تصدير

هذه هي الترجمة العربية الدقيقة الكاملة لنص مسرحية «حكاية الشتاء» (The Winter’s Tale) التي كتبها شاعر الإنجليزية الأشهر وليم شيكسبير في فترة النضج، في نحو عام ١٦١٠م. وهي المسرحية العشرون التي أترجمها لهذا الشاعر، وكنت قد شاهدتها على المسرح مرتين في إنجلترا في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في أثناء إقامتي الطويلة في ذلك البلد، ولم أستطع في أيٍّ من المرتين أن أتذوَّق النص أو أكتشف فيها جوانب «العظمة» التي ينسبها إليها الناقد الشهير فرانك كيرمود في مقدمته لطبعة «سيجنت» (Signet) ولم أجد فيها ما وجده من «طاقة طبيعية» في مقدمته لتلك الطبعة (ص٧٧). وانشغلت — من ثَمَّ — عنها بغيرها، إلى أن عرضها التليفزيون في الثمانينيات عرضًا جديدًا شدَّني إليه، فزاد اقترابي من النص وعدت إليه، لكنني لم أجد في نفسي الدافع اللازم لترجمتها، فأرجأت الموضوع.

وعندما ترجمت «العاصفة»، عام ٢٠٠٤م، وجدت إشارات كثيرة إلى هذه المسرحية، فكنت أكثر من الرجوع إلى النص، حتى وافتني ابنتي سارة بعدة طبعات للمسرحية عام ٢٠٠٩م شجعتني على العودة إليها، لكنني كنت في حاجة إلى مادة علمية حديثة، وإلى طبعات أحدث، وهو ما وافاني به صديقي الكاتب والمترجم والأديب ماهر البطوطي من نيويورك، وعلى رأسها طبعة آردن الحديثة (٢٠١٠م) فقررت إحياء مشروع ترجمتها، خصوصًا لأنني لم أجد ترجمة سابقة لها في مصر. وعندما سألت صديقي العلَّامة والأديب ماهر شفيق فريد، قال إنَّ لها ترجمة لبنانية، بقلم أنطوان مشاطي عام ١٩٨٣م، فاستعرتها واطَّلعت عليها، فوجدتها ترجمة عن الفرنسية، وأنا لا أومن بترجمة الأدب عن لغة وسيطة؛ فمن الطبيعي أنَّ الترجمة عن ترجمة لا تقترب من النص الأصلي الاقتراب الكافي، ومن ثَمَّ عقدت العزم على ترجمة النص.

واعتمدت على النص المحقَّق المشروح لطبعة آردن (Arden) ٢٠١٠م من تحرير الناقد جون بيتشر (John Pitcher) فهي أقرب الطبعات إلى النص الأصلي، وأحدث طبعة للمسرحية في حدود علمي، مستعينًا بطبعة نيو كيمبريدج (New Cambridge) الصادرة عام ٢٠٠٧م، من تحرير سوزان سنايدر (Susan Snyder) وديبورا ت. كرن أكينو (Deborah T. Curren-Aquino)، وطبعة أوكسفورد عام ١٩٩٦م من تحرير ستيفن أورجيل (Stephen Orgel)، وطبعة فولجر، من تحرير بربارا مووات وبول ويرستاين (Barbara A. Mowat & Paul Werstine) عام ١٩٩٨م، وطبعة آردن عام ١٩٦٣م من تحرير ج. ﻫ. بافورد (J. H. Pafford)، وطبعتيْ سيجنت ١٩٦٣م و١٩٩٨م، من تحرير فرانك كيرمود (Frank Kermode)، وبينهما اختلافات في الدراسات النقدية المعاصرة والكلاسيكية الملحَقة في ذيل كلٍّ منهما. وأمَّا المادة العلمية اللازمة لكتابة المقدمة وتحليل النص، فقد أتتني بها ابنتي، ومن بينها عدة كتب كاملة وفصول من كتب ودراسات منشورة في المجلات المتخصصة.
وأنا ملتزم بمنهجٍ في العمل لا يتغير، عندما أتصدى لترجمة شيكسبير؛ فأنا أقرأ النص في الطبعات المختلفة، موازِنًا بين ما يقوله كل محرر من شروح، مستعينًا بمعاجم شيكسبير المتخصصة، وبالمعجم الرئيسي للغة الإنجليزية، معجم أوكسفورد الكبير (OED) خصوصًا لأنَّه يورِد شواهد من شيكسبير نفسه ومِن غيره، إلى جانب منهجه التاريخي الذي يرصد فيه تطور دلالات كل لفظ. ولذلك لم أكن آخذ بشروح بعض الشرَّاح، أو أُرجح شرح شارح على غيره، أو أجمع بينهما إذا كان اللفظ يحتمل التأويل، ثم أشرح ذلك في الحواشي.

وأمَّا مذهبي في الترجمة الأدبية فقد أوضحته في كتبي بالعربية والإنجليزية عن الترجمة، فالترجمة فنٌّ وعلم معًا، فالصياغة فن وصنعة، قد تستعين بالموهبة، ولكنَّها تنمو وتنضج بطول الممارسة، حتى لتشارك — ولو إلى حدٍّ محدود — في الإبداع الأدبي. ودراسة اللغة علمٌ يجمع بين دراسة البلاغة الكلاسيكية وعلوم، أحاول نقل هذه الصور بالأسلوب الأصلي نفسه، مستغلًّا — طواعية — الفصحى المعاصرة للتجريب واستخدام الأساليب المستحدثة، ومصرًّا على نقل الإيقاع الشِّعري الذي يتجلى في النظم بما يقابله في العربية، وهو ما اقتضى «تلوين» البحور الشعرية أحيانًا (بالزحافات والعلل أو بالتداخل ما بين البحور المتجاورة) وأحيانًا بالالتزام بالإيقاع التقليدي لبحور الشعر العربي.

وهكذا، كان همي — ولا يزال — تقديم صورة صادقة أمينة، (أي دقيقة) للنص، باعتباره عملًا فنيًّا، لا باعتباره قولًا يُمكن استخلاص الفكرة فيه، وتجاهل طرائق التعبير، فإذا ما انتقلتُ من قُطب من القطبين (التقريب والتغريب) إلى القطب الآخر، أوضحت ذلك في الحواشي. فالقطبان ليسا متعارضين تعارضًا يصل إلى حد التناقض، أي إنَّهما ليسا «متنافيين لا يجتمعان» (mutually exclusive) بل هما يتداخلان مهما يجتهد المترجم في الالتزام بأحدهما. وترجمة الأسلوب، كما علَّمنا أستاذنا شكري عياد، مهمة شاقة، ولكننا نستعذب المشقة في سبيل الفن؛ فما أجمل أن يُوفَّق المرء في إخراج «موازنة» طريفة بين بعض الظواهر التعبيرية في لغتين تنتميان إلى ثقافتين مختلفتين، وتفصل بينهما هوة زمنية شاسعة! ولو لم أجد من القراء تشجيعًا لمنهجي وإقبالًا عليه، لعدلت عنه، ولكنني كلما زدت من جهدي في هذا الصدد، زاد ما أجنيه من ثمر.

وبعد، فإنني — كما سوف يلاحظ القارئ — ألتزم بترجمة النظم نظمًا والنثر نثرًا، كما ألتزم، إلى أقصى حدٍّ ممكن، بالنص الإنجليزي، باعتباره نصًّا حيًّا لا أثرًا من آثار القدماء. ومن ثَمَّ، فأنا أستخدم الفصحى المعاصرة، لغة العرب أبناء اليوم، ولا أتردد في استخدام كلمة أو تعبير دارج، إن لم يستطع غيره نقل المعنى المطلوب أو الصورة المرسومة في سياق المسرحية الحي. وإذا استخدمت كلمة، قد لا تكون شائعة (مثل أسماء بعض الزهور) أردفتُها بما يوضحها، فالوضوح عندي فضيلة، وأمَّا إذا كان في النص غموض متعمَّد، فقد اضطررت إلى بذل جهدٍ مضاعف، لتقديم «الغموض» نفسه بوضوح!

ولا يفوتني في هذا التصدير أن أتقدَّم بالشكر الجزيل لكل من أعانني على إتمام هذا العمل، وخصوصًا مَن أمدُّوني بالمادة العلمية، وعلى رأسهم ابنتي الدكتورة سارة عناني، المدرس في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، وماهر حسن البطوطي، الأديب والمترجِم النابه، الذي يُقيم في نيويورك، والدكتورة سمر طلبة، المدرس بكلية الآداب جامعة بني سويف، التي راجعت التجارب الطباعية، وتداركت بعض أخطائي، وأخيرًا وليس آخرًا، صديق عمري، العلَّامة والأديب والمترجِم العظيم، ماهر شفيق فريد، الذي قرأ المخطوط كله بعناية، ونبَّهني إلى ما لم أكن أنتبه إليه، فأنا مدين له بالدعم العلمي والمؤازرة النفسية التي لا يبخل بها عليَّ، فله مني جزيل الشكر والعرفان.

محمد عناني
القاهرة، ٢٠١١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤