بهزاد ومدرسته

ولد بهزاد في مدينة هراة في بداية النصف الثاني من القرن الخامس عشر وتقول بعض المصادر التاريخية إنه تلقى النقش والتصوير عن فنان اسمه بير سيد أحمد التبريزي، كما تذهب مصادر أخرى إلى أن أستاذه هو المصور ميرك نقاش من هراة، وعلى كل حال فالكل مجمعون على أن بهزاد نشأ نشأة فنية طيبة ونعمَ برعاية السلطان حسين بيقرا ووزيره مير علي شير.

ولم يبرح بهزاد مدينة هراة حتى وقعت في يد الشاه إسماعيل الصفوي سنة ١٥١٠، فانتقل معه — إن طائعًا أو مكرهًا — إلى تبريز حيث زاد نجمه بزوغًا ونال من الشرف والفخار في خدمة الشاه إسماعيل، ثم ابنه طهماسب، ما لم ينله آخر في التاريخ الإسلامي، وقد روت بعض الكتب أن الشاه إسماعيل حين نشبت الحرب بينه وبين الترك سنة ١٥١٤ أبدى جزعه من أن يقع بهزاد والخطاط المشهور شاه محمد نيشابوري في يد أعدائه، فأخفاهما في قبو، ولما انتهت المعركة وعاد الشاه إسماعيل كان أول همه أن يطمئن على حياة هذين الفنانين العظيمين.

وقد حفظ لنا المؤرخ الإيراني خواندمير براءة لبهزاد، عينه بها الشاه إسماعيل سنة ١٥٢٢ مديرًا لمكتبته الملكية ورئيسًا لكافة أمناء المكتبة وما فيها من خطاطين ومصورين ومذهبين، على أن الواقع أن المعلومات التي وصلتنا عن حياة الفنانين نادرة جدًّا، حتى إنه ليصعب علينا في أكثر الحالات — إن لم يكن في كلها — أن ندرس البيئة التي نشأوا فيها، والعوامل التي وجهتهم وتأثروا بها. ولكن شيئًا لا يكاد يختلف فيه اثنان من مؤرخي الفنون الإسلامية هو أن بهزاد ذاع صيته في إيران، وفي غيرها من البلاد التي كانت لها بالإيرانيين صلات فنية، وأن شهرته غطت على شهرة من سبقه من المصورين ومن عاصره أو خلفه منهم، فكتب عنه خواند مير الثناء الجم وقارنه بماني الذي يضرب به المثل عند الإيرانيين في إتقان التصوير، وقال إن مهارته محت ذكرى سائر المصورين، وأن شعره من فرشاته قد أكسبت الجماد حياة … إلخ، كما أعجب به الملوك والأمراء فتسابقوا إلى جمع آثاره الفنية وكتب عنه بابر القيصر الهندي المغولي أنه أعظم المصورين قاطبة. ومهما يكن من شيء فإن شهرة بهزاد كانت من الاتساع بحيث جعلت من الصعب أن نعرف على وجه التحقيق كل منتجاته، لأن المصورين أقبلوا على تقليده، بل كانوا يكتبون اسمهم على الصور التي يرسمونها إعلاء لشأنها، كما أن التجار وبعض الهواة كانوا ينسبون إليه صورًا ليست من عمله ويقلدون إمضاءه رغبة في الكسب، كما يفعل الذين يقلدون التحف الفنية الأثرية في العصر الحاضر. وهكذا نرى أن كثيرًا من الصور التي تنسب إلى هذا المصور النابه يشك مؤرخو الفنون الإسلامية في صحة نسبتها إليه على أن بعض هذه الصور تقليد صادق لمنتجات بهزاد يصعب كشفه على غير ذوي الخبرة. بينما هناك صور عليها إمضاء بهزاد ولا يشك أي ناقد له إلمام بسيط بتاريخ التصوير الإسلامي في أن هذا الإمضاء غير صحيح وأن هذه الصورة بعيدة عن بهزاد وأسلوبه الفني بُعد الأرض عن السماء. ومثال ذلك مرقعة (ألبوم) محفوظة بدار الكتب المصرية (رقم ٢٦١) وفيها صور هندية من القرن الثامن عشر وصناعتها غير متقنة وعلى كثير من هذه الصور إمضاء بهزاد أو ماني. ولكن ألوان هذه الصور وتقاطيع الوجه والسحنة الهندية في الأشخاص المرسومين، وملابس هؤلاء الأشخاص، كل ذلك لا يترك أدنى مجال للشك في أنها هندية. وقد أشار الأستاذ الدكتور توماس أرنولد Dr. Sir Thomas Arnold إلى ذلك في صحيفة ٥١ من كتابه بالإنجليزية «التصوير في الإسلام» Painting in Islam كما ذكره الدكتور تشوكين Dr. Ivan Stchoukine في صحيفة ١٥٦ من مقال له بالفرنسية عن المخطوطات المصورة في دار الكتب المصرية نشره في مجلة الفنون الجميلة الفرنسية Gazette des Beaux-Arts.

وقد حدث أن نشرت إحدى المجلات المصرية بعض هذه الصور في عدد أصدرته عن مصر وإيران ونسبتها إلى بهزاد وماني فلما نبهناها إلى هذا الخطأ اتهمتنا — على لسان محررها — بالجهل …! كأن جهل هذا المحرر أي لغة أجنبية وادعاءه أنه درس الفنون الإسلامية عشر سنوات، في إدارة إحدى الصحف! ملزم لنا بالرد عليه!

ومهما يكن من شيء فإن بهزاد كان من أوائل المصورين المسلمين الذين عنوا بوضع إمضاءاتهم على آثارهم الفنية. وهو الذي استطاع أن ينتصر على الخطاطين انتصارًا مبينًا، فقد كانت منزلتهم أعلى من منزلة المصورين، وكان أولئك يحددون الفراغ الذي يتركونه في صفحات المخطوطات ليرسم فيه المصورون، فيتحكمون بذلك في حجم الصور وفي انتقاء الموضوعات التي يرسمها الفنانون، ولكن بهزاد قضى على ذلك، واختار ما كان يلوح له من الموضوعات، ورسمها بالحجم الذي كان يريده في صحيفة أو في صحيفتين متجاورتين.

ومما امتاز به بهزاد براعته العظيمة في مزج الألوان وتفهم أسرارها، وفي التعبير في صوره عن الحالات النفسية المختلفة، وفي رسم العمائر والمناظر الطبيعية. وإنك لتحس أمام آثاره الفنية أن بين يديك صورًا أرستقراطية بهدوئها وحسن الذوق وإبداع التركيب فيها ودقة الزخرفة وانسجامها، مما يشهد بأن بهزاد كان المصور الكامل الذي انتهى على يديه تطور التصوير الإيراني في عهد المدرستين الإيرانية المغولية ثم التيمورية وبلغ التقدم منتهاه.

وقد لاحظ بعض مؤرخي التصوير الإسلامي أن أكثر الصور التي رسمها بهزاد كان بين الأشخاص المرسومين فيها رجل ذو سحنة بربرية، ربما كان الفنان يقصد برسمه تأكيد الفرق بين تلك السحنة الزنجية وبين سحنة الأشخاص الآخرين من الجنس الأبيض. كما لوحظ أيضًا أن بهزاد لم يأت في آثاره الفنية بصور كثير من النساء، فقد كان يتجنب ذلك لغير ما سبب نستطيع الجزم بصحته.

وقد رسم بهزاد في هراة صورتين للسلطان حسين بيقرا ولمحمد خان شيباني، وهما — فيما نعلم — أول ما نعرفه في الإسلام من الصور الحقيقية الشخصية التي ترسم فيها سحنة إنسان بتقاطيع وجهه وصفاته الجسمية.

وقد عاش بهزاد طويلًا، وتنسب إليه صور عديدة من القرن الخامس عشر والسادس عشر وكثير من هذه الصور تمثل دراويش من العراق وإيران. ويذكرنا هذا بما كتبه أحد المؤلفين الهنود من أن بهزاد لم يحرز هذه الشهرة الواسعة والصيت الذائع لأنه سار بأساليب التصوير الإيراني إلى الكمال الطبيعي الذي كان مقدرًا له أن يصل إليه في تطوره فحسب، بل لأنه صار به أبعد من ذلك فأدخل فيه عنصرًا من الحب الإلهي لتأثره بمذهب الصوفية التي بلغ أوج عظمته في إيران، قبيل أن يولد بهزاد، وحين كان صبيًّا.

ومهما يكن من شيء فإننا بمصر لا عذر لنا في أن نجهل أثرًا موجودًا بيننا من الآثار الفنية البديعة التي تركها هذا المصور، فإن في دار الكتب المصرية مخطوطًا من كتاب «بستان» للشاعر الإيراني سعدي وفيه ست صور من عمل بهزاد وعلى أربع منها إمضاؤه: «عمل العبد بهزاد». ويطمئن مؤرخو الفن الإسلامي كل الاطمئنان إلى صحة نسبة هذه الصورة إليه. وقد عرض هذا المخطوط في معرض الفن الإيراني بلندن سنة ١٩٣١ فكان موضع إعجاب الزائرين وكتبت عنه المقالات الطوال في الصحف وفي المؤلفات المطولة عن الفن الإيراني. وقد كتب هذا المخطوط سنة ٨٩٣ﻫ/١٤٨٨م للسلطان حسين بيقرا الذي تراه مرسومًا مع بعض أتباعه وندمائه في صورتين (أو صورة في صحيفتين) في فاتحة المخطوط. وتمثل إحدى الصور في هذا المخطوط الملك دارا مع راعي الخيل، وقد أتقن بهزاد في هذه الصورة رسم الطبيعة الريفية ورسم الخيل. وثمة صور أخرى فيها رسم بعض علماء الدين يتجادلون في مسجد وقد دخل عليهم رجل من العامة، ويتجلى في هذه الصورة إبداع بهزاد في تصاوير العمائر، ومزج الألوان المؤتلفة، والتعبير عن الحالات النفسية المختلفة، وتوفيقه في تمييز وجوه الأشخاص بعضها عن بعض. وتبدو هذه المزايا في صورة أخرى من نفس المخطوط تمثل مناظر في مسجد شخص يتوضأ، وفقهاء يتحدثون، وفقيه يحدث سيدة … إلخ. أما الصورة الأخيرة فتمثل سيدنا يوسف يفر من زليخا امرأة العزيز حين اتخذت لنفسها قصرًا، يصل المرء إلى داخله بعد اجتياز سبع طبقات من الأبواب وزينت زليخا القاعة الداخلية بصور تمثلها بين ذراعي سيدنا يوسف ظانة أن يوسف حين يرى هذه الصورة لا بد واقع في شراك صاحبتها الحسناء، ولكن يوسف الصديق لما دخل فطن إلى حيلة زليخا وصلى لربه ففتحت الأبواب ونجا من شر زليخا.

وعلى كل حال فقد كان لبهزاد تأثير كبير في الأساليب الفنية في عصره، فقلده كثيرون وتعلم عليه مصورون نهضوا بالصناعة في ذلك العصر، حتى إننا نستطيع أن نقول، في ثقة واطمئنان، أنه كان زعيم مدرسة عظيمة في فنه.

وقد كشفت الدراسات الحديثة في تاريخ التصوير عن اسم مصور كبير عاش أيضًا في هراة في القرن الخامس عشر، وكان مؤرخو الفن الإسلامي يخلطون بين آثاره الفنية وآثار زميله بهزاد. هذا المصور هو قاسم علي الذي نجد إمضاءه في صور بمخطوط من القصائد الخمسة لنظامي محفوظ في المتحف البريطاني ومؤرخ من سنة ٨٩٩ﻫ/١٤٩٣م، وتمثل إحدى هذه الصور مدرسة في الهواء الطلق، بينما تمثل صورة أخرى عددًا من النساء في بركة حمام وتطربهن عازفة على العود. وله صورة ثالثة تمثل جماعة من الصوفية في حديقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤