وكانت الدنيا!

لماذا تمرَّد إبليس؟ قصة ذلك معروفة، جاءت بها الكتب السماوية، ولا سبيل إلى الشكِّ فيما روت. ولكن خيال الروائي يجنح أحيانًا إلى اختلاق صور أخرى للحادث الواحد، ولا بأس من عرض إحدى هذه الصور على سبيل التفكُّه لا الاعتقاد.

جاء في تاريخ أبي الفدا أن إبليس قبل أن يرتكب المعصية ويُناهض ربه، كان اسمه «عزازيل»، وكان من أشرف الملائكة من أولي الأجنحة الأربعة، وكان رئيس ملائكة السماء، وكان خازنًا على الجنان، وكان له سلطان الأرض، وكان من أشد الملائكة اجتهادًا وأكثرهم علمًا، وأن الله لمَّا فرغ من خلق ما أحَب استوى على العرش، فجعل إبليس على الملائكة، فوقع في صدره: «إنما أعطاني الله هذه المزية لي على الملائكة.»

وتبدأ قصتنا هذه المخترعة وبعد أن تمَّ خلق آدم، خلقه الله بیده؛ إذ لبث جبريل في الأرض ليأتيه بطين منها يصنع منه آدم، فلمَّا مد جبريل يده إلى الأرض فزعت وقالت: «أعوذ بالله منك أن تنقص مني.» فرجع الملاك ولم يأخذ، فبعث الله ميكائيل فكان حظه مثل حظ جبريل، فبعث الله في آخر الأمر ملك الموت، فما كادت الأرض تقول له: «أعوذ بالله منك أن تأخذ مني.» حتى قال لها: «وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي.» ومدَّ يده وقبض مِن وجه الأرض قبضة، ولم يأخذ من مكان واحد، بل أخذ من تربة بيضاء وحمراء وسوداء، ولذلك خرج بنو آدم مختلفين في اللون، وخلق الله من هذا الطين جسد آدم، فلمَّا مرت به الملائكة فزعوا منه، حتى إبليس كان يمر به فيضربه فيصوِّت الجسد الأجوف كما يصوِّت الفخار، وتُسْمع له صلصلة، ثُم نفخ الله فيه بعد ذلك من روحه، ولمَّا دخلت الروح في رأسه عطس، ولمَّا دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلمَّا دخلت الروح في جوفه اشتهى الطعام. وأتمَّ الله خلق آدم! فجاء خير ما خلق وأعجب ما أبدع، فأمر الملائكة أن يسجدوا لهذه الآية الرائعة، فسجدوا كلهم إلَّا إبليس، نظر إلى تلك المعجزة مليًّا، ثُم لوى عنقه وهزَّ كتفيه، ومضى في الجنة يسير مستخفًّا بما رأى، مستكبرًا أن يقع ساجدًا لمخلوق من طين، وقابلته الحية الذكية وقد علمت بالخبر، فاستوقفته صائحةً: يا عزازيل! ما لك؟ لماذا لم تفعل كما فعل الآخرون؟

– أنا أسجد لهذا الشيء؟!

– لا تدع الحسد يأكل قلبك، اعترف أنه عمل عظيم!

– ماذا فيه من عِظم؟ أهو ذلك الطين الذي خُلق منه؟

– ذلك الطين أفضل على كل حال من النار التي خُلقت منها.

– ماذا تقولين أيتها الحية الخبيثة؟

– إن الطين فيه الرزانة والحلم والأناة والنمو.

– أوَلا تعلمين ماذا في النار؟

– ماذا فيها؟ الطيش والخفة والسرعة والإحراق؟

– ما أنتِ إلَّا النفاق صُوِّر وكُوِّر! ألِأن الله هو الذي خلقه؟

خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وعلَّمه أسماء كل شيء، وهذا شرف ما بعده شرف.

– علَّمه أسماء كل شيء؟

– نعم لأنه أعطاه العقل الذي به يعلم ويفهم، وأعطاه النفس التي بها يعي ويُدرك، وأعطاه القلب الذي به يشعر ويحب، إنه ليس على غرار الملائكة، مخلوقًا يفنى في العرش كل الفناء، إنه متصلٌ منفصل، إنه مندمجٌ مستقل، إنه قدير على أن يفكِّر بنفسه، وأن يعيش حياته وأن يقرِّر في بعض الأحيان مصيره كأنه مصغر إله أو صورة صغيرة لإله.

– لقد نفخ فيه من روحه!

– أرأيت! هو ذاك يا عزازيل، آن الأوان أن تفهم ذلك.

– آن الأوان أن أفهم أن في إمكاني أنا أيضًا أن أصنع شيئًا أنفخ فيه من روحي!

قالها كالمُخاطب لنفسه، ومضى سريعًا حتى لا يطرق سمعَه صوتُ ضحكات الحية الساخرة.

انطلق إبليس في كل مكان يبحث عن الطين حتى وجده، فتناوله فرحًا، وجعل يُسوِّي منه مخلوقًا على مثال آدم، وتمَّت الصورة، وانتظر أن تنبض أو تنهض، فلم يجد إلَّا جمادًا لا حراك به، فترك ما صنع وانطلق يائسًا ساخطًا، يحمل المرارة والخيبة ويريد أن يكتم ما وقع، ولكن الحية الذكية علمت بالأمر، فبادرته قائلة: فهمت الآن أن الخلق ليس هيِّنًا؟!

– اخرسي!

– آدم ليس هو الطين، بل «الحياة» التي أودعت الطين. ذلك هو «روح الله»، هذا هو سره الذي لم يكشفه أحد، حتى ولا أنت الذي زعمت أنك استرقت واجتهدت واطلعت على أكثر علمه.

– سر الحياة!

– نعم، الذي يُودعه الطين أو التراب أو النار أو الماء، أو أي عنصر من العناصر، ذلك هو السر الأعظم!

– كيف الحصول عليه؟

– هذا ما لا سبيل إليه، تلك صفة الله التي لا تنفصل عنه ولا ينفصل عنها، إنها روحه التي لا تُعطى ولا تُفقد ولا تُسلب، وهو وحده الذي يستطيع أن ينفخ منها بإرادته في الكائنات.

– لا بُدَّ لي مع ذلك أن أخلق شيئًا.

– شيئًا حيًّا؟

– نعم.

– لن تستطيع أن تخلق شيئًا حيًّا من مادة ميِّتة.

– اخرسي أيتها الثرثارة!

وتركها وانصرف مُطرقًا مفكِّرًا، ومشى في الجنة على غير هدًى، وإذا المصادفة تقوده إلى شجرة وارفة الظلال دانية القطوف، وإذا هو يبصر تحتها آدم راقدًا غارقًا في نعاسه، فوقف على رأسه يتأمَّله، وخطرت له فكرة أنعشته بالأمل، حقًّا إنه لن يستطيع أن يصنع مخلوقًا حيًّا من مادة ميِّتة كالطين، ولكنَّه قد يستطيع أن يخلق كائنًا حيًّا من شيء حي؛ فلو استطاع أن يأخذ من جسم آدم الحي قطعة، لكان في الإمكان أن يصنع الباقي، ولكن ماذا يأخذ؟ الأنف؟ هذا عضو ظاهر، وإذا استيقظ آدم بغير أنفه، فلن يكون هو الأضحوكة، بل الأضحوكة إبليس الذي سيُضبط متلبسًا بالسرقة، وسوف تكون قهقهة الحية عندئذٍ عالية صاخبة.

كلا، فلْيبحث عن عضو غير الأنف، ماذا؟ القدم؟ وبماذا يمشي آدم؟ اليد؟ وبماذا يأكل؟ اللسان؟ وبماذا ينطق؟ كلا، يجب أن يكون العضو المسروق غير ظاهر وغير نافع. وتحسَّس إبليس برفق جسد آدم، فوجد الأضلاع، إنها ليست ظاهرة، وهي كثيرة لا تظهر فيها السرقة إذا استُلب أحدها، فليأخذ هذا الأقصر الأيسر من بين أضلاعه؛ ففيه تتوافر كل الشروط، فهو مستتر منزوٍ لا فائدة فيه، ولن يشعر بفقده، حتى ولا آدم نفسه.

واستلَّ إبليس الضلع الحيَّ بخفة ومهارة، وسوَّاه على صورة آدم، ولكنه تصرَّف قليلًا، ووضع شيئًا منه، وانتصب ذلك المخلوق الجديد يتمطَّى، وعندئذٍ ارتفع صوت من بين الأشجار يقول: مرحى مرحى!

فالتفت إبليس، فإذا هي الحية واقفة على رأسه، مطلعة على فعله، فبادرها بلهجة الظافر: ما رأيك الآن؟

فقالت في ابتسامة خبث، وهي تنظر إلى المخلوق الجديد: بديعة حوَّاء!

فنظر إبليس إلى الحيَّة مستفهمًا مستغربًا.

– «حوَّاء»؟! لماذا تُسمِّينها هكذا؟

فأجابت الحية بمكر ودهاء: لأنها صُنعت من شيء حي!

– أبصرت إذَن كل ما حدث؟

– وسأكتم سرَّكَ، لا تخشَ شيئًا.

– أُسائل نفسي دائمًا: لماذا لا نكون أصدقاء؟ إني أحمل لكِ أيَّتُها الحيَّة كل تقدير، وأحمل لذكائك كل إعجاب، أتريدين أن أخصَّك بسرٍّ آخر؟ لقد كنتُ أُفكِّر فيكِ وأنا أصنع هذا المخلوق الذي سمَّيته «حوَّاء»!

– كما كنتَ تُفكِّر في نفسك.

– أحقًّا ما تقولين؟ أترَين في هذا المخلوق شيئًا مني؟

– بلا شك! انظر إلى حركاته، وإلى رشاقته، بل إلى بريق عينه، إن فيه أثرًا من الطين، ولكن فيه أيضًا لفحة من النار، انظر … انظر في حوَّاء بعض ما فيك؛ الطيش والخفَّة والسرعة والإحراق.

وعندئذٍ دوَّى في أرجاء الجنة صوت ارتعدت له فرائص إبليس والحية، فهربا مذعورَين جزِعَين، واستيقظ آدم من سُباته، فألفى حوَّاء بقربه، فلم يفهم من أمرها شيئًا، ولبث لحظة يتأمَّلها دهشًا إلى أن أُلقي في روعه عِلمٌ خفيٌّ بما ينبغي أن يفعل، فليسكن إلى حواء إذا شاء، ولكن الحذر كل الحذر أن يقربها أو يلمس جسدها جسده.

وعلم إبليس بالأمر فأقبل على الحيَّة يسألها: لماذا حُرِّم على آدم لمس حواء؟

فأجابته على الفور: أوَنسيت أن بها شيئًا من النار؟

ففكَّر إبليس قليلًا، ثُم قال بارتياب: لا أظن هذا كل شيء، إنما المقصود فيما أرى هو أمر أخطر من هذا، تُرى ماذا يحدث لو امتزج هذان المخلوقان؟

ففكَّرت الحية لحظةً، ووقع بصرها مصادفة واتفاقًا على عش طائر في أعلى الشجرة، فصاحت: يحدث لهما ما يحدث لهذا الطير يتناسلان.

– يتناسلان؟

ويخرج منهما مخلوق ثالث.

فصاح إبليس: نعم، هنا المسألة، وهنا عِلَّة الخطر، ولكن لماذا لا يُراد خروج هذا المخلوق الثالث؟

– لأنه سيكون فيه شيء منك، هذا مفهوم بالبداهة، إن آدم؛ ذلك العمل العظيم الذي يفخر به الخالق، تلك الآية التي نفخ فيها من روحه يجب أن تبقى هكذا بمفردها صورةً خالدة ناطقة بمقدرة المُبدع الأعظم وكماله الأبديِّ، الذي لا يشوبه نقص، ولكن جئت يا صديقي إبليس تُفسِد هذه الروعة، وتُريد أن تستخرج من هذه الصورة المفردة نُسخًا مُشوَّهة!

– هذا لم يخطر لي حتى الآن حقًّا! ولكنَّه لو حدث لكان بالنسبة إليَّ عملًا رائعًا! وهل هناك حقًّا أمهر من أن أملأ الدنيا نُسخًا من ذلك العمل العظيم الذي يفخر به الخالق؟!

– لا تسترسل في أحلامك وأوهامك، هذا لن يحدث أبدًا.

– لماذا؟

– لأن لآدم ملَكةً عجيبةً تُسمَّى «العقل»، دائمة التيقُّظ تمنعه من الزلل والوقوع في المحظور.

– العقل؟! أوَما من سبيل أن يدهم النومُ هذا العقلَ لحظة؟!

– إذا نام ذلك العقل، فقد تمَّ لك ما أردت.

– ساعدیني يا صديقتي الحيَّة الذكية!

– لماذا تريد أن تُعرِّضني لغضب خالقنا الأزلي؟!

– إنه لن يغضب، لماذا خلق لكِ الذكاء إذَن؟ لقد أعطاك الذكاء كي تستعمليه، هلُمِّي یا صدیقتي ساعدیني.

– قولك مقنع حقًّا، ليس أشَق على النفس من أن نُعطَى شيئًا لا نستعمله، أمعقول أن تكون لي هبة لا فائدة منها؟!

– بل ليست تلك، ولا ريب، إرادة الخالق الذي أعطاكِ الذكاء يا صديقتي، إنه أحكم من أن يعطي شيئًا لغير شيء.

– صدقت، اسمع إذَن، هنا شجرة فيها فاكهة إذا نضجت واختمر عصيرها أحدث عجبًا؛ فقد رأيت بعض الطير ينقرها فتحدث له أحوال غريبة، ويقع في نشوة تُفقده اتزانه.

– دُلِّيني على هذه الشجرة.

وعند ذاك دوَّى في الجنة ذلك الصوت العظيم، فهرب إبليس والحيَّة مذعورَين، ووقع آدم وحوَّاء على وجهَيهما ساجدَين ثُم أُلقيَ في روعهما ألَّا يقربا هذه الشجرة، ولم يقنط إبليس؛ فقد عاد بعد قليل إلى الحية يقول: ما العمل؟

– دعني، دعني، لن أُشاركك بعد الآن في مشروعاتك.

– وماذا ستصنعين إذَن؟

– لا شيء.

– وهل يطيق ذهنك المتَّقد أن يخمد أو يكسل؟

– إني أخشى الخطيئة.

– الخطيئة لمثلي ومثلك ألا نطيع ملَكاتنا ومواهبنا.

– لا تُقنعني بهذا الكلام البارع.

– أنتِ كائن حيٌّ، أليس كذلك؟ وأنا كائن حيٌّ، هل نشكُّ في ذلك؟ الحياة التي فينا هي وحدها التي تُسيِّرنا كما تريد هي، نحن لا نخضع إلَّا لطبيعة الحياة التي رُكِّبت فينا، لم يوضَع في كياننا «عقل» كما وُضع في آدم؛ ذلك العقل أو العقل والقيد أو الحبال التي تُكبِّل حياته وتحدُّ من نشاطه، وتُسيِّره طبقًا للأوامر والنواهي التي تصدُر إليه من هنا ومن هناك! افعلي ما تُمليه طبيعتك يا صديقتي، فأنت حُرَّة من كل عقل.

– مثلك؟

– مثلي.

– لقد حُلَّت معضلتك إذَن، إن في حوَّاء، ولا ريب، شيئًا منك لن نجد فيها إذَن الكثير من ذلك العقل الذي نخشاه.

– يا لذكائكِ النادر أيَّتُها الحيَّة العزيزة! نعم، نعم لا شكَّ أن حواء فيها من روحي، إنها ستخضع إذَن للحياة والطبيعة والغريزة أكثر من خضوعها للعقل، لقد انتهى الأمر إذَن، إنها ستفهمني وستصغي، إليَّ وستأكل من الفاكهة.

– وفيها من قوة إقناعك، وبراعة إغرائك، فهي ستظفر بإقناع آدم وإغرائه أن يأكل كما أكلَت ويصنع كما تريد هي أن يصنع.

– فتهلَّل وجه إبليس فرحًا، وصفَّق طربًا، وجرى من فوره يبحث عن حوَّاء.

وتمَّ بعد ذلك ما هو معلوم، فقد ضعف آدم وأطاع حوَّاء وأكل معها من الشجرة، وانتشى من عصيرها وثمل، وامتزج بحوَّاء، وطُرِدا من الجنة إلى الأرض، وأنبتها الجنين الأول، وتكاثرت الذرية وتعدَّدت «النُّسخ»، وجاء قابيل فقتل هابيل، وكانت الجريمة الأولى، وعُرف الشرُّ على الأرض، واختلطت الصور الجيِّدة بالرديئة، كما اختلطت الفضيلة بالرذيلة، وامتزجت النُّسخ الأصيلة بالدخيلة، ولم يعد في الإمكان فرز وريث آدم من وريث حوَّاء، ولا الكمال من النقصان، ولا النور من النار، ولا لمعة الحقِّ من خدعة الشيطان. امتزجت في الآدميِّ الواحد كل عناصر الخير والشر، والحسن والقبح، والحقارة والسموِّ، والتفاهة والعِظم، والعدل والظُّلم، والعقل والطيش، والضعف والبطش.

وكانت الدنيا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤