توطئة

أتيح لنا أن نكتب في بعض أبحاثنا عن التصوير في الإسلام، فعرضنا لنشأته عند المسلمين في العراق والشام، ولتأثير أتباع المذهب المانوي وأتباع الكنيسة المسيحية الشرقية فيه، وأشرنا إلى النقوش والتزاويق التي عثر عليها في قصير عمرة ببادية الشام، وفي أطلال مدينة سامرا بالعراق. ولم يفتنا الكلام عن حكم التصوير في الشرع الإسلامي، فذكرنا أن القرآن لا يعرض له بشيء، وأن المحدثين ينسبون إلى النبي عليه السلام أحاديث تحرم تجسيم المخلوقات الحية أو تصويرها، ولكن بعض العلماء يشكون في صحة هذه الأحاديث، ويذهبون إلى أن النبي لم يكره التصوير ولم ينه عنه وأن الأحاديث لم تجمع إلا بعد وفاته بزهاء قرنين من الزمان، وأما هذه الأحاديث التي تحرم التصوير لا تمثل إلا الرأي الذي كان سائدًا بين رجال الدين في القرن الثالث الهجري، وقد انتهينا من ذلك كله إلى أن التصوير كان مكروهًا في الإسلام.

وأكبر الظن أنه كان مكروهًا منذ عصر النبي عليه السلام، وأن الباعث على ذلك رغبة ملحة في حماية المسلمين من الأصنام والتماثيل والصور التي تقودهم إلى نسيان الخالق وإلى عبادة هذه الأشياء. فضلًا عن أن رجال الدين كانوا يرون أن في تجسيم المخلوقات الحية أو تصويرها تقليدًا للخالق عز وجل، يجب النهي عنه.

ورأينا أن كراهية التصوير كانت عامة بين رجال الدين من سُنِّيين وشيعة، ولكن تعاليمهم في هذا الشأن لم تكن متبعة في كل العصور ولا في كل البلاد. ولاحظنا أن صناعة التصوير ازدهرت في بعض أنحاء العالم الإسلامية، ولا سيما في الأقاليم التي كانت لها تقاليد فنية عظيمة في النحت والتصوير كإيران، وفي البلاد أو الأسرات الحاكمة التي تأثرت بما أنتجته إيران في هذا الصدد كالهند وتركيا والدولة الفاطمية. وقد أشرنا في هذا الصدد إلى ما يذكره بعض العلماء من أن الشعوب الإسلامية التي لم تكن سامية الأصل، كانت أكثر الشعوب الإسلامية مخالفة لتعاليم رجال الدين المسلمين في كراهية التصوير، لأن أكثر العلماء يحسبون أن الشعوب السامية كانت تحس شعورًا نفسانيًّا يبعدها عن التصوير وكانت تنسب إلى الصور والمجسمات أخطارًا وشرورًا جمة، ولم يكن لها في ميدان النحت والتصوير أساليب فنية ورثتها عن الشعوب القديمة التي كانت تمت إليها بصلة القرابة أو الجوار.

وقد ذكرنا أن كره النحت والتصوير في الإسلام جعل الفنانين ينصرفون إلى ممارسة ضروب أخرى من الزخرفة بعيدة عن تجسيم الطبيعة أو تصويرها. وقد وفقوا في ذلك كل التوفيق. وأحدثوا في ميدان الرسوم والزخارف عناصر نباتية نسبت إليهم، فصارت تعرف في الاصطلاح الفني باسم «أرابسك».

وقصارى القول أن الفن الإسلامي تخلى بخضوعه لتحريم التصوير في ميدانين عظيمين من ميادين العبقرية الفنية التي امتازت بها الفنون الأخرى، ولا سيما فنون الغرب التي ورثت الأساليب الفنية الإغريقية. هذان الميدانان هما النحت وتصوير اللوحات الفنية على النحو الذي نعرفه في الفنون الأوروبية وفنون الشرق الأقصى. فالتصوير الذي ازدهر في إيران وتركيا والهند كان في أكثر الأحيان موقوفًا على توضيح الكتب وتزيينها، سواء في ذلك الكتب العلمية أو كتب التاريخ والأدب ودواوين الشعر وكانت له أساليب فنية اصطلاحية تجعله ميدانًا في التصوير قائمًا بذاته.

وفضلًا عن ذلك فإن المساجد والأضرحة والعمائر الدينية عمومًا، وكل ما يتصل بها من أثاث، وكذلك المصاحف، انصرف الفنانون في زخارفها عن رسوم الكائنات الحية فصارت لا صور فيها ولا تماثيل يستعان بها على توضيح تاريخ الدعوة وشرح العقائد الدينية وسيرة أبطال الملة كما كان الحال في مذهب المانوية أو البوذية أو في الدين المسيحي. وإن يكن بعض الباحثين قد عثروا على مصحف فيه بعض الصور١ فإن مثل هذه الحالة نادرة جدًّا فضلًا عن أن هذا المصحف لا يرجع إلى العصور الوسطى، وإنما هو من القرن التاسع عشر، ويمكن تبريره ببعض التأثير والتسامح الديني الذي نتج من اختلاط الغرب بالشرق ومن البعثات الإيرانية في أوروبا.
١  وصفه الأستاذ جوته يل R. Gottheil في مجلة الدراسات الإسلامية Revue des Etudes islamique بباريس، من صحيفة ٢١ إلى صحيفة ٢٤ في العدد الأول من أعداد سنة ١٩٣١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤