس

المثقفون الراديكاليون وثقافة الأزمة

شهدت العلاقة بين الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة تغيُّرات مهمة فيما بين نهاية القرن السابع عشر ونهاية القرن الثامن عشر؛ فقد أدت الظروف الاجتماعية التي ظهرت بشكل هُلامي أولًا، ثم ما لبِثَت أن برَزَت ملامحها على مَرِّ القرن الثامن عشر، إلى تغيير القواعد التي حكَمَت العلاقة بين الطبَقَتين. ومع تركُّز السُّلْطة في يد بضعة أمراء — وخاصة علي بك الكبير وخلفاءه — في أواخر القرن الثامن عشر، عانى سكان الحَضَر من النتائج الاقتصادية التي ترتَّبَت على الاستغلال الضريبي، هذا الاستغلال وما نجم عنه من أزمة اقتصادية أصابت السكان، وخاصة سكان الحضر، وصنعت نهاية للشراكة بين الطبقة الوسطى والطبقة الحاكمة التي أصبحت الآن أكثر اهتمامًا بالموارد الريفية، وبدأت عملية تركيز للسُّلْطة استمرت تتأرجح شدة ولينًا على مَرِّ القرن الثامن عشر.

ومع تركُّز السُّلْطة في يد الطبقة الحاكمة، أطلقت ليدها العنان في استخلاص الضرائب من سكان الحضر، وقد تم ذلك بطريقين؛ أولهما: السيطرة على التزامات الضرائب الخاصة بخزانة الدولة، مما أتاح لهم المغالاة في تقديرها وجبايتها دون تدخُّل من جانِب الدولة، وثانيهما: ما تَميَّز به القرن الثامن عشر من ظهور التزامات جديدة لجمع الضرائب أوجدها بعض رجال السُّلْطة دون أن تكون للدولة يد فيها أو رقابة عليها. وبذلك زاد عبء الضرائب ثقلًا، عددًا وقيمةً معًا. وازداد عدد أفراد الطبقة الحاكمة الذين حصلوا على التزامات الضرائب زيادة كبيرة، وتضخَّمت ثرواتهم على حساب مُموِّلِي الضرائب. وكانت النتيجة البارزة لذلك تدهور المستوى الاقتصادي للطبقة الوسطى الحَضَرية، الذي توضِّحه بجَلاء سِجلَّات التَّرِكات التي تشهد بوقوع كثيرين منهم في وَهْدة الفقر.١

وكان لهذا الاتجاه انعكاساته على المشهد الثقافي، فقد استبدل بالخطوط المَرِنة بين الطبقتين الحاكمة والوسطى، والتعبير عن إحداهما من خلال الأخرى، حدودًا صَلْدة تستعصي على الاختراق. ولا يعني ذلك أن الحدود بين ثقافة الطبقة الحاكمة وثقافة الطبقة الوسطى لم يكن لها وجود من قَبْل، ولكن التداخل بينهما جعل تلك الحدود رخوة، مَرِنة. وبتغيُّر الأحوال والظروف استُبْدِل بمرونة الحدود استقطاب ثقافي حاد؛ فقد أصبحت الهموم الاجتماعية الثقيلة، وكذلك الهموم السياسية ملموسة بين صفوف الطبقة الوسطى، وبدأت تُكوِّن لنفسها هُوِيَّة ثقافية وسياسية خاصة بها بمرور الزمن (رغم ما لحق بأعدادهم من تضاؤل ومجافاة ظروف العمل لهم).

وقد ازداد هذا الاتجاه نموًّا مع استمرار الظروف غير الملائمة لهم. فقد أتاح لهم ما كان للتجارة والرأسمالية التجارية من أهمية مجالًا اجتماعيًّا، وموارد مالية، وفرصًا متاحة، غير أن تلك الفرص كانت ترتبط بالشراكة في المَصالح بينهم وبين الطبقة الحاكمة التي بسطت عليهم جناح حمايتها لعِدَّة عقود من الزمان. ولم يُعبِّر ممثِّلو الطبقة الوسطى عن خلافاتهم مع الطبقة الحاكمة وابتعادهم عنها فيما جرَت به أقلامهم، إلا عندما أخذَت الظروف في التبدُّل، واستجمع الفقر قواه ضدهم. فيشير أحد الكُتاب المعاصرِين إلى ثراء طبقة الحكام بقوله إن مستوى معيشتهم المتَّسِم بالفخامة في الملبس والطعام، وتزيين الجياد فاق مستوى معيشة الخلفاء العباسيِّين ومَن تبعهم من الخلفاء الآخرين.٢

وبعبارة أخرى، ازداد ضحايا الاستغلال المالي من جانب السُّلْطة ترابطًا، وأصبحت آراؤهم حول الظروف الاجتماعية أكثر وضوحًا في الوقت الذي تآكلَت فيه الفُرص الاقتصادية المتاحة للتجار والباعة والحِرَفِيِّين. في إطار تلك الظروف، اتَّخذَت ثقافتهم بعدًا سياسيًّا.

ثقافة الطبقة الحاكمة في القرن الثامن عشر

لم تنل ثقافة الطبقة الحاكمة اهتمامًا كافيًا من جانب الباحثِين؛ ولذلك ظل فهمُها محدودًا في أحسن الأحوال، غائبًا في أسوئها. ولكن يجب أن نضع في اعتبارنا حقيقة أن تلك الثقافة ذات ملامح مختلطة، تجعل وضْعَها في إطار نموذج محدَّد من الصعوبة بمكان.

وبَدَت ثقافة النُّخْبة الحاكمة في القاهرة بعيدة عن ثقافة البلاط في إسطنبول، على نحو ما يذكر كورنيل فليتشر في حديثه عن مصطفى علي، فكان الحضور في المجلس يستعرضون قُدراتهم في مجال الشعر الفارسي والمعارِف العربية.٣ ولكن المجلس الذي يصفه الجَبَرْتي يتَّجِه أحيانًا نحو العامية والمُجون، ويخلو من الرِّقة والرصانة التي شهدَتها مجالس الشِّعر التي حضرها مصطفى علي. ورغم أن هذا وذاك يُسمَّى «بالمجلس»، إلا أنهما اختَلفا من حيث المزاج والمحتوى؛ ولذلك يحتاج موضوع ثقافة المماليك إلى مزيد من التأمُّل؛ فقد كان لثقافة الطبقة الحاكمة مهام عدة حققَتها في وقت واحد، فدَعمت وضْعَهم الاجتماعي، وأضْفَت عليهم الشرعية، ووفَّرَت لهم أموالهم وسائل التَّرف، وأعانَتْهم على أداء واجباتهم الدينية. وما نستطيع عمله هنا هو أن نُمعِن النظر في التطورات التي شهدها القرن الثامن عشر، في محاولة لفهم العلاقة التي تربط بينها وثقافة الطبقة الوسطى.

فعلى مَرِّ ذلك القرن، كوَّن المماليك ثقافة ارتبطَت بما هبط عليهم من ثراء جلَبَه لهم تحكُّمهم في النظام الضريبي. وكلما ازدادت سُلطتهم تركُّزًا، زاد استغلالهم للناس، وحاجتهم إلى تأكيد شرعيتهم بمختلف الطُّرق. والْتَمَس بعضهم سبيلًا لتحقيق ذلك عن طريق المنشآت الدينية والخيرية. فقد شهد القرن الثامن عشر قيام المماليك بتشييد العمائر الدينية والخيرية كالمساجد والمدارس، وكان عبد الرحمن كَتْخُدا — أهم من شَيَّد آثارًا في العصر العثماني — ينتمي إلى القرن الثامن عشر، وعُرف بإقامة عديد من المساجد والأسْبِلة والكتاتيب وغيرها من العمائر بالقاهرة، وكذلك المجمع المعماري الديني الذي شيَّده «محمد بك أبو الدهب» (المتوفَّى ١١٩١ﻫ/١٧٧٧م) على جانِب الأزهر.

كذلك سعى المماليك لدعم شرعيتهم عن طريق تشجيع مختلف أنواع الكتابة التي تدعم الأيديولوجية الاجتماعية التي تحث على طاعة الحكام والانصياع لأوامرهم. وتمثَّلت السُّلْطة في شخص السلطان، وفي العلماء الذين كان تأييدهم للطبقة العسكرية الحاكمة ضروريًّا. ففي مقدمة «عجائب الآثار»، يحدِّد الجَبَرْتي الوضع الاجتماعي للعلماء في إطار أفكار ابن الجوزية وابن تيمية … التي تعود إلى خمسة قرون سابقة على ذلك العصر، ولما كان «العلماء ورثة الأنبياء»، فقد احتَّلُوا — عنده — قمة الهرم الاجتماعي في مرتبة تالية «للملوك والأمراء».٤
وقد كَرَّر كثير من العلماء في القرن الثامن عشر مَقولة إن شرعية السُّلْطة تقوم على التمسُّك بالشريعة وتطبيق أحكامها، والاستماع لنصائح العلماء. وعلى سبيل المثال، ذكر الشيخ أحمد الدمنهوري أن الدولة العثمانية أقرب ما تكون إلى الخلافة الراشدة من حيث تمسكها بالشريعة ورعايتها للعلماء.٥ فقد كانت السُّلْطة والعلماء في حاجة إلى بعضهم البعض، ومن ثَمَّ إلى الدعم المتبادَل من كل طرف للطرف الآخر. وأهمية وجود السلطان العثماني على رأس هيكل السُّلْطة هو لضمان ربط أواصرها معًا، «فالرعية دون سلطان كالجسد بلا روح.» كما يقول لنا صاحب «راحة الروح وسلوة القلب المجروح»، الذي يستطرد قائلًا إن الله وضع العلماء فوق الناس جميعًا.٦
وقد تكررت هذه الأفكار التقليدية عن الهيكل الاجتماعي المثالي في عديد من كتابات العلماء، وكُتب الأدب، وكُتب آداب السلوك. ولا يجب فهم الهيكل الاجتماعي المثالي — الذي أعطى للعلماء مكانة خاصة — باعتباره إقرارًا للواقع الاجتماعي عندئذٍ؛ فأحيانًا ينظر الباحث الفرنسي جلبير ديلانو إلى مثل هذا الهيكل الاجتماعي باعتباره نموذجًا نظريًّا عبَّر عن الصورة التي أراد العلماء رسْمَها لأنفسهم في أذهان الناس أكثر من تعبيره عن واقع اجتماعي قائم.٧ وعلى كل، فهذه الأفكار التقليدية لا تُدعِّم الوضع القائم فحسب، بل تُعبِّر عن النظام، والانسجام، والتماسك الاجتماعي في مواجهة الفوضى والاضطراب، والصراع. فطاعة الحكام تحتل درجة كبيرة من الأهمية في هذا الانسجام الاجتماعي. وقد أَيَّدت قطاعات عريضة من الناس هذه الأفكار — كقاعدة مُسلَّم بها — خاصة في أوقات الاستقرار والرخاء. ولكن قبول الناس لتلك الأفكار في أوقات الاضطراب والأزمات بالدرجة نفسها، أمر فيه نظر، وهو ما سنتطرق إليه بعد قليل.

وثمة بُعد آخر لثقافة أمراء المماليك، يتمثَّل في رعايتهم لأنشطة فنِّية مُعيَّنة تجمع بين التَّرْفيه والمتعة، لإبراز صورة مُعيَّنة لهم عند الرَّعية. فقد استخدموا جانبًا من ثرواتهم الطائلة في رعاية وتمويل الإنتاج الأدبي، فراج نوع مُعيَّن من النشاط الثقافي من خلال المجالس الأدبية التي كانت تُقام دوريًّا ببيوت بعض الأمراء، فكان بيت رضوان كَتْخُدا الجلفي (المتوفَّى ١١٦٨ﻫ/١٧٥٤م) مركزًا لرعاية الأدباء في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فاشتهر ذلك الأمير بتلك الباقة من الأدباء الذين التَفُّوا حوله. وعندما تولَّى حكم مصر مع إبراهيم بك، حَدَث نوع من الرخاء والاستقرار الأمني. وفي تلك المجالس الأدبية كان الحضور يستمعون إلى الموسيقى ويشاهدون الرَّقص، كما يَستمعون إلى طرائف الشعر، وبذلك جَمعت تلك المجالس بين الترفيه والمتعة. وكان أسلوب الحياة الرَّغدة الناعمة بُعدًا مهمًّا من أبعاد الثراء المفاجئ لتلك الطبقة.

وارتبط هذا النشاط بالحرص على تكوين صورة شائعة عن الأمير، تتَّفق مع وضع تلك الطبقة في الهيكل الاجتماعي. فقد اجتذب رضوان كَتْخُدا كثيرًا من الشعراء إلى مجلسه الأدبي، فيذكر الجَبَرْتي أن الشعراء امتدحوه بقصائد ركيكة ونثر مسجوع، وتلَقَّوا من عطاياه هدايا ثمينة.٨ واستطاع بعض المبدعين متابعة الحياة بفضل رعاية الأمراء، ومن هؤلاء الشيخ عبد الله الإدكاوي (المتوفَّى ١١٨٤ﻫ/١٧٧٠م)، الذي كان شاعرًا ذائع الصيت في عصره.
وقد أتاحت الرعاية التي حظي بها الفنانون والشعراء الدخول في زمرة فئات اجتماعية غير تلك التي جاءوا منها، ولولا مواهبهم — وخاصة من كان مُتميِّزًا منهم — لظَلُّوا دونها منزلة. كما أتاحت — في الوقت نفسه — المكاسب المادية والشهرة، وربما المعيشة المريحة للبعض ممن كان نظراؤهم يفتقرون إليه. كذلك دفع التماس الرعاية بعضهم إلى الانتقال من أمير إلى آخر ومن مكان إلى آخر لتأمين معاشهم. ويروي المُحبي أن الشاعر محمد بن أحمد الرقباوي الذي وُلد بإمبابة وتعلَّم بالقاهرة حيث ذاعت شهرته في مجال الشعر، فارتحل إلى مكة واليمن حيث استطاع بفضل ما لقي من رعاية ومن جوائز ممن قال فيهم قصائد المديح أن يكوِّن ثروة.٩ ولم يكن هذا النموذج غريبًا بالنسبة لمن كانوا من أمثاله.
وطبيعي أن تؤدي علاقة الرعاية هذه إلى إنتاج أدبي وفني من ألوان مُعيَّنة، ترسم صورة برَّاقة للأمير والطبقة الحاكمة بأسلوب غني بالمحسِّنات البديعية، التي كانت عنوانًا على عالَم تلك الطبقة. ويُقدِّم المديح — نظمًا ونثرًا — نموذجًا جيدًا لنوع الكتابة التي تُنتجها مثل هذه العلاقة التي يُبالغ فيها الكاتب في إطراء راعيه الذي يُغدِق عليه العطاء. ويُعَد كتاب الإدكاوي «الفوائح الجنانية في المدائح الرضوانية» من أشهر ما كُتب في هذا الجنس الأدبي في القرن الثامن عشر، وقد خَصَّصه صاحبه فيما مدح به رضوان كَتْخُدا الجلفي، حيث يَتَّسع المجال للتلاعب بالألفاظ والمقابَلَة والكتابة والجناس في هذا النوع من الشعر.١٠
كذلك كان شعر المناسبات يحظى بقبول واسع، ويُقرأ في مجالس الأمراء. وقد ألقى الشيخ عبد الله الشبراوي (المتوفَّى ١١٧١ﻫ/١٧٥٧م) قصائد قوية في مناسبات مختلفة، منها: انتهاء شخصية مرموقة من بناء إحدى العمائر عام ١١٤٦ﻫ/١٧٣٣م، وثراء الشيخ أحمد الحليفي الذي مات في ١١٢٧ﻫ/١٧١٥م، وفي مناسبة انتهاء شهر رمضان، وفي الحنين إلى مصر خلال إحدى الرحلات.١١
وكان لِتحوُّل الهيكل الاجتماعي والاستقطاب الكبير في مجال الثقافة الذي شهده القرن الثامن عشر أَثَره على الثقافة ذاتها. لقد كان أحد مَظاهر بروز ثقافة الطبقة الحاكمة انعزالها عن سكان المدينة، الذي تم التعبير عنه بصور مختلِفة منها أماكن إقامتهم وأسلوب معيشتهم. فمع مرور القرن الثامن عشر، أصبحت قصور الطبقة الحاكمة مكتفية ذاتيًّا بشكل أكثر وضوحًا، فاحتوت على كل ما قد يحتاجه سكانها من خدمات تكفيهم مئونة التماسها في أماكن أخرى بالمدينة. فكانت قصور القرن الثامن عشر تحتوي على الحمامات الخاصة، ومطاحن الغلال الخاصة، وحتى السجن الخاص بها.١٢ وعندما أعاد الشيخ محمد أبو الأنوار — شيخ طريقة السادات الوفائية الغنية — بناء قصره على بركة الفيل، أضاف إليه مسجدًا له منبر كامل لتقام فيه صلاة الجمعة، حتى لا يضطر إلى أدائها بالمسجد الجامع.١٣ فقد صحب الاستقطاب الاجتماعي الذي اتَّسمت به الطبقة الحاكمة من العسكر وكبار العلماء، الميل إلى العزلة عن سكان المدينة.

جاءت ثقافة القصور امتدادًا وانعكاسًا للواقع الاقتصادي والاجتماعي للطبقة الحاكمة، فكان لها رعاتها وأتباعها، لها حكامها ورعيتها، ولم تكن مُنفتِحة تمامًا إلا على دوائر مُعيَّنة خارجها. فهي ثقافة أضفت الشرعية على الطبقة الحاكمة، وعبَّرت عن مصالحها. وقد جنى صُناع تلك الثقافة منافع مباشِرة أو غير مباشِرة من خلال اشتغالهم بها، بغضِّ النظر عن الأصول التي جاءوا منها. فالشعراء الذين مدحوا أمراء المماليك جاءوا من أصول متواضعة، ولكن عطاء الأمراء لهم كان سخيًّا، وأكسبهم ارتباطهم برجال السُّلْطة مكانة خاصة بين من كانوا على شاكلتهم.

وكان هناك الكثير من المتعلِّمِين البارزِين خارج دوائر الطبقة الحاكمة، لهم دائرتهم الخاصة بهم، يشتغلون بتنمية مجال ثقافي آخر، كان لثقافة القصور المملوكية صداها عندها، كما كان لها موقفها من تلك الثقافة، فقد اختار هؤلاء لأنفسهم مسارًا آخر.

فقد برزت من بين السياقات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية لتلك الحقبة، نخبة متعلِّمة من أبناء الطبقة الوسطى، ابتعدت بقدر أكبر عن مؤسَّسة العلماء وعملية الاستقطاب التي شهدَتْها الفترة. لقد كانوا فئة محدودة العدد من الرجال المتعلِّمِين البارزِين، الذين نظروا على الواقع المحيط بهم من زاوية مُعيَّنة، وسجَّلوا موقفهم منه، والآراء التي طرحوها كانت مختلفة عن تلك التي توصَّل إليها نخبة العلماء. ونستطيع أن نجد في كتاباتهم ردود أفعال وآراء قوة اجتماعية مُعيَّنة، أو قُوى اجتماعية مختلفة عن تلك التي نَقرأ عنها في الجَبَرْتي الذي كان من نخبة العلماء. وعلينا أن نضع في اعتبارنا متى تُعبِّر تلك النصوص عن الآراء الشخصية للكاتب، أو آراء ومواقف الطبقة الوسطى، أو عامة سكان الحَضَر. وما نَتوصل إليه من نتائج سوف يساعدنا على تحديد الطريقة، التي عاشها ساكن المدينة العادي خلال هذه التغيُّرات المهمة في الاقتصاد والسياسة، من خلال كتابات تلك النُّخْبة من مثقَّفِي الطبقة الوسطى.

إن تحليل بعض النصوص الأدبية، يشير إلى أن ثَمَّة رَدَّ فعل للظروف المتغيِّرة يمكن رصدُه؛ خاصة من جانِب أولئك الذين لا يُسمع لهم صوت عادة، ويُلاحَظ أن هؤلاء من خارج هيكل السُّلْطة. ويتطلب الوقوف على هذه الظاهرة مِنَّا أن تقرأ النصوص بطريقة خاصة، تضع في اعتبارها البُعد الاجتماعي دون النظر إلى الخصائص الأدبية الكامنة في تلك النصوص التي قد نَقوم بفحصها؛ مما يعني أن نضع في اعتبارنا النصوص التي قد تكون قيمتها الأدبية محدودة، ولكنها تُلقي أضواءً على البُعد الاجتماعي، أو تكشف لنا عن تحديد الكاتب لموقعه الاجتماعي، كما يتضمَّن ذلك أيضًا وضع تلك النصوص في سياق جهود الطبقة الوسطى لتنمية هُويِّتها الاجتماعية والثقافية.

والواقع أن من الأفضل محاولة فَهْم الكتاب موضوع الدراسة في سياق الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي عاشتها أجيالهم. فكلما اشتَد وَقْع الأزمة الاقتصادية على عاتق سكان الحَضَر، عَبَّروا عن أنفسهم من خلال المظاهَرات مختلفة الحجم التي تجتاح الشوارع، على نحو ما حدث في القاهرة في أعوام ١٦٧٨، ١٦٨٧، ١٦٩٦، ١٧١٥، ١٧٣٤، ١٧٣٣م. وكان من مَظاهر الاحتجاج على مظالم السُّلْطة عندهم إغلاق الدكاكين، وأحيانًا كانت المظاهرات تتَّخِذ طابع العنف، فتقترن بالنَّهْب وإتلاف الممتلَكات، وغالبًا كان المشاركون فيها من عامَّة المدينة، وهم يمثلون — عادة — القاعدة العريضة من سكان المدينة الذين يعيشون عيشة الكفاف، ومن ثَمَّ كانوا أكثر الفئات الاجتماعية معاناة من الأزمات، وقد انضم إلى هؤلاء طلاب الأزهر، كما انضم إليهم — أحيانًا — الحِرَفِيُّون والباعة.١٤

لذلك أثارت هذه الفئة من الكُتَّاب تساؤلات ذات نسق ثقافي، قد لا يستطيع الأفراد من عامة الناس التعبير عنه كتابة، أو عن بعض الأمور التي شهدها المجتمع، أو عن النظام الاجتماعي والثقافي. وبذلك عَبَّر أولئك الكُتَّاب عن ضيقهم وعدم رضاهم، وكثير غيرهم ممن يعيشون تحت الظروف نفسها، كما عَبَّروا عن قَطْع أواصر الصِّلة بينهم وبين الطبقة الحاكمة ومؤسَّسة السُّلْطة. هذا الانفصال عن الحكام والسُّلْطة واضح في كتابات من كانوا يشغلون وظائف ذات طبيعة دينية، ولكنهم ليسوا من مَصافِّ العلماء، والذين كان ولاؤهم موزَّعًا بين أوضاعهم داخل المُؤسَّسة الدينية من ناحية، وانتمائهم إلى الطبقة الوسطى، من ناحية أخرى.

وتبين تلك النصوص نوعًا من عدم الارتياح إلى النظام الاجتماعي السائد، والاهتمام بالأمور الاقتصادية، تم التعبير عنه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فأبْدَى بعضهم — على سبيل المثال — اعتراضه على مظاهر الأيديولوجية السائدة فيما يتعلق بالهيكل الاجتماعي، وانتقد البعض الآخر العلماء ومفهوم المعرفة عندهم، والطريقة التي يتم بها تحصيل المعرِفة، وأحيانًا تساءلوا عن حدود سُلطة العلماء وسلوكهم والطُّرق التي اتبعوها.

هذا الموقف من مؤسَّسة السُّلْطة كان له أثره على الموضوعات التي تناولوها في كتاباتهم؛ خاصة همومهم المالية والخشية من الفقر، كما كان له أثره في الطريقة التي عَبَّروا بها عن آرائهم، مُتَّخذِين من الواقع القائم مرجعًا، معتمدِين على ملاحظاتهم الشخصية، وعلى الرواية الشخصية، وهي طريقة نأت بهم تمامًا عن أدب مؤسَّسة السُّلْطة الذي كان بلاغيًّا، شعريًّا، غارقًا في المديح.

وتُشير النصوص الأدبية المعاصِرة إلى أن ما فَكَّر فيه أو كتبه بعض المتعلِّمِين من خارج مؤسَّسة السُّلْطة لم يكن دائمًا يُماثل آراء وأفكار من كانوا يَلُوذون بمؤسَّسة السُّلطة؛ مما يعني أن آراء ومواقف «كبار» الكُتَّاب والمفكِّرِين المعلومة لنا، لا يمكن اعتبارها معبِّرة تعبيرًا تامًّا عن العصر، ولكنها كانت مسموعة ومرئِيَّة على نطاق واسع؛ ولذلك نحتاج إلى مراجعة بعض الآراء وإعادة النظر فيها بجدية، مثل الفكرة القائلة إن الرَّعية قَبِلوا بأوضاعهم دون اعتراض لأسباب دينية أو غير دينية، وأن المَظهر الوحيد للاحتجاج على مَظالم السُّلْطة تَمثل في مظاهرات الشوارع التي كانت تقع في حالة نُدرة المواد الغذائية أو المجاعة، وأن الاحتجاج لم يَتضمن موقفًا فكريًّا بل كان مجرد صياح للجوعى.

إن هذه الآراء تقع في إطار فكرة «سلبية الشرق»، التي يستخدمه المستشرِقون في دراستهم للمجتمَعات العربية قبل دخول الغرب فيها. ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا على نحو ما تكشف عنه النصوص التي بين أيدينا؛ ولذلك يمكن استخدام هذه النصوص كإطار لتحليل المجتمَع والأيديولوجيات المتصلة به.

وكان الاتجاه المتميِّز عن اتجاه المُؤسَّسة الرسمية — إلى حد كبير — مرتبطًا بالتوسُّع في نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، ومنبثقًا منها، ومتأثرًا بالحضور الكبير الذي حَققَته في عالم الكتابة الذي عرضنا له في الفصول السابقة، وكانوا جزءًا من قاعدة القراء، الذين أَثَّروا على الكتب، وما تناوَلَته من موضوعات كَتبوها بأنفسهم أو كَتبها الآخرون من أَجْلِهم.

وعلى كل، إذا كان أولئك الكُتَّاب قد تأثَّروا باللغة الدارجة من بعض الجوانب، وتزايد استخدام الأساليب المرتبطة بلغة الحديث اليومي، كما تأثَّروا عامة باتساع نطاق ثقافة الطبقة الوسطى، إلا أنهم تطوَّروا في اتجاه مختلِف بسبب ارتفاع مستوى تعليمهم، والتغيرات التي أصابت المناخ الاقتصادي. وفي الواقع كانوا أكثر ثقافة — بصورة واضحة — من القاعدة التي كوَّنت الطبقة الوسطى، ونتج عن ذلك أن أصبحت كُتُبهم بعيدة عن مُتناوَل الكثيرين. ويرجع ذلك إلى أن مُروِّجي الآراء الواردة بها كانوا من الفئة «المتعلِّمة» من أبناء الطبقة الوسطى، ممن أتيحت لهم فرصة التعلُّم من مصادر مختلفة ومن المجالات الثقافية المتاحة، وعلى هذا النحو لم يُمثِّلوا الطبقة الوسطى بل مَثَّلوا النُّخْبة المتعلِّمة. غير أن الآراء التي طرحوها والمواقف التي عبَّروا عنها، والاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية التي عبَّروا عنها، كانت كلها تخُص قطاعًا أعرض كثيرًا من الناس. وبذلك كانت طريقتهم في التعبير، ولغتهم، ومواقفهم النقدية وواقعيتهم الاجتماعية تجعل من كتاباتهم بشيرًا، له مغزاه في القرن التاسع عشر.

هذا الاتجاه الإبداعي المهم الذي لم يَنَل اعترافًا كافيًا، يُلقي أضواءً جديدة على فَهْمِنا للقرن التاسع عشر وما تلاه. والواقع أن أواخر القرنين السابع عشر والثامن عشر شهدت ظهور بعد اجتماعي ثقافي استشف المؤرخون وجوده، ولكنهم لم يحاولوا استكشافه تمامًا، ولعل ذلك يرجع إلى أن الإجابة عن تساؤلاتهم لا تتوافر في المصادر التقليدية. وقد تم البناء على بعض ملامح هذه الثقافة في القرن التاسع عشر، ويعطي ذلك لثقافة القرن التاسع عشر عمقًا تاريخيًّا أبعد مما يذهب إليه الباحثون عامة، فهم لا ينظرون إليها إلا في سياق تكوين الدولة الحديثة والتأثير الغربي. فأولئك الذين كتبوا في القرنين السابع عشر والثامن عشر قَدَّموا مستوًى مهمًّا من الفكر الأصيل والطرح الجديد عند تناولهم للواقع الاجتماعي، وفيما طرحوه من آراء حول السُّلْطة ومؤسَّساتها. واتَّخذوا موقفًا من مؤسَّسة السُّلْطة يناظِر الموقف الأكثر شهرة الذي اتخذه يعقوب صنُّوع، وعبد الله النديم. وبعبارة أخرى، قدَّم أولئك الكُتَّاب الأساس الذي قامت عليه بعض التطورات التي حدثَت فيما بَعْد.

وظهور الأشكال الإبداعية الجديدة على يد أناس يَقعون على هامش المُؤسَّسة الرسمية وهيكل السُّلْطة، لا يبدو غريبًا. وقد ثار جدل بين عدد من الباحثِين حول كَمِّ التغيُّرات التي قد تأتي من داخل أو خارج المؤسَّسات، أو حول ما إذا كان التجديد في الثقافة مرتبطًا بمؤسَّسات التعليم أو يتم خارجها. وقد استمر ذلك الجدل لبعض الوقت فيما يتَّصل بالجامعات في أوروبا في العصر نفسه تقريبًا، فيما بين القرون ١٦–١٨. فطرح تساؤلات — مثلًا — حول دور الجامعات مثل كمبردج في التغيُّر الكبير الذي حدث في القرن السابع عشر.

وقد وصف جون جاسكوان — أحد أولئك الباحثِين — كمبردج بأنها أرض ثقافية بور؛ لأن الأعمال العلمية التي صَدَرت عنها كانت قليلة القيمة أو عديمة القيمة تمامًا في التطورات العلمية التي شهدها ذلك القرن.١٥ فالجامعات التزمت بَرامج دراسية محدَّدة، لم تتغير استجابة لتغيُّر الظروف والأحوال. ونظرًا لكون الجامعات الأوروبية كانت مَعنِيَّة أصلًا بالدراسات الدينية شأنها في ذلك شأن المدارس الكبرى في العالم الإسلامي، وقد ظلت كذلك حتى القرن الثامن عشر بالنسبة لأوروبا، والتاسع عشر بالنسبة لمصر، يمكن طَرْح التساؤلات حول مدى تأثيرها أو أبعاد الدور الذي لَعبَته في سياق دينامي دنيوي. ففي فرنسا — مثلًا — كانت المؤسَّسات التعليمية ذات التأثير البالغ في الفكر العلمي والفلسفي هي الأكاديميات التي أقامتها الدولة وليس الجامعات، وقد اختلفَت الآراء حول هذه النقطة بالذات، فذهب بعض المؤرِّخِين على أن دور الجامعات يُعَد دورًا حيويًّا في الحركات الثقافية التي شهدتها أوروبا في القرن الثامن عشر.١٦

ودار الجدل نفسه حول العالَم العثماني؛ فقد اتَّجهَت الدراسات التاريخية الخاصَّة بمصر والشام وتركيا إلى تأكيد دور الدولة في إيجاد الثقافة غير الدينية، من خلال إصلاح النظام التعليمي في القرن التاسع عشر. ولا خلاف على أهمية تلك الإصلاحات من حيث نطاقها أو ما تَرتَّب عليها من نتائج على بنية الثقافة الحديثة. ولكن من الخطأ التغاضي عن تناظرات مُعيَّنة ربما كان لها تأثيرها على تلك التطورات؛ ولذلك يجب أن نضع في اعتبارنا العوامل البنيوية والجغرافية التي سَبقَت القرن التاسع عشر.

وننتقل الآن إلى تحديد أولئك الكُتَّاب المجدِّدِين، الذين عرفَتْهم مصر في القرن الثامن عشر، وإلقاء نظرة على خلفياتهم؛ ونظرًا لأنهم لم يكونوا جزءًا من مؤسَّسة السُّلْطة، لا نعرف إلا القليل عنهم، وهذا القليل هو ما باحوا به لنا عن أنفسهم في كُتبهم. ومن بين هؤلاء السيرة الذاتية الممتعة «لمحمد حسن أبو ذاكر». فكتابه الذي لا يحمل عنوانًا؛ مَليء بالمعلومات عن سيرته الذاتية، ودقة آرائه عن العالم المحيط به، والتحليل الذي يقدمه لبيئته، ومستوى مناسبة ما يُقدِّمه من تفاصيل، كل ذلك يجعله متفوِّقًا على غيره من الكُتَّاب. كان وضع «أبو ذاكر» من كل جوانبه مُعبِّرًا تمامًا عن كثيرين غيره، فلم يكن غنيًّا أو مشهورًا، ولم يَنَل تقدير معاصريه ككاتب أو كمفكر، غير أنه كان متعلِّمًا واسع الاطلاع، مُستقِل التفكير، واضحًا في آرائه. ولكنه ظل طوال حياته يحتل مركزًا وسطًا، فلم يحقق ما تَطلَّع إليه، كما لم يتوافر له الأمن المادي الذي كان ينشده.

وسيرة «أبو ذاكر» الذاتية لها أهمية خاصة؛ لأنها لا تعتمد على الإنجازات الكبرى، ولكنها — على نقيض ذلك — تعتمد على الظواهر العادية التي قد يواجهها أي طالب، وكغيره من مئات الطلاب، لم يَطل بقاء «أبو ذاكر» طالبًا بالأزهر، فقد اضْطُر لتَرْكه دون أن يُكمِل تعليمه لأسباب مادية؛ لأنه كان عليه أن يَعُول أُسرته. وقد أَثَّرت ظروفه على أدائه أيام الطلب، فلم يكن مُوفَّقًا فيها. وقد شرح ذلك لقُرَّائه، مبيِّنًا كيف اختار أن يترك الأزهر، وعَقد لذلك فصلًا بعنوان «سبب انقطاع كاتبه عن رواح الأزهر»، فأرجع ذلك إلى مواقف بعض العلماء والطلاب منهم، وسخرية البعض منه؛ لأنه كان يُضطر من حين لآخر لتَرْك الدراسة والعمل كسبًا للعيش في الأوقات التي كان عليه فيها تدبير الاحتياجات المادية لأُسرته.

واستطاع بعد ذلك أن يحصل على وظيفة «كاتب» بالأوقاف، بفضل مساعدة زوج أمه، فكان عَمله في وَقْف السلطان محمد، بتلك الوظيفة المتواضعة التي شغلها طوال حياته وحقَّقَت له الوظيفة نوعًا من الاستقرار مما جعله مَدينًا بالفضل لزوج أمه الذي هيأ له حياة مستقِرَّة، من خلال صِلاته الشخصية بالمسئولِين عن الوقف. ولكن استمر يعاني القلق؛ لأن المرتب الذي كان يتقاضاه لم يفِ بكل حاجاته، وكان أشد ما يضايقه أن من حققوا النجاح المادي في حياتهم، لم يكن لديهم أي قدر من الثقافة. وتُعَد سيرة «أبو ذاكر» مثالًا لسيرة كثير من الناس الذين نالوا حظًّا محدودًا من التعليم العالي، دون أن يصلوا إلى غايته التي تتيح لهم فرصة تَولِّي المناصب الكبرى، والذين كان الإخفاق دائمًا نصيبهم عندما يحاولون تحسين وضعهم المادي وزيادة مواردهم بمختلف الوسائل.

ومثل هذه المعلومات التفصيلية عن «أبو ذاكر» لا تتوافر عن غيره من الكتاب الآخَرِين الذين كتبوا في الاتجاه نفسه. ورغم غياب مادة مماثلة عن حياة الآخرين، يمكن أن نلمس عندهم مواقف مُعيَّنة شائعة بينهم؛ فكتابات كل من البدري حسن، ويوسف الشِّربيني، والشيخ عامر العنبوطي تُعبِّر عن أولئك الذين جاءوا من خارج دائرة السُّلْطة، أو يَرَون في أنفسهم اختلافًا عمَّن في مؤسَّسة السُّلْطة، ولا يربطون أنفسَهم بالأيديولوجية السائدة، فقد قَبِلوا ببعضها، ورفضوا بعضها الآخر، وكان كل منهم يَرْقُب المجتمَع باهتمام كما أن لهم اهتماماتهم الاجتماعية.

ويمكن قياس براعة أولئك الكُتَّاب بتعدُّد الطرق التي يستخدمونها للتعبير عن آرائهم. بالحديث عن القوى الاجتماعية، وعن الطعام، واللغة، ومن خلال طريقة مراقبتهم للسلوك الاجتماعي وتفسير دوافعه، وبتعدُّد مستوَيات اللغة التي يستخدمونها مُنتقِلين بين الفصحى والعامية وشبه العامية، ولغة المُؤسَّسة الرسمية، وتُغطِّي حياة أولئك الكُتَّاب من نهاية القرن السابع عشر عندما بدأ ظهور شكل جديد من أشكال هيكل السُّلْطة، وتنتهي عند أواخر القرن الثامن عشر، عندما استطاع هيكل السُّلْطة التحكم في الموارد الاقتصادية، وأن يقلص المجال الثقافي للطبقة الوسطى، الذي استفادت منه ردحًا من الزمان.

وعلى يد بعض الكُتَّاب — الذين كان معظمهم مغمورًا — ظَهر نوع من الكتابات التي عبَّرت عن الاهتمامات الاجتماعية والاقتصادية من مُنطلَق ثقافي، ومن مُنطلَق سياسي أحيانًا، ولا نعرف مدى تأثيرهم على معاصريهم؛ لأنه لم يَرِد ذِكْر إلا لِلبعض منهم في كتب الحَوْليَّات والتراجم، ولعلهم لم يكونوا مَعرُوفين بالقدر الكافي حتى يهتم كُتَّاب الحَوْليَّات والتراجم بالكتابة عنهم، ولعلهم لم يُمثِّلوا تهديدًا لمؤسَّسة السُّلْطة يتطلب الاهتمام بهم والتحرك للرد عليهم، مثلما تفعل السُّلْطة — عادة — عندما يتعرض النظام لما يَتهدَّده، ومن ثَمَّ لا نستطيع تقدير الوزن السياسي لأولئك الكُتَّاب، ولكن أهميتهم عند المؤرِّخِين الآن لا ترتبط بما كان لهم من تأثير مُحتمَل على معاصريهم.

ولكن الاهتمام بهم هنا، ومناقشة كتاباتهم؛ يرجع إلى وجود بعض من عبَّروا عن اهتمامات ومواقف قطاع اجتماعي كبير، يتمثَّل في مختلف القوى الاجتماعية لسكان الحَضَر؛ فقد صاغ هؤلاء الكُتَّاب بالكلمات المدوَّنَة ما كان غالبية سكان المدينة — ممن يجيدون القراءة والكتابة أو يجهلونها — يُردِّدُونه فيما بينهم، وربما كانوا لا يستطيعون كتابته، ومن ثَمَّ كان أولئك الكُتَّاب لسان حال سكان المدينة الذين عَبَّروا عن همومهم وآرائهم تعبيرًا واضحًا جليًّا، وقدَّمَوا لنا صورة لمجتمع زمانهم كما رأتها القاعدة العريضة من الناس.

ومِن بين أولئك الكُتَّاب الذين عاشوا في القرن الثامن عشر؛ مَن تَوافَر لديهم وَعْي طبقي جعلهم يشعرون باختلافهم عن غيرهم؛ خاصة عن أولئك الذين كانوا يَلُوذون بهيكل السُّلْطة أو يَنتمون إليه، وعَبَّروا عن القلق الناجم عن ضيق ذات اليد في ظِلِّ الظروف الاقتصادية القائمة، وعن الحرمان الذي عانَوه وقت الأزمات. واستخدَموا أسلوبًا للكتابة يختلف عما اعتاده كُتَّاب مؤسَّسة السُّلْطة، يَتَّسم بالواقعية ويُعبِّر عن الواقع المحيط بهم، ولا يهتم بزخرفة الأسلوب والبلاغة الجوفاء، مما يعطي لما أبدَوْه من ملاحظات وزنًا كبيرًا. فقد عبَّر كل منهم عن رأيه الشخصي، وليس عن الرأي الجمعي، فيما أبداه من آراء حول الأحوال الاجتماعية للناس، أو عن الفقر، أو ما اتصل بالمال. وقد ظل تأثير أولئك الكُتَّاب محدودًا طوال القرن. ويبدو أن الظروف التي سادت النصف الثاني من القرن قد أَلْقَت بظلال كثيفة عليهم، وعلى ما طرحوه من آراء.

ومن الناحية المنهجية، تقوم هذه الدراسة بفحص النصوص الأدبية لأولئك الكُتَّاب من عدة زوايا؛ أولًا: باعتبارها مصدرًا من مصادر التاريخ الاجتماعي؛ خاصة وأننا قُمنا باختيارها لتعبيرها عن الهموم الاجتماعية لطبقة اجتماعية مُعيَّنة. وثانيًا: لأنها تعبر عن فئات اجتماعية مُعيَّنة من الطبقة الوسطى الحَضَرية والعامة من سكان الحضر. وهذا الموضوع بالغ الدقة لم يطرقه المؤرخون بعد، ولا زلنا في حاجة إلى البحث عن وسيلة للتعامل معها واستخدامها في سياق تاريخي.

فقد أدى الوضع الاجتماعي الاقتصادي إلى بَلْورة مواقف، وآراء، وأشكال للتعبير اختلفت تمامًا عن المُؤسَّسة الرسمية والطُّرُق التقليدية، فاتَّسم أسلوب التعبير عندهم بالتجديد؛ خاصة فيما اتصل بطرح الآراء وإبراز الملاحظات.

وهنا يمكن أن نتساءل عَمَّا إذا كان هؤلاء الكُتَّاب يُعدُّون من المثقَّفِين. لقد ثار جَدَل بين الباحثِين لوقت طويل حول ظهور المثقَّفِين في سياق اجتماعي مُعيَّن، وجاءت إجاباتهم مرتبطة — إلى حد كبير — بالطريقة التي يتم بها تعريف المثقَّف؛ فتذهب المؤرِّخة الفرنسية إليزابيث بادنتيه إلى أن المثقَّفِين يَبرُزون عندما يحدث انقسام بين علماء الدين، والمتعلِّمِين من غيرهم، ورُبِطَت هذه الظاهرة بتأسيس الدولة للأكاديميات في فرنسا، التي أقيمت أول واحدة منها عام ١٦٣٤م.١٧ وفي العالم العربي ارتبط ظهور المثقَّفِين بأواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فهشام شرابي — مثلًا — يراه في ظهور نخبة من المتعلِّمِين اختلفت عن نخبة العلماء، نتيجة التعليم الحديث وتَزايُد الاتصال بأوروبا.١٨ ورأيه — على هذا النحو — يتواءم مع الفكرة السائدة، التي تُرجِع تغيُّرات القرن التاسع عشر إلى مَصدرَين: سياسة الدولة، والنموذج الأوروبي.

والواقع أننا نرى في تلك المجموعة من كُتَّاب القرن الثامن عشر طرازًا مُعيَّنًا من المثقَّفِين، الذين كانوا من المتعلِّمِين الواعِين، والذين لم يعتبروا أنفسهم، ولم ينظر إليهم الناس، على أنهم من العلماء، أَضِف إلى ذلك أن تعبيرهم عن أزمة الطبقة الوسطى الحَضَرية، واهتمامهم بها، لم يكن — بالضرورة — شخصيًّا محضًا، بل كان معبِّرًا عن متوسِّطِي التجار، والشيوخ، والباعة، والحِرَفِيِّين. ومستوى تعليمهم كما تُبيِّنه النصوص التي كتبوها، كان مُتقدِّمًا يفوق بمراحل مستوى التعليم الأساسي الذي كان مُتاحًا بالكتاتيب؛ فقد حصَّل كثيرون منها قَدرًا من التعليم بالمدارس العليا، وخاصة الأزهر، ثم دَعَّموا ثقافتهم بالتوسُّع في القراءة لمختلف المصادر، بل لَقَّب بعضُهم نفسَه بالأزهري على نحو ما فعل — مثلًا — كل من حسن البدري، و«محمد حسن أبو ذاكر».

ورغم أننا لا نعرف شيئًا عن تعليم يوسف الشِّربيني، إلا أن كتاباته تَنمُّ عن معرفة واسعة، فقد كان يعرف أعمال الغزالي وابن خلكان، وأدب أبي العلاء المعَرِّي، والحريري، والأعمال الجغرافية للمسعودي. كذلك يتضمن كتاب «أبو ذاكر» إشارة إلى الغَزالي، والمَقريزي، والسيوطي، والمناوي، وابن الوَرْدي، وابن سودون؛ مما يعني سعة اطلاعه في مجالات التاريخ والأدب والعلوم الدينية، ومعرفته تعود إلى القرن الثاني عشر، والعصر المملوكي، والقرنين السادس عشر والسابع عشر.

غير أن ظهور أولئك الكُتَّاب لم يأتِ في إطار تصنيفهم كعلماء، ولم يحرص أي منهم على أن يقدم نفسه بهذه الصفة، رغم أن كتاباتهم تكشف عن معرفة بالعلوم الدينية وبالتراث الإسلامي، بل نجدهم يُكثِّفون اهتمامهم بموضوعات دنيوية خالصة، عَبَّروا فيها عن هموم الطبقة الوسطى الحَضَرية. ومن ثَمَّ جاء موقع هؤلاء على هامش طبقة العلماء بحكم المواقع المتواضِعة التي شغلوها، وكذلك أوضاعهم الاقتصادية، ولكنهم — من ناحية أخرى — جاءوا على قمة المتعلِّمِين من أبناء الطبقة الوسطى، فعبَّروا عن همومهم الاجتماعية لمشاركتهم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية نفسها التي عاشتها تلك الطبقة. ومع احتدام الأزمة في القرن الثامن عشر، برزت في كتاباتهم روابطهم بالطبقة الوسطى الحَضَرية، كما شفت تلك الكتابات عن إرهاصات الوعي الطبقي عندهم.

وهكذا، نرى في كتاباتهم التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها مجتمَع القاهرة، بعيون من وَقع عليهم الغُرْم، وليس بعيون من كان الغُنْم من نصيبهم، ونعني بذلك مؤسَّسة السُّلْطة ومن انتسبوا إليها ولاذُوا بها. ومن كانت الثقافة التي عبَّروا عنها في أعمالهم إنما تُعبِّر من عدة جوانب عن جموع الناس، الذين عاشوا التجارب نفسها، وخَبَروا المعاناة نفسها دون أن تتوافر لهم القدرة على التدوين حتى تصل أصواتهم إلينا، فكانت تلك الأعمال لسان الحال الذي أغنانا عَمَّا كنا نتوقعه من تلك الجموع، من المقال. وبذلك نستطيع القول بتوافر درجة مُعيَّنة من الوعي عند الطبقة الوسطى تعكسه ثقافتها.

كان كثيرون من أولئك الكُتَّاب مُتأثِّرِين في كتاباتهم بالشعبية التي نالتها الكتب، والرواج الذي حقَّقَته على نحو ما ذكرنا في فصل سابق، كما تأثروا أيضًا بمستوى اللغة المستخدَمة فيها، وما احتوت عليه من موضوعات، واستخدموا كذلك الحكم والأمثال، والطرائف؛ أي إنهم عبروا عن أفكارهم في الإطار الثقافي المألوف عند القاعدة العريضة من سكان المدينة. فكانوا — في كتاباتهم — ينتقلون بين ثقافتين وهُوَّيتَين مختلفتَين: ثقافة أولئك الذين ارتقى تعليمُهم مثلهم، وحَقَّقوا قدرًا كبيرًا من المعرفة بالتراث الإسلامي، وثقافة الطبقة الوسطى والعامة من سكان المدينة التي صاغوا آراءهم حولها، وقدموا وصفًا لمعاناة أهلها.

هذه الازدواجية في الهُوِيَّة، كانت تُعبِّر عن قَدر مُعيَّن من التردد والتذبذب بين الانتماء إلى النُّخْبة الدينية، وكونهم ضحية لمن يملكون زمام تلك النُّخْبة. هذا التذبذب أصابهم بالإحباط، ولعله كان وراء طرحهم للآراء الجديدة، وابتداع السبل والأساليب المختلفة للتعبير عنها. وهكذا، بينما كانت تلك الحيرة والقلق سلبية على الصعيد الشخصي، فإنها كانت بما طرحته من آراء في كتبها إيجابية على صعيد المجتمع.

لقد قادت التجارب والملاحظات الشخصية «أبو ذاكر» إلى التوصُّل إلى استنتاجات مُعيَّنة، اصطدمت بالتقاليد الاجتماعية والثقافية في زمانه. استفزَّتْه التقاليد التي تضع العلماء عند قمة المجتمع، وجعَلَته ينتقد أفعال وسلوك العلماء نقدًا مرًّا، ولكن كتاباته — في الوقت نفسه — تنضح بانتمائه إلى الأزهر — بصورة أو بأخرى — وتكشف تَأثُّره ببعض مُعلِّميه هناك، وما تعلمه على أيديهم. هذا القلق والتَّردُّد ربما كان سائدًا بين كثير من الناس، الذين حُسِبوا على العلماء دون أن يكونوا بين مَصافِّهم، ودون أن يكون لهم ارتباط بمؤسَّسة السُّلْطة.

ومن ناحية أخرى، لم تكن الآراء التي طرحها أولئك الكُتَّاب حول الأيديولوجية السائدة أو ثقافة مؤسَّسة السُّلْطة وتَحدِّيهم لها يعني رَفْضَهم لتلك الثقافة. فلا اعتراضات عليها — صريحة كانت أم ضمنية — تعني الدعوة إلى الإطاحة بها أو الثورة ضدها. إنما تدل على الغموض الذي شاع بين المثقَّفِين الذين لا ينتمون إلى هيكل السُّلْطة؛ فالمثقَّفون من أمثال «أبو ذاكر» وحسن البدري الحجازي (الذي كان شاعرًا معروفًا وأزهريًّا) لم يَقبَلوا بالأيديولوجية السائدة قبولًا مُطلقًا، ولم ينظروا إلى الهيكل الاجتماعي من الزاوية التي رآه منها رجال السُّلْطة، بل قَبلوا ببعض الأشياء ورفضوا بعضها الآخر. وفيما يَتَّصل بالعلماء — على سبيل المثال — نجدهم يَتحدَّثون عن الفرق الشاسع بين ما حَقَّقه هؤلاء من ثراء عريض، وما توافر لهم من قُدرات ذهنية وثقافة.

ويورد الجَبَرْتي نقد الشاعر حسن البدري الحجازي للأزهر، الذي قال فيه إن الله ابتلى الأزهر ببعض أهل السُّوء، الذين يُضخِّمون من حجم عَمائمهم، ويُوسعون من أكمامهم حتى يَبْدُوا في هيئة المعلِّمِين، يَتأبَّطون عددًا من كُتب الأصول أينما ذهبوا بهدف اصطياد العطايا. وقال في مَقام آخَر لا تسألني عن علماء عصرك؛ لأن قِيمَتهم معلومة، فلن تستطيع أن تفيد منهم شيئًا لدنياك أو آخرتك، فإذا نَأَيْت عنهم فُزْت بالراحة الكبرى، وفي قول لأبي ذاكر: «تعلَّم من العلماء دون أن تنظر إلى أفعالهم.»١٩
وتشير هذه الآراء — من ناحية — إلى أن أصحابها لم يرفضوا الوضع القائم رفضًا تامًّا، ولكنهم يُوجِّهون الأنظار — من ناحية أخرى — إلى اتجاه ظَهَر في جيلهم، وهو ذلك الثراء العريض الذي حقَّقه كبار العلماء، وكان من أوائل أولئك العلماء الأثرياء، الشيخ محمد شنن المالكي (المتوفَّى ١١٣٣ﻫ/١٧٢٠-١٧٢١م)، الذي عَدَّه الجَبَرْتي من أكبر أهل زمانه ثروة؛ فقد اقتنى الجواري والعبيد والمماليك، وكان من مماليكه أحمد بك شنن.٢٠ وكانت ثروته، ومستوى معيشته، وما ينفقه من أموال يُناظِر أكثر ما كان لدى أمراء المماليك، وهي ظاهرة شاعت في العقود الأولى من القرن الثامن عشر، واستمَرَّت طوال القرن حتى تَمثَّلت — عند نهايته — في الشيخ عبد الله الشرقاوي، والشيخ محمد المهدي. غير أن مكانة العلماء في المجتمَع كانت عميقة الجذور، ومَهْمَا كانت حِدَّة النقد الذي وجَّهَه لهم أناس من أمثال حسن البدري و«محمد أبو ذاكر»، فلا يعني ذلك الرفض المُطْلَق للعلماء من جانبهم.
والموقع الذي حدده «أبو ذاكر» للعلماء في الهرم الاجتماعي، لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي تحدَّث عنه الجَبَرْتي، من حيث كونهم يأتون في ترتيب المكانة بعد النبي وصحابته.٢١ غير أن صورتهم اختلفت — عند أولئك الكُتَّاب — عندما نظروا إلى سلوكهم في الحياة اليومية الفعلية. وقد شارك الشِّربيني في انتقاد العلماء، فرأى ضرورة التمييز بين من يستحِقُّون الاحترام منهم، وغيرهم من العلماء الذين اعتبرهم أنصاف مُتعلِّمين. وبذلك لم يَكُن هذا النقد سوى نوع من تقييم الآراء السائدة، يَقبَل بالبعض ويَرفض البعض الآخر، ولم يَكُن فكرًا ثوريًّا يدعو إلى تغيير الوضع القائم.

ومالَ الكُتَّاب الذين اهتموا بالنواحي الاجتماعية والاقتصادية إلى الواقعية في نظرتهم إلى البيئة الاجتماعية التي عاشوا فيها، ووضَعُوا أنفسهم في موضع المراقبة للواقع من حولهم، وتشير كتاباتُهم إلى أمور الحياة المادية للناس من حيث المأكل والملبس وغيرها من متطلَّبات الحياة، بأسلوب مُغايِر تمامًا لما اعتدنا قراءته في مؤلَّفات مَن ينتسبون إلى مؤسَّسة السُّلْطة، فقد أَلْقَت كتاباتهم الضوء على الحقيقة المرَّة العارية. وكان اتباعهم منهج الملاحَظة مخالفًا للمنهج التقليدي الذي اتبعه العلماء من حيث التركيز على السوابق المأثورة، وأقوال الثقاة من علماء الزمان، حاضِره وغابِره.

وبذلك كان موقف أولئك الكُتَّاب تعبيرًا عن تأثير القاعدة الشعبية، اتسم بالطابع غير الرسمي، ونقل أحاسيس عامة سكان المدينة، معبِّرًا عن السخط الذي اعتمل في النفوس على الأوضاع القائمة، مما كان يناقض كتابات المنتَسبِين إلى مؤسَّسة السُّلْطة، والذين قدموا صورة وَرْدِيَّة للواقع القائم؛ بهدف الحفاظ على الاستقرار والانسجام الاجتماعي، ويشبه ذلك — من بعض النواحي — ما طرحة ميخائيل باختن، الفيلسوف الروسي والناقد الأدبي الكبير، الذي أصبحت دراسته للكاتب الفرنسي رابليه الذي ينتمي إلى القرن السادس عشر، من الدراسات الكلاسيكية. فقد رأى باختن أن عمل رابليه تَضمَّن تقاليد الكارنفال الشعبي، والثقافة وخِفَّة الظِّل الشعبية، فمن خلال استخدامه للغة الدارجة — بما اتَّسمَت به من الصراحة، والظَّرف والسخرية — في الهجوم على السُّلْطة والنظام القائم عامة، ومن خلال استخدامه لأسلوب وإيقاع السوق، قدم النقيض لمنهج كهنوت العصور الوسطى الذي اعتمد أسلوب الزجر والمتَّسم بضيق الأُفق والتعصب.٢٢ ورأي ميخائيل باختن أن ما كان يُعد سلوكًا شائنًا لا أخلاقيًّا من ممارسات الجماهير في المهرجانات وما قَدَّموه من أغانٍ، وتقليد ساخر للشخصيات، كان تعبيرًا عن الاحتجاج ضد السُّلْطة التي لم تَعُد مقبولة.٢٣

ولكن أناسًا مثل «أبو ذاكر» لا يمكن تصنيفهم في إطار الثقافة الشعبية التي قام باختن بدراستها، فقد كانت كتاباتهم رصينة وقراءاتهم واسعة. وكانت الكلمة المكتوبة هي أداتهم للتعبير، وليس المهرجان أو الكارنفال، مُستفيدِين في ذلك من رخص أسعار الورق، واتساع دائرة تَداوُل الكتب.

ويمكن طرح سؤال آخر يَتَّصل بالطابع غير الرسمي لثقافة مُتعلِّمي الطبقة الوسطى، وطَرْحِهم لهموم البيئة الاجتماعية المحيطة بهم، هو عن علاقتهم بالمجال العام للمجتمع؛ إذ لم تكن هذه الثقافة مُقيَّدة بالضوابط التي فَرضَتها مؤسَّسة التعليم، أو بمنهج الدراسات الأكاديمية، أو بالهيكل العلمي لتلك المُؤسَّسة على اختلاف مَراتبها. فقد عَبَّرت الكتابات بِحرِّية عن الآراء الفردية الخاصة لصاحبها، التي قامت على أساس فكري عقلاني، تجاهل القواعد المعمول بها، وانطلق خارج إطارها. وبهذه الملامح نقترب من «المجال العام» الذي قال به يورجن هابرماس، وهو الفضاء الذي يتم فيه الجدل بين العقلاني والتقليدي، حيث يكون ما يُقال أهم من قائله. وقد شَكَّل تطوُّر الصحافة، وظهور النوادي حيث كان الناس يتبادلون الآراء، «المجال العام»، الذي استطاعت البرجوازية عن طريقه تحديد السُّلْطة والنُّظم التقليدية.

ولكن اعتبار كتابات أولئك الكُتَّاب أنها كانت تعبيرًا عن العقلانية في مواجهة الثقافة التقليدية لا يعكس حقيقة الأوضاع في مصر — عندئذٍ — تمامًا؛ فقد كان هذا المجال انعكاسًا لوضع اجتماعي وليس تجريدًا عقلانيًّا محضًا، انعكاسًا لآراء شركاء متوافِقِين أو متصارعِين، استخدم كل منهم الشفاهي والمُدوَّن لطرح آرائه، ودعم مصالحه.٢٤ ونتج عن ذلك تشكيلها — إلى حد كبير — تبعًا لتحوُّل الهياكل الاجتماعية.

بروز الهُوِيَّة الثقافية والسياسية للطبقة الوسطى

من الأبعاد المهمة التي يُمكِن رَصْدُها في النصوص التي بين أيدينا بروز الهُوِيَّة الثقافية والسياسية فيما عَبَّر عنه أفراد الطبقة الوسطى من المُبرَّزِين بين صفوف متعلِّمِيها. وتحتوي تلك النصوص على آراء ومواقف مخالِفة لآراء مؤسَّسة السُّلْطة والأيديولوجية السائدة، عَبَّروا عنها صراحة أو ضِمنًا، هذا الاختلاف يَتَّضِح في الطرح، وفي الطريقة التي فهم أو فسر بها المحيط الاجتماعي، وفيما اتصل بالمعرفة الحقة والسُّبل المناسبة لبلوغها، وفي اللغة والأسلوب. والتعبير المهم عن هذه الهُوِيَّة تَمثَّل في اهتمامها بالواقع الاجتماعي والاقتصادي، ونظرتها إلى العالم نظرة واقعية وليست نظرة مثالية. ومن ناحية اللغة والأسلوب، عَبَّر أولئك الكُتاب عن أنفسهم بأسلوب واقعي عملي دقيق، وبلغة واضحة وصريحة؛ فظهور الواقعية والطابع العملي (الأمبريقي) في الكتابة يمكن رَبْطُه بالجماعات التي تقع خارج مؤسَّسة السُّلْطة، ممن لا يُعبِّرون عن الفكرة السائدة التي تُضفِي الطابع المثالي على هياكل اجتماعية بعينها.

واللغة مَظْهَر من مَظاهر التغيُّر الاجتماعي والاحتقانات الطَّبقِيَّة. فالتزام قواعد الكتابة، واتباع قواعد النحو، وإتقان أصول البلاغة في التعبير التي تُعدُّ أساسية عند كُتَّاب مؤسَّسة السُّلْطة، يتم التغاضي عنها عَمدًا باستخدام لغة التعبير الدارجة التي لا تلتزم قواعد محدَّدة. وقد ناقَشْنا في الفصل السابق العوامل التي أدَّت إلى انتشار الدارجة في النصوص المكتوبة بشيء من التفصيل. وقد قَدَّم «أبو ذاكر» انطلاقة جديدة لاستخدام الدارجة أو شبه الدارجة في الكتابة؛ ففي زَمَنه استُخدم شكل من أشكال العامية الدارجة على نطاق واسع في مختلف أنواع الكتابة: كالنصوص الأدبية، والحَوْلِيَّات، وشَجَّع على ذلك تطوُّر ثقافة الكتب وشيوع الإقبال على قراءتها واقتنائها بين عامة الناس.

وهناك عدد من النصوص التي كُتبت في القرن الثامن عشر، تشير إلى أن أشباه المتعلِّمِين كانوا يُقبِلون على قراءة تلك الكُتب، وأن الكُتَّاب الذين نالُوا حظًّا محدودًا من التعليم كانوا لا يستطيعون التعبير إلا باللغة الدارجة التي اعتادوها. غير أن تعليقات «أبو ذاكر» على استخدام اللغة لها مَغزاها؛ فهو يُعبِّر عن التَّغاضي المقصود من جانب الكاتب عن استخدام الصِّيَغ اللغوية التي تلتزمها مؤسَّسة السُّلْطة. وبَرَّر المغربي اهتمامه بالعامية — قبل ذلك التاريخ بقرن من الزمان — بأنه أراد أن يُبيِّن أنها تَتبع بالضرورة الشكل الصحيح، وأنه هدف مهم للدراسة؛ لأنها — في رأيه — لا تختلف كثيرًا عن الفصحى.

وهكذا، رغم أن أجيالًا قَبْلَه استَخْدَموا اللغة الدارجة في الكتابة لأسباب متنوعة، كان «أبو ذاكر» يدعو إلى استخدامها؛ لأنه رأى في ذلك ظاهرة إيجابية، وكان أكثر من سابقيه دفاعًا عن استخدام أسلوب مُتحرِّر في الكتابة يُعبِّر عما يريد الكاتب قوله؛ فهو يَعتبر أن اللغة يجب أن تكون طَيِّعَة، تعكس المعاني ولا تلتزم القواعد الصارمة، وكان صريحًا في نَبذِه للتقاليد التي التزمها في الكتابة مَن أسماهم — ساخرًا — «أصحاب التآليف والتصانيف»، وقال إنه لا يستطيع أن يلتزم الفصحى مثلهم. وفيما يتعلق بالتعبير نجده ينصح قارئه بقوله: «إن استَنَنتَ بسنَّتي، واتَّبعْت طريقتي، فركِّب الكلام على حسب ما بدا لك ولو ركيكًا.» فاستخدامه للعامية جاء تعبيرًا عن الاختلاف، لا في اللغة فَحَسْب، بل وفي المواقف أيضًا.٢٥ والأهم من ذلك أن تعليقاته لها مدلولات اجتماعية عندما نَجدُه يَقْرِن الفصحى بالعلماء، وحرية التعبير بِمَن لا ينتسبون إليهم.
ومن الجوانب التي توضح بروز هوية الطبقة الوسطى مع الأزمة الاقتصادية، النظرة إلى المجتمع التي تستند إلى همومه المادية وليس إلى الأيديولوجية المجرَّدة. وكانت تلك الهموم عُرضة للتحول نتيجة لظروف أوسع نطاقًا. فالاهتمام بالحياة المادية بَرَز في كتاب الشِّربيني «هز القحوف»، وخاصة وَعْيَه بالتناقضات بين الأثرياء والمُعدِمين. وقد عَبَّر عن إدراكه للفوارق الاجتماعية فيما كَتبه عن الطعام، مُقارِنًا بين طعام الأغنياء وطعام الفقراء. فالفقراء يَطهون طعامهم بالماء، أما الأغنياء فيطهون طعامهم بالسَّمن. وعالج «أبو ذاكر» ذلك فيما كَتبه عن السَّفر، فهو يرى المسافرِين على ثلاثة أنواع: الغني، ومتوسِّط الحال، والفقير، لكلٍّ نصيب من الراحة في السَّفر يَتفِق مع قدراته المادِّية، وحدَّد موقعه من تلك الفوارق، فكتب موضوعًا في نصيحة السَّفر، وما يحمله المسافر معه، ووسائل الانتقال التي يستخدمها وغير ذلك مما يتطلبه السفر.٢٦ وفي كل منها حدَّد بدقة احتياجات كل نوع من الأنواع الثلاثة من المسافرِين.
وهكذا، رغم أن الكُتَّاب لم يَلتزِموا في كتابتهم الوضوح دائمًا، فإن التصنيفات الاجتماعية التي تَناولُوها أو أشاروا إليها كانت — في الواقع — مختلِفة تمامًا عن الأيديولوجية الاجتماعية السائدة، وهي التي قسَّمت الناس إلى مجموعتين: الخاصة، والعامة. ويقول «أبو ذاكر» عن نفسه بوضوح تام إنه: «مهدور المقام بين العام والخاص.» ويعني ذلك أنه يرى أن ثمة طبقة أخرى بين هؤلاء وأولئك كان انتماؤه إليها، طبقة مختلفة عن مفهوم الأيديولوجية السائدة تَعي بذاتيتها.٢٧
ومن السِّمات المميزة لتلك الكتابات اهتمامها بالمال والعمل، وهي اهتمامات لصيقة بالطبقة الوسطى: كيفية تكوين المال، والحفاظ عليه، والحرمان الناتج عن غياب … كل ذلك في سياق مجتمع يمر بمرحلة رخاء، تخللته عِدَّة أزمات نتجت عن كوارث طبيعية أو أزمات من صُنْع الإنسان. وتَصَدَّر الوعي بقيمة المال هذه الكتابات، وخاصة أن مصر شهدت أزمات نقدِيَّة حادَّة من حين لآخر. وقد قام أندريه ريمون بحصر ١٣ من تلك الأزمات فيما بين ١٦٩٠–١٧٣٦م، نتج عنها ارتفاع في أسعار مواد الغذاء الأساسية.٢٨

ويمكننا رَصْد تطوُّر حَدَث في ما بين القرن السابع عشر ومنتصَف القرن الثامن عشر، يُعبِّر عن التحوُّلات التي حدَثَت عندئذٍ، فيما يتعلق بالاهتمام بالمال وبالفقر. فقد أفسح التفاؤل بالاحتمالات المادِّية المتاحة في بداية الفترة الطريق أمام الشعور بالحرمان والقلق المتعلِّق بالمال. وحوالي نهاية القرن السابع عشر، ألَّف يوسف الشِّربيني كِتابًا بعنوان: «كِتاب طرح المدد لحل اللآلئ والدرر» ذا أهمية كبيرة في هذا السياق؛ فإذا تغلَّبْنا على صعوبة قراءة المخطوط، حيث اختار الشِّربيني أن يكتب كل الكتاب بحروف غير منقوطة، نجده مُعبِّرًا عن رؤية الكاتب للعمل والمال.

والكِتاب يُعد من كُتب آداب السلوك، التي ترشد القارئ إلى الكيفية التي يتصرَّف بها في ظروف مُعيَّنة. ومن النصائح المهمة التي تَرِد دائمًا عند الشِّربيني تَجنُّب الكسل. وفي أحد الفصول يُوجِّه المؤلِّف النصح للآباء بأن يحرصوا على تمسُّك أولادهم بالفضيلة، ولكن عليهم أن يهتموا بكَسْب المال، فيقول: «كَسَل الولد هَمٌّ للوالد، وسروره ما دام له مساعِد … سلك الأولاد لصالح العمل، لا للهو والكسل … مُر ولدك بلم المال.»٢٩ ومثل هذه النصائح تُصدَّق عند أفراد الطبقة الوسطى. ونَلمح في كتاب الشِّربيني نَبرة تفاؤل، ففي حالة بَذْل جهد مُعيَّن في ظل ظروف مواتِية، يَسهُل الحصول على العمل، ويصبح سبيل جمع المال ميسورًا، ويمكن تحقيق مستوًى مريح من العيش. وكلها أفكار تتناسب مع الرأسمالية التجارية، ونصائح تتَّسِق مع اهتمامات الطبقة الوسطى.
ومع مرور عقود القرن الثامن عشر وتزايُد عبء الضرائب على كاهِل سكان المدن، بَرزَت روح التشاؤم، والشعور بالحرمان المادي في بعض الكتابات في هذه الفترة، فقد عبَّر الشيخ عامر العنبوطي الشافعي (المتوفَّى نحو منتصف القرن الثامن عشر) عن مشاعر رجل ينتمي إلى المسار الآخر، فيتحدَّث عن مختلف الأطعمة التي يتناولها الناس حسب مواقعهم الاجتماعية، وقدراتهم المادية فيقول:٣٠
اجتَنِب مطعوم عدس وبصل
في عَشاء فهو للعقل خَبَل
وعن البصار لا تعن له
تُمسِ في صحة جسم من عِلل
واحتَفِل بالضأن إن كنت فتًى
ذلك العقل ودَعْ عنك الكسل
من كباب وضلوع قد زَكَت
أكْلُها يَنْفِي عن القلب الوَجَل

فالشاعر يُعبِّر هنا عن الطعام الذي تَمَنَّى تَناوُله، ولكن الحلم دون المكانة الاجتماعية والقدرة المادية، فلا يبقى متاحًا إلا طعام الفقراء، ونستطيع أن نرى في هذه الأبيات دلالات اجتماعية وسياسية، وتتَّصِل التعليقات المرتبطة بها بالهيكل الاجتماعي، كما يراه شخص ممن كانوا في الكفة الخاسرة.

وقد احتل هذا البُعْد السياسي بُؤرة الاهتمام في أوقات الأزمات التي تواتَرَت في القرن الثامن عشر، فالمجاعات الناجمة عن نُدرة الطعام، دفَعَت الناس إلى الشوارع في مُظاهَرات حاشدة طلبًا للطعام. ولكن مَظاهر الاحتجاج لم تكن واحدة، فقد كان أصحاب الدكاكين والحِرَفِيِّين يُعبِّرون عن رفْضِهم للسياسات الجائرة بإغلاق محالِّهم، وأحيانًا تُغلِق السوق كلها أبوابها كأسلوب للمقاوَمة السلبية ضد عسف الحكام.٣١ وبذلك كانت الكتابة عن تلك الهموم الاجتماعية بمثابة تعبير فكري عن الحقيقة الواقعة.
وغلب على تلك الكتابات الحديث عن المال والعلاقات بين القوى الاجتماعية وبعضها البعض، فالشاعر حسن البدري (المتوفَّى ١١٣١ﻫ/١٧١٢م) تَعجَّب في إحدى قصائده من تَعذُّر وجود صديق حقيقي في ذلك الزمان، وأن المال هو الصديق الوحيد الذي يحمي المرء وقت الشدة؛ لأن صاحب المال دائمًا مطلوب ومقصود، لا يرى الناس عيوبه، ويَجدون خطأه صوابًا، يُفسِحون له الطريق إذا مَرَّ، وحتى الكلاب تهز ذيولها عند رؤيته. لذلك ينصح الشاعر قارئه أن يحفظ ماله جيدًا؛ لأنه إذا ذهب، ذهب معه حَظُّه من الدنيا.٣٢

وكان «أبو ذاكر» أكثر تَحدِّيًا من الشِّربيني فيما يتعلق بالمال، فكان دائم الاهتمام بقيمة المال، والقوة التي يُوفِّرها المال، والمشاكل التي يسببها غيابه، وكَتب عن الفقر من حين لآخر، ولكنه يختلف عن الفقر الذي نجده في الحَوْليَّات، فنحن نعرف ما كان يَعنيه الفقر في القرن الثامن عشر؛ فحَولِيَّات القرن كالجَبَرْتي أو أحمد شلبي بن عبد الغني — مثلًا — تُقدِّم لنا صورة واضحة لما شهده كُتَّابها في زمن المجاعات، عندما يَتدفَّق سكان الريف على المدينة، ويزداد الزحام أمام المخابز، وترتفع أسعار المواد الغذائية كالقمح، وأسوأ من ذلك اضطرار الناس إلى أَكْل النفايات. ورغم أن «أبو ذاكر» كَتب عن الفقر، إلا أن ما كتبه لا صلة له بتلك الظروف التي يرد وصفها بالحَوْليَّات.

فقد جاء تعبيره عن الفقر بالطريقة التي صَنَّف نفسه بها اجتماعيًّا، ففي نص كتبه في ١١٧٠ﻫ/١٧٥٦م ذَكر بوضوح أنه يَنتمِي إلى الطبقة الوسطى، فبعد رحلة طويلة حَملَتْه إلى جرجا في صعيد مصر، كَتب نصائحه الخاصَّة بالسفر التي أورَدْنا ذِكْرها، حيث ميَّز بين المسافِر الغني ومتوسِّط الحال والفقير. وجعل المسافر المتوسِّط الحال قريبًا من المسافر الغني، همه الأساسي تفادِي التعرُّض للأخطار والمشقَّة، بِغَض النظر عَمَّا يُكلِّفه ذلك من نفقة٣٣ وواضح تمامًا من ذلك التحديد أنه كان يضع نفسه في مَصافِّ الطبقة الوسطى.
غير أنه يتحدث عن الشعور بالفقر والحرمان بِحَرفية ومعرفة دقيقة بالموضوع، واهتمامه بالفقر لم يكن فكرة مجرَّدة، كما لم تَكُن دوافعه دينية أو خيرية. فقد كان الفقر الذي يَتحدَّث عنه مختلفًا عن فقر مَن يعيشون عند قاع الهرم الاجتماعي، ولكنه يُعبِّر عن إفقار الطبقة الوسطى. والواقع أن سِجلَّات التَّرِكات تشير إلى أن تَرِكات من تُوفُّوا في العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر قد نقصت بمقدار النصف مما كانت عليه في أوائل القرن.٣٤ وعندما كتب «أبو ذاكر» يشكو الفقر في ١١٧٤ﻫ/١٧٦٠م، قال: «وقد تركت طب الأغذية والملبوس، وبرحت في منزلي محبوس، وذلك لقلة الفلوس …»٣٥
وهناك أوقات وقعت فيها أزمات نتيجة لكوارث طبيعية، ولكن تَصاعُد موجة الإفقار منذ نهاية القرن السابع عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر كانت ظاهرة على درجة كبيرة من الأهمية. وهي التي عَبَّر عنها أبو ذاكر أصدق تعبير، فذكر في مواقع كثيرة ما كان يَعنِيه بالحرمان عنده، فقد أصابت هذه الظاهرة الكثير من جوانب الحياة. وانعكس ذلك على ما أورده من أمثال: «لذة الدنيا لا تُكتَسب إلا بالمال.» فبِدُون المال تَتغيَّر الصورة الاجتماعية للفرد «الفقر يُظهر السيئات والغِنى يظهر الحسنات.» فالمال يلعب دورًا مهمًّا في تحديد العلاقات بين الناس، ودفعته أوقات العسر للقول «من كان جوفه جوعان يقنع بأي شيء كان.» ويمضي قائلًا إنه قد يُجبَر يومًا ما على أكل الميتة.٣٦

وهكذا، رغم أن حَولِيَّات الفترة، مثل الجَبَرْتي، لم تُهمِل ذِكْر الأزمات الاقتصادية، سواء ما كان منها بسبب الفيضان، أو المجاعات أو غيرها من الأسباب، وما تَرتَّب على ذلك من اندفاع الجياع إلى الشوارع، فإن طرح «أبو ذاكر» لموضع الفقر جاء مختلفًا. وعندما كتب عنه كان يصف تجربة عاشها، فهي بمثابة شهادة شخصية لظاهرة لم يكن سببها الكوارث الطبيعية أو المجاعات، ولكنها جاءت نتيجة لضغوط اجتماعية تَعرَّضت لها هذه الطبقة التي ينتمي إليها، وكان يدرك تمامًا معنى الوقوع في وَهْدة الفقر، ويسعى لِتجنُّبه دون جدوى، لقد أثر هذا الإحساس بالحرمان على نظرته العامة لموقعه في المجتمع.

وعَبَّر «أبو ذاكر» عن الحصاد المُرِّ لتجربته بِعِدَّة أمثال كَرَّر ذكرها مثل «الغِنَى يواري العيوب ويخفي الذنوب.» و«الفقر يُعلِن السيئات ويوارى الحسنات.»٣٧
ونحو نهاية القرن، قدم كاتِب آخَر ملاحظات مريرة مماثلة هو عثمان أفندي بن أحمد الصفائي المصري (المتوفَّى ١٢٠٥ﻫ/١٧٩٠م) الذي اعتبر المال عاملًا بَالِغ الأهمية حتى في الحب، فهو يَتحسَّر على حبيبته، ويشكو حُبَّه لها، ولكنهما كانا مُفلسَين، حال إفلاسهما دون الزواج.٣٨ وتعكس كلماته حالة الشَّجَن والشعور بالحرمان، الذي شاع بين الكثيرين من أبناء جيله، عندما بَلغَت الأزمة الاقتصادية أقصى درجات الشدة.

وسواء اهتَمَّت تلك الكتابات بالحُّب أو المال أو الطعام فقد تَضمَّنَت رسالة ذات طابع سياسي، رغم أنه لم تتم بلورتها على هذا النحو، كما أنها لم تَحتوِ على مَطالب مُعيَّنة أو تطرح هياكل بديلة مُقترحة.

«أبو ذاكر» ونَبْذ الفكرة السائدة عن العلم

ثَمَّة مَظهَر آخر للاختلاف في الآراء بين الطبقات الاجتماعية، اتَّخذ طابع التحوُّل الثقافي، تَضمَّن موضوعات عن مُكونِّات العلم النافع، والسبيل الأمثل لبلوغه، وكان العلم قاصرًا على طبقة العلماء، تَطوَّرت مناهجه وفق أساليب أكاديمية مُعقَّدة لم تكن في متناول من لم يكن من زُمْرة العلماء. ومن هنا كانت الأصوات الناقدة للعلم (بهذا المفهوم) تمس موضوعًا أساسيًّا، يُعَد وقوفًا منه موقفًا مُضادًا للوضع القائم.

فقد أقدم «أبو ذاكر» على التقليل من شأن «الفتوى» كإحدى آليات علم الفقه في واحد من أكثر تعليقاته جرأة، ولما كان قد دَرَس حينًا بالأزهر فهو يعرف ما يَتحدَّث عنه، مما يعطي لنقده وزنًا. ففي مادة كَتَبها عام ١١٧٣ﻫ/١٧٥٩م انتقد الأسلوب الذي اتبعه علماء عصره في إصدار الفتاوى، منتقِدًا تلك الفتاوى لبُعْد الشُّقة بين المعرفة النظرية للعلماء والواقع القائم، فالعلماء يكتبون عن أمور مُجرَّدة لم تحدث في الحياة العملية، وهو لا يشكك في صدق فتاواهم، ولكنه يؤكد عدم جدواها؛ لأن العلماء يَضعون في اعتبارهم أصعب الاحتمالات التي لا يُتوَقع حدوثها، فهم في وادٍ، والواقع العملي في وادٍ آخر، ومن ثَمَّ يشك في نفع فتاواهم.

ودعا «أبو ذاكر» إلى أسلوب آخَر لتناوُل هذه الأمور، إلى نوع آخر من العلم، أكثر تحديدًا وواقعية، وأكثر دراية بما يجري من أمور الحياة. علم يُتيح للإنسان القدرة على التصرُّف عند التعرض للأزمات. فإذا وَجد الرجل نفسه وَحْدَه مع امرأته الحامل، وجاءها المخاض، فيجب أن يعرف كيف يقوم بعمل القابلة لو اضْطُر إلى ذلك اضطرارًا. ويمضي «أبو ذاكر» في شرح كيفية القيام بمثل هذا العمل، وذكر لنا أنه عرف ذلك من نساء الأُسرة، عندما كان شابًّا عن طريق السماع والمشاهدة ولم يجد غضاضة في ذِكْر تلك المعلومات والملاحَظات التي تَعلَّمها من النساء في صباه، فهو عندما يُوردُها يتعامل معها تَعامُلَه مع المعلومات التي تَلقَّاها على يد العلماء في الأزهر.

وما يقوله «أبو ذاكر» هنا، هو أن ظروفًا كتلك التي تحدَّث عنها، تَتطلَّب معرفة عملية يَستمدُّها المرء من بيئته، من نسوة الدار، ومن منابع الثقافة في بيئته، وأن هذه المعرفة أكثر نفعًا من العلم النظري المجرَّد الذي يُتَّخَذ إطارًا لصياغة الفتاوى. فهو يضع «علم» العلماء و«خبرة» القابلات على المستوى نفسه من الأهمية. وما تعلمه من مشاهداته من أمور الحياة العملية على مستوى ما حصله من الكتب من معرفة نظرية. فهو لا ينتقد «الفتوى» كأداة فقهية، ولكنه ينتقد العلماء الذين لا يعرفون شيئًا عن أمور الحياة الفعلية اليومية، ويُركِّزون على الأمور المجرَّدة، ومن ثَمَّ يكسو الغموض فتاواهم. ولكن المعنى الذي يَقصِده أعمق من ذلك بكثير، فهو يريد الإشارة إلى وجود نوع آخر من المعرفة يجب أن يُحصِّلها الناس، وليس العلم وَحْدَه هو ما يُحصِّله «العلماء» من المدارس.

وتعليقات «أبو ذاكر» — بهذا الصدد — لها أكثر من مَغزًى، فالعلم الذي يحتكر العلماءُ مَعرفتَه، يضعه موضع النقد بالتشكيك في صحة الأساس الذي تقوم عليه «الفتوى» باعتبارها أداة فقهية هامَّة. كما أنه يضع مستوى «علم» نخبة العلماء موضع تساؤل، فالإدراك العقلي عنده، وإعمال الفكر أهم كثيرًا من ترديد النصوص النظرية المجرَّدَة. ويرى أن طريقة معالجته للأمور لا تقل عما يفعله العلماء. وهو يرى أن «الإسناد» كأداة منهجية ترُد المعلومات إلى أصولها التقليدية، ليست وحْدَها الطريق الوحيد للمعرفة، وأن بقية المصادر الأخرى لها المستوى نفسه من الأهمية، وتَحدِّيه لعلم المُؤسَّسة الرسمية واضح عند مناقشته لقضايا أخرى. فما جَدْوى قراءة الكتب إذا كان المرء عاجزًا عن التَّصرُّف السَّوِي في مواقف مُعيَّنة. وما جدوى الانكباب على الكتب والجهل بأمور الحياة. فالسعي لتحصيل العلم شيء إيجابي، ولكن في حدود مُعيَّنة، فيقول: «طلب العلم؛ فإني اقتصَرْت على ما تحصُل به الإفادة، ولم أبتغِ من العلم الزيادة، كما قالوا: ما قَلَّ ونفع، خير مما كثر وأضَر، ولا سيما في حق المشتغلِين في الجري على مصالح نفسه وعياله.»٣٩

كان اهتمام «أبو ذاكر» بموضوع العلم جزءًا من تجربته الشخصية، ولكنه كان أيضًا جزءًا من جدل دار حول مُكوِّنات «العلم»، ولم يكن ذلك الجدل قاصرًا على علماء المسلمِين وَحدَهم، بل كان له إطار أوسع في مَطلع العصر الحديث. وقد تحدث بيتر بيرك عن هذا الجدل فيما يتصل بأوروبا في كتابه «تاريخ المعرفة الاجتماعية»، وبيَّن كيف اتخذ شكل المنافسة، والصراع، والتبادل بين ما أسماه بالنُّظم المثقَّفة والنُّخب الأكاديمية والأشكال الأخرى من المعرفة، أو ما اعتبره «المعرفة البديلة» مثل معرفة الأمور اليومية، معرفة الفلاحِين والحِرَفِيِّين في مواجَهة مَعرفة الأكاديمِيِّين.

وتناول الجدل صلاحية الطب الأكاديمي في مواجهة الطب الشعبي.٤٠ واتَّخذ هذا الجدل بين علماء المسلمين طابع المواجهة بين تعريف محدود لمكونات «العلم» في مُواجَهة تعريف أوسع نطاقًا للمعرفة، بين علوم الدين وعلوم الدنيا. وكانت أيديولوجية النُّخْبة الخاصة بالعلماء تضع العلوم الدينية على قمة العلوم الأخرى التي تأتي بعد العلوم الدينية في الترتيب من حيث المنفعة والضرورة والأهمية، وهي منزلة لا يقبلون فَقْدَها.
وقبل ذلك التاريخ ببضعة عقود، قَدَّم حاجي خليفة تصنيفًا انتقائيًّا للعلم يتسع لمختلف أنواعه، ونخبوي — في الوقت نفسه — يضع علوم الدين على قِمة العلم، فقد قَسَّم العلوم إلى علوم «دينية» وأخرى «غير دينية»، ولكنه أضفى على العلوم الدينية قيمة كبرى. ثم قَسَّم بعد ذلك العلوم غير الدينية إلى درجات، فهناك ما كان «محمودًا» منها، وما كان «مذمومًا» (كدراسة السحر والتنجيم) وما كان «مباحًا» (كالتاريخ والشعر وهي علوم — عنده — «لا سخف فيها»)، وختم هذا التصنيف بالقول بأن العلم بأي مجال من المجالات خير من الجهل.٤١ وبذلك اتَّجه كل من حاجي خليفة و«أبو ذاكر» إلى تعريف مُكوِّنات العلم على نطاق واسع، ولكن «أبو ذاكر» ذهب إلى ما هو أبعد، فكان أكثر وضوحًا في تحديد موقفه من الآراء السائدة حول العلم.
هذا التحديد الواسع للعلم كان واضحًا في نصوص متنوعة، كالكتب التي تشرح كيفية صنع الأشياء، وكيفية تناول الجانب العملي من الحياة الذي يُعد علمًا نافعًا، يستحق التسجيل كتابة، وهو مجال يعطي لتجربة الفرد اعتبارها. فخلال رحلة «أبو ذاكر» إلى جرجا — التي أشرنا إليها من قبل — شرح كيف يُطهَى الطعام وقَدَّم تجربته في ذلك ذاكرًا وصفة الطبخة التي قام بإعدادها، كذلك يذكر ما يحتاج إليه المسافر من متاع.٤٢ وهذا النوع من المعرفة يرتكز على الخبرة الشخصية، ومكتوب بأسلوب سهل يستطيع كتابته أي إنسان من العامة، ممن تتوافر لديهم سعة الأفق والقدرة على الملاحَظة والاستيعاب. وهي نافعة قد يَسترشِد بها كثير من الناس ممن يُجيدون القراءة. وبعبارة أخرى، هناك علوم دنيوية تُهم كثيرًا من البشر، وتُوفِّر قدرًا من المعرفة لعامة الناس.
هذا السياق أدَّى إلى تشجيع تطوُّر الرواية الشخصية التي تَتضمَّن الملاحظات والتعليقات الفردية، واستخدامها كمصدر للمعرفة. وكذلك يمكن ربط الاتجاه نحو جعل الكلمة المكتوبة مُعبِّرة عن مكنون النفس بالتغيرات التي طرأت على إنتاج الكتب، والتي عالجناها فيما سبق، بعدما أصبح الكِتاب سلعة رائجة مُتاحة للجميع، ولم يَعُد تَرفًا لا يناله إلا الأثرياء وَحْدَهم؛ ففي زمن «أبو ذاكر» انتشرت الكتب الرخيصة الثمن نسبيًّا، وأصبحت القراءة والكتابة تجربة شخصية وليست خِبرة جماعية قاصرة على فريق العلماء دون غيرهم. مع إتاحة الكتب بشكل أكبر، وسهولة اقتناء الناس لها، أصبحت القراءة خِبرة ذاتية، وأصبح الكِتاب رفيقًا للقارئ. وهذا ما ذهب إليه الشيخ عبد الله الشبراوي أحد العلماء البارزِين في القرن الثامن عشر، ففي كتابه «كتاب عروس الأدب» الذي تَضمَّن فصلًا عن علاقته الشخصية بالكتب، يحدثنا عن أهمية الكتب في حياته الخاصة، وأنه يستطيع الاستغناء عن رفقة البشر ما دام بصحبته كتاب.٤٣
وفي فصل آخر من كتابه بعنوان «في مدح الكتب»، يخبرنا أن من بيده كتاب لا يحتاج إلى وسيلة أخرى لقضاء الوقت.٤٤ فكان بذلك يتحدث عن علاقة ذاتية حميمة بينه وبين الكتب. ومن هذه النقطة انطلاقًا إلى استخدام الكتاب أداة للتعبير عن مكنونه النفسي خطوة واحدة، قطعها بعض كُتَّاب ذلك الزمان، فَعبَّروا بسهولة ملحوظة عن ذلك بروايتهم لأحداث ذات طابع شخصي ذاتي، وكان ذلك نادر الحدوث قبل انتشار ثقافة الكتب.

وغالبًا ما كانت الرواية الشخصية تَرِد ضمن مختلف أجناس الكتابة الأدبية، ولا تُشكِّل جنسًا أدبيًّا قائمًا بذاته؛ فترجمة الجَبَرْتي لوالده الشيخ حسن، التي تُعد أطول ترجمة في كتابه تجمع بين العناصر التقليدية للترجمة (شيوخه، ومعلميه، وتلاميذه، والكتب التي قرأها، وتلك التي ألَّفها) والعناصر الذاتية كتاريخ الأسرة وبعض المظاهر الاجتماعية الحميمة المتعلقة بها، وبأسلوب الحياة في البيت، ومثل هذا النوع من الرواية الشخصية قد يحتل مساحة كبيرة أو صغيرة من المجال، الذي خُصص الكتاب له في أي جنس أدبي.

ورغم انتشار تلك الروايات الشخصية في أعمال كبيرة، إلا أننا نستطيع أن نضع أيدينا على بعض مظاهر الحياة الشخصية للكاتب، على نحو ما نجده عند أبي ذاكر، بما في ذلك حياته مع أمه، وعلاقته بزوجته، والأصدقاء الذين يلتقي بهم من حين لآخر، حيث يقدم لنا معلومات أقل خصوصية ولكنها حقائق ذاتية، مثل حديثه عن حالته البدنية، وما يعانيه من آلام روماتيزمية في ركبتيه، وأخيرًا يُحدِّثنا بمستوًى من البوح من الصعب أن نجده في أعمال كُتبت كَسِيرة ذاتية، مثل: أمراض الشيخوخة، والآلام النفسية للوحدة، والعجز الجنسي الذي أصابه عندما قارَب السبعين من عمره. وهو يَذكُر تجارب بالغة الخصوصية، مثل الحديث عن الظروف التي أَدَّت إلى تطليق زوجته رغم أنفه، ثم زواجه مَرَّة أخرى بعد بلوغه سن الرشد، وسعادته مع زوجته الشابَّة وهي سعادة لم تَدُم طويلًا بسبب تَدخُّل أمه المتسلِّطة التي أرغمته على طلاقها؛ لأن أم الزوجة تَشاجرَت معها.٤٥
ويَروِي لنا كيف أن النوم خاصَم جفونه أربعين ليلة، وكيف جَرَت الدموع مدرارًا من مآقيه حزنًا على فراقه لزوجته، كلما تَذكَّر جمال عينيها وصَدْرَها المرمري. ورغم مرور السنين وزواجه من غيرها وإنجابه أطفالًا، نجده يعود إلى الكتابة عن تلك الزوجة التي اضطر إلى تطليقها، مؤكِّدًا أنها كانت تسكن قلبه، وأنه لن ينساها أبدًا.٤٦
ومن بين الأزمات الشخصية الحادَّة التي واجهها «أبو ذاكر» في شيخوخته، تحسُّره الشديد على ما أصابه من عَجْز جنسي. وهناك — قَبْل عصر «أبو ذاكر» بقرون — تراث من الكتابات عن الجنس في الأدب العربي اتَّسمت بالإثارة، كُتِبَت بهدف التسلية والفكاهة، وكانت تلك الكتابات تَلقى اهتمامًا ورواجًا في بعض المجالس الأدبية؛ حيث كانت المتعة المعنوية هي الطابع الغالب على تلك المجالس؛ ولذلك كان أكثر تلك النصوص جاذبية ما يثير الضحك والسخرية. وأحيانًا كانت تلك الكتابات عن الجنس تهتم بتقديم الوصفات التي تعالج العجز الجنسي، أو تساعد على الإثارة، باعتبارها وصفات طبية، تَرِد عادة في الكتب المتَّصِلة بالطب. وقد صَنَّف حاجي خليفة هذا النوع من الكتابات في كتابه «كشف الظنون» تحت مُسَمى «علم الباه»، باعتباره العلم الذي يبحث في علاج مشكلة العجز الجنسي من خلال وصفات غذائية مُعيَّنة أو استخدام عقاقير من أعشاب مُعيَّنة، أو اقتراح أوضاع بعينها أكثر إثارة عند الجماع.٤٧

ولكن كتابات «أبو ذاكر» في هذا الموضوع اختلفت عَمَّا حفل به الأدب العربي من تراث في هذا المجال؛ فقد اتَّخذَت كتابته طابعًا شخصيًّا محضًا، حيث يقدم تحليلًا لحالته الشخصية، وما بذله من جهد للبحث عن علاج نفسي لحالته؛ حتى يتخلص من آلامه الجسدية والنفسية ويتغلب على عجزه الجنسي.

فسعى — وهو في السبعين من عمره — للتَّخلُّص من حالة الإحباط التي كان يعانيها، والتي جعلَتْه يبكي في بعض الليالي تَحسُّرًا على نفسه، ولكنه اهتدى إلى نوع آخر من العلاج هو الكتابة. فالكتابة بما تَضمَّنَته من البوح بمكنون نفسه خَفَّفَت من آلامه، وانتقل — في الحديث عن الجنس — إلى أيام الصِّبا والشباب الحافلة بذكريات وردية، أَنْسَته معاناة الحاضر، ومن الطريف أن يُنهي هذا الحديث بالمثل القائل: «اللي ما يحصلش اللحم يفت في المرق.» ويشرح لنا «أبو ذاكر» الأسباب التي دعته إلى الكتابة، فروايته لتفاصيل حياته ساعدته على التخلص من معاناته. فيذكر لنا أنه اختار الكتابة؛ لأنها السبيل للتعبير عن مكنونه النفسي، الذي جعله يلقي عن كاهله همومًا طالت معاناته لها، وأعانته على تَجاوُز معاناة الشيخوخة والوحدة، فالكتابة عنده كانت علاجًا ناجحًا لما عاناه من قلق، وإحباط، وعجز عن مواجهة مشاكل الحياة اليومية.٤٨

ويُعد هذا النوع من الرواية الشخصية التي قَدَّم فيها «أبو ذاكر» مشاعر ومشاكل من يدرك السبعين في ذلك الزمان، على هذه الدرجة من الحميمية والبوح، يُعَد من العناصر وثيقة الصلة «بالحداثة» التي تَطوَّرت — بعد ذلك بزمن طويل — وانتشَرَت، ومن العناصر التي تَتبايَن تمامًا عن الأشكال السائدة من الكتابة في ذلك الزمان، وتتناقض مع ما بين أيدينا من تراجم العلماء التي تُقدِّم الشخصية موضوع الترجمة من زاوية مختلفة تمامًا: تعليمه، وشيوخه، ومُعلميه، وما قرأ، وما كَتب من كُتب، ومن تَعلَّم عليه من التلاميذ، وغير ذلك من أمور تتصل بالصورة العامة للمُتَرجَم له التي يريد الكاتب أن يوصلها إلى قرائه، أما اللون الآخر الذي قدمه «أبو ذاكر» فيتسم بالذاتية والبوح الذي يحقق نوعًا من التواصل مع القارئ. وشتان ما بين الصورة العامة التي تتوافق مع قواعد تقليدية نمطية معينة، والصورة الذاتية التي تصنع قواعدها الخاصة بها.

هذه النتيجة تمثل تحدِّيًا لآراء مؤرِّخي الشرق الأوسط، الذين يعتبرون أن السيرة الذاتية أو البَوح بمكنون النفس أسلوب لرواية قصة حياة الكاتب يُعد «جديدًا وثوريًّا»، كانت الريادة فيه للغرب، وأن المسلمين عرفوا مناهج كتابة التراجم الحديثة على يد المستشرقين.٤٩ واستمرت هذه الآراء موضع تأكيد دائم فيما اتصل بدراسة المجتمَعات الإسلامية أو العربية؛ اعتمادًا على منهج التناول الذي يَقوم على حركِيَّة (دينامية) الغرب باعتبارها نقيضًا لسلبية وركود الشرق، سواء فيما اتصل بالرواية الذاتية أو بغيرها من عديد من الظواهر الأخرى. ولم تستطع المؤلَّفات الضخمة التي بحثت المجتمَعات الإسلامية أو المجتمَعات العثمانية أن تتخلص من ذلك الإطار المنهجي المفتقِر إلى الدقة، ولا زالت تدرس «الإسلام» و«المسلمين» في إطار نسق تحليلي خارج الظروف المادية والعمليات التاريخية، التي لها تأثيرها على موضوع الدراسة أو البحث.
ورغم أن الرواية الذاتية أو الشخصية لم يكن لها الدرجة نفسها من الشيوع التي عرفتها التراجم، غير أنها اكتسَبَت شعبية في القرن الثامن عشر، لا في مصر وَحْدَها، ولكن كذلك في الشام والأناضول، فقد وَضَع جمال كفادار، وثُريَّا فاروقي أيديهما على عدد من الروايات الذاتية لكُتَّاب من إسطنبول والأناضول. وكان «أبو ذاكر» معاصرًا — تقريبًا — لشخص آخَر كَتب سيرته الذاتية مُبرزًا طابعه الشخصي، هو شيخ الإسلام فيض الله أفندي (المتوفَّى عام ١٧٠٣م)، الذي يقع — بحكم منصبه — على رأس نخبة العلماء. وقد كتب عن مسيرة حياته، وعن أصدقائه المُقرَّبين، وعن الاستعدادات التي تجري للزواج، ومشاكل التقدم في الحياة العملية.٥٠ وكانت الشعبية النسبية للرواية الذاتية على نطاق إقليمي واسع ترجع — على أرجح الاحتمالات — في جانب منها إلى أسباب مماثلة، رغم أن العوامل الأخرى التي لا زالت موضع البحث قد لعبت — بالتأكيد — دورًا في ذلك.
وقد عاصر «أبو ذاكر» — في أيامه الأخيرة — صعود نجم على بك الكبير وإمساكه بزمام السُّلْطة. والتطورات التي شهدتها العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر من سيطرة علي بك الكبير وخليفته على مقاليد الأمور، وفرضهم لمعدلات ضريبية عالية غير مسبوقة، أضرت بالإنتاج المحلي والسوق المحلية، وأدَّت إلى حرمان وإفقار الطبقة الوسطى الحَضَرية، وتآكل مجالها الثقافي. ويبدو أن القليل من الكتب المماثلة لتلك التي قدمناها — في هذه الدراسة — قد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر، فقد شغلت الأزمات الاقتصادية الناس بالبحث عن السُّبل التي تتيح لهم سد مطالب الحياة. وقد عَبَّر «أبو ذاكر» عن ذلك فيما كتبه قرب دنو أجَله (١١٧٨ﻫ/ ١٧٦٥م) فكتب يشكو قلة حيلته مع تَقدُّم شيخوخته، وتَفكُّك أوصاله، وقلقه على ما آلت إليه حال مجتمع، وانتقاده للظروف غير المواتية، التي كان عليه مواجهتها في الحاضر والمستقبل، ودفعه الواقع المرير الذي رآه من حوله أن يختم حديثه بالقول «الفقير فقير للأزل، والغني كذلك، فلا مفر من هنالك.»٥١ وتُعبِّر هذه المقولة عَمَّا كان يعانيه وجيله وطبقته من القلق.

خلاصة

إن ما يمكننا أن نَخلُص إليه — في التحليل النهائي —لِمَا دار على مَدى قرنين من الزمان، أن ثقافة الطبقة الوسطى الحَضَرية قد مَرَّت بتطورات ذات مغزًى، فقد وفَّرَت التجارة والرأسمالية التجارية لكثيرين منهم المجال والموارد والفُرص، وأن الأزمة التي عانت منها الطبقة الوسطى مع مرور عقود القرن الثامن عشر كانت لها نتائج مُركَّبة. فقد أَفْرَزت سنوات الرخاء نوعًا مُعيَّنًا من الثقافة، التي لحقت بها تطورات مهمة خلال سنوات الأزمة. فنَتَج عن تغيُّر الظروف وعي جديد أضاف بُعدًا اجتماعيًّا وسياسيًّا إلى ثقافة الطبقة الوسطى، وكان البُعد السياسي تَطوُّرًا لاحقًا طَفَا على سطح الأزمة الاقتصادية. كذلك أَدَّت هذه الظروف إلى ظهور بعض الكُتَّاب المتميِّزِين في نظرتهم للحياة والتعبير عن مكنون النفس، تجاوزوا نطاق المُثُل التي حكمت المجتمع في ذلك الزمان.

ويكاد يضع المؤرِّخون أيديهم على الخطوط الرئيسية للقرن الثامن عشر في مصر وغيرها من ولايات الدولة العثمانية، فالولايات العثمانية خضعت بصورة متزايدة لسيطرة القوى المحلية، كما سيطر الحكام المحلِّيون على موارد الخزانة العثمانية. ولكن ما زال بعيدًا عن مُتناوَل أيديهم معرفة تاريخ الطبقة الوسطى، التي جاءت بعد طبقة الحكام في المنزلة الاجتماعية، الذين كانوا خارج إطار هيكل السُّلْطة، على نحو ما رأينا فيما سبق، والذين لم يكونوا مجرد جزء من التغيرات التي حدَثَت، بل كانوا أصحاب اتجاهات بعينها، ظهرت على أيديهم، ولا نستطيع أن نفهم الفترة ككل إلا بالاعتراف بهم كأحد مكونات العملية التاريخية والتاريخ الثقافي للفترة، على طريقتهم الخاصة، وبما حققوه من نجاح وإخفاق معًا.

هوامش

(١) Andre Raymond, “Pouvoir Politique,” pp. 8-9.
(٢) أبو ذاكر، ورقة ١٨٤ب.
(٣) Cornell Fleischer, pp. 22–24.
(٤) الجَبَرْتي، ١، ص١٤.
(٥) أحمد الدمنهوري: النفع الغدير، ص٦٥.
(٦) مؤلف مجهول: راحة الروح وسلوة القلب المجروح، مخطوطة بدار الكتب المصرية، أخلاق، تيمور، رقم ١٢٤، ص٧، ١١.
(٧) Gilbert Delanoue, Moralistes et Politiques Musulmans dans l’Egypte du XIXe siecle (1798–1882), Institut Francais d’archeologie orientale, Cairo, 1982, vol. 1, pp. 14–16.
(٨) الجَبَرْتي، ١، ص٣٢٥، ٥٥٢–٥٦٩.
(٩) المحبي: خلاصة الأثر، ٣، ص٤١٥.
(١٠) James Heyworth-Dunne, “Arabic Literature,” p. 684.
(١١) محمد سيد كيلاني: الأدب المصري في ظل الحكم العثماني، ص٢١٧–٢٢٢.
(١٢) Nelly Hanna, Habiter au Caire, pp. 72 78.
(١٣) الجَبَرْتي، ٤، ص٣٠١.
(١٤) Andre Raymond, “Pouvoir Politique,” pp. 8-9.
(١٥) John Gascoigne, “The Universities and the Scientific Revolution: The Case of Newton and Restoration Cambridge,” in Science, Politics, and Universities in Europe, 1600–1800, Variorum Collected Studies Series, Ashgate Publishing Limited, Aldershot, Great Britain, 1998, 392–95.
(١٦) Richard B. Sher and Andrew Hook, “Introduction: Glasgow and the Enlightenment,” in The Glasgow Enlightenment, edited by Andrew Hook and Richard B. Sher, Tuckwell Press, East Lothian, Scotland, 1995, p. 11.
(١٧) Elisabeth Badinter, Les Passions Intellectuelles, pp. 9-10.
(١٨) Hisham Sharabi, Arab Intellectuals and the West, pp. 2-3.
(١٩) الجَبَرْتي، ١، ص١٤٧-١٤٨؛ أبو ذاكر، ورقة ١٦٦أ.
(٢٠) الجَبَرْتي، ١، ص١٣٧-١٣٨.
(٢١) أبو ذاكر، ورقة ١١٣ب.
(٢٢) Mikhail Bakhtin, Rabelais and his World, pp. 157-158.
(٢٣) Mikhail Bakhtin, Rabelais and his World, p. 3 ff.
(٢٤) Goeff Eley, “Nations, Publics and Political Cultures,” pp. 320–325.
(٢٥) أبو ذاكر، ورقة ١٥٨أ–١٦٠ب.
(٢٦) أبو ذاكر، ورقة ١١٦أ، ب.
(٢٧) أبو ذاكر، ورقة ١٢٠ب.
(٢٨) Andre Raymond, Artisans 1, p. 86–97.
(٢٩) يوسف الشِّربيني: كتاب طرح المدد، ص١٣٥-١٣٦.
(٣٠) الجَبَرْتي، ١، ص٤٠١–٤٠٣.
(٣١) Andre Raymond, “Quartiers et mouvements popularies,” pp. 112-113.
(٣٢) الجَبَرْتي، ١، ص١٤٣.
(٣٣) أبو ذاكر، ورقة ١١٥ب، ١١٦أ.
(٣٤) Andre Raymond, Artisans 1, pp. 239, 556.
(٣٥) أبو ذاكر، ورقة ١٨٢ب.
(٣٦) أبو ذاكر، ورقة ٣٦، ٥١.
(٣٧) أبو ذاكر، ورقة ٨٥ ب.
(٣٨) الجَبَرْتي، ٢، ص٣٣٢-٣٣٣.
(٣٩) أبو ذاكر، ورقة ٣٤أ.
(٤٠) Peter Burke, A Social History of Knowledge, pp. 13–15.
(٤١) حاجي خليفة: كشف الظنون، ١، ص١٢-١٣.
(٤٢) أبو ذاكر، ورقة ١١٧ب.
(٤٣) عبد الله الشبراوي: كتاب عروس الأدب، ص٦.
(٤٤) عبد الله الشبراوي: كتاب عروس الأدب، ص١٦–١٩. اتخذنا من عنوان فصل في كتاب الشبراوي «في مدح الكتب» عنوانًا لهذا الكتاب.
(٤٥) أبو ذاكر، ورقة ١٢٢ب.
(٤٦) أبو ذاكر، ورقة ٢٤٧ب.
(٤٧) حاجي خليفة: كشف الظنون، ١، ص ٢١٨-٢١٩.
(٤٨) أبو ذاكر، ورقة ١٧٠أ–١٧٣أ.
(٤٩) Martin Kramer, ed., Middle Eastern Lives, pp. 1-2.
(٥٠) Cemal Kafadar, “Self and Others: the diary of a dervish:” Suraiya Faroqhi, Approaching Ottoman History, pp. 63–66.
(٥١) أبو ذاكر، ورقة ٢٤٩ب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤