وجه الحقيقة

كيف عرفت أني أقطن هذا النُّزل؟

قلتها وأنا أقود صديقي وناشر كتبي إلى حجرتي، وقد سمعت صوته بالباب يسأل صاحبة النُّزل عني ويذكر لها أوصافي قبل أن يذكر اسمي، كأنما قدَّر في نفسه أني تسمَّيت في هذا البيت باسم مُستعار.

ولم يكَد يدخل الحجرة حتى أرسل نظرات مُستطلِعة إلى كل شيء حوله، وأبصر حقائبي الثلاث على ظهر خزانة الملابس وبعض الكتب على رأس الفِراش، ونظر إلى «الجراموفون» المفتوح فوق مائدة صغيرة، والقلم الرَّصاص المُلقى بين أوراق منثورة على مكتب في أحد الأركان، وإناء من البِلَّور الأزرق فيه بضع زهرات، فوقف لحظةً يهزُّ رأسه، ثُم جلس على مقعد قريب وهو يقول: هذا أنت حقيقة، تلك بعينها حياتك غير المُستقرَّة، أخبرني إلى متى التنقُّل من نُزل إلى نُزل، ومن فندق إلى فندق، وإخفاء مقرِّك عن الجميع، حتى عنِّي؟ لقد قابلني اليوم أحد الناس وسألني عن بيتك، فلما أظهرت جهلي صاح دهشًا: «رجل يُشار إليه بالبَنان، ولا يُعرَف له حتى الآن عنوان!»

– وأنت كيف عرفت عنواني؟

– تتبَّعت خُطاك ذات ليلة، أرجو أن تغتفر لي هذا الفضول، إنما أردت …

والتفت إلى المكتب والأوراق، ثُم أدار وجهه شطر باب مغلق يفصل بيني وبين الحجرة المجاورة وابتسم، وقال وهو يتنسَّم شيئًا بمنخاره الطويل: إني أشمُّ هنا رائحة قصَّة تُكتب!

– هنا قصَّة حقًّا، ولكنَّها لم تُكتب.

ونظرت على الرغم مني إلى باب الحجرة المجاورة وتنفَّست، ولحظني الناشر، فأسرع صائحًا في لهجته الحماسيَّة المُسرفة، وإشارته التمثيلية التي كلها تهويل: إنك قد كتبتها، إنا قد ظفرنا بكتاب العام! إننا قد نشرنا كتاب العام!

فوضعت إصبعي على شفتي أطلب إليه الصمت، وأرهفت سمعي ناحية الباب الفاصل، وإذا ضحكة رقيقة قد بلغت مسامعنا، فنظرت إلى صاحبي فإذا على وجهه إشراقة، ومرَّت لحظة ولم نسمع شيئًا، فالتفت صديقي إليَّ كالمأخوذ: صدقت!

– ثُم أشار برأسه الأصلع وشُعيراته القائمة في وسطه كأنه رأس هُدهد إلى ذلك الباب، وسأل في همسة: مَن هي؟

فقلت في غير وعي: ماذا يُهم؟

– حقًّا! ما دامت تستطيع أن تُوحي إلينا.

– آه أيُّها الناشر، بل أيُّها الخاسر! أنت الذي يُحيل أجمل عواطفنا الإنسانيَّة إلى هُراء يُباع ويُشرى، نعم، لو علمت أن كل ما أكتب لك وأنشر عندك منذ شهور إنما خرج من خَصاص هذا الباب! لقد كذبت عليك يومَ قلت لك إن «موزار» وحده هو الذي يرعى الآن فني بقيثارته السحريَّة الصافية، ضحكاتها الصافية هي أيضًا؛ تلك الطفلة التي لم تُجاوز العشرين، عهدي بقلبي دائمًا لا يُعلِّق إلَّا مَن تقاربني أو تكبرني في العمر، لأوَّل مرَّة في حياتي أهتمُّ لأمر طفلة تصغرني بكل هذه الأعوام، أتلك علامة الهِرَم؟

والتفت إلى مرآة خزانة الملابس، ونظرت إلى تلك التجاعيد التي برزت سطورها على صفحات الوجه، كأنها إنذار رسميٌّ من الزمن، ومضيت: لا، لن أكتب شيئًا، لقد سئمت هذه الحياة، أُريد مرَّةً واحدة أن أُحبَّ للحُب.

فصاح بي: تُحبُّ للحُب؟! وأنا أغلق حانوتي، وأبيع مطابعي، وأوقف مجلَّتي!

– اطمئن، لن يحدث ذلك أبدًا، وا أسفاه! لقد خرج أمري من يدي منذ أمد طويل، إني لم أخلق «مستهلكًا» للسعادة بالمعنى الاقتصاديِّ للكلمة، إنما أنا «مُنتج» فقط لهذا الصِّنف في السُّوق.

– طباخ «السُّمسم» لا يذوقه.

– إن المأساة الكبرى في حياتي اليوم أيُّها الصديق، هي أني لم أعد أُفرِّق بين العالم الخارجيِّ الحقيقيِّ وبين ذلك العالم الوهميِّ الذي أصنعه بالمداد والورق وأدفع به إليك وإلى غيرك من تُجار «الأحلام» وسماسرة «الأوهام»! إني لم أتبيَّن ذلك إلَّا اليوم، إني منذ سمعت من خلال هذا الباب صوت تلك «العصفورة» الجميلة التي يقولون لي هنا إنها «امرأة»، وهديل ضحكاتها الصغيرة، وأنفاسها الخفيَّة وسُعالها اللطيف، وأنا لا أنفكُّ أُقيم لها في رأسي تماثيل من ذهب لا «لزبائني»، ولكن لنفسي، وهنا المصيبة، منذ شهور وأنا أُدير «الجراموفون» لها هي، وأُوقن أنها لا بُدَّ مأخوذة مثلي ﺑ «موزار»، بل إني قد سمحت لنفسي أحيانًا أن أتصوَّر أنها تتساءل: «مَن هذا الجار؟» ولقد كان بابي مفتوحًا ذات يوم، وكنت في ناحية من الحجرة فأبصرتها تمرُّ في الدِّهليز، فلمَّا اقتربتْ من بابي رفعت عينيها تنظر نظرةَ المُستطلِع.

عفوًا، كلمة «المُستطلِع» هذه لا تثقْ بصحَّتها كثيرًا، فهي من تقدير ذلك الرأس الذي يخلط الآن الصدق بالكذب.

على أني لم ألبث أن فتلت — كعادتي — من شعاع هذه النظرة العابرة سبائك من الأحلام، كل ذلك دون أن أُكلِّمها أو أعترض سبيلها، أهو خوف من مواجهة الحقيقة؟ أم استغناء عنها بعالمي الذي في رأسي؟ لست أدري!

إلَّا أني جعلت أرقب حياتها، ووجدت أحيانًا ما كاد يُخيِّب ظني، فهي امرأة متزوِّجة، وقد رأيت زوجها فتًى من أجمل الفِتيان، وهي مثال للكسل والتراخي والفراغ، فهي في نظري كأنها «دَوقة» لا تستيقظ في الصباح إلَّا قُبيل الظهر، ولا تنام إلَّا في الثانية بعد منتصف الليل، حياتها تسير على وتيرة واحدة؛ نهوض متأخر، ووقت يُنفق في الزينة، ومشاغل نِسويَّة تافهة، ثُم غداء تتناوله بمفردها، لماذا بمفردها؟ هذا ما عجبت له أوَّل الأمر.

ثُم يأتي زوجها من عمله عند العصر مع بعض أصدقائه، فيلعبون الورق أو يتجادلون فيما لا طائل تحته حتى المساء، فيخرجون جميعًا ولا تعود الزوجة مع زوجها إلَّا إذا انتصف الليل.

ولقد أدهشني في الليل أمر، هو الصمت العميق في الحجرة عقب عودة المرأة إلَّا من صوت كتاب تُقلَّب صفحاته من حين إلى حين، وقد كنتُ أقوم أحيانًا نصف قيام في فراشي فأُبصر نور حجرتها المجاورة ينفذ إليَّ من خَصاص الباب، ولا يسكت حفيف الكتاب وينطفئ النور إلَّا في الهزيع الأخير من الليل، وقد أيقنت من ذلك أن الرجل يقرأ كثيرًا، وأن امرأته لا شكَّ قد نامت منذ ساعات وتركته مستيقظًا تحت «الأباجور»، غير أني أنكرت كيف أني لم أسمع مرَّة واحدة صوت كلام، كأنما الغرفة لا تضمُّ غير شخصٍ واحد، ولا أكتمك أني وجدت وما زلت أجد مُتعة وسرورًا في تتبُّع أحوالها، ولعلَّ هذا يُفسِّر لك سرَّ انزوائي في النُّزل، لا أخرج إلَّا قليلًا.

إني أنظر الآن وهي تجري فيه حياتها فلا أسأم، بل النهر الضيِّق الصغير الذي تجري فيه حياتها فلا أسأم، بل إني لَأرى أيامي الآن عريضة عميقة زاخرة بأحداث وتفاصيل ومشاعر ومناظر قد لا يكون لها وجود إلَّا في رأسي، ومع ذلك، ما الضرر؟ ولقد أردت يومًا أن أعرف عنها أكثر من ذلك بوسائل أخرى، فقلت لصاحبة النُّزل: «إنكِ حقًّا يا سيدتي تُقدِّمين لبطني أطيب الطعام، وتُعدِّين غرفتي أحسن إعداد، ولا يَنقصكِ إلَّا أن تقدِّمي كذلك مادَّة الغذاء لقِصَصي وكتبي، فتؤدِّي لي وللأدب أجلَّ خدمة.»

فحملقت العجوز في وجهي وكأنها لم تفهم، فأبَنت لها عن قصدي، وسألتها أن تخبرني بأخبار القاطنين معي، علَّني أجد فيها بُغيتي، فلم يبدُ منها تحمُّس لهذه المهمَّة، وأدركت أن تقديمها إليَّ طبقًا جيِّدًا من «البفتيك» هو عندها أجدى وأجلُّ من تقديم «موضوع» كتابٍ خالد! وعندئذٍ فهمت أن تلك التِّيجان التي يضعها على رءوسنا أمثالك من الناشرين والمعجبين إنما هي شيء لا يبهر غيرنا نحن وغير أولئك الغافلين الذين استطعنا أن نُخدِّر أحلامهم بدخان الكلام العبق الكثيف.

ولكنها مع ذلك تحدَّثت إليَّ، وعلمت منها أن تلك الزوجة الصغيرة قد اقترنت منذ عامين بهذا الشابِّ الجميل دون أن يُعلِم بذلك أُمَّه المريضة بالقلب، وأن أُمَّه كانت تريده لإحدى قريباتها الموسرات، وهو يخشى على أُمِّه التي يُحبها أثر الصدمة لو علمت بهذا الزواج، فهو من أجل ذلك قد وضع زوجته في هذا النُّزل وهو ما يزال يقطن عند والدته، يُؤاكلها في الغذاء كعادته ويبيت عندها دائمًا كأنْ لم يحدث قطُّ شيء. عجبًا! إذَن الصغيرة هي التي تقرأ وحدها في الليل! ولقد صادفت أنا حقيقة الزوج عائدًا مع زوجته ذات ليلة، فما إنْ أوصلها إلى الباب حتى تركها وعاد إلى بيت والدته. إن مظهر هذا الزوج عجيب، إن هذا الفتى أقرب في تصرفاته إلى الخليل مع خليلته، ومع ذلك فإن تلك الزوجة تُحبه حُبًّا عظيمًا، وأنها تتألَّم، وقد بثَّت صاحبة النُّزل بعض همِّها؛ إن هذا الزواج الذي بدأ بالحُبِّ قد انتهى اليوم من ناحية الفتى إلى شيء من الفتور، وهي تخشى أن يكون هناؤها قد انقضى، وأن يكون شأنها شأن الوردة التي لا تعيش أكثر من يوم!

ولقد جاءتني صاحبة النُّزل ذات مساء وأنا أُدير «الجراموفون»، وحملت إليَّ «أسطوانة» قالت إنها للسيدة المجاورة، وهمست في أذني إن السيدة تحب سماعها لأنها تُذكِّرها بحال كحالها، فقلَّبت «الأسطوانة» في يدي فإذا هي أنشودة المُغنِّية الباريسيَّة «داميا»، مطلعها:

فقدت شبابي بفقد حبي.

فلم أكتم خيبة أملي لتفاهة هذه الأغنية إلى جانب تلك الكنوز من الموسيقى العُليا التي تُسمع من حجرتي، ولكنِّي ومع ذلك أطلقتها من فرنوغرافي «مرَّةً واحدة من أجلها، ولم أجسُر على إعادة الكَرَّة، إني ما زلت أحتفظ بأسطوانتها، ها هي ذي في الخزانة الصغيرة، غير أني لا أُحبُّ أن أُديرها؛ لأني لا أرى من الذَّوق أن أذكرها كثيرًا وهي في مُقتبل الشباب بهذا المصير المُخيف الذي تخشاه، لم أجرؤ على ذلك، وقد تقول إن هذه الأغنية تُخيفني أنا وتحزنني لأنها تُذكِّرني أنا أيضًا بحالي، وهي في حقيقة الأمر لا تنطبق إلَّا عليَّ، وربما كان في هذا شيء من الحقيقة.

قد تسألني بعد ذلك أيُّها الصديق: ما موقفي الآن بين كل هذا؟ لا أستطيع أن أجيبك! كل ما أعرف أن هذه المرأة الصغيرة لها عليَّ اليوم وعلى عملي تأثير واضح، وأن الصفاء الذي يجري بين السطور التي تُنشر لي هذه الأيام إنما ينبع من ضحكاتها الصغيرة الرقيقة التي تُشبه ضحك الأطفال، إني أُفكِّر في أمرها كثيرًا، ويُخيَّل إليَّ أنها على الرغم من تفاهة حياتها وسخف المُتَّصلين بها لا بُدَّ أن يكون في نفسها جانب ذو قيمة، أتُراها تُعْنى وتُصغي إلى كل تلك الموسيقى الجديدة التي تنطلق من حجرتي؟ إن ما يُخيِّب أملي فيها أنها لا تجلس منفردةً ساعةً واحدة، فإن لزوجها أصدقاء من حُثالة الناس لا ينقطع لهم وابل طول النهار يُحيطون بها كما يُحيط الذُّباب بشيء حُلو، وينجذبون إليها كما ينجذب الإنسان إلى كل شيء جميل، فلا يتركونها لحظةً منفردةً سواءً حضر زوجها أو غاب، وليس عندهم — كما قلت — إلَّا لعب الورق والكلام في مراقص الليل و«الكاباريهات» التي يقودون إليها هذه الفتاة كل ليلة، فلا تعود كما ذكرت لك إلَّا بعد منتصف الليل.

أمر واحد يُنقذ هذه المرأة في نظري، هو مطالعتها الليليَّة الطويلة، فهي عندي كماء مُقدَّس يُطهِّر كل شخصيَّتها الفارغة، ويغسل كل ذلك السخف الذي يبدر في حياتها بالنهار، هذا أيضًا أخشى فيه مواجهة الحقيقة، وأخاف أن أعلم يومًا أن هذه القراءات الطويلة إنما هي في «ميشيل زيفاكو» و«أرسين لوبين» وأنواع أخرى قد لا أعرفها من حُثالة الكتب.

إني أُشفق على هذه الطفلة من أشياء كثيرة، وأعرف تلك الأخطار التي تُهدِّد الزوجة المُهمَلة، ولقد سمعت بأذني حوارًا دار بينها وبين صديقٍ لزوجها انفرد بها يومًا وقدَّم إليها مبلغًا من المال وظنَّ أنها في حاجة إليه، فصاحت به: «إنك تنسى الاحترام الواجب لي!» ولقد أعجبني عندئذٍ موقفها، ورأيت منها نفسًا تُجاهد جهاد الأبطال لتنجو من مزالق الطريق الذي تدفعها إليه الظروف، لعلك تُعجب من خوفي عليها هذا الخوف، نعم، لَكَم أتمنَّى لو أجعل من هذه الصغيرة إنسانًا ذا قيمة، وأن أُوجِّه تيَّار حياتها إلى وجهة سامية، وأن يستكشف فيها زوجها يومًا كنزًا لا يُقوَّم بمال، لو أن مثله يستطيع أن يستكشف شيئًا، إن لم يفعل فعلَّها هي التي تفتح عينيه وتُنشئُه نشأةً أخرى، تلك مشاعري نحوها، إن عواطفنا لا يُمكن أن تكون إلَّا جميلة نبيلة نحو مَن يُوحي إلينا بشيء جميل نبيل، لقد فكَّرت كيف أستطيع أن أُهذِّب هذه الصغيرة من حيث لا تدري، وودِدْت لو أستطيع أن أكتب إليها، فقد تنفع كتاباتي هذه النفس المسكينة، ولعلَّ مخاطبتي إيَّاها تُخرِج من نفسي ثروة قد تنفعني وتنفعك بما لم تكُن تحلم به يومًا، ولقد سطرت لها فعلًا هذه الرسالة. أأقرؤها لك؟ استمع: «سيدتي، أيُمكنني أن أسألكِ معروفًا؟ اسمحي لي أن أكتب إليكِ من حينٍ إلى حين، لا تردِّي على رسائلي، أعيديها إليَّ فقط بعد برهة من الزمن، رسائلي هذه وحدها هي التي قد يكون لها عندي كل القيمة، لماذا اخترتك بين مئات لهذه المهمَّة الغريبة؛ أولًا: لست أنا الذي أختار تلك التي تستطيع أن تُسيِّل نفسي على الورق، ولا بُدَّ لنفسي أن تسيل لأن بضاعتي التي أُتاجر فيها هي إحساسي، إن دموعي وضحكاتي ومصائبي تُدرُّ أحيانًا عليَّ الذهب، وربما شيئًا من المجد، هكذا خُلق ذلك الكائن العجيب اللعين الذي يسمونه الفنان، أمَّا شخصك وما له عندي من احترام فلا دخل له في الموضوع بحال.» لم أرسل إليها هذا الكلام لحسن الحظ، فقد قلت في نفسي بعد ذلك: ماذا يعني هذه المرأة من أمر الذهب الذي سأجنيه، والمجد الذي قد تضحك من مجرَّد اسمه؟ ومَن يضمن لي أنها تُحمِّل خطابي المعنى الذي أردُّ به أنا؟ مرَّةً أخرى شعرت أني لم أعد أميِّز الحدود الفاصلة بين عالم الحقيقة وعالم الخيال، إن هؤلاء الأشخاص الحقيقيِّين الذين يعيشون إلى جواري راضين بحياتهم التي أُسمِّيها تافهة، وهم ولا شك هازئون بي، إذا علموا أني أريد أن أُغيِّر مجرى أيامهم … إنهم ليسوا مخلوقات تتحرَّك على الورق طبقًا لمشيئتي، وتتصرَّف تبعًا لمنطقي، ولكنَّهم ناس لا سبيل لي على حياتهم، ينبغي لي أن أترك هؤلاء الناس وشأنهم، ألا ترى معي أيُّها الصديق أنه ينبغي لي أن أترك هؤلاء الناس وشأنهم؟!

فأفاق صاحبي من تأثير ذلك الحديث الطويل، وقال: كيف تتركهم وشأنهم والقصة لم تتم؟

– لا أُريد أن تتمَّ، يجب أن تقف عند هذا الحد.

– نحن لم نعرف بعدُ عن هذه المرأة إلَّا ما صوَّرته لك مخيِّلتك.

– يكفينا هذا، إنها لَمُخاطرة أن نعرف صورتها الحقيقية، مخاطرة باهظة الثمن، فالزم الصمت، ولا تُسكت تلك القيثارة التي تسيل على أنغامها نفسي؛ فإن الطمع قد يُذهب عنك حتى تلك السطور التي كنت تنالها مني.

وفي اليوم التالي، في نفس الساعة، عاد إليَّ صديقي الناشر، وجلس أمامي في نفس المجلس من حجرتي، وأطرق قليلًا، ثُم قال لي بصوت خافت: هل من جديد؟

وانبعثت من عينه نظرة إلى الباب الفاصل، فبادرت قائلًا: إنها ليست هنا، لقد خرجت منذ قليل في صُحبة تلك الزُّمرة.

فاطمأن في كرسيِّه، وأرسل صوته على طبيعته طالبًا إليَّ أن أمضي في الحديث عنها.

– ماذا تُريد أن تعلم مني أكثر مِمَّا علمت؟ إن حياتي الآن جميلة على الرغم من كل شيء، إنك لَترى وتلحظ أن إنتاجي غزير وخيالي مُتَّقد، ولا ينبغي لي أن أُغيِّر هذه الحياة الآن.

إني على كل حال غير قدير على ذلك على الرغم من … ولكنِّي مع ذلك …

آه أيُّها الصديق! يجب أن أُفضي إليك بشيء خطير.

لقد كذبت عليك أمسِ؛ إذ قلت لك إني لم أُكلِّمها بعد، الحقيقة أني خاطبتها.

– خاطبتها؟

– منذ يومين دخلت المطبخ أطلب فنجانًا من القهوة، فرأيتها في «روب دي شامبر» ياباني إلى جانب الحوض تضع أزهارًا صغيرة في إناء، وتصبُّ عليها ماءً من الصنبور، وتُحادث صاحبة النُّزل العجوز بالإيطاليَّة، فانحنيت برأسي انحناءةً خفيفةً مُحيِّيًا، ورأيت أن أنتهز الفرصة للكلام، فبادرت أسأل في دهشة: «سیدتي، أتعرفان الإيطالية؟» فقالت العجوز: «أتكلَّمها فقط، ولا أكتبها ولا أقرؤها، أمَّا السيَّدة الصغيرة فتعرفها تمامَ المعرفة.» وعندئذٍ أجابت الصغيرة: «نعم، إني تعلَّمتها في المدرسة، وأعرفها تمامَ المعرفة.» هنا لست أدري ماذا دفعني أن أقول للصغيرة: «أتأذنين لي في أن أُكلِّفك ترجمة رسالة صغيرة أريد أن أبعث بها إلى موسيقيٍّ إيطاليٍّ كان قد وضع ألحانًا لرواية لي؟» فقالت للفور في أدب: «بكل سرور! اكتب الرسالة بالفرنسيَّة، وأنا أنقلها إلى الإيطالية.» ولم أستطع أن أُحادثها أكثر من ذلك، فقد حملت آنيتها وحيَّت برأسها تحيَّةً خفيفة كلها تحفُّظ، وانصرفت إلى حجرتها وتركتني في مكاني كالتِّمثال، وأفقت من دهشتي وعدت في الحال إلى حجرتي، وقد نسيت أن أطلب القهوة التي كنت قد ذهبت إلى المطبخ من أجلها، ولكن أيُّ قهوة؟ لقد أحسست أني ظفرت بغنيمة لا تُقدَّر بمال، إن بيني وبينها اليوم صلة، لا أقول وثيقة، ولكنَّها على أيِّ حال تُبشِّر بخير، فهي ستقوم لى بخدمة، لقد وعدت، وعندئذٍ يجب أن أُقابل الجميل بالجميل، وجعلت أُفكِّر فيما ينبغي أن أُقدِّم إليها أو أصنع من أجلها شكرًا على خدمتها، أُهدي إليها كتابًا من كتبي أو أشتري لها تحفة صغيرة تذكارًا لما قامت به من أجلي، أو أن أدعوها، كلا، هذا كثير، ولِمَ لا أدعوها إلى عشاء ساهر مع زوجها وصاحبة النُّزل؟ كل شيء عندئذٍ جائز، وإن المجال مُتَّسع أمامي، وليس لي إلَّا أن أختار، المُهمُّ هو أنها قد بدأت بتقديم خدمة لي، وجلست من فوري إلى مكتبي أكتب الرسالة بالفرنسية، ولكنْ أيُّ رسالة؟ إن هذا الموسيقيَّ الموهوم ليس إيطاليًّا، الواقع أن هناك موسيقيًّا مصريًّا أرسل إليَّ عدَّة صفحات من نوتة موسيقيَّة خاصَّة برواية لي لأطَّلع عليها وأُبدي رأيي فيها، ولكن ماذا يمنع من افتراض أن هذا الرجل إيطاليٌّ لا يعرف غير الإيطالية؟ فلأكتبنَّ الرسالة وأدفعها إلى الصغيرة لترجمتها كما اتفقنا. وتناولت القلم الرَّصاص وخطَّطت على الورق خطابًا بسيطًا بريء اللهجة، لست أُنْكِر أن عواطفي تركت بعض الأثر بين السطور، ولكن ذلك شيء لا يلمحه أحد غيري، إن مجرد تصوُّري أن الصغيرة ستقرأ هذا الكلام، جعل نفسي تخرج عن طوعي وتدخل متلصصة في هيئة عبارة أو عبارتين تسيلان رقَّةً وعذوبة، إني لن أُريكَ هذا الخطاب الآن، ومع ذلك انتظر، لِمَ لا أقرؤه عليك الساعة؟ إنه كما قلت لك خطاب بريء، وليست لي الجرأة أن أكتب أكثر من ذلك، وليس فيما أرى من حسن اللباقة وحسن التصرُّف أن أكتب غير هذا، ها هو ذا، اسمع:

عزيزي المايسترو، وصلني جزء من الألحان الموسيقية التي وضعتها لروايتي، وقد دُهشت قليلًا؛ إذ وجدت الغناء فيها غناءً على الموسيقى الخالصة، إن الغناء ليس إلَّا الصوت الآدمي، وإن الصوت الآدميَّ الجميل لَيستطيع أن يسحر الناس بنفسه من غير حاجة إلى مُلحِّن، لقد سمعت ضحكات قصيرة لغادة صغيرة لا تقل في عذوبتها وفي رقَّتها عن ضحكات الطفل الإلهي «موزار» في قطعة «المينويتو»، ولكن الأوركسترا في التلحين هو الجانب الذي يشرح ويُفسِّر العمل بأكمله، وإني لَأرى التفسير الموسيقي الخالص قليل المقدار في هذه الصفحات التي بعثت بها إليَّ، في إمكانك مع ذلك أن ترتاب في صحَّة حُكمي، إني لست أُنكِر أن بعض الأنواع — ولا سيَّما الأشكال والقوالب — ما زالت تُفلت من نطاق إحساسي الموسيقيِّ، يجب أن يبلُغ الإنسان من الثقافة ذروة هائلة، وفي سلامة الذَّوق درجة عالية، حتى لا يُخطئ القيَم الصحيحة في الفنِّ والجمال، إن الجمال إله لا يكشف قناعه لكل الناس، إن رأيك الأخير مع ذلك هو ما سأنزل عنده، ولك تحيتي.»

وطويت هذه الرسالة مصحوبةً بالنوتة الموسيقيَّة حتى لا تظنَّ الجميلة أن الأمر من أساسه مختلق، ووضعت كل هذا داخل غلاف كبير من الورق الشفاف، وفتحت بابي أنتظر مرورها في الدِّهليز أو الرَّدهة فأُسلِّمها ذلك، وشُغلت بعدئذٍ بعملي وفنوغرافي؛ أسمع تارةً أنغام «موزار» الراقصة في جوِّ الحجرة، وأقول في نفسي مبتهجًا: «إنها الآن، ولا شكَّ، تسمع خاشعةً باسمة.» وحمَّستني كل هذه الأفكار في ذلك اليوم للعمل، فأمسكت قلمي وغرقت في سيل وحي غزير، وملأت صفحات من كتاب جديد أعمل فيه، ومقالات مطلوبة للمجلات، وإذا الساعة التاسعة تدقُّ، وإذا الصغيرة قد خرجت من حجرتها بملابس الخروج، وفي زينة زادتها جمالًا على جمال، ويمَّمت شطر الباب الخارجي، فأسرعت واتجهت إليها بالمظروف قائلًا لها: «إن الرسالة داخل هذا.» وشكرتها، فتناولت مني المظروف وعادت به إلى حجرتها، فوضعته فيها وخرجت لسهرتها، ومكثت أنا في مكاني من حجرتي طول الهزيع الأوَّل من الليل أكتب وأنتظر أَوْبتها، حتى كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، فعادت في موعدها المُتأخِّر، وسمعتها تدخل حجرتها، على أني لم ألبث أن دُهشت وخفق قلبي سرورًا! ذلك أني أصغيت في هدوء الليل، فإذا بي أسمع صوت الغلاف الشفَّاف وله خشخشة واضحة يُفتَح في عجلة ولهفة عقب اجتيازها عتبة بابها، وليس من شكٍّ لديَّ في أن هذا أول ما فعلت عند دخولها حجرتها، فهي لم تخلع ملابسها ولا معطفها ولا حتى قُبعتها، كأني بصبرها النافد لا يريد أن ينتظر ثانية، وكأني بها، مدفوعةً بحُبِّ استطلاع، غريب، أو لعلي أنا أُسرف في الخيال والظنِّ والافتراض. وقولي الآن — كما ذكرت لك — لا يعتمد عليه كثيرًا، فما أبعد المُحبَّ عن تصوُّر الحقيقة كما هي، إن في رأس كل مُحبٍّ يدًا مُغرضة تُصوِّر الأشياء كما يريد قلبه أن تكون، على أن الواقع الذي لا غُلوَّ فيه هو أنها فضَّت غلافي وهي بملابس الخروج، إذ لم تمضِ أيُّ فترة بين اجتيازها عتبة حجرتها وبين سماعي خشخشة الغلاف، وأصغيت وأنا مُعلَّق الأنفاس، ومضت لحظة سكون ما شككت في أنها اللحظة التي استغرقتها مُطالِعةً الرسالة، وإذا بي أسمع الخشخشة من جديد كأنها الرسالة تُدَسُّ في غلافها، ثُم وُضع كل هذا في مكانه، وسكن الصوت إلَّا من صوت خطواتها في الحجرة وصوت خزانة ملابسها تُفتَح وتُغلَق، وصوت خلع ملابسها ودخولها فراشها.

وأرهفت الأذن علَّني أسمع ما ينبئُني بعودتها إلى المظروف لتعمل، لتبدأ في الترجمة، فلم أسمع غير حركة تقلُّب صفحات جريدة أو كتاب، فعلمت أنها تقرأ في سريرها تحت «الأباجور» قبل نومها كالمعتاد، فظللت ساهرًا حتى رأيت نورها يُطفأ من خَصاص الباب الفاصل، وكانت الثانية بعد منتصف الليل، ولم يبقَ لي دافع على السَّهر.

فطويت ورقي وأطفأت نوري ونمت، وفي الصباح استيقظت سعيدًا راضيًا، وارتديت ثيابي وأنا أُصفِّر بفمي وأترنَّم وأُكلِّم المرأة بصوت خافت، فهي ما زالت نائمة وأستار نوافذها ما زالت مُسدَلة، وخرجت لشأني كعادتي، ورجعت عند الظهر في ميعادي، ولم أكَد أدخل غرفتي حتى وقع بصري على مظروفي فوق مكتبي، فأسرعت إليه أفحصه، فإذا كل شيء فيه؛ الرسالة الفرنسية والنوتة الموسيقيَّة كما كانتا، وليست هناك ترجمة، وسمعت العجوز صاحبة النُّزل صوت أقدامي، فجاءت إليَّ مسرعة تقول: «إن السيدة الصغيرة تعتذر وتأسف لعدم استطاعتها القيام بما طلبته منها.» فلم أجد ما أُجيب به غير قولي: «لا بأس» وذهبتْ المرأة وتركتني وقد تهدَّم كل ذلك البناء الذي شيَّدته في رأسي في مثل لمح البصر.

وما بلغت في حديثي هذا الحد، حتى رأيت وجه صدیقي الناشر تغيَّر، وعَلَته كآبة مُظلمة، ورأى سكوتي عن الكلام، فقال من حلْقٍ جافٍّ: وبعد؟

– لا شيء، انتهى الأمر كما ترى، على أني فكَّرت طويلًا، وتساءلت: لماذا تصرَّفت الصغيرة هذا التصرُّف؟ لماذا على الأقلِّ لم تُسلِّمني مظروفي يدًا بيدٍ كما سلَّمته لها، وتعتذر إليَّ بنفسها؟ أكثر من ذلك، لقد صادفتها بعدئذٍ في الدِّهليز، فكانت تميل عني بوجهها وتجعل كأنها لم ترَني، وتُسرع في الابتعاد دون أن تُشير بكلمة إلى موضوع الرسالة، بل دون أن تلفظ حرفًا أو تحني رأسها بتحيَّة، لقد انقطعت كل صلة بيننا، حتى تلك الصلة الرسميَّة العاديَّة التي يفرضها الأدب واللِّياقة.

وهنا مدَّ صديقي بيده إليَّ قائلًا: أرِني هذه الرسالة!

فناولته إيَّاها، فأمعن النظر في عباراتها، فقلت له: أتُراها فهمت منها …؟

– مُؤكَّد، إن عبارتك التي تصف بها ضحكات الغادة واضحة وضوحَ النهار.

– لكن لماذا ظنَّت أني أعنيها هي بالذات؟! إن هذه الصفات شيء استكشفته أنا سرًّا، ولا يعلم به غيري وغيرك، فكيف تعلم هي أن لها ضحكات رقيقة!

– يا عزيزي! أهنالك امرأة تجهل مواضع الحسن فيها؟

– آه يا صديقي! إني كنت سيئ التصرُّف في هذا الأمر، وقد ظهرت في عينها مغازلًا من النوع المُبتذَل.

فأطرق صاحبي مُفكِّرًا، وقال: شيء يؤسَف له! وعلامَ عزمت؟

– على الرحيل.

قلتها في هدوء وحزن، فرفع صاحبي في الحال رأسه: الرحيل؟!

– ما من حلٍّ إلَّا هذا، هذا هو الختام الطبيعيُّ لما حدث، إن من الغلطات ما ندفع ثمنه غاليًا، لقد قلت لك بالأمس ينبغي أن يَقنَع أمثالنا بعالم الأوهام، فلم تقتنع بقولي، ها هي ذي الخطوة الأولى خارج عالمنا، أتُعجبك هذه النتيجة؟ إن إقامتي الآن في هذا النُّزل أصبحت مستحيلة، فإن من الشَّاق على نفسي أن يذهب اعتباري من نفس هذه الصغيرة، وهي بعدُ لم تعُد تُوحي إليَّ بشيء، ها هي ذي الأوراق بيضاء، ولم أكتب شيئًا منذ وقع هذا الأمر، لقد أنذرت العجوز بإخلائي الغرفة آخرَ هذا الشهر، فاغتمَّت ووجمت وحاولت أن تعرف السبب، فأبديت عذرًا واهيًا، فسكتت على مضضٍ ولكنِّي أنا أشدُّ منها غمًّا وحزنًا على فراق هذه الغرفة، لن أنسى أني كتبت في ظل هذه المرأة الصغيرة صفحات جميلة، إن ما يُخيفني هو أن ينتهي كل هذا الوهم الجميل بهذه السرعة، وأن قلبي الذي لا يستيقظ إلَّا مرة كل عشر سنوات يعود هذه المرة إلى صمته وظلامه، وهو لم يكد يصحو ويخفق ويفرح، وكم في العمر من عشرات السنين؟ وما أمرَّ انتظار أعوام أخرى أجد فيها وقد لا أجد تلك التي تهزُّ نفسي وتوحي إليَّ! إنك أيُّها الصديق لن تتصوَّر مقدار أسفي وهمِّي، أتظن أني مستطيع الكتابة هذا العام في غرفة أخرى وقد اعتدت الحياة في كنف هذه الصغيرة؟ كم من الزمن ينبغي أن يمضي قبل أن أُروِّض نفسي وقلبي على العمل في مكان آخر لا أسمع في جوِّه تلك الضحكات؟! تُحدِّثني نفسي أحيانًا أن أبقى على الرغم من كل شيء، إن حياتي الآن كما قلت لك الساعة جميلة على الرغم من كل شيء، وحتى إن لم يكن الأمر كذلك، فإني على أيِّ حال غير قدير، نعم! يا أخي إني أحسُّ تمامًا أني غير قدير على تغيير هذه الحياة الآن، ولكن مع ذلك ينبغي لي أن أرحل، إن نفسي ليست هيِّنة عليَّ، وإن كرامتي فوق كل اعتبار، فلنذهب أيُّها الصديق، ينبغي أن تنصح لي بذلك، لقد أنذرت بالإخلاء، وإني أعرف نُزلًا آخر، وكفى.

وأطرق صديقي، ولم يُجب.

•••

ومرَّت الأيام ورحلت إلى نُزل آخر، هادئ كل الهدوء، ليس فيه غير حجرتين؛ إحداهما التي قطنتها والأخرى يقطنها من زمن شيخ وقور كان في شبابه، كما عرفت عنه، سكِّيرًا مدمنًا، ثُم تاب وأطلق لحيته وأمسك بسبحته وأصبح عضوًا بارزًا في جمعية لمنع المُسْكِرات، وكان بيننا جدار غير سميك أسمع من خلاله سعاله، وأقول في نفسي: «سبحان الذي قلب الضحكة الرقيقة سعالًا خشنًا!»

نعم، لم تزل الضحكة الرقيقة ترنُّ في أذني، وصورة المرأة الصغيرة تتراءى لعيني، لم أزل في ظلِّ ذلك الحُسن أعيش، وفي كنف الجمال المُتدثِّر بطُهره وبراءته وطفولته أعمل، وفي ذكرى الجوار القديم بلحظاته السماويَّة أستمطر الوحي والإلهام.

وجاءني صديقي الناشر في مقري الجديد، وما كاد يجلس ويمد منخاره الطويل إلى جدار الحجرة المجاورة متشمِّمًا متنسِّمًا، حتى سمع صوت السُّعال الخشن، فأشاح بوجهه في الحال صائحًا: أعوذ بالله!

– نعم أيُّها الصديق، هذا ما صرنا إليه!

قلتها مُتنهِّدًا.

وعاد صديقي ينظر إلى جدار الحجرة المجاورة مشمئزًّا وهو يقول: أظن أن خيالك هذه المرَّة لن يستطيع أن يصنع شيئًا بهيجًا من هذه الحقيقة المُرَّة!

– فقلت له: ومتى كنتُ أستطيع أن أصنع من الفسيخ شربات؟

فقال باقتناع: حصل، جارتك الجميلة صاحبة الضحكة الرقيقة، لقد عرفتها یا سیدي.

– عرفتها؟!

لفظتها في صيحة دهشة وفرح وحب استطلاع، فانطلق صاحبي يقول: نعم عرفتها وجالستها ورأيتها رؤيةَ العين، اسمع يا سيدي الحكاية كما حدثت بالضبط: دعاني تاجر الورق الذي أُعامله إلى سهرة في «كاباريه»، وهو رجل مليء مرح «بحبوح»، فما كدنا نفرغ من العشاء حتى أقبل شابٌّ وسيم يصحب شابَّة في مقتبل العمر، أجلسها إلى جوار التاجر الموسر وهمس في أذنه بكلام، ثُم انصرف وطلب لها صاحبي التاجر مشروبًا، ثُم جعل يُغازلها تارةً ويُحادثها تارةً حتى تطرَّق الحديث إلى سكنها، فقالت: «كل شيء إلَّا السكن، فهي تقطن حجرة في نُزل لا غبار عليه، صاحبته شديدة الحرص على سُمعته، وسُكَّانه في غاية الجدِّ، وجارها المُلاصق بالذات رجل محترم الهيئة كأنه فيلسوف أو أستاذ، لا تدري، ولكنَّه يُخيفها بنظراته الغريبة، ويُصدِّع رأسها طوال الوقت بموسيقى جدِّية من «فنوغرافه» لا تفهم منها شيئًا، فما من مرَّة سمعت رقصة تانجو أو رومبا أو سمبا، بل موسيقى تُكسِّر الدماغ وتغمُّ النفس؛ لعنة الله عليه من جار سمج! هكذا قالت بالحرف، ولا تؤاخذني! وعندئذٍ تدخلَّت وذكرت لها اسم النُّزل وعنوانه، فأذهلتها المفاجأة، وقالت: «كيف عرفت؟» فقلت لها كالمُخاطب لنفسي: «هو أنتِ!» واستدرجتها في الحديث وعرفت كل شيء عنها وكل ما خفي عليك منها، إنها ليست إيطاليَّة يا عزیزي، بل هي نوع من تلك الأنواع المختلطة المولَّدة الغامضة الجنسيَّة، التي توجد في مصر ولا يُعرَف لها أصل ولا فصل، قالت إن أبويها المرحومَين عاشا في أزمير زمنًا ثُم نزحا إلى بلد آخر لا تذكر اسمه، أمَّا هي فقد وُلدت في إحدى حارات القاهرة، وليس لها لغة أصيلة، بل هي وُجدت ونشأت في بيئة ترطن لغات جميلة بالسماع والتواتر دون المعرفة الأكيدة، فهي تتكلَّم العربية والرومية والإيطالية والفرنسية، ولا تتقن إحداها قراءةً أو كتابةً، وهذا هو سرُّ إعادتها الغلاف الذي أرسلته أنت إليها، قالت: تصوَّروا هذا الجار المجنون الذي يُرسل إليَّ نوتة موسيقية وخطابًا فرنسيًّا لأُترجمه إلى الإيطالية! أكان يظنُّني معلمة في مدرسة؟!» أمَّا مطالعاتها الليليَّة فلم تكن في كتاب أدبيٍّ أو حتى في قصَّة من القصص، بل كانت في برامج سباق الخيل الذي اعتادت المراهنة فيه بما يصل إلى يدها من نقود، ثُم في مجلَّات الأزياء و«الموضات» المُصوَّرة، وهي تعيش بمفردها لأنها وحيدة مقطوعة؛ لا أهل لها ولا زوج، أمَّا ذلك الذي زعمت أنه زوجها فهو، ولا تؤاخذني، «قوادها»، وقد اخترعت حكاية زواجه ومبيته عند والدته المريضة بالقلب … إلخ! لتُموِّه على البوليس وعلى صاحبة النُّزل حتى لا تزدريها أو تطردها، وكانت تتكلَّم وتضحك ضحكتها التي تُسمِّيها رقيقة وهي تمد فمها ﺑ «سيجارة» إلى فم التاجر الموسر لتُشعِلها من سيجارته، وأنا أتأمَّل وجهها بألوان المساحيق، ولكن الطِّلاء الثقيل لم يستطع أن يُخفي آثار جُدَريٍّ قديم قد أحدث ثقوبًا عميقة في الأنف والخدَّين والجبين، قلت لي: إنها حسناء فجعلت همِّي أن أبحث عن ذلك الحُسن، لا يا عزيزي، إنه خيالك كان، ولا شكَّ، أقوى من كل طِلاء يمكن أن تكتشفه أبرع مصانع التجميل! وكاد الليل ينتصف، فمال التاجر على أذن المرأة وهمس لها بكلمات فأشارت برأسها علامة الإيجاب والقبول، وبادرت تلمُّ أطراف ثوبها استعدادًا للقيام، لم تنسَ أن تُخرِج مرآتها من حقيبتها، وتُعيد صبغ ما انطمس بفعل الشراب والتدخين من أحمر شفتيها، وغمز لي صاحبي التاجر بعينه غمزًا فهمت معناه ومرماه، فأشرت له بيدي علامة النَّفي والزُّهد، ونهضنا، وشكرته على سهرته ودعوته وتركته عند الباب لأنصرف إلى بيتي، ومضى هو والمرأة الصغيرة وذراعها تحت إبطه إلى سيارة تنتظر لتحملهما إلى حيث يُكمِلان السهرة على الوضع المُتَّفَق عليه.

وانتهى صديقي الناشر من كلامه والتفت إليَّ، ولست أدري هل لَحظ شحوب وجهي! ويبدو أنه انتظر مني تعليقًا على حديثه، ولكنِّي خفت أن أتكلَّم فيخونني صوتي، فأطرقت وتشاغلت بقلم في يدي جعلت أعبث به على ورقة أمامي، إلى أن أحسست نظراته تُلاحقني وتكاد تكشف ما خلته قد ظهر على وجهي من انفعالات مُخفاة، ولم أجد بُدًّا من أن أتفوَّه بشيء، فتحاملت على نفسي آخرَ الأمر، وحاولت جاهدًا أن أجعل صوتي هادئًا، وأن أُجرِّد نبراته من كل غضب وعتب وحزن ومرارة، ولكنِّي على الرغم من كل ذلك لم أشعر بنفسي إلَّا وأنا أصيح به: لماذا جئت تقول لي هذا الكلام؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤