المقدمة

(١) هذه المسرحية

مسرحية حكاية الشتاء (The Winter’s Tale) من أواخر المسرحيات التي كتبها شيكسبير، أي في أواخر عام ١٦١٠م (بيتشر Pitcher - ٢٠١٠م) بعد أن كتب أكثر من ثلاثين مسرحية حققت له شهرة واسعة بين جمهور المسرح العادي وبين المثقفين، وأيضًا بين رجال القصر الملكي. وكثيرًا ما توصَف اليوم هذه المسرحية بأنَّها «تراجيكوميدي رومانسية» بعد أن ظلَّ الوصف يقتصر على اعتبارها «رومانسية» وحسب، منذ أن وصفها بذلك إدوارد داوْدِنْ (Dowden) عام ١٨٧٧م، مستعيرًا الوصف الذي أطلقه كولريدج على «العاصفة» (The Tempest) وهو الذي ظلَّ منذ القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين يُطلَق على المسرحيات الأربع الأخيرة: «حكاية الشتاء»، و«بيريكليز» (Pericles)، و«سيمبلين» (Cymbeline)، و«العاصفة»، وفقًا لتصنيف داودن الذي لا يُعتبَر تعريفًا ما دام لم يتطرق إلى التفاصيل الفنية للنوع المسرحي، ويقتصر على أنَّه ليس بمأساة ولا بملهاة، بل يكاد يوازي فيه بين الرومانسية (Romance) والمسرحية الرومانسية (Romantic play)، وإن كان المأثور عن النوع الأخير أنَّه يميل للكوميديا حتى ثبت تعبير «الكوميديا الرومانسية» بدلًا من المسرحية الرومانسية. يقول داودن في كتابه:

في هذه المسرحيات عنصر رومانسي، ففي كلٍّ منها الحادثة الرومانسية نفسها، أي فقدان أطفال والعثور عليهم وعودتهم إلى من يحبونهم، مثل ابنتيْ بيريكليز وليونتيس، وابنيْ سيمبلين وألونزو، وفي كلٍّ منها خلفية رومانسية جميلة تتمثَّل في بحر أو في جبل، وتتميز جميعًا بجمالٍ وقور وسكينة عذبة، وهو ما يجعل وصفها بالكوميديا غير لائق؛ فنحن قد نبتسم ابتسامة رقيقة، لكننا لا نضحك قطُّ أو نقهقه عند قراءتها، فنطلِق إذن على هذه المسرحيات الأربع اسم الرومانسات.

(شيكسبير ١٨٧٧م، ص٥٥-٥٦، مقتطف في أورجيل ١٩٩٦م، ص٢-٣).
ومن أهم ما يلاحظه الدارس لهذه المسرحية، الإقبال الشديد عليها من جانب الجمهور العادي ودارسي المسرح على حدٍّ سواء، واشتداد هذا الإقبال، خصوصًا في السنوات الأخيرة، منذ منتصف القرن العشرين، إلى جانب «تكاثر» الكتابات النقدية عنها إلى حدٍّ يكاد يفوق ما يُكتَب عن التراجيديات الشيكسبيرية الكبرى. وتُفسر الباحثة جوان هول (Joan Hall) سرَّ افتتان العصر الحديث بها بأنَّ «عصر ما بعد الحداثة يُعلِّي من قدر الخلخلة المفاجئة في الأوضاع، والغرابة التي تشبه غرابة الأحلام، والأبعاد الأسطورية في الأدب الدرامي» (٢٠٠٥م، ص٧). ولذلك فسوف أبدأ هذه المقدمة بتحليلٍ موجزٍ لهذا «النوع» المسرحي «الجديد»، راصدًا أحدث الآراء فيه تمهيدًا لدراسة سائر جوانب النص المسرحي.

(٢) النوع المسرحي

تقول سوزان سنايدر (Snyder، ٢٠٠٧م): إنَّ التنازع بين وصف المسرحية بالرومانسة ووصفها بالتراجيكوميدي لم يهدأ على امتداد ما يزيد على قرن كامل «منذ تصنيف داودن»، مستندة إلى تعريف فيلبرين (Felperin) (١٩٧٢م) للرومانسة، وعلى الدراسة المستفيضة التي وضعتها بربارا مووات (Mowat) (٢٠٠٤م) لكل من هذه الأنواع — منفردة ومختلطة — من قبل. وتبدأ بإيضاح ما يعنيه داودن في وصفه المقتضب للرومانسة قائلة إنَّه كان يعني — فيما يبدو — قصص المغامرات والأسفار الغريبة، وتحطُّم السفن، والسعي في سبيل مطلب روحي أو أخلاقي، والحب الرومانسي، واجتماع شمل المحبِّين والعائلات بعد الفرقة الطويلة، وتعرُّض الفضيلة للابتلاء و«نجاحها في الاختبار»، والنبل الذي كان خافيًا ثم اكتُشِف، وكلها يحدث في عالمٍ يألف القوى الخارقة، والأعاجيب واسعة النطاق، والشعوذة والسحر. وكانت تقاليد الرومانس التي عرفها شيكسبير تتميز بأنَّها قصصية في المقام الأول، سواء كان شعرًا أو نثرًا، مثل قصة دافني وكلووي (Daphne and Chloe) اليونانية، والقصص التي كتبها مالوري (Malory) عن الملك آرثر وفرسانه، وقصة أركاديا (Arcadia) المنثورة التي كتبها السير فيليب سيدني (Sidney) وزيَّنها بقصائد كثيرة منوعة الأشكال، وقصيدة ملكة الجان (The Faerie Queene) الطويلة، التي كتبها إدموند سبنسر (Spenser)، وقصة روزاليند (Rosalynde) الطويلة التي تتخلَّلها سونيتات وأشعار رعوية، وكتبها توماس لودج (Lodge)، إلى جانب بعض الصور المسرحية لهذه التقاليد التي كانت قد نشأت في العصور الوسطى في صورة مسرحيات القديسين، (والتي يُشار إليها أحيانًا باسم مسرحيات الخوارق والمعجزات)، وهي التي تحفل بكل عجيبٍ وغريبٍ وخارقٍ (ص٢–٧). ويقول روجر وارين (Warren) في كتابه «إخراج مسرحيات شيكسبير الأخيرة» (١٩٩٠م): إنَّ لنا أن نعتبر أن مسرحيات شيكسبير الأخيرة رحلات روحية تنتهي باكتشاف الشخصية المحورية لذاتِها الحقيقية. فإذا صحَّ هذا الرأي كان لنا أن نعتبر أنَّ مسرحيات الخوارق من أهم المؤثرات في تصوُّر شيكسبير لمجرى الأحداث على المستوى النفسي في مسرحياته الأخيرة، ابتداءً ﺑ «حكاية الشتاء». ونحن نعلم من كتاب فيلبرين المشار إليه، وعنوانه «الرومانس الشيكسبيري» (١٩٧٢م) أنَّ تلك المسرحيات الدينية كانت تُقدَّم بانتظامٍ في أواخر القرن السادس عشر إلى جانب مسرحيات الأسرار القائمة على قصص الكتاب المقدس (ص١٣)، كما نصادف في الفصل الخامس من «حكاية الشتاء» كلمات تفيد العجب والدهشة، إلى جانب ما يتردد في أرجاء المسرحية من إشارات إلى «الحكايات القديمة»، وهي التي يُقصَد بها ما يشبه الأساطير أو الخرافة. وتقول سنايدر إنَّ ذلك هو ما يعنيه عنوان المسرحية، فهي «حكاية الشتاء»، ثم تضيف قائلة (ص٧): «وأمَّا استخدام أداة التعريف في عنوان المسرحية فتضيف إلى المعنى ما يُفيد أنَّ الذي يصوغه شيكسبير — دراميًّا — لا يقتصر على عصارة تركيز الخيال الرومانسي، بل أيضًا «القصة الأساسية للشتاء نفسه»» مقتبسة العبارة الأخيرة من طبعة بيل أوفرتون (Overton) للمسرحية، عام ١٩٨٩م، ص ٢١.
وأمَّا التحول من الرومانس الذي يقترب من التراجيديا في النصف الأول من المسرحية، أي حتى نهاية المشهد الثاني من الفصل الثالث، ويقترب من الكوميديا في النصف الأخير منها، فقد انبرى الكثيرون لتفسيره، وأحدثهم بيتشر (٢٠١٠م) الذي يُفرد صفحات كثيرة في مقدمته للنص، لرصد جذور تحوُّل التراجيديا إلى رومانس في المسرح الإغريقي، مركزًا على يوريبيديس (Euripides)، فيحكي قصة إيفيجينيا (Iphigenia) في مسرحيته طوريس (Tauris)، ثم يقول:

كان الاكتشاف العظيم الذي جاء به يوريبيديس أنَّ المأساة — ولو بلغت شفا الهلاك — ليس من المحتوم أن تتطرف في طابعها التراجيدي، بل ربما تطورت إلى رومانس. ولم يكن النوعان — التراجيديا والرومانس — لديه من البدائل التي لا تجتمع (ما دام أحدهما يغوص في الأسرار الأليمة للبشر والأرباب، والنوع الآخر يشجع على الفرار إلى الحكايات الخيالية)، بل كانا يمثِّلان مرحلتين متعاقبتين من مراحل حياة الإنسان الشعورية. ولم يكن يوريبيديس أول شاعر يوناني يجعل الرومانس يخرج من رحم نوعٍ أدبي آخر؛ فقد فعل ذلك هوميروس، قبله بقرون، عندما جمع بين الملحمة والرومانس في «الأوديسية»، ولكن إنجازه كان بمثابة انطلاقة في الدراما ساعدت على تحريرها من جذورها في الاحتفالات الدينية، وكادت تحررها أيضًا من الأرباب أنفسهم.

(ص١٢)
ويشرح بيتشر كيف أعاد يوريبيديس كتابة «قصة إيفيجينيا» باعتبارها مشكلة أخلاقية، وتأجيله التضحية بالفتاة إلى آخر المسرحية. ولكن في هذه الحالة (في أوليس Aulis) عندما يرفع الكاهن يده ليهوي على عنق إيفيجينيا، تختفي الفتاة ويحلُّ محلها غزال جبلي، فداءً لها، وتتناثر قطرات دمه في المذبح، ويقال إنَّ الفتاة مع الأرباب، من دون إيضاح للمعنى الدقيق، أي تُراها بين الأحياء أم الأموات؟ أقول بعد التدليل بهذا على تحوُّل المأساة إلى رومانسة، يأتي الباحث إلى المسرحية التي يقول إنَّها أثرت أعمق تأثير في شيكسبير، وهي ألكيستيس (Alkestis) (وتُكتَب بالإنجليزية Alcestis وتُنطَق الكاف سينًا) الزوجة التي تقدم نفسها فداءً لزوجها، وتقبل أن تموت بدلًا منه، ولكن في اللحظة الأخيرة، يتدخل البطل هرقل، فيصارع الموت «دون أن نرى ذلك على المسرح»، وينقذ الزوجة المخلصة من بين يديه، ولكنَّه عندما يُعيدها إلى زوجها لا يُعيدها باسمها، بل باعتبارها زوجة أخرى للزوج أدميتوس (Admetus) الذي كان قد أقسم ألا يتزوج مرة أخرى. ولكنَّ هرقل يصر على موقفه قائلًا له: «كن شجاعًا، خذ يدها في يدك.» وعندها يتبيَّن أدميتوس ما حدث، ويصيح قائلًا: «يا للأرباب! يا للأرباب! أية معجزة هذِي؟ هَلْ هذَا حقٌّ؟/هَل أشهَدُ زَوْجَتي هُنَا حَقًّا؟ أمْ أنَّ الفَرْحَة/سُخْرِية تُرسِلُها الأرْبَابُ لِتَدْفَعَنِي لِلخَبَلِ؟». ولكن ألكيستيس تظل صامتة طوال المشهد، من دون تعليق على ما يبذله زوجها من جهدٍ حتى يُصدق أنَّ الموت نفسه يُمكن أن يُهزَم.
ويعتمد بيتشر على التشابه الشديد بين فكرة عودة الزوجة إلى الحياة وبين ما يحدث أولًا في «ضجة فارغة» (انظر الترجمة العربية والمقدمة، القاهرة، ٢٠٠٩م)، وما يحدث هنا ثانيًا في «حكاية الشتاء»، قائلًا: إنَّ شيكسبير قرأ «قصة» ألكيستيس في الروايات والقصائد المستوحاة من مسرحية يوريبيديس، مضافًا إليها قصة بيجماليون الشهيرة، ثم يقول الباحث:

أدى اكتشاف يوريبيديس أنَّ التراجيديا والرومانس لم يكونا نوعين دراميين مستقلين لا يتغيران بل ربما تطور أحدهما فاكتسب طابع الآخر، ولو في المسرحية الواحدة نفسها، إلى أن أكَّد لشيكسبير غاية كان يعمل بنفسه على الوصول إليها. وكان كُتَّاب الدراما والباحثون ورجال البلاط من حوله في لندن — في ذلك الوقت ذاته — يثيرهم الإحساس بإمكان إخراج إبداعٍ جديدٍ وحركة قشيبة داخل الأنواع الدرامية وفيما بينها. وكانت موجة الإثارة الأولى قد انطلقت قبل ذلك بنصف قرن في إيطاليا عندما قرأ الشعراء والفلاسفة (باليونانية واللاتينية) كتاب الشعر الذي وضعه أرسطو، بعد أن نُشر في طبعة جديدة، وهو الذي يتحدث فيه أرسطو عن التراجيديا، ولم يكن معروفًا في عصر النهضة الأوروبية قبل عام ١٥٠٠م، (ص١٥).

ويقول بيتشر إنَّ صمت أرسطو تجاه الكوميديا أغرى النقَّاد الإيطاليين باختراع أفكار أرسطية عنها، وعن نوع «مختلط». وزعم الشاعر والباحث الإيطالي جواريني (Guarini) أنَّه نجح في مسرحية «الراعي المخلص» (Il Pastor Fido) في الجمع بين النوعين، وأطلق على النوع الجديد اسم «التراجيكوميدي». واعترف جواريني أنَّ يوريبيديس قد سبقه إلى هذا النوع ولو إلى حدٍّ ما، ولكنَّه لم يشِر إلى أنَّ مصطلح التراجيكوميدي كان يلقى السخرية من الكاتب الروماني بلاوتوس (Plautus). وهكذا، كان الناس في عصر شيكسبير يتساءلون عن إمكان سد الفجوة بين تراجيكوميديات جواريني الرفيعة، التي تتبع قواعد الكلاسيكية الجديدة، وبين الدراما الإنجليزية المحلية الأصلية، التي ازدهرت منذ أواسط القرن السادس عشر، وكانت تجمع بين التراجيديا والكوميديا في حبكات رومانسية، وتخاليط عجيبة من النوع المألوف في كوميديات الحب ومسرحيات الأخلاق الرمزية، والميلودراما، والنهايات السعيدة التي تتميز بها القصص الخيالية.
وينتهي بيتشر إلى القول بأنَّ حكاية الشتاء تسد الفجوة المذكورة (بأقصى قدر من البراعة) بين ما يُسميه الفن «الرفيع» والفن «الخفيض» (high and low art) قائلًا إنَّ الناس في عصر شيكسبير حاروا كيف يفسرون المسرحية، وإننا بعد انقضاء أربعة قرون ما زلنا دون استقرار على تحديد اسمٍ لنوعها المسرحي (رومانسية، أم كوميديا متأخرة، أم تراجيكوميديا، أم تراجيكوميديا رعوية أو رومانتيكية؟). ويقول إنَّ أحد الحلول الحديثة يقضي بتعريف الفصول الثلاثة الأولى بأنَّها تراجيديا — تراجيديا صغيرة، تنتهي، وفق المصطلح الأرسطي الدقيق، بالموت والتعرف (الاكتشاف) حين يدرك الزوج أخيرًا أنَّ زوجته وولده ماتا بسبب غيرته — تتبعها كوميديا غير مألوفة من فصلين. ويرجح الباحث هذا الحل، مبينًا أنَّ نقطة التحوُّل تقع عندما يقول الراعي العجوز لابنه (المهرج): «قابلتَ أنت هناك أناسًا تموت، ووجدتُ أنا هنا حياة وليدة» (٣ / ٣ / ١١٠-١١١)، أي إنَّ نقطة التحوُّل تكمن في إعلان الراعي عن ميلادٍ جديدٍ وتجديد للحياة، وسوف نرى كيف يُعارض ذلك جمهور النقَّاد المحدثين.
وكان قد سبق إلى «اكتشاف» هذا الديْن الكلاسيكي الباحث س. ب. هاردمان (Hardman) في دراسته المنشورة عام ١٩٨٥م بعنوان «النظرية والشكل والمعنى في «حكاية الشتاء» لشيكسبير» (مجلة الدراسات الإنجليزية)؛ إذ يشرح فيها نظرية كل من التراجيديا والكوميديا، وفق التعريف اللاتيني الشهير، الذي وضعه أحد القدماء (اسمه إيفانثيوس Evanthius) وكان يُطبع في ذيل نسخ كوميديات تيرنس (Terence) التي كانت تُدرَّس في المدارس أيام شيكسبير، ويقول إنَّ البداية في الكوميديا كانت عاصفة، والنهاية هادئة، والأصل هو: Prima turbulenta tranquilla ultima. ويستند الذين يحبون المقارنة بين «حكاية الشتاء» وبين «الملك لير» إلى هذا التعريف، قائلين إنَّ الأخيرة تتبع عكس المنصوص عليه للكوميديا أي بوجود بداية هادئة وخاتمة عاصفة، مثل ديفيد ينج (Young) في كتابه «غابة القلب: دراسة لمسرحيات شيكسبير الرعوية (١٩٧٢م)»، وخصوصًا المقارنة المستفيضة التي يجريها بينهما في الفصلين الثالث والرابع، وهو ما عادت لتأكيده جين سمايلي (Smiley) عام ١٩٩٨م، التي كتبت تقول إنَّ شيكسبير في رأيها كتب «حكاية الشتاء» للرد على «الملك لير»، ولذلك فهي تتمنى أن ترى المسرحيتين تُقدَّمان معًا، بحيث يلعب الممثِّلون الأدوار نفسها، وبالملابس نفسها! كما عاد لتأكيده من قبلها الباحث الشيكسبيري الشهير روبرت ميولا (Miola) في دراسة له نشرها عام ١٩٩٤م، بعنوان «كوميديا جديدة في الملك لير» (مجلة فقه اللغة الفصلية). ومن الطريف أن يحاول بعض المحدثين تقديم تفسير جديد للعبارة اللاتينية المقتطَفة أعلاه، قائلين إنَّ تعبير «عاصفة» قد يُشير إلى عاصفة جوية! ولكن الإجماع القديم على معناها المجازي، أي دلالتها على هبوب ما يسبِّب القلقلة والاضطراب الذي «يعصف» بالشخوص في البداية يغنينا عن المعنى الحرفي، ولو صدق!

وقد تدعم في العصر الحديث الربط بين التراجيكوميديا والرومانس باعتبارهما نوعين متميزين من الأنواع المسرحية؛ إذ إنَّ بربارا مووات في دراستها المشار إليها آنفًا (٢٠٠٤م) وعنوانها «ماذا يعني الاسم؟ تراجيكوميديا أم رومانس أم مسرحية أخيرة؟» المنشورة في كتاب «الرفيق إلى أعمال شيكسبير، المجلد الرابع، ص١٢٩–١٤٩» تقول: إننا يجب أن نفرق بين النوعين عند تشخيص مسرحيات شيكسبير الأخيرة، بل الأجدى أن نرى فيما بينهما صفات وراثية مشتركة تربطهما وتجعلهما صالحين معًا، وفي الوقت نفسه لوصف هذه المسرحيات (ص١٣٨). وبعد أن تستعرض سمات بعض الرومانسات التي أخرجها القرن السادس عشر، والتي يقول فيلبرين في كتابه المذكور (ص١٣) إنَّها تدين لقصص الرومانس الشعرية الكلاسيكية بالكثير، تقول إنَّ فيها عناصر تراجيكوميدية أصيلة، تؤكِّد الصلة الراسخة والوثيقة بين النوعين، مُدَلِّلة على ذلك بنماذج وافية ومقنعة. وتخرج من هذا كله إلى أن مسرحيات شيكسبير الأخيرة تنتمي إلى نوعٍ هجين يُسمَّى، أو يُمكن أن يسمى رومانسة تراجيكوميدية، فالاسم موحًى به في العنوان، والصفة مستقاة من طبيعة المسرحية التي سبق أن ناقشتها عند عرض آراء بيتشر.

وتضيف سوزان سنايدر إلى هذه الخصائص الفنية الطابع الرعوي الذي يزيد مما تسميه «الثراء النوعي» للمسرحية، وهو من التقاليد الأدبية ذات «المعنى الثنائي» و«البناء الثلاثي» في كثير من الأحيان. كما أنَّه نوع أدبي «يتعايش» بسهولة مع الرومانس (على نحو ما نرى في دافني وكلووي وفي أركاديا) ومع التراجيكوميديا (الراعي المخلص لجواريني والراعية المخلصة لفلتشر Fletcher). والمعروف أنَّ التراث الرعوي يتميز في صُلبه بالتضاد الأساسي ما بين أساليب حياة المدينة أو القصر الملكي، وأساليب الحياة الريفية مع تمجيد الأخيرة واعتبارها مثلًا أعلى. وأمَّا «المعنى الثنائي» فتقصد سنايدر به التمييز بين مجموعات من الأضداد: العقم في مواجهة الخصب، والحذلقة في مواجهة البساطة، وفن الصنعة في مواجهة الطابع الفطري. وأمَّا البناء الثلاثي فيعني الترحال من المدينة أو البلاط إلى الريف أو عالم ناءٍ يشبهه، مثل جزيرة برسبيرو في «العاصفة»، والعودة إلى المدينة أو إلى البلاط، سواء كانت العودة معتزمة وحسب في الختام (كما هو الحال في «السيدان من فيرونا»، وفي «كما تحب»، وفي «العاصفة»)، أو متحققة (كما يحدث في «حلم ليلة صيف»). ويقول نورثروب فراي (Frye) في كتابه «تشريح النقد» (١٩٥٧م، ١٩٧١م) إنَّ الرحلة إلى ذلك العالم النائي — الذي يُسميه «الدنيا الخضراء» — تنهض بدور الدواء الشافي الذي يأتي بحلول للمشاكل، ويصلِح العلاقات التي تصدعت، ويزيل العقبات التي تعيق مجرى عاطفة الحب الصادقة. وفي «حكاية الشتاء» يقضي الشخوص نحو ثلاثة فصول في البلاط في صقلية، ثم ننتقل مع بعضهم إلى الريف حيث نقضي فصلًا بالغ الطول معهم «٨٤٦ سطرًا» في بوهيميا، وبعدها نعود إلى صقلية أي القصر الملكي، كما يحدث في «حلم ليلة صيف». ولكننا نلاحظ في هذه المسرحية أنَّ الشخص الذي يُعتبَر في أمسِّ الحاجة إلى الشفاء — وهو ليونتيس — لا يرحل إلى بوهيميا، بل تأتي هي إليه في صورة العاشقيْن فلوريزيل وبرديتا، وهو ما يُعيد بث الروح في ذلك العالم، وفي صورة بوليكيسنيس وكميلو والأسرة الريفية التي تبنَّت برديتا.
والتضاد بين العالميْن في «حكاية الشتاء» شديدٌ في الظاهر، أو قل إنَّه يشتد في الظاهر قبل التلاقي المحتوم في النهاية. فلكل منهما ربه المسيطر — أبوللو في صقلية، والربة الطبيعية في بوهيميا — ومشاهد صقلية يعمِّرها الملوك والأمراء والنبلاء والسادة والخدم والوصيفات، إلى جانب رجال المحكمة والسجان. وأمَّا بوهيميا، فعلى الرغم من وجود ملك وأمير، فإنَّ المَشَاهِد يسودها «البشر الصادقون» والرعاة، بل إنَّ الأمير هنا يشعر بانتمائه إلى الريف حيث وقع في غرام فتاة من المفترض أنها ابنة أحد الرعاة، كما يشعر بالاطمئنان إلى ملبسه الريفي (٤ / ٤ / ١–٥٢). كما أننا نفتقد هنا وجود شخصيات تنتمي إلى القصر الملكي؛ إذ إنَّ كميلو هو رجل البلاط الوحيد الذي يحل — فيما يبدو — محل أرخيداموس في المشهد الافتتاحي. وأمَّا الشخص الآخر الذي كانت له علاقة بالقصر فهو أتوليكوس (Autolycus) الذي تخلَّى عن حُلَّتِهِ «من القطيفة الناعمة السميكة» (٤ / ٣ / ١٤) مفضِّلًا الأسمال البالية للوغد، وملبس البائع المتجول الذي «يغشى الحفلات الريفية والأسواق وملاعيب الدببة» (٤ / ٣ / ١٠٠).

والحدث الرئيسي في صقلية في الفصول الثلاثة الأولى هو المحاكمة — حيث تُعرَض قضية الخيانة الزوجية — ونظيرها في بوهيميا حفلٌ في عطلة ريفية بجزِّ صوف الأغنام يتحول إلى حفل خطبة ما بين العاشقيْن. وإذا كانت مَشَاهد صقلية تدور في غرف القصر، وفي السجن، وفي المحكمة، فإنَّ مشاهد بوهيميا تدور في معظمها في الهواء الطلق، إمَّا على شاطئ البحر (٣ / ٣) أو في أحد الطرق الريفية (٤ / ٣) أو في الساحة الممتدة أمام كوخ الراعي (٤ / ٤). وتختلف الأصوات المقترنة بكل عالَم من هذين العالمين، فنحن لا نكاد نسمع الموسيقى قطُّ في صقلية، وإن كان المخرجون يستخدمون الموسيقى في الفصول الأولى باعتبارها «مؤثرات صوتية»، وأمَّا في بوهيميا فنحن نشهد الأغاني والرقصات المتتالية التي تُشيع جوًّا بالغ الاختلاف عن جو صقلية. بل إنَّ الزمن نفسه يكتسب صورًا متضادة ما بين العالميْن: فهو يُقاس في صقلية بالساعات والدقائق (١ / ٢ / ٢٨٩-٢٩٠) وبالأيام (١ / ٢ / ٤٥١) والأسابيع (١ / ٢ / ٣٨) وأيضًا بالشهور (١ / ٢ / ٤١، ١٠٢). وأمَّا في بوهيميا فهو دائري وفصليٌّ: فالطبيعة هي التي تُحدد روزمانة الزمن في مشهد الزهور عند برديتا (٤ / ٤ / ٧٤–١٢٩).

ذكرتُ في مطلع الفقرة قبل الأخيرة أنَّ التضاد بين العالميْن شديد في الظاهر، مؤكدًا العبارة الأخيرة حتى لا ننجرف وراء أي درجة من درجات التبسيط المخل. فالواقع أن شيكسبير لم يستسلم استسلامًا تامًّا للتمييز التقليدي بين العالمين، بل وضع بذورًا في كلٍّ منهما للآخر، كما أجرى تعديلات معينة في التراث الرعوي الذي انتهى إليه في عصر النهضة، والذي يتبدَّى بأوضح صورة في رواية باندوستو للكاتب روبرت جرين (Greene) ؛ إذ إن جانيت أديلمان (Adelman) تميز في كتابها — الذي أُكثِر من الرجوع إليه، واقتباس فقرات منه في مقدماتي الشيكسبيرية، وهو «أمهات خانقات» (١٩٩٢م) — بين نوعين من الطابع الرعوي في العالمين جميعًا، قائلة إنَّ «مسحة رعوية ذكورية» تلازم عالم صقلية، وهي «ذكورية» لأنَّها تمتاز «بالسكون والشوق إلى الماضي»، وإنَّها تقابل «مسحة رعوية أنثوية» في عالم بوهيميا، وهي أنثوية لأنَّها «خلَّاقة وحافلة بالأمل» (ص ٢٢٠–٢٢٢). فنحن نصادف صورًا من الطبيعة والرعي منذ مستهل مشهد اللقاء بين الملكين في الفصل الأول: «مرَّت بحساب الراعي للقمر المتحكِّم في ماء البحر شهور تسعة» (١ / ٢ / ١-٢)، أو:
كُنَّا كمثل توءم من الحُمْلان لاهييْن قد تواثبا
في الشمس! ثغاء كل يرجع الصَّدى للآخر،
وما تبادلنا سوى براءة ببراءة،
وما عرفنا قطُّ معنى الشَّر،
كَلَّا ولا حلمنا أن غيرنا يعرفه،
وَلَوْ ظَلَلْنَا مِثْلَمَا كُنَّا …
(١ / ٢ / ٦٦–٧١)
لكنما لم يكتب لهما أن يظِلَّا كما كانا، فسرعان ما نرى في المشهد نفسه صورًا تناقض هذه البراءة؛ إذ يصوِّر ليونتيس إرخاءه الزمام لزوجته ولضيفه الملك بأنَّه يصيد ويُدلِي لهما بالشَّصِّ، وهي الصورة التي تنضح بمخاوفه من خيانة زوجته له وإحالته إلى «ديوث»:
إني أصيد الآن!
أدليتُ هذا الشَّص … حتى إذا لم تدركا الطعم به!
(٢ / ١ / ١٨٠-١٨١)

وصور النبات تقوم بوظيفة مختلفة في صقلية عنها في بوهيميا؛ إذ يقول اللورد في صقلية إنَّه كان يتجسَّس على بوليكسنيس وصحبه «وراء غابة صنوبرية» (٢ / ١ / ٣٤). وأمَّا في بوهيميا، فالسياج النباتي في الريف يُستخدَم لنشر «الغسيل» (ملاءة منشورة على سياج الروض ناصعة البياض، ٤ /  ٣ / ٥)، ويُستخدَم أيضًا للتبول وراءه (٤ / ٤ / ٨٣٠-٨٣١).

ولكن تحليلات أديلمان، من وجهة نظر النقد النسوي، تُغفِل ما هو أهم من الزاوية الدرامية في نظري. فصور القمر وصور الحملان يأتي بها بوليكسنيس ملك بوهيميا، وهي التي سوف نراها في القالب الرعوي في النصف الثاني من المسرحية. وهي إذن صور ترتبط بالشخصية التي تأتي بها، مثلما ترتبط صور النبات بقائلها في كل حالة، وخصوصًا الصور الساخرة التي يأتي بها اللص المحترف أتوليكوس في بوهيميا، فهو الوحيد الذي ينظر إلى ما يسرقه على السياج، ويستخدم السياج لقضاء حاجته. ولكن صور الطبيعة هنا وهناك تُمثِّل خيطًا ممتدًّا يربط ما بين نصفي المسرحية كما سوف أُبيِّن عند مناقشة البناء.

وأمَّا التعديل الحقيقي في التراث الرعوي، وأشرت إليه قبل تلخيص تعليق أديلمان، فهو ما تقول به ميشيل مارابودي (Marrapodi) تعليقًا على قيام شيكسبير بعكس المكانين اللذين تجري فيهما الأحداث في رواية «باندوستو»، التي استقى شيكسبير حبكة المسرحية منها. فروبرت جرين يجعل الملك النظير لليونتيس حاكمًا على بوهيميا التي تعيش في زمهرير الشتاء، ونظير بوليكسنيس حاكمًا على صقلية الريفية ذات المناخ الدافئ. وهكذا، فإنَّ شيكسبير «يرفض التقاليد الأدبية التي كانت تقول إنَّ صقلية هي المكان الريفي الهادئ الجميل الوحيد — الجزيرة النمطية ذات الطابع الواحد — التي ورثها جرين من التراث الرعوي» الذي يرجع آخر الأمر إلى شعر ثيوقريطس (Theocritus)، ولكن الشاعر هنا يخلق صقلية جديدة «محمَّلة بظلال معانٍ غامضة متضادة متعددة الدلالات» تليق بدنيا الريبة والغيرة والانفجارات «البركانية» (ص٢١٤). (وعنوان دراسة مارابودي: «ذلك البلد المهلك: صقلية وبلاغة رسم الأمكنة في حكاية الشتاء»، في كتاب شاركت في تحريره بعنوان إيطاليا عند شيكسبير: وظائف المواقع الإيطالية في دراما عصر النهضة، ١٩٩٣م، ص ٢١٣–٢٢٨). وفي آخر المطاف، يُعيد شيكسبير (في مشهد التمثال) صقلية إلى جذورها التاريخية في الفن، ومعها المثل الرعوي الأعلى، أي حل المشكلات وإعادة التناغم في العلاقات البشرية. ولصقلية دلالات أخرى سأعود إليها فيما بعد (وتُشير إليها هذه المؤلفة أيضًا).
وتضيف سوزان سنايدر اختلافين آخرين عن تراث الشعر الرعوي، أولهما بإيجازٍ هو ظهور ملامح الحياة المدنية في الريف؛ إذ لا نرى رعاة يعزفون المزامير ويتأملون جمال الطبيعة أو حياة الإنسان أو ينخرطون في مسابقات للغناء أو يحادثون حبيباتهم. بل نجد ملاهي المدن مثل ملاعيب الدببة (٤ / ٣ / ١٠٠) ورذائل لعب الميسر والسرقات الطفيفة (٤ / ٣ / ٢٦-٢٧) وعقوبات المدن مثل الوضع في الحباسة الخشبية «والشنق والضرب» (٤ / ٣ / ٣٠). وثانيهما — وهو الأهم — صورة بوهيميا الرعوية باعتبارها عالمًا «تجاريًّا» (ص١٩) يقدمه بوليكسنيس في مطلع ٤ / ٢ بالحديث عن مهارة كميلو في إدارة مشروعات تجارية جديدة لا يستطيع غيره إدارتها (٤ / ٢ / ١٤-١٥) وعن المكافأة المادية وما يجنيه بوليكسنيس من صداقة كميلو (٤ / ٢ / ١٧، ٢٠). وعلى الرغم من أنَّ اللغة الاقتصادية تسود المسرحية كلها، كما يذهب إلى ذلك ستانلي كافيل (Cavell) في فصل عنوانه «حساب المكاسب وإظهار الخسائر: قراءة لحكاية الشتاء»، في كتابه «التبرؤ من المعرفة في ست مسرحيات لشيكسبير، ١٩٨٧م»، فإنَّ هذه اللغة تبرز بصورة جد واضحة في بوهيميا (وخصوصًا في حفل جزِّ صوف الأغنام) (ص٢٠٠). وانظر إلى أمثلتها الواضحة في كلمات مثل: «كيس النقود»، و«المال»، و«الحساب من دون عداد»، و«التجارة»، و«العملة»، و«الشراء»، و«الغش»، و«الزبائن»، و«المبادلة»، و«التجار»، و«العمل التجاري» (والتي تنتشر في ثنايا الفصل الرابع، وتكثر في  ٤ /٣ / ٣٤–٧٠). ويقتطف روبرت صمولوود (Smallwood) في كتاب جمع فيه آراء المخرجين والممثِّلين الذين قاموا بأدوار في مسرحيات شيكسبير (انظر قائمة المراجع) قولًا للممثِّل ماكاب (McCabe) ينصح فيه بتوجيه أغاني أتوليكوس عند أدائها على المسرح إلى الجمهور الحديث (١٩٩٨م)، فهي من وسائل الترويج والإعلان القوية عن السلع، بل إنَّها تنجح (كما في ٤ / ٤ / ٢٢٠–٢٣١) في مخاطبة مجتمعنا بوعيه الاستهلاكي، وتنتهي بالدعوة إلى القدوم والشراء (ص٦٥).
وصدرت بعد كتاب كافيل — المشار إليه — دراستان مهمتان تؤكدان التعديل الذي أشرت إليه في «النوع» الأدبي — أي المسرحي «الرعوي» أو الشعر «الرعوي» — الذي جاء به شيكسبير من خلال تعديل الصورة داخليًّا بالمزج بين الخيوط وإبراز التحوُّل الاجتماعي الذي كانت تمر به إنجلترا في رسمه للشخصيات التي ابتكرها وأضافها إلى الحبكة «الرعوية» التي استقاها من جرين. فأمَّا الدراسة الأولى فقد كتبها مايكل بريستول (Bristol) بعنوان: «بحثًا عن الدب: الشكل الزمكاني والتعددية الاقتصادية في حكاية الشتاء»، ونشرها في مجلة شيكسبير الفصلية (٤٢) عام ١٩٩١م (ص ١٤٥–١٦٧)، ويحلل فيها دلالة وجود النزعة «الوصولية» الجديدة في الطبقة المتوسطة الناشئة، واختلافات حلول النظام النقدي في التعامل محل نظام المقايضة القديم، وما تبع ذلك من نشأة الوعي الطبقي والحراك الاجتماعي، سواء كان مقصورًا على «الأغنياء الوصوليين» (ص١٦٣) بين الرعاة، أو ظهور أمثال أتوليكوس من التجار الذين يؤمنون بالغش وحوافز الربح التي صاحبت طموح بعض أفراد الطبقة الوسطى إلى مشاركة الرأسمالية الإقطاعية منزلتها استنادًا إلى الثروة وحدها. وهذا كله، كما يقول، يجعل من بوهيميا عالمًا ماديًّا، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، يحفل بالمرابين، وأصحاب الحوانيت، والمحامين، ويزخر بالخدم حتى عند الرعاة (ص١٦٢–١٦٦). وأمَّا الدراسة الثانية، فعنوانها عجيب، ألا وهو: «فترة الحمل، والعقود القانونية واقتصاديات السندات الإذنية في حكاية الشتاء»، وقد كتبتها باتريشيا باركر (Parker)، ونشرتها في كتاب عنوانه «المرأة والمِلْكية وحَرْفية القانون في بواكير العصر الحديث في إنجلترا»، عام ٢٠٠٤م، ص٢٦–٤٩. والكتاب من تحرير نانسي رايت (Wright)، ومارجريت فيرجسون (Ferguson)، وأ. ر. بَك (Buck). وتناقش فيه المؤلفة من وجهة نظر نسائية محضة، كيف يجوز لنا أن نعتبر فترة حمل هرميون سندًا إذنيًّا يُدفَع «لحامله» بعد تسعة أشهر، ما دام يهيئ وريثًا للعرش، لا «تملكه» المرأة (الزوجة/الملكة)، بل يملكه الرجل (الزوج/الملك)، ومن ثَمَّ كيف ينهار ليونتيس حين يتصور — رمزيًّا — أنَّ «السند الإذني» الذي يحمله (أو تحمله زوجته نيابة عنه) ينتمي لغيره، أي لرجلٍ آخر! وذلك بغضِّ النظر عن كون هذا التصور وهمًا يقوم على خطأ، ولكنَّه من وجهة نظر النقد النسائي يحرم المرأة من ملكيتها ما في بطنها، وينسب ما تحمله إلى «صاحبه» أو «مالكه» (من الزاوية الاقتصادية)، وهو الرجل! وتستند باركر في تفسيرها الرمزي إلى الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي سبقها بريستول إلى تفصيل القول فيها. وهذا كله — كما هو واضح — يربط المسرحية بعصرها، على نحوٍ لم يكن النقَّاد الأوائل يناقشونه.

(٣) الخلفية التاريخية

تقول سوزان سنايدر:

من المحال أن يزعم أحد أنَّ «حكاية الشتاء» مسرحية تاريخية، وهي ليست قطعًا تاريخية بالمعنى الذي نقصده عندما نقول إنَّ «هنري الثامن» تاريخية، على الرغم من خيوط «الرومانس» فيها التي تربطها بقوة بغيرها من مسرحيات شيكسبير الأخيرة، أو حتى بما يمكن لمسرحية «سيمبلين» أن تزعمه من ارتباط بالتاريخ، ما دام يجري في باطنها الصراع السياسي والعسكري بين بريطانيا وروما، والأسماء وسلسلة النَّسَب الملكية المستقاة فيها من كتاب تاريخ صريح وهو «حوليات هولينشيد». ولكن التفكير النقدي الحالي قد نقل المناقشة لحكاية الشتاء إلى ما يتجاوز التأكيد التقليدي لطابع الرومانس والتراجيكوميديا والشعر الرعوي، وإثبات أنَّ المسرحية ليست بريئة من التاريخ أو السياسة (ص٢٠).

وقد دفعني هذا الاستدراك إلى طلب البحوث الحديثة، التي تربط المسرحية بعصرها أو بالقضايا السياسية والاجتماعية لذلك العصر، فوجدت منها ما يتحدث عن قضية «الصراحة السياسية الجذرية» — بتعبير وليم مورس (Morse)، الذي يقول إنَّ المسرحية «تتأرجح في الفجوة ما بين أيديولوجيا الحكم المطلق وعناصر معارضته، وهي عناصر لم يستطع الشاعر احتواءها احتواءً كاملًا»، (أي لم يستطع منعها من التغلغل في ثنايا نصه وفي الحدث المسرحي الأساسي نفسه). وسوف أعود إلى هذه القضية فيما بعد، والتي لم يكن «مورس» أول من أثارها في دراسته، وهي بعنوان «الميتانقد والمادية: حالة «حكاية الشتاء» لوليم شيكسبير»، وقد نشرها في مجلة «التاريخ الأدبي الإنجليزي»، ٣٨، عام ١٩٩١م، ص٢٨٣–٣٠٤. كما عاد إليها باحث آخر وهو سايمون بولفري (Palfrey) الذي يناقشها من زاوية أخرى؛ إذ يجد في المسرحية «تحدِّيًا قويًّا، ينزع في كثير من الأحيان للتطرف في مواجهة الأيديولوجيات الغائية المحافظة» في كتابه: مسرحيات شيكسبير الأخيرة: عالم جديد من الكلمات، ١٩٩٧م، ص٢٣٠. ووجدت أبحاثًا أخرى تربط ما بين المسرحية وبين محاولة الملك جيمز الأول توحيد إنجلترا واسكتلندا، وما نجم عن ذلك من ضروب التوتر الشديد على امتداد هذه المحاولة (١٦٠٤–١٦١٠م) وكيف يتجلى ذلك في «الاستقطاب بين صقلية وبوهيميا» وما يتبدى فيه من معارضة لتلك الوحدة المقترحة، مثل دراسة دونا هاميلتون (Hamilton) بعنوان «حكايات الشتاء ولغة الوحدة ١٦٠٤–١٦١٠م» (مجلة دراسات شيكسبير ٢١، ١٩٩٣م، ص٢٢٨–٢٥٢) إلى جانب أبحاث أخرى ترى في المسرحية إمَّا صورة للعائلة الملكية التي يرأسها جيمز الأول، ممثَّلة في الأسرة الملكية للملك ليونتيس على المسرح (وكانت تلك أول أسرة ملكية — أقصد أسرة جيمز الأول — يراها الناس في بريطانيا منذ وفاة الملك هنري الثامن عام ١٥٤٧م) مثل كتاب ديفيد بيرجرون (Bergeron) بعنوان رومانسات شيكسبير والعائلة المالكة، ١٩٨٥م، ص١٥١–١٧٨، أقول إمَّا هذه الصورة أو صورة توحي بالملكة إليزابيث المتوفاة، وهي «تمثال» هرميون، بعد أن نُزعت منها أية إيحاءات أنثوية، ولم تعُد مصدرًا لتهديد سلطة الملك «الذكر»، إمَّا جنسيًّا أو سياسيًّا. وهي دراسة تستغرق فصلًا كاملًا (هو الفصل الخامس) من كتاب الناقدة النسائية كاثرين إيجرت (Eggert) بعنوان تبدو مثل الملكة: السلطة الأنثوية والتجارب الأدبية في سبنسر وشيكسبير وميلتون، المنشور عام ٢٠٠٠م. أضف إلى هذا قضية وراثة العرش والحفاظ على نقاء نسب أفراد الأسرة المالكة، وقد رأيت — نظرًا لهذا — أن أبدأ بعرض الخلفية التاريخية للمسرحية، حتى يستطيع القارئ استشفاف ما يريد من دلالات سياسية وغيرها بنفسه.
يقول المؤرخون إنَّ «شهر العسل» الذي صاحب اعتلاء الملك جيمز الأول عرش إنجلترا عام ١٦٠٣م — بلغة السياسة — انتهى في عام ١٦١٠م. وكان الملك القادم من اسكتلندا (حيث كان يُسمَّى جيمز السادس) قد أحيا في صدور الناس آمالًا عريضة، والوعد بأن يثبت أنَّه شبيه بالإمبراطور الروماني العظيم أوغسطس (Augustus) (وُلِد عام ٦٣ ق.م. وتُوُفي عام ١٤م)، الذي حكم من عام ٢٧ ق.م. إلى عام ١٤م، وأشاع السَّلْم بين ربوع الإمبراطورية، وخصوصًا في البحر المتوسط بالقوة، وهو ما يسمَّى «السلام الروماني» (Pax Romana). ويسمي المؤرخون ذلك الإمبراطور أيضًا أوكتافيان (Octavian)، ويسميه شيكسبير أوكتافيوس في مسرحية أنطونيو وكليوباترا (انظر الترجمة العربية، القاهرة ٢٠٠٧م). كان الناس يتطلعون إلى حكم ملك حازم ينقذ البلد من القلق الذي سادها في أواخر أعوام حكم الملكة إليزابيث، ولكن ذلك كله تحطم على صخور الواقع؛ فلم يتمكن من تحقيق حلمه بتوحيد إنجلترا واسكتلندا، وهو ما تقول هاميلتون، المشار إليها، إنَّه يتجلى في الانقسام (بسبب ليونتيس) بين صقلية وبوهيميا، في دراستها المشار إليها عاليه ص ٢٣٨، مثلما كان السبب التاريخي يرجع أيضًا إلى جيمز الأول نفسه الذي انخرط في مناقشة لأمور «شخصية» (منها تحديد الدخل السنوي للملك من الخزانة العامة)، وأمور خاصة بسلطة الملك أو دور البرلمان في حكم المملكة في مقابل ما يُسمَّى ﺑ «الامتياز الملكي» أي ما يسمح له به «الدستور» الإنجليزي (غير المكتوب) من سلطة، يعتبرها الملك «مطلقة». ففي الفترة التي سبقت عام ١٦١٠م، (عام كتابة المسرحية) كانت المفاوضات تجري بين الملك وبين البرلمان حول إبرام ما يُسمَّى «العقد العظيم»، ولكنَّها فشلت بسبب عناد الملك. وكان من المتوقع أن تؤدي (وفق هذا العقد) إلى موافقة مجلس العموم على منح الملك دخلًا سنويًّا قدره ٢٠٠٠٠٠ جنيه (وهو مبلغ هائل بحساب تلك الأيام) في مقابل السماح للمجلس بسلطات ومزايا أوسع وأشمل. وتقتطف جوان هول (Hall) (٢٠٠٥م) المشار إليها آنفًا بعض ما جاء في كتابات الملك جيمز الأول نفسه، وهي التي نشرها تشارلز ماكيلوين (McIlwain ) عام ١٩١٨م (استنادًا إلى طبعة ١٦١٦م) حيث يوازي الملك — أو يكاد يوازي — بين سلطة الملك وسلطة الرب! ثم يقول: «ولذلك فلم يكن من المستغرب أن يُذكِّر الملكُ البرلمانَ — من جديدٍ — في خطاب له يوم ٢١ مارس ١٦٠٩م أنَّ: الملوك يُسمَّوْن أربابًا حتى من جانب الرب نفسه» (ص ١٢). وتقتطف قولًا وَرَدَ في كتاب آخر صدر عام ١٩٦٦م من تحرير إليزابيث فوستر (Foster) يضم المداولات البرلمانية وخطب الملك، حيث يتضمن خطبة ألقاها عام ١٦١٠م، ويحذِّر فيها الأعضاء من أن ينبشوا «جذور المسألة» فينازعوه «امتيازه الملكي» (المرجع نفسه).
ومن الطريف أنَّ الملك جيمز الأول كان يدافع عن الملكية الدستورية، التي تحدُّ فيها قوانين البلد من سلطات الملك، ولكنَّه كان يوضح دائمًا أنَّ الملوك أنفسهم هم الذين يسنُّون القوانين التي تحدد سلطاتهم، كما يشرح ذلك بالتفصيل بول كريستيانسون (Christianson) في دراسة له نشرها عام ١٩٩١م، بعنوان «الأصوات الملكية والبرلمانية بشأن الدستور العريق في الفترة ١٦٠٤–١٦٢١م» في كتاب عنوانه العالم النفسي للبلاط اليعقوبي من تحرير ليندا بيك (Peck) ص: ٧١–٩٥. ويقول الباحث إنَّ هذه «الحجة الدائرية من المحال، بطبيعة الحال، أن تكون مبررًا للملكية المطلَقة أو حتى للطغيان» (ص٨٤). ويضيف أنَّ أحد معاصري الملك جيمز الأول، ويُدعى جون تشيمبرلين (Chamberlain)، كان يبدي قلقه الشديد من المبالغة في تقدير مدى «المزية الملكية» ووصفها ﺑ «التعالي» من جميع الوجوه الممكنة. والمقصود بالتعالي هو إيلاؤها الأولوية على أي رأي آخر في الدولة (ص٨٥).
وكل هذا يتصل اتصالًا وثيقًا، كما هو واضح، بحكاية الشتاء، حيث نرى ليونتيس ملك صقلية وهو يتحدى ما نسميه اليوم «الرأي العام»، مخالفًا رأي جميع مستشاريه وأشد المقربين منه. ويؤكد حقَّه في أن يفعل ما يشاء دون رادٍّ لحكمه. ويعلق بيل أوفرتون (Overton) على ذلك قائلًا: «إنَّ المسرحية تناقش السلطة المطلَقة والانحراف بها مناقشة جادة» ما دام ليونتيس لا يرى إلا رأيه (ص٥٩) في كتابه حكاية الشتاء: مناظرة النقَّاد (١٩٨٩م)، كما يستشهد بدراسة نشرها بول سيجل (Siegel) عام ١٩٥٠م بعنوان «ليونتيس طاغية غيور»، ونشرها في مجلة الدراسات الإنجليزية، وهي دراسة قصيرة (ص٣٠٢–٣٠٥) يدافع فيها سيجل عن فرار كميلو من وجه ليونتيس في إطار النظرية السياسية في عصر النهضة، ويقول إنَّه فرار مشروع لأنَّه فرار من وجه الطغيان (ص٣٠٤). وقد تتبعت هذه الفكرة فوجدت دراسة أحدث، بقلم داريل بامر (Palmer) بعنوان «أبناء موسكو في العصر اليعقوبي: الشتاء والطغيان والمعرفة في حكاية الشتاء» (مجلة شيكسبير الفصلية ٤٦) رقم ٣ (ص ٢٢٣–٢٣٩) ونُشرَت عام ١٩٩٥م، وتقول إنَّ طغيان ليونتيس يؤكده ما يوحي به النص من إشارة غير مباشرة إلى قسوة إيفان الرابع «إيفان الرهيب» «إمبراطور روسيا»، الذي تقول هرميون إنَّها ابنته (٣ / ٢ / ١١٩–١٢٢) (ص٣٣٠-٣٣١). ولننظر الآن إلى نص المسرحية لنرى مدى تدعيمه لهذا الرأي بصوره المتعددة.

في الفصل الثاني يحذِّر رجالُ البلاط الملكَ من التهور والتسرع بإدانة هرميون ويوضح له أنتيجونوس أنَّ التسرع والإصرار على رأيه يحيله حاكمًا مستبدًّا قائلًا له: «مولاي تيقَّن ممَّا تفعل كيْلا يتحوَّل عدْلُكَ ظُلْمًا» (٢ / ١ / ١٢٧). ولكن ليونتيس يصر على عناده، مشيرًا إلى أنَّ مزاياه الملكية تتيح له أن يتصرف فيما «يملكه» (٢ / ١ / ١٦٩)؛ فنسمع ويسمع الجمهور في عصره ما يذكِّره بالملك جيمز الأول وهو يأمر البرلمان بعدم التدخل:

ولماذا نحتاج إلى أن نتباحث معك بهذا الأمر ولا
نتَّبع دوافعنا الجبَّارة؟ إن مزايانا الملكية لا تدعونا
لمشورتكم قط، لكنَّ الخير المتأصِّل فينا بطبيعتنا
يُمْلي ذلِك.
(٢ / ١ / ١٦٢–١٦٥)
وبولينا — زوجة أنتيجونوس — أول من يواجهه ويواجه رجال القصر مواجهة صريحة ذاكرةً سخط الملك «الطاغي» (٢ / ٣ / ٢٨)، ولكن الملك يدفع التهمة عن نفسه قائلًا إنَّه لو كان طاغية لأمر على الفور بإعدامها «لو كنتُ طاغية/فهل كانت تظلُّ في قيْد الحياة؟» (٢ / ٣ / ١٢١-١٢٢) والطريف أنَّه يرد بهذا على اتهامها المُقَنَّع له بالطغيان حين تستخدم حيلة بلاغية تُسمى paralipsis (أي الإثبات والتأكيد) بما يشبه الإنكار (ليست في وهبة) إذ تقول:
لن أصفك بالطاغية وإن كانت قسوتك البالغة على الملكة
— في عجْزك أنْ تأتي بدليلٍ أقوى ِما يبْنيه خيال
مُخْتَلٌّ — تُوحي بمذاق الطُّغيان! إنَّ الطُّغيان يَحُطُّ كثيرًا
مِن قدرك بل يفضحك أمام العالم أجمع!
(٢ / ٣ / ١١٦–١١٩)

وتتضح حساسية الملك الشديدة لهذا الوصف في مستهل مشهد المحاكمة (٢ / ٣)؛ إذ يقول في البداية:

إنَّا نبرئ نفسَنَا من تهمة الطُّغيان
فقد اتَّخذنا كلَّ إجراء قضائي أمام النَّاس علنًا
ولسوف تمضي هذه بالعدل وفق المتبع
كَيْمَا تؤدي للإدانة أو تؤدي للبراءة.
(٣ / ٢ / ٤–٧)

وسرعان ما تعود هرميون نفسها إلى ترديد هذا الوصف، حين تقول في دفاعها «وإن صبري الجميل سوف يجعل الطُّغيان يرتعد» (٣ / ٢ / ٣٢)، وتُذكِّر هيئة المحكمة بأنَّها لن تُحاكم وفقًا للقانون، بل سوف تُظلَم وتتعرَّض للعَسْف، قائلة:

لوْ كُنتُ هُنَا سَأُدَانُ علَى
أُسُسِ الظَّنِّ وَحَسْب، وما دَامَتْ كُلُّ أَدِلَّتِكُمْ نَائِمَةً
لمْ يَسْتَيقِظ مِنْهَا إلَّا غَيْرَتُكُمْ، فأقولُ لكُمْ هذَا عَسَفٌ
لا قَانُونْ!
(٣ / ٢ / ١١١–١١٤)

ولكن ليونتيس يؤمن إيمانًا مطلقًا بصحة حدسه الذي أقام عليه حكمه الجائر، وقد بلغ به هذا الإيمان حدَّ رفض ما جاء به كاهن أبوللو من معبده، فالرب أبوللو يقول إنَّ «ليونتيس طاغية غيور» (٣ / ٢ / ١٣٢). وشيكسبير هنا يبتعد عن أصل الحبكة في رواية باندوستو لروبرت جرين، حيث يذكر أبوللو أنَّ ليونتيس «خائن» وحسب، ولكن الملك عند شيكسبير يصرُّ على مواصلة جلسة المحكمة، صائحًا «واصِلُوا الجَلْسَة! فإنَّه لَزَيْفٌ مَحْض!» (٣ / ٢ / ١٣٨) على الرغم من حكم الأرباب. وبعد أن يُغشى على الملكة، حتى يظن الحاضرون، ويظن الجمهور معهم، أنَّها ماتت، تنطلق بولينا لتفصِّل القول في مظاهر طغيان الملك، في حديثها الطويل (٣ / ٢ / ١٧٠–٢٠٠)، الذي يبدأ بالسطر الشهير «أيَّةُ آلاتٍ دَبَّرْتَ هُنا يا طَاغِيَةُ لِتَعْذِيبي؟»

وفي رأي بعض الذين ذكرت دراساتهم للخلفية التاريخية لصورة طغيان ليونتيس، (مثل أوفرتون، ص٥٨-٥٩) أن شيكسبير يغالي في تصوير عناد الملك إلى الحد الذي يرسم فيه «صورة متطرفة» لما يمكن أن يصل إليه الطغيان إذا لم يخضع لضوابط وروابط، وهو ما يفسر لنا عدم إدراك الملك جيمز الأول للتشابه بين موقفه وبين موقف ليونتيس، وهو يشاهد المسرحية يوم ٥ نوفمبر ١٦١١م، وبعد ذلك عدة مرات. وتفسيري لذلك مستقى من النظرية الكلاسيكية للكوميديا التي ما زلت أومن بصحتها، والتي تقول إنَّ بعض أنماط الكوميديا تصور أشخاصًا ذوي نقائص كي تضحكنا على هذه النقائص ما دمنا نتصور أننا لا نعاني أيًّا منها، فما أندر أن يعترف بخيل بأنَّه بخيل، والمألوف أن يرى أنَّه حريص عاقل يتجنَّب رذيلة الإفراط والتبذير. فإذا صوَّر كاتب مسرحي للكوميديا بخله في صورة مبالغ فيها على المسرح ضحك منه البخيل (الحريص العاقل) الذي يشاهد المسرحية، لأنَّه بطبيعته ينكر أنَّه كذلك. وينطبق هذا على الملك جيمز الأول، الذي كان يؤمن بقداسة منصبه الملكي إلى الحد الذي جعله ينكر أنَّه بلغ هذا الحد من الطغيان. والحق أنَّ أي تطرفٍ في رسم صورة النقيصة أو حتى الفضيلة يدرجها في عداد ما أسميته كوميديا الكاريكاتير (انظر كتابي فن الكوميديا وكتابي قضايا الأدب الحديث، ١٩٨١م، ١٩٩٤م). ولا شكَّ عندي أنَّ مشهد محاولة الملك ليونتيس إخراج بولينا من غرفة العرش، وعجز اللوردات عن تنفيذ أوامره بطردِها، بل عجز زوجها عن ذلك، وتسليم زوجها أنتيجونوس بأنَّه لا يستطيع فرض شيء عليها، كل هذا يتضمن بذور كوميديا غريبة؛ فالملك يهدر ويزمجر مكررًا أمره بطرد بولينا، وزوجها لا حول له ولا طول، واسمع معي هذا الحوار حتى تدرك الذي أعنيه:

ليونتيس:
خَوَنَةْ! أَلَنْ يَقُومَ بَعْضُكُمْ بِدَفْعِهَا قَسْرًا إلى الخَارِجْ؟ رُدُّوا لَهَا
بِنْتَ السِّفَاحْ! وأنْتَ أنتيجونوس! يا أَيُّها الهَرِم المُخَرِّف! يا مَنْ
تُسَيْطرُ امْرأَةٌ عَلَيْه! دِيكٌ وأَقْصَتْهُ الدَّجَاجَةُ عَنْ مَكَانَتِهِ!
فَلْتَحْمِلِ الطِّفْلَةَ قُلْت … وأَعْطِهَا لهذِهِ العَجُوزْ.
بولينا: ألَا فَلْتُدَنَّسْ إلى أَبَدِ الآبِدِينَ يَدَاكَ.
ليونتيس: يَخَافُ زَوْجَتَه!

(يتراجع أنتيجونوس.)

بولينا: لوْ كُنْتَ تُجِلُّ امْرَأَتَكَ ما كُنْتَ شَكَكْتَ بأَبْنَائِكَ مِنْ صُلْبِكْ!
ليونتيس: وَكْرٌ مِنَ الخَونَة!
(٢ / ٣ / ٧٣–٨١)

وتقتطف جوان هول في كتابها المشار إليه عاليه (٢٠٠٥م) قولًا آخر للملك جيمز الأول، يُبيِّن صحة ما أرمي إليه أو يرجحه؛ إذ يورد ماكيلوين — في كتابه الذي يضم خطب الملك، وذكرت اسمه آنفًا — خطبة للملك أمام البرلمان يقول فيها (يوم ٢١ مارس ١٦٠٩م): «إنَّ الملك الذي يحكم مملكة مستقرة، يتخلى عن منزلته الملكية وينحط فيصبح طاغية بمجرد أن يتخلى عن الحكم بموجب قوانينه» (ص١٤ في هول). ومعنى ذلك أنَّ الملك جيمز الأول كان يجد في أداء الملك ليونتيس صورة مسرحية مغايرة لما كان يراه عن ذاته.

ولن أفيض في الإشارة إلى الجوانب التي تربط بين صورة ليونتيس المسرحية والصورة التاريخية للملك جيمز الأول، مثل إشارة باحث يُدعى سايمون شبرد (Shepherd) في كتاب له صدر عام ١٩٨١م، إلى تشابه «قسوة وتعسُّف» ليونتيس بهاتين الصفتين في الملك جيمز الأول عندما زجَّ بابنة عمِّه أرابيلا ستيوارت في السجن في عام ١٦١٠م، لأنَّها جسرت على عصيان أمره الملكي بالزواج من وليم سيمور (ص١١٩). وأشار باحث آخر في تحليله للمسرحية إلى أنَّ المسرحية تُعالِج، على أعمق مستوى، قضية «إسداء المشورة في دولة ملكية» خصوصًا في سياق غضب الملك جيمز الأول على مستشاره المقرَّب سولزبري (Salisbury) الذي كان وزيرًا نابهًا بارزًا في حكومته، وإقصائه تدريجيًّا عن منصبه، وسلْبه سلطاته، وهو ما بدأ في عام ١٦١٠م، ما دام ليونتيس قد عمل بنصيحة بولينا آخر الأمر فصلح حاله، والباحث يُدعى ستيوارت كورلاند (Kurland) وعنوان دراسته «ما عُدنا نطلب منك مشورة: الواقعية السياسية في حكاية الشتاء» وهي منشورة في دراسات الأدب الإنجليزي ٣١، عام ١٩٩١م، ص٣٦٥–٣٨٦. وهو يورد ذكرى سولزبري في ص٣٧٢، فالملك يقول إنَّ بولينا «صالحة» و«مخلصة» (٥ / ١ / ٥٠، ٨٢)، ويقول لها «يا ليتَ فِعالي لم تسترشد إلا بمشورة لُبِّك» (٥ / ١ / ٥١). ويضيف كورلاند إنَّ ليونتيس الذي صلح حاله يُعتبَر مثالًا يدعو الملك جيمز الأول إلى التعقُّل والإصغاء إلى المشورة الصادقة؛ فالملك ليونتيس يعمل بنصيحة بولينا حين تنهاه عن الزواج بعد ستة عشر عامًا من «الترمُّل» الموهوم، فإذا به أيضًا يميل — حتى دونما دافع قوي — إلى أن ينهض بدور الوسيط الذي يساند مشروع زواج فلوريزيل من برديتا آخر الأمر (ص ٣٨٥).
وهذا «التصالح» في الختام أو «المصالحة» التي تنتهي إليها المسرحية، وهو الذي يؤكده بيرجرون في كتابه المشار إليه آنفًا، ذو أهمية أكبر من أن نتجاهلها في الإيماء إلى اختلاف الملك جيمز الأول عن الملكة إليزابيث؛ فالملك جيمز الأول رب أسرة، وكان يقول إنَّه «زوج» الملكة الإنجليزية، ويُشَبِّه الملوك ﺑ «أرباب الأسرات»، كما جاء في أول خطبة يلقيها في مجلس اللوردات عام ١٦٠٤م، (وبيرجرون يقتطفها من كتاب ماكيلوين المشار إليه) قائلًا: إنَّه كان يُذكِّر اللوردات أنَّه مختلف من هذا الجانب عن الملكة إليزابيث التي لم تتزوج قط. وأجدني أقرب إلى قبول جانبٍ وحسب مما تقول به كاثرين بلسي (Belsey) في كتابها «شيكسبير وفقدان جنة عدن: بناء قيم الأسرة في بواكير إنجلترا الحديثة» (١٩٩٩م) من أنَّ حكاية الشتاء تقدم أو تصور ما تسميه «الأسرة النووية القائمة على الحب» (ص٢١) وتعني بها رسم صورة الأسرة الصغيرة المتماسكة التي تُعتبَر نواة للمجتمع الجديد، مجتمع الطبقة المتوسطة التي صوَّرها شيكسبير في «زوجتان مرحتان من وندسور». إذ تقول بلسي: إننا نرى في البداية أمًّا في آخر مراحل الحمل، وتوشك أن تضع طفلة، ونشاهد الصبي ماميليوس، الذي يحبه والده حبًّا جارفًا، ثم يموت هذا الطفل حزنًا عندما يصطدم باتهام والده لوالدته — دون دليل قاطع — بالخيانة، ولكن هذه الأسرة — كما تكشف أحداث المسرحية — ليست «نووية» في الواقع، كما تزعم الباحثة، بل أسرة حاكمة، ما دام مستقبل صقلية يتوقف على العثور على الطفلة المفقودة برديتا، فهي الوريثة الوحيدة الباقية لعرش المملكة.
ولا تقتصر قضية وراثة العرش على صقلية، فهي قضية مُلِحَّة في بوهيميا أيضًا، فالملك بوليكسنيس يُقسم أن يحرم ابنه فلوريزيل من وراثة العرش (٤ / ٤ / ٤٣٤) ويتبرَّأ منه (٤ / ٤ / ٤٣٥) إذا تجاسر على الزواج من راعية أدنى في مرتبتها الاجتماعية من مرتبته. ويقول ستيفن أورجيل (Orgel):

ولكن رد فعل بوليكسنيس كان سيبدو أقل إثارة للدهشة في عيني إنجلترا عام ١٦١١م؛ إذ إنَّ الزيجات الملكية كانت — في جوهرها — أداة دبلوماسية لا يكاد هوى الشباب — وما يريده القلب — يتدخل فيها. فالمفاوضات التي كانت تجري حول زواج ابني الملك جيمز الكبيرين كانت من قضايا السياسة القومية والعلاقات الدولية، بل إنَّها استقطبت الرأي العام وآراء رجال القصر لما يزيد عن عَقْد كامل. وأمثال هذه الترتيبات لم تكن لها علاقة بالحب، وعلى امتداد عصر النهضة كانت الزيجات السياسية تبدو أرجح وأنجع أساليب تسوية صراعات الدول الأوروبية.

وقد أدَّى مذهب المسالمة الذي كان الملك جيمز يتبعه إلى تفضيله أزواجًا من الكاثوليك لأطفاله، وكان هدفه ذا شِقيْن، الأول: عزل إنجلترا عن العداوات الدينية التي جعلت أوروبا تعيش في حالة حرب مستمرة، والثاني: الحيلولة دون دخول إنجلترا في الجيل التالي له في الصراع بالانضمام إلى أحد الطرفين.

وهكذا، فإنَّ الغضب الشديد الذي يجتاح بوليكسنيس، لأنَّ فلوريزيل تجاسَرَ على اختيار عروسه بنفسه، وأقدم على ذلك سرًّا، لا بد أن يُنظَر إليه في هذا السياق؛ إذ إنَّ يد فلوريزيل، بكل معنى من المعاني، كانت من أملاك عرش المملكة، ولم تكن له حرية التصرف فيها.

(ص٤٧-٤٨)
ويواصل أورجيل عرض القضية، مبينًا أنَّ انتصار فلوريزيل وبرديتا في النهاية لا يُعتبَر انتصارًا للحب، فلم يكن لينتصر لولا أن اتَّضح في النهاية أنَّ برديتا أميرة، وكان يمكن أن يقع اختيار والده عليها. ثم يقول الباحث: إنَّ ذلك لم يكن مقصورًا على الأسرة المالكة، بل يشمل أفراد الطبقات العليا كلهم، ويضرب على هذا مثلًا معاصرًا ثم يطبِّق المبدأ على ما يحدث في «حلم ليلة صيف» وفي «روميو وجوليت»، قائلًا: إنَّ «السلطة الهائلة التي كان يمارسها الأبوان في ترتيبات الزواج الخاصة بأبنائهم يصعب علينا تصوُّرها.» ولكن غضبة بوليكسنيس العارمة تتجاوز الاتهام باتخاذ سلوك لا يليق بأميرٍ، فهي خبيثة و«سادية»، وسخطه الشديد البادي في تهديداته لبرديتا والراعي العجوز تذكِّرنا بدنيا البلاط التي تشهد انفجار غضبة ليونتيس الخانقة (ص: ٤٨-٤٩). وقد عاد لطرح هذه القضية الباحث جيمز إليسون (Ellison) في دراسة له بعنوان «حكاية الشتاء والسياسات الدينية الأوروبية» في كتابٍ من تحرير أليسون ثورن (Thorne) بعنوان «رومانسات شيكسبير، دراسات حالة جديدة»، ص٧١–٢٠٤، و١٧٥، الصادر عام ٢٠٠٣م.
ولا تقتصر الخلفية التاريخية، بطبيعة الحال، على الجانب السياسي والقضايا التي أثرتُها آنفًا وحسب، بل تشمل الأوضاع الاجتماعية، خصوصًا في الجزء الثاني من المسرحية حيث تبرز صورة الريف في بوهيميا التي تربطها بصورته في إنجلترا آنذاك. فالأحداث «الرعوية» والحياة اليومية في الريف، وخصوصًا شخصية أتوليكوس «اللص والبائع الجوَّال والمحتال» التي سوف أعود إليها، تُعتبَر انعكاسًا مباشرًا لحياة الريف في إنجلترا آنذاك؛ إذ ازدهرت تجارة الصوف، وسارع الأغنياء إلى امتلاك مزارع تربية الأغنام لجزِّ صوفها، وذلك بشراء الأراضي الشاسعة التي كان صغار المستأجرين يستخدمونها فيما يسمى ﺑ «زراعة الكفاف» أي زراعة ما يكفي من المحاصيل لعيش الكفاف. وكان الأغنياء يطردون هؤلاء المستأجرين منها ويحيطونها بأسوار حتى يخصصوها للرعي، وهي السياسة التي كانت تُسمى «حركة الاستقطاع» أي استقطاع أراضي الزراعة واستثمارها في تربية الأغنام، وهي التي كانت من القضايا الاجتماعية المُلِحَّة في القرن السادس عشر، بل وفي الفترة اللاحقة. ولعلَّنا نذكر هجوم السير توماس مور (More) في كتابه يوتوبيا (١٥١٦م) على «طمع» المُلَّاك الذين قد يستقطعون آلافًا من الأفدنة، ويرغمون المستأجرين على تركها، قائلًا: كأنَّما أصبحت الأغنام هي التي تلتهم البشر! (من ترجمة بول تيرنر Turner من اللاتينية إلى الإنجليزية عام ١٩٦٥م، ص٤٦-٤٧، وترجمة د. إنجيل بطرس سمعان إلى العربية عام ١٩٧٤م).
وتبيِّن دراسات التغيُّر الزراعي في القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر أنَّ ملَّاك الأراضي لم يكونوا وحدهم المنتفعين بحركة الاستقطاع المذكورة. فالرعاة في «حكاية الشتاء» يمثِّلون نظائر المجموعة الصغيرة ممن يُسمَّون «المستأجرين الأحرار» أي غير المقيدين بقطعة أرض واحدة؛ إذ أصبح هؤلاء الرعاة أغنياء من خلال تراكم ملكياتهم العقارية (جون مارتن Martin: من الإقطاع إلى الرأسمالية: الفلَّاح ومالك الأرض في التطور الزراعي الإنجليزي، ١٩٨٣م، ص١٢٩، مقتطف من هول، ص٣٣). ويوضح بريستول في دراسته المشار إليها آنفًا أنَّ الرعاة أصبحوا بذلك من رجال الأعمال، وأنَّهم غَدَوْا يمثِّلون جزءًا من التيار الجديد في اتجاه «شرعة التراكم» و«الحراك الاجتماعي، الذي يُميز كل اقتصاد من اقتصادات السوق» (ص١٦٤). وتقول بربارا مووات (Mowat) — في دراسة لها بعنوان «أوغاد ورعاة والبؤساء الزائفون: نصوص وسياقات باطنة في حكاية الشتاء  ٤ / ٣» (استقصاء دراسات شيكسبير ٢٢، ١٩٩٤م) — إنَّ الراعي العجوز وأسرته يمثِّلون «الأغنياء الجشعين» الذين يحرمون الفلاحين الفقراء من أملاكهم ﺑ «شراء أراضيهم واستخدامها في الرعي» (ص٦٨). ولكن المسرحية لا توحي بهذا، فهذه الأسرة التي تقوم بتربية الأغنام، قد ابتسم لها «الحظ» فاستفادت مما بدا للراعي أنَّه «ذهب الجنيات» (٣ / ٣ / ١٢٢)، ولكن الأسرة، فيما يبدو لنا في المسرحية، لم تحرم جيرانها من أيَّة مزايا، بل إنَّ مشهد حفل جزِّ الصوف يقطع بأنَّ الأسرة دأبت على إبداء الكرم إلى الآخرين، فحوَّلت ثراءها إلى «فعل الخير» (٣ / ٣ / ١٣٥)، وهو الوعد الذي قطعه الراعي على نفسه عندما عثر على الطفلة أول الأمر. ومع ذلك فقد وجدت «مووات» من يؤيد رأيها في منتصف التسعينيات، مثل: موريس هنت (Hunt) الذي يبدي في دراسة له عنوانها «العمل في حكاية الشتاء» نشرها في كتاب من تحريره بعنوان «حكاية الشتاء: مقالات نقدية»، عام ١٩٩٥م، قدرًا من التشكك في الشرعية الأخلاقية للراعي العجوز، قائلًا إنَّه «يتنازل بسهولة عن اثنين من غنمه شردا منه عندما حلَّ محلَّهما الطمع والذهب» (ص٣٤٦). وإن كان النص لا يوحي بأنَّ الراعي «تنازل» عن غنمه، فهو واثق أنَّه سوف يجدهما «على الشاطئ يعتلفان باللبلاب» (٣ /  ٣ / ٦٦-٦٧) والراعي يؤجل البحث عنهما مؤقتًا وليس في قوله «فلتذهب غنمي كيف شاءت!» (٣ / ٣ / ١٢٣) تنازل عنها، ولكن إيلاء الأولوية لحساب الذهب وخطط المستقبل، وهو يريد أن يشارك ابنه في دفن رفات أنتيجونوس، مؤكدًا ما اعتزمه من فعل الخير. فأمَّا وصولهما «الراعي وابنه» إلى قصر الملك في صقلية فهما لم يقصدا إليه، ولو كانا قصدا لكان يمكن اعتبارهما من «المتسلقين» اجتماعيًّا، الطامحين إلى الانضمام إلى طبقة السادة أو الأرستقراطية، ولكنَّهما يصلان إلى القصر بالمصادفة، وهما من المؤمنين بالعمل الشاق والجهد الدءوب، ولم يجيئا إلى القصر إلا لتبرئة ساحتهما من تهمة التآمر للمساعدة على تزويج فتاة يُفترض أنَّها من العامة، أي برديتا، (التي كان يُفترَض أنَّها بنت الراعي العجوز) إلى أحد الأمراء. وعلى الرغم من أنَّ ابن الراعي يُمكن وصفه بأنَّه «وصولي» مثل عدد كبير من أفراد حاشية الملك جيمز الأول من أبناء اسكتلندا الذين أنعم عليهم بلقب «سير»، (وهي التي تُسمى رتبة الفروسية) فيجب ألا ننسى أنَّ شيكسبير يُسميه «المهرج» وأنَّ ما يقوله مدعاة للسخرية والاستهزاء، فهو يظن أنَّه ما دام قد لبس ملابس السادة، فقد أصبح «سيدًا بالمولد»، ويوازي بين الملابس نفسها والسادة، واسمع هذا الحوار العجيب مع المحتال أتوليكوس:
المهرج (إلى أتوليكوس):
… هل ترى هذه الملابس الآن؟ أَنْكِرْ أنَّك تراها وقلْ
في نفسك إلى الآن إنني لم أولد سيدًا! إذن فأَنْكِرْ أنَّ هذه الملابسَ من
السادة بالمولد!
أتوليكوس: أعرف الآن يا سيدي أنَّك سيد بالمولد.
المهرج: نعم، وأنا كذلك منذ عدة ساعات.
الراعي: وكذاك أنا يا ولدي.
المهرج: قطعًا يا أبي! لكنني ولدت سيدًا قبل أبي، لأنَّ ابن الملك صافحني بيده.
(٥ / ٢ / ١٢٨–١٣٦)
ولذلك لا أجدني ميَّالًا إلى قبول حُجَج الذين يزعمون أنَّ النعيم الذي أصبحت أسرة الراعي تتقلب فيه دليل على أنَّ المجتمع الأرستقراطي في عصر شيكسبير قد نجح في «ضم» أبناء الريف، أو أنَّ ذلك المجتمع كان «يأمل في تجديد شباب إنجلترا من خلال التئام شمل القصر والكوخ»، وفق ما يقول به س. ل. باربر (Barber) في دراسة له بعنوان «حكاية الشتاء والمجتمع اليعقوبي»، (وهي منشورة في كتاب من تحرير أرنولد كيتل (Kettle) بعنوان شيكسبير في عالم متغير، ١٩٦٤م، ص ٢٣٨، ٢٥١). فالراعي وابنه لا يُشاركان في المشهد الختامي، ولا «يصل» أحد من أبناء الريف إلى مستوى الاختلاط بأمثال كليومينيس وديون من لوردات المملكة، بل ولسنا واثقين أنَّ أتوليكوس، الشخصية التي ابتدعها شيكسبير وأضافها فيما أضاف إلى أصول حبكة المسرحية، قد حقَّق أمله في العودة إلى خدمة الأمير.
والحق أنَّ أشد ما يربط المسرحية بعصرها التاريخي، هو أتوليكوس المذكور، بل إنَّه ليربط ريف بوهيميا بالريف الإنجليزي برباطٍ أقوى من الراعي أو رجل البلاط، فهو منشد المواويل، والبائع المتجول، والمحتال واللص معًا. وعندما شاهد الكاتب سايمون فورمان (Forman) عرض المسرحية في مسرح الجلوب عام ١٦١١م، ترك أتوليكوس في نفسه أقوى انطباع، ولم يخرج برسالة عن مغبة الغيرة الحمقاء وأخطارها بل عن وجوب «الحذر من الاطمئنان إلى المتسولين المتصنعين أو المداهنين المتملقين». وأمَّا اسم أتوليكوس فيعني حرفيًّا «الذئب نفسه»، أو «الذئب وحده» أو — في ترجمة ماهر شفيق فريد — «الذئب المتوحد». وأمَّا في الأساطير، فكان أتوليكوس جَدًّا لأوديسيوس (Odysseus) من ناحية الأم، ويقول هوميروس إنَّه كان أمهر الناس في السرقة وحلف الأيْمان، ناسبًا إليه قدرة أوديسيوس على التحايل (الأوديسية، ١٩ / ٢٩٤–٢٩٦). والشاعر أوفيد (Ovid) يروي قصته في «مسخ الكائنات» (١١ / ٣٠٣–٣١١) قائلًا إنَّه كان يستطيع تحويل الأبيض إلى أسود، والأسود إلى أبيض، وكان وارثًا لفن أبيه ميركوري جديرًا به، وكان له أخ توءم يُدعَى فيلامون (Philammon) ورث أيضًا عن أبيه حب الموسيقى وأصبح ربًّا لها، وهكذا فإنَّ منشد المواويل أتوليكوس يتقمص شخصية أخيه التوءم. ويقول أورجل إنَّ الأسطورة تشير من طرفٍ خفي إلى «التوءمة» الموهومة بين ليونتيس وبوليكسنيس، وأيضًا إلى قضية حسم الأبوة، وهي قضية كبرى ومحيرة، كما يقول أورجيل (ص٥١) ويضيف أورجيل قائلًا:
وليس ميركوري رب السرقة والكذب فقط، ولكنَّه أيضًا، على ما في هذا من مفارقة، رب الفصاحة، كما أنَّه في تجسيده المصري ذي الدلالة الدينية أو الروحية، يملك زمام الحقائق العميقة للفلسفة الهرمسية (وهي التي تُسمى بهذا الاسم المشتق من اسم هِرْمِسْ (Hermes)، وهو اسم ذلك الرب باليونانية، الذي اقتُبِسَ من الرب المصري تحوت، رب الحكمة). كما أنَّه، إلى جانب ذلك مخترع القيثارة. حقًّا، لقد كان أبوللو رب الموسيقى، ولكن الآلة التي تمكِّنه من ممارسة فنِّه قد اخترعها ميركوري وأهداها إياه. وإذا كانت مواويل أتوليكوس القصصية تنتمي إلى ميركوري لا إلى أبوللو بسبب كذبها ولا معقوليتها، فإنَّها تثبت على الرغم من ذلك قدرتها على الإقناع، ودائمًا ما تجد من يشتريها. ونرى في قدرة أتوليكوس على توفير توكيدات مُوَثَّقة لأشد ما تقوله المواويل القصصية إغراقًا في الخيال، تعليقًا غير مباشر على قضايا الأدلة التي تملأ المسرحية. بل إنَّ هذه المواويل تُعتبَر مؤشرات على طبيعة الإيمان والقدرة على التحلي باليقين، فهي نماذج ريفية لجميع الأحداث التي يُقال إنَّها حكايات قديمة، لا تُصدَّق — مثل مقابلة أنتيجونوس مع الدب، وعودة برديتا إلى الظهور، ونجاة هرميون، وحكاية الشتاء نفسها — ومع ذلك فلا بد من الإيمان بصدقها … وهو يمهد لقول بولينا «لكن، عليك إيقاظ اليقين والإيمان في قلبك» (٥ / ٣ / ٩٥) بمعنى أنَّ هذا الختام من دون «اليقين» أو «الإيمان» يُعتبر وَهْمًا غير مُصدق (ص٥٢).

وينتهي أورجيل من ذلك إلى أنَّ وجود أتوليكوس جزء جوهري من ختام المسرحية مثل بولينا، ما دام هذا الكذاب واللص بيده مفتاح هوية برديتا، وما دام يوفر لليونتيس وبوليكسنيس الحقيقة الحاسمة — دون قصد منه — التي تحوِّل الراعية إلى أميرة؛ إذ إنَّ الرب ميركوري، الكذَّاب واللص، وهو كذلك رسول الأرباب الأوليمبية، الذي يحمل الأنباء الطيبة والحظ الحسن، رب المعلومات (ص٥٣).

ولكن هذا البُعد الأسطوري لأتوليكوس لا يَنْفِي ولا يُخْفِي دلالته المعاصرة التي تربطه بالتاريخ الحقيقي والواقعي لإنجلترا في تلك الأيام. وربما لم يكن الجمهور الإليزابيثي غير المثقف على وعي بهذا البعد الأسطوري أصلًا، وقد يدركه البعض ولا يدركه البعض الآخر. ولكن واقع النص يقول إنَّ دخول أتوليكوس إلى المسرح في مستهل المشهد الثالث من الفصل الرابع، يقدم إلى الجمهور صورتين مألوفتين كل الألفة في مطلع القرن السابع عشر، أولاهما صورة «الوغد» الجوَّال، على الرغم من قدرته على النجاة من عواقب السرقة والاحتيال، وكان الجمهور يرى فيه استنزافًا لما في أيدي الناس، عبئًا على الدولة. وثانيهما صورة البائع المتجوِّل النشيط، الذي يبيع الحُليَّ الرخيصة والتحف الزهيدة إلى جانب المواويل القصصية (أي البالادات) المطبوعة على صحائف عريضة، من دون أن يتخلى عن حلمه في العودة إلى الحياة الراقية في القصر الملكي، خادمًا للأمير فلوريزيل، من بعد أن طُرِد من القصر لثبات تهمة ما عليه. وهو يقدم نفسه في مستهل المشهد المذكور بأنشودة يمزج فيها بين تمجيد حياة الحرية التي يحياها «بالانتقال ما بين الحبيبات» (٤ / ٣ / ١٧) والتمتع بجمال الطبيعة في الريف (١–٥) وبين التصريح بأنَّه يعيش على «سرقة أشياء المغفلين» (٢٨). وهو يُشير إلى العقوبات التي يخشاها، كأنَّما يُذكِّر الجمهور بالقانون الذي كان قد صدر أول الأمر عام ١٥٧٢م، وتلته قوانين أخرى مخصصة للتصدي ﻟ «الأوغاد والمشردين والمتسولين من ذوي الصفاقة» (كما يذكر المؤرخون) وهي القوانين التي تميز بين هؤلاء الدجَّالين وبين المعوزين الحقيقيين الذين يجب على الأبرشيات أن تساعدهم.

ولكن هذا الوغد ليس مُخرِّبًا ولا يُخشَى منه على الدولة، على الرغم من فعاله التي تمنع الجمهور من التعاطف معه، ما دام ليس من ضحايا «حركة استقطاع الأراضي» المشار إليها عاليه، وليس ممن سلبهم الأغنياء أراضيهم، بل إنَّه في الواقع يستفيد — كما يقول وليم كارول (Carroll) — من التحوُّل الاقتصادي وظهور الأثرياء الجدد؛ إذ يستغل حفل جزِّ صوف الغنم (الذي يمثِّل احتفالًا بسلعة الصوف الرائجة) في الكسب المادي، ببيع التوافه التي يبيعها، وسرقة ما يستطيعه من الحاضرين (ملك سمين، ومتسول نحيل: صور الفقر في عصر شيكسبير، ١٩٩٦م، ص١٧٨) مقتطَف في هول (٢٠٠٥م). ويصفه بريستول في دراسته المشار إليها (١٩٩١م) بأنَّه «انتهازي اقتصادي متعدد الجوانب» (ص١٦٣) أي انتهازي واقتصادي معًا، إذ ينتهز الفرص المتاحة له في اقتصاد السوق البازغ، قائلًا إنَّه يبيع كل ما يستطيع أن يُرضي طموح فقراء الريف إلى ظهور بمظهر الأغنياء، فيبيع لهم ما اعتاد أبناء الطبقة الراقية ارتداءه من القفازات والأوشحة والأقنعة (٤ / ٤ / ٢٢٠–٢٣٢) إلى جانب بيع المواويل القصصية المطبوعة، وذلك في سبيل تحقيق حلمه بالعودة إلى العمل لدى تلك الطبقة، كما سبق أن ذكرت. وهو يماثل الراعي وابنه في أنَّ الحظ يبتسم له حين يسوق إليه كميلو الذي يهَبه ملابس الأمير فلوريزيل في مقابل أسماله البالية، ويزيده بمنحة من الذهب (٤ / ٤ / ٦٣٥–٦٤٠). وتمكِّنه الملابس الفاخرة من التنكُّر في صورة رجل من رجال القصر، والتحايل بذلك على الراعي وابنه، حتى يمنحاه المزيد من الذهب إذا قبل أن يدافع عنهما ويبرئ ساحتهما عند الملك. وهكذا يُحيل شيكسبير المشهد الرعائي إلى مشهد ساخر من سطحية حياة القصر، ما دامت الملابس هي التي تُحدد مكانة الشخص، وبذلك يكرر أتوليكوس «فكرة» المهرج، التي عبَّر عنها من قبل (انظر حواره المقتطف أعلاه: ٥ / ٢ / ١٢٨–١٣٦، حيث يقول إنَّ الملابس نفسها من السادة بالمولد).
وعندما يتحوَّل أتوليكوس من جديدٍ إلى طلب المعونة من الراعي وابنه (المهرج، الذي سرق أتوليكوس كيس نقوده) ويرجوهما أن يتشفعا له عند الملك، فإنَّه يعود إلى التعبير عن رغبته الدفينة في العودة إلى الخدمة في البلاط. وساء تحقَّق هذا أو لم يتحقق، فإنَّ احتمال عودته — مهما يكن ذلك الاحتمال ضعيفًا — يُعتبَر في نظر رونالدو و. كولي (Cooley) تجسيدًا في هذه الشخصية لضروب القلق المنوَّعة في العصر اليعقوبي، أي فترة حكم الملك جيمز الأول (١٦٠٣–١٦٢٥م) بشأن مصادر زعزعة الاستقرار الاجتماعي («الكلام في مقابل مشهد: أتوليكوس، والطبقة والاحتواء في حكاية الشتاء»، النهضة والإصلاح الديني، ٢١ رقم ٣، ١٩٧٧م، ص٥–٢١، وعبارته المشار إليها من صفحة ٥). ومن الطريف أنَّ كولي يسبق بهذا أصحاب مذهب التاريخية الجديدة الذين يروْن في كثير من نصوص العصر نسقًا قائمًا على «احتواء» أي مصدر «للزعزعة» بضمِّه إلى النظام الحاكم نفسه، وبذلك يمنع ذلك المصدر من «التضخم» كيلا يصبح مصدرًا «للتخريب»، وهي الحجة التي يقول بها أحد دعاة المذهب المذكور، وهو ريتشارد هيلمان (Hillman) في كتابه «ضروب من صور التخريب في شيكسبير: المحتال ونص التمثيل» (١٩٩٢م). إذ يقول إنَّ أتوليكوس يُجرى تكامله آخر الأمر مع الصورة الجديدة للحكم التي تتسع لأمثاله، وحبذا لو تخلى عن رذائله (ص٢٢٤). وهيلمان يبني نظريته على احتمال تخلي أتوليكوس عن رذائله في الواقع وإن لم يصرح بهذا، ولكنني أميل إلى رأي كولي الذي يُحلِّل تعبير أتوليكوس الذي يقول في (٥ / ٢ / ١٦٦) إنَّه سوف يثبت أنَّه «ذو يد طولى» بأنَّ المعنى الأولي هو إظهار الشجاعة، ولكن في باطن التعبير إيحاء بأنَّ أتوليكوس يعني أنَّه سيكون «طويل اليد» بالمعنى المعاصر في مصر، أي سيكون لصًّا، (أو قادرًا على الضرب والإيذاء). ويقول كولي إنَّ هذا اللص من المحال أن ينصلح حاله، فهو مغرم بالتنكُّر والتخفي، ويجد في ذلك لذة خاصة، وسوف يصعب عليه الاندماج في مجتمع محدد المراتب لا يسمح بقبول أمثاله. والواقع أنَّ غياب أتوليكوس عن المشهد الأخير في القصر الملكي، مثل غياب الفلاحين والرعاة، يمكن تفسيره تفسيرين متضادين. ولكن كولي يقول إنَّه قد لا يعني «تعديل موقعه الثانوي الجدير به» بل الأرجح أنه يعني «عودته إلى الهامشية الخطرة» (ص١٨). وعندما ابتعدتُ عن المسرحية فترة ثم عدتُ إليها وجدت أنَّ لأتوليكوس دورًا مهمًّا في البناء الدرامي، وهو ما سوف أعرض له في القسم التالي من المقدمة.

(٤) البناء

لاحَظ بعض النقَّاد منذ السبعينيات ما يُسمى «البناء الثنائي» في حكاية الشتاء، فبعضهم مثل ريتشارد براودفوت (Proudfoot) يناقش «الانقسام الحاد» للحدث في جزئي المسرحية المشار إليهما («التذكر اللفظي وبناء حكاية الشتاء من جزأين»، استقصاء دراسات شيكسبير ٢٩، ١٩٧٦م، ص٦٧–٧٨) والعبارة المقتطفة من (ص٦٧)، وبعضهم يراه «ثلاثيًّا» خصوصًا من الزاوية المكانية، ما دام الحديث يبدأ في صقلية، وينتقل إلى بوهيميا، ثم يعود إلى صقلية، مثل سنايدر (٢٠٠٧م، ص٢) وكذلك من ناحية الحبكة، ما دامت لدينا حبكة تتكوَّن من ثلاثة خيوط، أحدهما المثلث الذي يضم ليونتيس وهرميون وبوليكسنيس، وثانيهما العلاقة الغرامية ما بين فلوريزيل وبرديتا، وثالثها أتوليكوس (المرجع نفسه). ولكننا إذا نظرنا إلى النص المسرحي في الواقع من حيث النوع الذي ناقشته بإيجازٍ في القسم الثاني من هذه المقدمة، وجدنا أنَّ هذا التقسيم ظاهري وحسب، فالتقسيم في البداية (إلى مكانين وملكين) يتطور إلى عددٍ من الثنائيات المتكررة التي تتوحد في النهاية، وهو ما رصدته جوان هول (٢٠٠٥م، ص٣٩–٤٢) قائلة إنَّ المسرحية تبدو «مولِعة» بالثنائيات، فلدينا بَلَدان أوروبيان، يفصل بينهما البحر، وملكان، كانا «توءمًا من الحملان» (١ / ٢ / ٦٦)، ثم أصبح أحدهما يرى الآخر «عدوًّا» له (١ / ٢ / ٣١٦)، ولكلٍّ منهما طفل صغير في بداية المسرحية، ولدينا حتى نهاية الفصل الرابع ما يشبه «الحدثين» المنفصلين، الأول يسير في اتجاه المأساة، والثاني في اتجاه الملهاة، ويتسم بكل صفات المسرحية الرعوية من نوع الرومانس. ولكن هذا الانقسام الظاهري يُخفي ما تسميه الناقدة «تناظرات وانعكاسات» تربط ما بين المكانين المنفصلين والحدثين المشار إليهما آنفًا، في حين أنَّ مسار حياة الجيل الجديد يضمن الاستمرار بين هذين الحدثين؛ إذ نكتشف في الفصل الرابع أنَّ الأمير فلوريزيل، ابن الملك بوليكسنيس، ملك بوهيميا، قد وقع في غرام راعية، سُرعان ما يتضح أنَّها الأميرة برديتا المفقودة، ابنة الملك الآخر ليونتيس، ملك صقلية. وعندما يلتقي نصفا الحدث والمسرحية في الفصل الخامس، ندرك أنَّ «حكاية الشتاء» تراجيكوميديا، تتكوَّن من خيوط متعددة، ما افترقت إلا لكي تتلاقى آخر الأمر، بكل ظلالها الرعوية والتاريخية، حتى إننا لنذكر قول بولونيوس في هاملت إنَّ المسرحية تراجيكوميدي رعوية تاريخية، كما تذكِّرني بقول توفيق الحكيم، في وصف إحدى مسرحياته (مجلة المسرح، مايو ١٩٦٤م) إنَّها مثل برتقالة انقسمت نصفين.
وفي هذا الوصف الأخير «مفتاح» فهمنا لهذا البناء الفريد للمسرحية، فالمسرحية تبدأ أحداثها وتستمر في صقلية حتى المشهد الثاني من الفصل الثالث، ثم تنتقل بعد مشهد العاصفة في ٣ / ٣، وخطبة الزمن التي يعلن فيها انقضاء ستة عشر عامًا، إلى بوهيميا «الريفية» أو «الرعوية»، وتستمر حتى بداية الفصل الخامس، حيث نعود إلى صقلية، وبذلك يعكس شيكسبير الموقعين اللذين وجدهما في رواية باوندوستو لروبرت جرين (إذ تبدأ الرواية في بوهيميا، وتنتقل إلى صقلية حيث تنشأ الأميرة) وبذلك يَفْتَرض شيكسبير وجود ساحل لبوهيميا، وهو ما يعرف شيكسبير، ويعرف جمهوره، أنَّه محال جغرافيًّا. ويقول بعض النقَّاد إنَّ شيكسبير قصد من ذلك إلى تذكير جمهوره بأنَّ «حكايته» خيالية ولا يتحتم تطبيق قوانين العالَم الواقعي عليها. ويقول أحدهم إنَّ هذه كانت من الفكاهات الشائعة في عصر شيكسبير، وتناظر القول بوجود أسطول بحري لسويسرا (س. ل. بيثيل، حكاية الشتاء: دراسة، ١٩٤٧م) (Bethel). ولكنَّ عكس الموقعين، يُمكِّن شيكسبير في الواقع من أن يوحي بأنَّ بوهيميا تمثِّل أو ترمز إلى إنجلترا، بسبب كل ما ذكرته عن الصلات التاريخية بين الواقع الاجتماعي والطبيعي بين البلدين (في القسم السابق) كما يمكِّنه من ربط صقلية بعالم البحر المتوسط، أي بإيطاليا، مهد النهضة الأوروبية، وباليونان وأربابها. وهكذا، فعندما يعود الحدث إلى صقلية وتنشأ الروابط الوثيقة بين الريف والمدينة، يكون شيكسبير قد أوحى بما يقول بعض المحدثين إنَّه يرمي إليه، وهو إمَّا تحويل الريف إلى حضر، كما يقول جراهام هولدرنس (Holderness) في دراسة نشرها عام ١٩٩٠م، وإمَّا «إلغاء الحدود الواضحة بين المدينة والريف» كما كان يجري في لندن، في بداية القرن السابع عشر، وهي التي تصورها بوهيميا الريفية، كما يقول كريج هورتون (Horton) في دراسة له بعنوان «لا بد أن يتناقص الريف: لندن في العصر اليعقوبي وخلق مساحة رعوية في حكاية الشتاء» نشرها عام ٢٠٠٣م، ص٨٨.
ومن الناحية البنائية المحضة يقترب النصف الأول للمسرحية من المأساة، بسبب غيرة ليونتيس الشديدة غير المبرَّرة، فهو يُهدد بقتل زوجته هرميون بسبب ما يتوهمه من خيانتها له مع صديقه الملك بوليكسنيس، كما يتمنى لو كان قادرًا على قتل بوليكسنيس أيضًا. وحين يأتيه حكم الرب أبوللو بأنَّ الملكة بريئة، يرفض ليونتيس الحكم، ويواصل مكابرته. ووفاة ابنه الصغير ماميليوس حزنًا — كما قيل — على مصير والدته هرميون، تصيبه بصدمة تفيقه وتجعله يندم على عصيانه حكم أبوللو. وهذا ظاهريًّا — أي من حيث «قواعد» البناء الدرامي الأرسطي — يمثِّل الانقلاب التراجيدي (peripety) الذي يصاحب الاكتشاف (anagnorisis) ما دام يعني اكتشاف ليونتيس للخطأ (hamartia) الذي ارتكبه؛ إذ يصيح قائلًا إنَّ هذا يجعل العار يجلله إلى الأبد (٣ / ٢ / ٢٣٤). ولكن الفُجاءة التي تقع بها الكارثة لا تختم المسرحية الختام التراجيدي الكلاسيكي، كما يقول جرانفيل-باركر (Granville-Barker) المخرج الشيكسبيري العظيم، في مقدمته لإخراج المسرحية، مضيفًا أنَّ «فجائية الفاجعة تجعلنا، مع ما في هذا من مفارقة، نتوقع حلًّا أشد توفيقًا وأدعى إلى هناءٍ من لون ما» (مقدمة لحكاية الشتاء، ص٢٠، التي نُشرت أولًا عام ١٩١٢م، ثم أعاد نشرها مع غيرها المحرر إدوارد مور Moore عام ١٩٧٤م).

والواقع أنَّ بذور استمرار الحدث قد بُذِرَت في هذا النصف الأول، فالرسالة التي أرسلها كاهن دلفي الأكبر على لسان أبوللو تقول «قُضي على الملك أن يعيش دون وريث، إذا لم يعثر على من فقد» (٣ / ٢ / ١٣٢-١٣٣). كما أنَّ قيام أنتيجونوس بحمل الطفلة التي يشك أبوها في نسبها له إلى مكان ناءٍ موحش لا يقضي على الأمل في نجاتها و«العثور عليها» يومًا ما، أي إنَّ المسرحية قد وصلت على هذا النحو إلى مرحلة «التعقيد» الكلاسيكي، لا «الحل»، أو الختام المأساوي المعهود، إمَّا بقتل «البطل» أو وفاته بصورة أخرى، ووجود ما يبشِّر أو يقطع ببداية جديدة، قد نعرفها وقد لا نعرفها.

ولذلك أجدني أقرب إلى قبول رأي بربارا مووات (Mowat) في كتابها الصنعة المسرحية في رومانسات شيكسبير، ١٩٧٦م، الذي تناقش فيه بالتفصيل هذه المسرحية، وتُثبت أنَّ «قصة ليونتيس» ليست مأساة (ص٨–٢٠)، وإلى قبول آراء غيرها من كبار النقَّاد الذين رأوا في تصدي مستشاري الملك له، وإصرارهم على تخطئته وتبرئة زوجته، وخصوصًا بولينا، أقوى شخصية في المسرحية، كما يبشِّر بتحوُّل الحدث الذي كان ينذر بمأساة مفجعة إلى ملهاة من نوعٍ جديدٍ، أو على الأقل إلى تراجيكوميديا «حديثة» مثل كاثلين لاتيمر (Latimer) في دراسة لها بعنوان «العمل الجماعي في حكاية الشتاء» نُشِرت في كتابٍ صدر عام ١٩٨٤م، من تحرير لويز كوان (Cowan) ص١٢٥-١٤٢، وصلب حجتها المقتطفة في ص١٣٩.
ولكن هل يعني هذا أنَّ ليونتيس ليس «بطلًا تراجيديًّا»؟ الحق أنني — رغم قبولي آراء مَن ينكرون ذلك — ما زلت أرى القضية خلافية، نظرًا للتفاوت الشديد بين آراء من تناولوها. وأظن أنَّ أطرف رأي (وأحدث رأي، وإن لم يكن بالضرورة أصح رأي) يقول بأنَّه بطل تراجيدي، وهو رأي الناقد بيتشر، محرر طبعة آردن عام ٢٠١٠م (ص٣٥–٣٨). يقول بيتشر إنَّه شاهد عرض المسرحية عام ١٩٦٩م الذي أخرجه تريفور نَنْ (Nunn) ورسم فيه ليونتيس في صورة الطفل الذي لم يكبر، أي إنَّه رجل يعاني من «النكوص»، وهو مرض نفسي يعني عدم بلوغ النضج والارتداد إلى الطفولة، فالمخرج يركز على التماهي بينه وبين طفله ماميليوس، ويعلق بيتشر على ذلك قائلًا إنَّ ليونتيس «بالغ - طفل» — وفق مفهوم ذلك المخرج — ولا يزال في مرحلة «البراءة» أي المرحلة السابقة ﻟ «المعرفة الجنسية»، وإنَّه يشاهد زوجته مع صديقه باعتبارهما «البالغين اللذين عرفا الجنس». ثم يقول: فإذا كان هذا صحيحًا، فإننا نشهد «مرضًا نفسيًّا محتومًا في البالغ الذكر الذي لم يستطع بلوغ النضج»، وهنا نجد بذور المأساة. فحالة ليونتيس النفسية تتأرجح بشدة ما بين يأس البالغين وكآبة القنوط والفرحة الطفولية ببراعته، وإذا به يفيق فجأة من الوهم بصدمة وفاة ابنه ماميليوس (٣ / ٢ / ١٤١–١٤٤)، ويضيف أنَّ هذا كله يشير إلى نتيجة واحدة وهي

أنَّ ليونتيس يجسِّد مخاوفه وإحباطه، فيجعل منه بالغًا طفلًا زائفًا (وكان الإليزابيثيون يسمُّون أمثال هذه الصور أصنامًا)، وهو لا يتحرر من هذه الصورة إلا عند تقديم الغلام الحقيقي ماميليوس قربانًا لهذا الصنم، فإنَّ موت ماميليوس يقتل عنصر «الغلام»، ذلك العنصر الزائف في ذهنه.

هذه خرافة قاسية من خرافات الطفولة، حيث يضحي الوالد بولده. فإذا كان ليونتيس يفعل هذا لأنَّه مجنون أو ضعيف فليس بطلًا تراجيديًّا، وحكاية الشتاء هي الميلودراما التي يراها بعض النقَّاد. ولكن ليونتيس يعرف كيف يسهل عليه تلفيق ما يريد حتى في غمار هَوَسِه المَرَضِي بالمُركَّب الخيالي لذاته، الذي يجمع بين البالغ والطفل. وعلى غرار ذلك يتخيل أنَّ هرميون «خائنة» (١ / ٢ / ٢٧٢)، وأنَّها «عاهرة» (١ / ٢ / ٢٧٤) أسلمت قيادها لبوليكسنيس، حتى وهو يعلم أنَّه يحلم وحسب بهذه الصور البذيئة التي لا سند لها قط من الواقع (١ / ٢ / ١٣٩–١٤٢). وهكذا، فإنَّ وعيه بأنَّ مخيلته ربما خدعته، وإصراره على الرغم من ذلك على تصديق ما تُريه مخيلته، يعني أنَّ ليونتيس شرير، لا ضعيف العقل أو مجنون. وهو لا يتمتع بالصفة التي يمكن بها الدفاع عنه مثل عطيل، صفة المرض النفسي اللحظي، التي تُقلل مسئوليته عن أفعاله. ومن هذا المنظور يُعتبَر ليونتيس بطلًا تراجيديًّا، فهو يختار أن يعتقد أنَّه يستطيع تحويل أي شيء يريد أن يراه حقيقيًّا إلى واقع حقيقي، بغض النظر عمَّا يكلف الآخرين ذلك (ص٣٧-٣٨).

وردًا على هذا التفسير «النفسي» الذي أراه مفتعلًا، أقول إنَّ ليونتيس، حتى وهو يتصرف تصرفًا صبيانيًّا، أقرب إلى إثارة السخرية منه إلى إثارة التعاطف؛ فأوهامه التي ترسم له هذا السلوك «السخيف» (مووات ١٩٧٦م، ص١٢) تنزع عنه أي «جلال» قد نراه في ملك تعرَّض لمثل هذه الخيانة، وهو يحاول إرهاب مستشاريه الذين ينكرون عليه ما يفعله ويقوله، مُتهمًا إياهم جميعًا بالكذب، (٢ / ٣ / ١٤٥)، ويحاول إرغامهم على الخضوع له بقوله «هل أحسنتُ بذلك صُنْعًا؟» ( ٢ / ١ / ١٨٦)، ولكنَّه لا يستطيع إسكات بولينا الجسور (انظر الحوار الذي اقتطفته عاليه ٢ /  ٣ / ٧٣–٨١ و٢ / ٣ / ٤١–٥٢ أيضًا). وهو يتبختر على المسرح ويصرخ مُرْعِدًا، ويُرغِي ويُزبِد بصورة أبعد ما تكون عن صورة «البطل» التراجيدي، ولَكَم يذكِّرنا هنا بالصورة التي يرسمها مكبث للإنسان في مونولوجه الأخير في المسرحية (انظر الترجمة العربية، القاهرة، ٢٠٠٥م، ٥ / ٥ / ٢٥–٢٨). والتأرجح بين الحالات النفسية الذي يذكره بيتشر يؤكد عدم ثبات قِوام الشخصية، فهو تارة يُهدد بتهشيم رأس الطفلة الصغيرة (٢ / ٣ / ١٣٨-١٣٩) وتارة بإحراقها بالنار (٢ / ٣ / ١٣٢) ثم يأمر بإلقائها في مكان مهجور ناءٍ (٢ / ٣ / ١٧٤–١٧٦). كما أنَّ تشخيص غيرة ليونتيس باعتبارها «مرضًا» (١ /  ٢ / ٣٨٤) يؤكد ما تقوله بولينا في مشهد السجن «أقسمت إنَّه حصاد نوبات الجنون عند الملك! فإنَّها لا تؤتمن!/تبًا لها من مصدرٍ للخطر» (٢ / ٢ / ٣٠-٣١). كما أنَّ تعليق أنتيجونوس الساخر على اعتزام ليونتيس إعلان قرار محاكمته لزوجته على الناس بزعم أنَّه مثير للجميع بقوله، جانبًا، إنَّه مثير «وإلى حد الضحك كما أفهم … عند جلاء الحق الناصع» (٢ /  ١ / ١٩٦–١٩٨) أقول إنَّ هذا التعليق ينزع نبرة الجِد من الحدث وأي إيحاء بالاتجاه إلى المأساة.

وتقول جوان هول:

تتغير صور ليونتيس بسرعة، فمن ناحية يبدو قوة مدمرة، ومن ناحية أخرى يبدو مخدوعًا بما لا يقبله العقل (أي بما لا تؤيده القرائن والأدلة المادية)، ومن الممكن أن يكون ضحية مرض نفسي. وابتعاد المتفرج — على هذا النحو — من الشخصية يحرمه من أن يخبَرَ الشفقة والخوف (على ليونتيس وحالته) وهما ما وجد أرسطو أنَّهما ذواتا ضرورة جوهرية لتحقيق «التطهير» (كارثارسيس) أي «التفريج العاطفي» للتراجيديا.

وتتغيَّر توجيهات ليونتيس بصورة مفاجئة، بل يعترف بلسانه قائلًا «أصبحتُ ريشة تطير في مهبِّ كلِّ ريح» (٢ / ٣ / ١٥٣) وهو ما يتجلى أيضًا في الأسلوب الذي تتغير به التوقعات الدرامية في الجزء الأول من المسرحية. فالاتجاه العام للحبكة يسير نحو المأساة، ولكننا لا نستطيع أن نحدس ذلك من المشهد الافتتاحي. فليس لدينا هنا تقسيم للمملكة ينذر بصراعٍ مأسوي، كما هو الحال في الملك لير، بل على العكس، نشهد اثنين من المعلقين يبديان التفاؤل بمستقبل العلاقة الوطيدة بين الملكين، وهي التي نشأت وترعرعت منذ زمن طويل: «مهما يفعل ملك صقلية فلن تزيد حفاوته أو كرمه عن الواجب» (١ / ١ / ٢٠). كما أنَّهما يغدقان الثناء على ماميليوس، ولي عهد صقلية. وإيمان كميلو بأنَّ شجرة المحبة التي غُرست بينهما «لا بد أن تنمو أغصانها اليوم» (١ /  ١ / ٢٢-٢٣) لا يوحي بانفصال، بل بنمو شجرة ناضجة واكتساب فروع جديدة (ص٤٤).

وقد تنبَّه النقَّاد منذ السبعينيات، كما قلت، إلى ما يربط الأبنية الثنائية في المسرحية من التكرار الذي يتغير ويتلوَّن، بمعنى أنَّه يشبه الأبنية النغمية في الموسيقى الكلاسيكية التي تعتمد على ما يُسمَّى التكرار مع التنويع، وإن لم يقولوا هذا صراحة، بل ألمحوا إليه إلماحًا. ولنستخدم ما استخدمه بعضهم من المصطلح النقدي، فمثلما تقول هول بوجود «تناظرات وانعكاسات»، كانوا يقولون بوجود «توازيات ووجوه تضاد»، وأهم هؤلاء جيمز إدوارد سيمون (Siemon) الذي كتب دراسة عنوانها «لكنما الحياة ظاهرة: التكرار في حكاية الشتاء» (PMLA)، ١٩٧٤م، وأُعيد نشرها في كتاب حكاية الشتاء: تفسيرات نقدية حديثة، من تحرير هارولد بلوم، ١٩٨٧م، إلى جانب براودفوت المشار إليه في مستهل هذا القسم. فكلاهما يتناول ما يُسميه الأول شبكة معقدة من التوازيات ووجوه التضاد التي تشجع القارئ/المُشاهِد على أن يواصل تذكُّر الماضي وإعادة تحديد طبيعته وتقدير دوره فيما يتعلق بعلاقته بالحاضر والمستقبل. ففي كل من صقلية وبوهيميا ملك ينزع إلى الانفعال والثورة «البركانية»، وفي كل منهما والد قاسٍ، وجواسيس، ويتنقل ما بين البلدين كميلو «الواقعي» المخلص. وفي كل من البلدين نموذج أو مَثَل كامل للجمال الأنثوي والفضيلة — وهو «نموذج» يتعرض لمفتريات وأكاذيب — إلى جانب عاطفة الحب التي تمرُّ باختبارٍ مريرٍ، يفشل فيه ليونتيس وينجح فلوريزيل. و«خيالات ليونتيس السوقية» نجد نظيرًا لها في السلوك «الخارج» للفتاتين الريفيَّتين موبسا ودوركاس، وفي رقصة الراقصين الذين يرتدون جلود الماعز «الساتير». والدبُّ يمزق عظم كتف أنتيجونوس في نهاية الجزء الأول «المأسوي» (٣ / ٣ / ٩٢-٩٣) ويزعم وَغْدٌ أنَّ «كتفه انخلع» في الجزء الثاني «الملهوي» (٤ / ٣ / ٧٣) وتماسك الأيدي البريء في الفصل الأول، وهو الذي أُسيء فهمه فجاء بالفواجع يتحوَّل إلى مصافحة وعهد على الزواج والعيش الهنيء أولًا بين فلوريزيل وبرديتا، ثم آخر الأمر في الفصل الخامس عند عودة المياه إلى مجاريها وخطبة بولينا إلى كميلو. وقد أحصى باحث يُدعى فيسواناثان (Viswanathan) زهاء عشرين حالة من حالات تماسك الأيدي والمصافحة في المسرحية، مبينًا تفاوت دلالة كلٍّ منها في دراسة نشرها عام ١٩٨٧م، أضف إلى ذلك أنَّ برديتا تصل إلى بوهيميا بعد عاصفة بحرية (٣ / ٣ / ١–٦) ثم تعود إلى صقلية في عاصفة بحرية أخرى (٥ / ٢ / ١١٧–١١٩).
وكما قلت فإنَّ هذه التوازيات تتسم باختلافات ترجع إلى «نغمة» الجِد في النصف الأول و«نغمة» الهزل في النصف الثاني، فعندما يتفجر ما يُسميه سيمون «العنف» (أي قبل أن يكتسب المصطلح دلالته المعاصرة) في بوهيميا، فإنَّه يتخذ صورة محدودة، أو قل إنَّ خطره محدود، فالملك بوليكسنيس يُهدد الراعي بالشنق (٤ / ٤ / ٤٢٧) ويُهدد برديتا بأن يشوِّه وجهها (٤ /  ٤ / ٤٣٠) لكنَّه لا يلبث أن يعدل في اللحظة التالية عن ذلك «وأنت أيها الفلاح! نعفيك من عقوبة الإعدام هذه المرة» (٤ / ٤ / ٤٣٨) ويُردف هذا بأن يقول لبرديتا:
إذا فتحت باب كوخك الريفي بعد الآن للأمير،
وكذاك إن طوَّقت جسمه بهذه الأحضان يومًا ما،
دبَّرت أسلوبًا لموتك فيه أقصى قسوة،
كيما يجاري طبعك الحسَّاس للآلام.
(٤ / ٤ / ٤٤٢-٤٤٥)

وكم يختلف هذا «العنف» عن «العنف» الذي شهدناه في صقلية في الجزء الأول! إنَّه حقًّا يذكِّرنا به ولكن «النغمة» اختلفت، وقِس على ذلك اختلاف الشتائم التي تنهال على رأس هرميون في الجزء الأول عن «اللعنة» الموجزة التي يوجهها الراعي إلى «ابنته» المفترضة «يا بائسة ملعونة» (٤ / ٤ / ٤٦٣). وكم يختلف هذا كله عن شتائم الملك لير لبناته، وهو ما أفاض فيه نقاد كثيرون. ويقول براودفوت: إنَّ قبول برديتا أن تمثِّل دورها فيما يسميه الناقد «كوميديا التنكر التي ألفها كميلو»، أي قولها: «أُدرك أنَّ التمثيلية تتطلب أن ألعب فيها دورًا» (٤ / ٤ / ٦٥٩) تذكِّرنا بالصورة المسرحية التي ترسمها هرميون في الجزء الأول (٣ / ٢ / ٣٦-٣٧) ويقول إنَّ الاختلاف يساعد على «تحديد … التضاد بين دور كل منهما والدور أو الحدث الذي تشترك فيه» (ص٢٨٣).

وتضيف سنايدر (٢٠٠٧م، ص٢٣) إنَّ نصفي المسرحية يرتبطان بخيوط أو ثيمات تتردد أصداؤها في جنباتها مثل «فكرة» الزمن والذاكرة. ويركز بيتشر على «الزمن» باعتباره سبب «الانقلاب» في المسرحية (ص٧٦ وما بعدها) ويناقش دلالات الانقلاب في النصف الثاني خصوصًا، ولكننا نلحظ الوعي بالزمن حتى في الجزء الأول عندما ذكرتُ (عند مناقشة النوع المسرحي) كيف ينتقل حساب الزمن ويتحوَّل من الساعات والأيام والأسابيع والشهور إلى فصول السنة الدائرية التي تؤكد الديمومة ومولد الحياة مرة أخرى في كل عام وكل جيل. ويتوسع بريستول في دراسته المشار إليها (١٩٩١م) عن «الشكل الزمكاني» في دلالة خيط «الضيافة» أي استقبال الضيوف والاحتفاء بهم، باعتبار ذلك توكيدًا لما يسميه الزمن الاجتماعي، ضاربًا المثل باستضافة ملك بوهيميا وصحبه في صقلية في الفصل الأول، والترحيب بالضيوف في احتفال جَزِّ الصوف في ٤ / ٤، واستقبال ليونتيس لبرديتا وفلوريزيل في ٥ / ١، ثم ما يُروى عن احتفائه بالآخرين ومنهم بوليكسنيس في ٥ / ٢، وأخيرًا احتفاء بولينا بالمَلِكين وحاشيتهما في ٥ / ٢ / ١٠٠-١٠١، و٥ / ٣ / ٥–٨. وقد عاد إلى الموضوع نفسه بعض الباحثين في الدلالة المكانية التي يناقشها بريستول باعتبارها جزءًا من مركَّب الزمان والمكان «الزمكان»، قائلًا إنَّ الحركة في جوهرها حركة استضافة قائمة على المعاملة بالمثل من «رد الضيافة» أو «رد الزيارة» إلى ما يشبه تقديم الهدايا القائم على الإيثار المحض، أي الذي لا علاقة له بالتبادل المذكور، مستشهدًا ببعض الفلاسفة المحدثين، مثل مارسيل ماوس (Mauss) وجاك دريدا (Derrida)، إلى جانب خيوط أو ثيمات أخرى مثل «الانتظار»، سواء كان الانتظار عبثًا (مثل انتظار بلوغ ماميليوس مبلغ الرجال) أو جاء بنتيجة (مهما تكن) مثل انتظار موافقة بوليكسنيس على مد فترة إقامته، أو انتظار عودة المبعوثين من معبد أبوللو، وقراءة حكم العرافة، أو انتظار كشف «الزمن» عن الأخطاء وإعادة من فُقد، وانتظار تحرك التمثال. كما يتخذ هذا صورة انتظار أن تضع الحامل حملها، مثل هرميون أولًا، وفي الجزء الثاني دوركاس — وفق ما تقوله موبسا (٤ / ٤ / ٢٣٧–٢٣٩) — وزوجة المرابي «وضعت» عشرين كيسًا من النقود في الموَّال القصصي الذي يبيعه أتوليكوس في المشهد نفسه (٢٦١–٢٦٥)، وقد يتخذ الانتظار صورًا أخرى في المسرحية تمتد على طول الجزأين، مثل تذكر ليونتيس كيف انتظر «ثلاثة أشهر مريرة» (١ / ٢ / ١٠٢) قبل أن توافق هرميون على الزواج منه، ومثل انتظار الزهور في موسمها. ومن الخيوط الدرامية الممتدة في المسرحية أيضًا خيط «المظهر الخادع»، الذي يبدأ بتصور ليونتيس أنَّ مجاملة زوجته لضيفه «شبق بالغ» (١ / ٢ / ١٠٩) وإغماءة هرميون التي تبدو مهلكة (٣ / ٢) وتظاهر أتوليكوس بأنَّه ضحية قطاع طرق (٣ / ٤) والأميرة التي يُفترض أنَّها راعية وتظهر في عدة صور تنكرية. وأخيرًا، ذلك «التمثال» الموهوم الذي تعود إليه الحياة (٥ / ٣). وأخيرًا نجد ثيمة الفن في مقابلة الطبيعة، وهي الثيمة التي يرتكز عليها لينارد بَرْكان (Barkan) معتبرًا أنَّها تُمثِّل المدخل الصحيح لفهم «حكاية الشتاء»؛ إذ يناقش قضية محاكاة الفن للحياة أو للطبيعة محاكاة دقيقة، وكيف يعلن شيكسبير في هذه المسرحية على امتداد جزأيها رفضه لها، انظر دراسته بعنوان «تماثيل حية: أوفيد، وميكيلانجلو وحكاية الشتاء» مجلة التاريخ الأدبي الإنجليزي ٤٨، ١٩٨١م (٦٣٩–٦٦٧).
ويقول إرنست شانزر (Schanzer) في مقدمته لطبعة بنجوين لحكاية الشتاء (١٩٨٦م) إنَّ كلًّا من نصفي المسرحية يفتقر إلى «وحدة النغمة»، فالتفاوت بين الحالات النفسية ووجهات النظر يخفف من نبرة الجِد في النصف الأول، ويعمِّق من نبرات الجد «المؤقتة» في النصف الثاني الذي تسوده الكوميديا، وهكذا يستطيع شيكسبير أن يبني طابعًا تراجيكوميديا مستمرًّا في طول المسرحية، وأن يتجنَّب إعادة توجيه الحدث «قسرًا» نحو الكوميديا في النصف الثاني، كما أنَّ «الانعكاسات البنائية واللفظية» تربط ما بين النصفين، بحيث تصبح حكاية الشتاء «مكانيًّا» أشبه بنصفي الساعة الرملية التي يمسك بها الزمان في مطلع الفصل الرابع (ص٣٠–٣٥، والعبارة المقتطفة من ص٣٥). وهو يؤكد بذلك ما سبق إليه براودفوت في دراسته المشار إليها، وما أشار إليه من أنَّ «التفاصيل الدقيقة» و«أعرض آثار للتكرار والتضاد» توفر الاستمرار للمسرحية (ص٦٨)، ويؤكد ما جاء في مقدمة بافورد (Pafford) لطبعة آردن للمسرحية عام ١٩٦٣م، الذي يُنكر أن أي جزء من الأجزاء الرئيسية الثلاثة في المسرحية يعتبر «وحدة درامية صادقة» ولكنَّها متماسكة جميعًا فيما يبدو لنا «وحدة بنائية واضحة» (ص٤٠)، ويؤكد ما يقوله ناقد «كلاسيكي» مثل كليفورد ليتش (Leech) في دراسة عنوانها «أبنية المسرحيات الأخيرة» في مجلة استقصاء دراسات شيكسبير عام ١٩٥٨م (ص١٩–٣٠) وما يقوله تشارلز فراي (Frey) عن «البناء التراجيدي في حكاية الشتاء» في كتاب من تحرير كارول كاي (Kay) وهنري جاكوبس (Jacobs) عنوانه إعادة النظر في رومانسات شيكسبير (١٩٧٨م).
ولا أجد في ختام هذا القسم خيرًا من إشارة براودفوت — ذلك الناقد العظيم الذي افتتحت بقولٍ له هذا القسم — إلى أنَّ هذه الأصداء اللغوية ليست «ساخرة» كما هو الحال في الملك لير، وهي المأساة التي يستخدم الشاعر فيها مثل هذه الأصداء للربط بين ما يبدو من الأحداث الكثيرة ربطًا يصبُّ في مأساة الملك نفسه، بل إنَّها تعمل على «مستوى أعمق من الربط اللاواعي» (ص٦٩) لتوثيق خيوط الدراما الممتدة ما بين النصفين، وهي التي يلعب فيها الزمن الدور الأول، على نحو ما بيَّنتُ، وفي تمازج دقيق بين ما كان يُسمَّى التضاد بين الفن والطبيعة، فأمَّا كلمة فن نفسها (art) فكانت تعني، إلى جانب معناها المعاصر لنا، العلوم الطبيعية الناشئة في القرن السابع عشر، عصر العلم، ويبلغ هذا التضاد المشار إليه ذروته في الفصل الخامس، خصوصًا في مشهد التمثال، الذي يُعتبَر حجر الزاوية في البناء المسرحي عند شيكسبير، وليس له نظير — بطبيعة الحال — في رواية باندوستو لروبرت جرين، وإن كان مشهد الحوار حول الزهور، في الفصل الرابع، هو الذي يُعيد تقديم القضية الجوهرية في المسرحية — في رأيي — وهي قلق ليونتيس، ملك صقلية، من نسب ابنته برديتا إليه، ونحن نعرف أنَّ النغيل، أي ابن السفاح، كان يُسمَّى حتى القرن التاسع عشر «ابن الطبيعة»، وهي تسمية عجيبة، لأنَّها تعني «نفي» ما جاء به البشر من «أصول» للزواج والإنجاب، وتنسب الأمر إلى قوة خارجية، أي إنَّها تُنكر الإنسان وتُعلِّي من شأن الطبيعة، تعويضًا للنغيل عمَّا فقده بسبب عدم ارتباط والديه برباطٍ «ديني» أو رسمي. والقضية تتخذ أبعادًا مأسويَّة في الملك لير كما نعرف، يمهد لها «إدموند» (ابن الطبيعة) بمونولوجه الشهير، كما عادت القضية للظهور في القرن الثامن عشر، حين أنجب الشاعر وردزورث (Wordsworth) «ابنة للطبيعة»، (اسمها كارولين) من حبيبته الفرنسية أنيت فالون، وقد ناجاها الشاعر في بعض قصائده، كما أن أخته دوروثي لم تستطع أن تجعله يتزوج صديقتها ماري هتشنسون عام ١٨٠٢م إلا بعد أن استدعت أنيت فالون من فرنسا (فهي فرنسية) مع ابنتها «الطبيعية» كارولاين أو «كارولين» إلى إنجلترا لتصفية الأمر وتسويته مع أخيها.

(٥) الفن والطبيعة

هذه القضية التي تثيرها حكاية الشتاء في النصف الأول بأسلوب وصفته بالميل إلى التراجيديا وإن كان في حقيقته تراجيكوميديًّا، تتخذ صورة أخرى في مشهد الزهور (٤ / ٤ / ٧٠–١٣٥) وهو ما يناقشه بيتشر (٢٠١٠م) مناقشة مستفيضة، ملتقطًا الخيط من بَرْكَان (Barkan) الذي سبقت الإشارة إلى دراسته (١٩٨١م). وقد آثرت مناقشتها هنا تمهيدًا للانتقال إلى مناقشة النسيج، فهي حلقة أساسية تبيِّن كيف يعتمد شيكسبير على الصور الشعرية (التي ندرسها في باب النسيج) في البناء الدرامي أيضًا.
نعلم من دراستنا لعلاقة الفن بالطبيعة أنَّها بدأت قديمًا، في العصر الكلاسيكي، وتحديدًا عند أفلاطون وأرسطو، اللذين يناقشهما تايلر (Tayler) في كتابه الطبيعة والفن في آداب عصر النهضة (١٩٦٤م)، قائلًا إنَّ معظم المفكرين قد انتهوا إلى عدم انفصال الفن عن الطبيعة؛ إذ يقول أفلاطون في كتابه القوانين إنَّ المشرع الصالح «يجب أن يؤيد القانون وكذلك الفن، وأن يعترف بأنَّ كليهما قائم في الطبيعة، ولا يقل منزلة عنها»، ويذهب أرسطو إلى أبعد من ذلك قائلًا إننا حين نزعم أنَّ الفن يصل بالطبيعة إلى حد الكمال فإننا نقول — في الحقيقة — إنَّ الطبيعة تصل بنفسها إلى حد الكمال … «فالطبيب قد يطبِّب نفسه: والطبيعة مثل هذا» (ص١٣٥-١٣٦ من كتاب تايلر). وفي الفصل الخامس من حكاية الشتاء نرى بذور الفكرة التي تطورت في الجيل التالي لشيكسبير على أيدي من أطلق الدكتور جونسون عليهم «الشعراء الميتافيزيقيين» فأصبحت تقول بأنَّ الذهن منفصل عن الطبيعة، وإن كان جزءًا من الطبيعة، وبأنَّه قادر على أن يتجاوزها في إبداعاته، وهي الفكرة نفسها التي بلغت ذروتها في مطلع القرن التاسع عشر على أيدي الرومانسيين (خصوصًا كولريدج ووردزورث). وأمَّا في شيكسبير فنجد في الفصل الخامس من هذه المسرحية، في مشهد التمثال الذي أصبح يمثِّل جوهر كل عرض مسرحي لها، نموذجًا للعلاقة بين الفن والطبيعة كما كانت في مطلع القرن السابع عشر وحسب؛ إذ يقول القهرمان للسيد ما يعرفه (أو ما سمعه من بولينا) عن التمثال، فيذكر أنَّه:

اكتمل حديثًا واستغرق نحته سنوات طويلة، وأبدعه النحَّات الفائق جوليو رومانو، ولو أوتي هذا الرجل زمنًا غير محدود وتمكَّن من بثِّ الأنفاس في عمله، لخدع الطبيعة، فدسَّ عليها كائنات تنافسها، بسبب كمال محاكاته لها!

(٥ / ٢ / ٩٤–٩٧)
أي إنَّ الفن لم يصبح بعد قرينًا للطبيعة أو قادرًا على تجاوزها على نحو ما أصبح عليه الحال عند مارفل (Marvell) مثلًا (أحد «الشعراء الميتافيزيقيين») الذي يقول في قصيدته الشهيرة «الحديقة» إنَّ للجسد مشاعر «لذيذة» ولكنَّها أقل لذة من مسرات الذهن:
فالذهن يرى فورًا في البحر مثيله،
لكن الذهن بقوته،
يتجاوز آفاق البحر، ويخلق داخله
بعض عوالم نائية وبحارًا أخرى له.
(«الحديقة» ٤٣–٤٦)
لم تكن هذه الفكرة قد تطورت بعد كما قلت، ولكننا نلمح بذورها هنا حين يقول بوليكسنيس «لكن هذا الفن نفسه من الطبيعة» (٤ / ٤ / ٩٦) مؤكدًا بأنَّ «هذا الفن يُصلِح الطبيعة … لا بل يُغيِّرها» (٤ / ٤ / ٩٥). ويبدأ المشهد بأن تقدم برديتا بعض الزهور إلى كميلو وإلى الملك بوليكسنيس، قائلة:
يا أيُّها المبجَّلان: تفضَّلا زهور إكليل الجبل،
وزَهْر عُشب الفيْجَن! فهذه تظلَّ طيلة الشتاء
دون فقْدِ نُضرة الأوراق أو شذاها.
(٤ / ٤ / ٧٣–٧٥)
ولكنَّها لا تحمل ولا تقدم إليهما «أجمل أزهار الموسم/وهي القرنفل والزهور الخارجات منه ذات الأشرطة.
وهي التي يقول بعض الناس إنَّها نغيلات الطبيعة أي بنات
سِفَاح! ولست أزرع في حديقة ريفنا هذي الزهور!
ولا أحب أن آتي بشتلات صغيرة منها.
(٤ / ٤ / ٨١–٨٥)

ويسألها بوليكسنيس عن سبب امتناعها عن زراعة هذه الزهور، فتقول بأنَّ «الأشرطة» أي الخطوط الملوَّنة فوق تُوَيْجيَّات الزهرة البيضاء تثبت أنَّها ليست طبيعية على أكمل وجه، فالفن، وتعني به التهجين، قد أثمر «بنات سِفاح» للطبيعة. ويرد عليها بوليكسنيس الرد المعروف الذي سبق لي إيراده أعلاه عن تحسين الفن للطبيعة، ما دام ذهن الإنسان (الذي يقوم بالتهجين و«التحسين») جزءًا من الطبيعة، وما دام الفن إذن من الطبيعة.

ويشرح تايلر في كتابه المذكور (ص٣٧–٣٩) كيف أنَّ المناظرة عن الفن والطبيعة اكتسبت حياة جديدة في مطلع القرن السابع عشر، وتحديدًا في السنوات التي كُتِبت فيها هذه المسرحية، مقتبسًا أقوالًا للفيلسوف فرانسيس بيكون (Bacon) تؤكد مذهبه في الدفاع عن العلم التجريبي — الذي كان شيكسبير يُشير إليه بتعبير «الفن» — وكيف أنَّ هذا العلم قد تمكَّن من إتاحة زراعة عدة محاصيل (بدلًا من محصول واحد) في العام، وكيف ساعد الأطباء على شفاء بعض الأمراض. والواقع — كما يقول المؤلف — أنَّ مولد «العلم الطبيعي» يُمكن أن يُنسَب إلى هذه المناظرة التي استعاضت عن صورة الإنسان الذي كُتِب عليه أن يتدهور وأن يسوء حاله باطرادٍ، بصورة الإنسان الذي وهبه الله العقل القادر على محو آثار «الخطيئة الأولى» بالجهد والتجريب، حتى يتغلب على ما كان يبدو للعصور الوسطى مصيرًا مظلمًا، فالفيلسوف المذكور داعية «تقدم المعرفة» كما هو مشهور.
ويعلَّق بيتشر على مشهد الزهور قائلًا إنَّ بوليكسنيس يعتبر استرابة برديتا بالزهور المهجنة من القرنفل سذاجة فتاة غير متعلمة، ولكنَّه مخطئ في ذلك، فوجهة نظرها تقول إنَّ مثل هذا «التهجين» يمثِّل الضرر الذي يمكن للفن أن يصيب به الطبيعة عندما يرغمها على أن تتخذ الشكل الذي يرغب فيه الذهن. ففي هذا المشهد يبدو لنا بوليكسنيس في تعاليه وتكراره للعبارات المألوفة في عصره أقرب إلى السذاجة والابتعاد عن النضج. ويضيف بيتشر قائلًا: ولكن برديتا تمتنع عن زراعة هذه الزهور المهجنة لسببٍ آخر، ألا وهو خوفها من أن تكون هي نفسها إحدى «نغيلات الطبيعة». فكلما نظرت إلى «أخيها» الغبي، وإلى «أبيها» الأُميِّ الخشن الطبع، لم تملك إلا أن تتساءل في نفسها: «ترى من يكون والداي الحقيقيان؟» كانت «أمها» (المفترضة) ذات غلظة وتتفجر نشاطًا، ولكنَّها — أي برديتا — ذات طبع رقيق حسَّاس وتميل إلى الانطواء. كان كل من في بوهيميا قد سمعوا أنَّ هذه الراعية تتمتع بجمال وذكاء لا تفسير لهما. وكانت تقول لنفسها «تراني إحدى غرائب الطبيعة (مثل الزهور المهجنة وأشرطتها التلقائية) أم أنني لقيطة أخرى من لقطاء القرية، بنت سِفاح لوالدين رفضا الاحتفاظ بي؟» كان ذلك رأي الراعي العجوز، وكان من حق برديتا أن تظن ذلك أيضًا. ثم يقول بيتشر:

كثيرًا ما يتجاهل الأكاديميون ومخرجو المسرح هذا الجانب من حوارها مع بوليكسنيس. وهذا يُقلِّل من الشحنة العاطفية للمشهد كله، ويُحدث خللًا في تكامل العناصر الاجتماعية والفلسفية في بوهيميا؛ إذ كان تصوُّر ليونتيس أنَّ برديتا نغيلة قد أصابه بالجنون، وفي الإطار الأخلاقي للمسرحية — الذي يختلف اختلافًا شاسعًا عن نظرتنا الحديثة — كان لا بد من تبرئة برديتا من وصمة النغيلة، وتحريرها من اعتقادها أنَّها ثمرة للخطيئة. (ص٥٧).

(٦) النسيج

المعروف أنَّ دراسة النسيج لا تنفصل عن دراسة البناء، مثلما لا ينفصل أي جانب من جوانب العمل الفني عن صورته الكلية، ولكن بعض الجوانب تستدعي الوقوف عندها لا بغرض «فصلها» عن غيرها بل لتحليلها في ذاتها وفي علاقتها بالجوانب الأخرى في الوقت نفسه. فمشهد الزهور الذي ناقشته في القسم السابق، وقلت إنَّه يمثل حلقة الوصل بين البناء والنسيج يجمع في نسجه بين الخيوط الفكرية التي يعتمد عليها البناء الدرامي، مثل معنى «الطبيعة»، «الطبيعة الخلاقة العظمى»  ٤ /٤ / ٨٨، في رأي برديتا، وهو الذي يرتبط بمعنى «الطبيعة العظمى» المحرِّرة، أي التي تُحرر الإنسان أصلًا من سجن رحم الأم (٢ / ٢ / ٦٠) في رأي بولينا، وبمشاعر الأبوة «الفطرية» التي تجتاح ليونتيس — كما يقول في (١ / ٢ / ١٥١) — وأيضًا بمعنى الطبيعة المجسد لا المجرد، ما بين «الحملان» الأليفة الوديعة التي ترد أولًا في صورة بوليكسنيس (١ / ٢ / ٦٦) وصورة راعي الغنم وفقدان اثنين من أفضل أغنامه (٣ / ٣ / ٦٤) وكذلك الأبقار والخنازير والماعز (٤ / ٤ / ٣٣٠-٣٣١) و«الوحوش الضاربة» (٣ / ٣ / ١١) وكيف يُمكن أن يخرج الوحش عن «فطرته» كالحدأة والغراب والدب والذئب (٢ / ٣ / ١٨٥) وإن كان الدب في ٣ / ٣ لا يخرج عن طبيعته، بل يلتهم أنتيجونوس مثلما «يبتلع» البحر الملَّاحين بعد أن ابتلع الشاطئ (٣ / ٣ / ٨٧، ٩٥). أي إنَّ هذه الصور الشعرية التي ندرسها في النسيج، وتتكرر في طول المسرحية وعرضها، تماثل أو تصاحب المشاعر البشرية التي تبني الهيكل الدرامي، وتماثل ما تُسميه كارولاين سبيرجون (Spurgeon) «الحركات الإيقاعية الأساسية» للعالم الطبيعي (صور شيكسبير الشعرية ودلالاتها، ١٩٣٥م، ص٣٠٥) الذي يتعرض لخرق قانون من قوانينه ألا وهو ظلم إنسان لإنسان.
وتساعد هذه الصور، مثلما تساعد لبنات البناء التي ذكرتها في القسم الرابع، في ربط نصفي المسرحية برباطٍ داخلي قد لا يتسم به ظاهر الحدث، ولكن الشعر له قدرة على الإيحاء به ولو على مستوى باطني، كما يقول كليمن (Clemen) في تحليله لصور هذه المسرحية في كتابه (تطور صور شيكسبير الشعرية، ١٩٦٦م، ١٩٦–١٩٨). ويركز كليمن في هذا التحليل على ما يسميه «عناقيد الصور»، ضاربًا المثل ﺑ «عنقود» صور المرض، وأول صورة له تجيء في حديث ليونتيس عمَّا يتصور أنَّه المرض الذي أصابه، أي جعله ديوثًا؛ إذ يقول: «وقد أصيبَتْ الآلاف منَّا بالمرض/من دون أن ندري!» (١ / ٢ / ٥ / ٢٠٥-٢٠٦) ويعود إلى تشخيص «المرض» بشكل آخر:
ليونتيس:
لو كانت كبد قرينتنا يكمن فيها المرض كمسلكها
لتُوُفِّيت المرأة قبل مرور الساعة!
كميلو: وما ذاك المرض؟
ليونتيس: أمير بوهيميا الذي يلفُّها كأنَّها قلادة من حول عنقه!
(١ / ٢ / ٣٠٤–٣٠٧)
وتعود هرميون إلى هذه الصورة حين ترى أن حرمانها من رؤية ابنها ماميليوس يجعلها تشعر أنَّها تُعامَل معاملة «مريض» يُخشى أن «ينقل عدوى مرضه» (٣ / ٢ / ٩٦) ويلخص كميلو الحال التي وصل إليها ليونتيس، وأصداء ذلك في حياة القصر، ومن حول الملك قائلًا:
قد حلَّ بنا مرض ولَّد في بعض منَّا كربًا بالغ،
لكني لا أقدر أن أذكر ذلك المرض،
ومصدره أنت وإن كنت بخيرٍ وبعافية.
(١ / ٢ / ٣٨٤–٣٨٦)
وتتصل بصورة المرض، بطبيعة الحال، صورة السم، وهي صورة يبدؤها ليونتيس بالإيحاء إلى كميلو بدسِّ شيء في شراب بوليكسنيس «ما دام كميلو ينهض بدور الساقي»، قائلًا:
هل تستطيع أن تضيف للكأس التي تحين شُرْبُها،
بعض التوابل التي من شأنها إغلاق جفني ذلك العدو لي
للأبد! مذاق تلك الكأس يشفيني ويرضيني!
(١ / ٢ / ٣١٥–٣١٧)
فيرد كميلو قائلًا إنَّه يستطيع دسَّ «شيء» بطيء المفعول «من شأنه تحقيق ما يُرجى بلا عنفٍ/ولا الإيحاء للدنيا بسوء القصد مثل السُّم!» (١ / ٢ / ٣١٨-٣١٩). ولكن ذهن ليونتيس لا «يعرف» إلا السم، ويظن أنَّ الوعي بذلك «السم» المتصور هو السم الحقيقي:
قد يشرب الإنسان من كأس وفيها عنكبوت سامَّة،
لكنَّه يبيت سالِمًا من دون أن ينال السُّم منه،
إن كان لم يعرف بأنَّ العنكبوت فيها.
أمَّا إذا أراه ذلك الشيء الكريه رأي العين شخصٌ ما،
مبيِّنًا له حقيقة الذي تجرعه،
فإنَّه سرعان ما ينشقُّ حلْقُهُ بغصَّة، وتعتريه في الجنبيْن
أهوال التَّهوُّع! ولقد شربتُ أنا كما رأيتُ العنكبوت بعدها!
(٢ / ١ / ٣٩–٤٥)
وقد ناقش بيتشر قضية المعرفة باستفاضة (٢٠١٠م) مثلما ناقشها ستانلي كافيل في كتابه المشار إليه عاليه (١٩٨٧م) وهي لا تهمُّنا في سياق مناقشة النسيج إلا في حدود دلالتها على الوعي — أي وعي الشخصيات بالدور الذي «كُتِب» لها أو كُتب عليها أن تضطلع به، أو كما يقول الشخوص أن «تلعبه» — فالوعي باللعب أو عدم الوعي به حاسم في التمييز في النسيج الدرامي بين «الحركة» التي تجسدها اللغة والحركة الميتامسرحية، أي إدراك كل شخص أنَّه «يلعب»، وهي كلمة يتغير معناها من موقع إلى موقع في النص، كما تقول مولي م. ماهود (Mahood) في كتابها «التلاعب اللفظي في شيكسبير» (١٩٦٩م) (ص١٤٩) وهذا واضح على أية حال من الصياغة المضغوطة للسطرين:
أدلة عميقة وصلبة وغامرة … على القرنين في رأسي!
اذهب غلامي والعب! فإنَّ أمَّك تلعب! وأنا كذلك ألعب!
(١ / ٢ / ١٨٦-١٨٧)
فالفعل «يلعب» الأول يُرجِع صدى الصورة السابقة:
كنَّا كمثل توءم من الحُملان لاهييْن قد تواثبا في الشمس!
(١ / ٢ / ٦٦)
ولكن ليونتيس يرى أن هرميون «تلعب» لعبة الخداع له، وأنَّه هو نفسه «يلعب» دورًا شائنًا سوف يجلب له العار، ويفضي آخر الأمر إلى «صفير» الجمهور ساخرًا منه (١٨٨-١٨٩). وهذا المعنى الأخير ينتمي إلى الصور «الميتامسرحية» أي التي تؤكد في السياق المسرحي وعي الممثلين أنَّهم «يمثِّلون» أدوارًا في مسرحية، وهي الصورة التي تستمر في مشهد المحاكمة عندما تقول هرميون:
ولا يُجارِي ذاك غير حظِّي الآن من هذي التعاسة،
التي تزيد عمَّا تستطيع قصةٌ تصويرَه، أو يستطيع ذهنٌ
ابتكاره لسلب ألباب المُشاهِدين في المسرح!
(٣ / ٢ / ٣٤–٣٦)
وهي أيضًا الصورة التي يعود إليها ليونتيس في الفصل الخامس، بعد انقضاء ستة عشر عامًا، كأنَّما ليؤكد الطبيعة الميتامسرحية للعمل:
لو زُوِّجتُ بأسوأ منها كي تلقى مني أفعالًا أكرم،
لاتَّخذَتْ روحُ الراحلة — وقد بُورِكت الآن — صورةَ مَن
ماتت وأتتنا، نحن الخاطئ، في موقفنا هذا فوق المسرح.
(٥ / ١ / ٥٧–٥٩)
بل إنَّ الملك ليونتيس ليبدأ بتدمير الوهم المسرحي حين يدعو الأزواج في المسرح، الحاضرين أمامه في القاعة، إلى التساؤل عن مدى إخلاص زوجاتهم لهم:
قد كان قبل الآن دَيُّوثون غيري — إن لم أكن ضللتُ كلَّ ضلالْ —
بل بيننا الكثيرُ منهمو، في اللحظة التي أقول فيها هذا،
وكلهم أحاط بالذراع زوجتَه … وليس فيهم من يرى
بأنَّ شخصًا قد أتى يصيد في غيابِه بماء بركته،
وأنَّ جاره اللصيق يأخذ الأسماك من مائه؛
فجاره اسمه «بسَّام»!
(١ / ٢ / ١٩١–١٩٦)

وتقول جوان هول (٢٠٠٥م) إنَّ تأثير «التغريب» فيما يقوله الملك هنا، وتقصد به ما كان يعنيه بريخت بطمس «الوهم المسرحي»، «مزعج»، لا لأنَّ ليونتيس يخاطب الجمهور الحاضر في المسرح في المقام الأول، بل لأنَّه يشجع أفراد هذا الجمهور على مشاركته في شكوكه التي لا أساس لها من الصحة (ص٧٩). ومهما يكن الأمر، فإنَّ استمرار «النغمة» الميتامسرحية يربط نصفي المسرحية؛ إذ تعود برديتا إلى هذه النغمة نفسها في الفصل الرابع، حين تقول «أُدرك أنَّ التمثيلية تتطلب أن ألعب فيها دورًا» (٤ / ٤ / ٦٥٩). وأحداث ذلك المشهد كله تؤكد هذه النغمة، عندما يظهر أتوليكوس، اللص المحتال الذي «يلعب» عدة أدوار ويتنكر أو ينزع تنكُّرَه أمامنا على المسرح، فهو بائع «كراكيب» ومنشد مواويل، ويتظاهر بأنَّه من رجال البلاط ويتحدث لغتهم (حتى نَظْمًا) ثم يعود فقيرًا بائسًا كما كان، وهل يوجد «تمثيل» أقوى من «تمثيل» هرميون لدور التمثال، وبث الحياة فيه في الفصل الخامس؟

وقد سبق لي أن أشرتُ إلى شيوع صورة الحسابات الدقيقة في صقلية، البلد ذي الحضارة التي أتت بها «النهضة» الأوروبية، وطبقتُها على الإحساس بالزمن تمييزًا للإحساس بالزمن في بوهيميا. ولكن «الحسابات» لا تفارق المسرحية على طولها، ﻓ «الزمن» يبدأ الفصل الرابع بذكر عدد السنوات التي انقضت وهو ست عشرة سنة (٤ / ١ / ٥) ويتلوه كميلو بذكر «خمسة عشر عامًا» (٤ /  ٢ / ٤) ويقول إنَّه لم يشاهد فلوريزيل منذ «ثلاثة أيام» (٤ / ٢ / ٢٩) ثم يدخل المهرج في بواكير المشهد الثالث من الفصل الرابع مستهلًّا دخوله بمسألة حسابية:

فلأنظر: جَزُّ فراء أحد عشر خروفًا يأتي بقنطار من الصوف، وكل قنطار يُباع بجنيه واحد وشلن واحد. فإذا جززت صوف ألف وخمسمائة، ما ثمن الصوف كله؟

(٤ / ٣ / ٣٣–٣٥)

ويواصل المهرج عرض مشكلته، فهو لا يستطيع «الحساب دون عداد» ولكنَّه يُفصِّل القول في أعداد كل ما عليه شراؤه (٤ / ٣ / ٣٧–٤٩) ثم يعود أتوليكوس إلى استخدام الأرقام في نفجه الفج بالإشارة إلى ما تحكيه المواويل القصصية من عجائب «كيف ولدت زوجة أحد المرابين عشرين كيسًا من النقود في بطن واحد» (٤ / ٤ / ٢٦٢-٢٦٣) زاعمًا أنَّ صدق القصة تؤكده «خمس زوجات محترمات أو ست» (٢٧٠) ويستشهد على صدق موَّال آخر «بخمسة قضاة» (٢٨٣) ولن أواصل رصد ذكر الأرقام الخاصة بالديون والأموال، فالنصف الثاني حافل بها مثل النصف الأول، واستمرارها يسهم في الحفاظ على النغمة، رغم التحول مما كان يتجه إلى المأساة إلى ما أصبح ملهاة صريحة.

ومن أهم مظاهر هذه المسرحية من مسرحيات شيكسبير الأخيرة تحرُّر النَّظم من المحسِّنات البيانية والبديعية المتكلفة التي نجدها في مسرحياته الأولى، وغياب القافية التي كنَّا نجدها في نهاية كل مشهد، واقتصار القافية على الأغاني والأناشيد، وكذلك على حديث «الزمن» الذي يقوم بدور الجوقة، فهو يحكي عن مرور ستة عشر عامًا في ستة عشر مزدوجًا مقفَّى، كل مزدوج يمثِّل عامًا، في رأي جمهور النقَّاد. كما يتميز النثر فيها (في المشاهد المكتوبة بالنثر الخالص، وهي ١ / ١ و٤ / ٢ و٥ / ٢) بالتفاوت بين نثر الخاصة ونثر العامة، ولا أظنني أميل إلى قبول رأي كارول نيلي (Neely) في دراستها بعنوان «حكاية الشتاء: انتصار الكلام» والمنشورة في مجلة دراسات في الأدب الإنجليزي ١٥، رقم ٢، ربيع ١٩٧٨م، ص٣٢١–٣٣٨، من أنَّ شيكسبير يستخدم في نثره هنا الأسلوب «اليوفوي» أي الأسلوب المُثقَل بالمحسِّنات اللفظية المشار إليها، وهو الأسلوب الذي وصفته بالتفصيل في الصفحات ٤١–٤٣ من مقدمتي لترجمة مسرحية «ضجة فارغة»، القاهرة، ٢٠٠٩م، فالأمثلة التي تأتي بها على الطباق مثلًا أو على توازي العبارات، أمثلة شائعة في كتابة شيكسبير نظْمًا ونثرًا، بل وفي كتابات غيره، وإن كنَّا نجد خصائص أخرى للنثر لا يتسم بها الأسلوب اليوفوي تحديدًا، وسوف أعرض بعضًا منها.
ولأبدأ الحديث عن خصائص نَظْم شيكسبير، الذي عالجته في الترجمة بما يوازيه في العربية نسجًا وبناءً، فهو نظم يتميز بالمرونة، كما يقول رَسْ ماكدونالد (McDonald) في دراسة جميلة له بعنوان «الشعر والحبكة في حكاية الشتاء» (مجلة شيكسبير الفصلية ٣٦، ١٩٨٥م، ص٣١٥–٣٢٩)؛ إذ لا تنتهي الجملة في أحيان كثيرة بنهاية السطر، وكثيرًا ما ينتهي السطر بمقطع غير منبور، وهو من عيوب النظم الإنجليزي الكلاسيكي، وأمَّا اللغة الشعرية نفسها فأبعد ما تكون، كما يقول ماكدونالد، عن الإهمال أو التراخي (ص٣١٦)، فإنَّها حافلة بالاستعارات والتشبيهات مثلما يتفاخر بوليكسنيس بأنَّ ابنه الصغير يجعله ينسى الزمن قائلًا «نهار يوليو في وجوده قصير مثل ديسمبر» (١ / ٢ / ١٦٨) ومثلما يعيب ليونتيس سلوك زوجته الذي يتوهمه قائلًا «كالعاملةِ بغزْلِ الكتَّان إذا سمحت بجماع قبل/العهد الرسمي بخطبتها» (١ / ٢ / ٢٧٧-٢٧٨). ولكن البناء الإيقاعي للنظم متحرر إلى حدٍّ كبير من الرتابة، كما يقول بيثيل في كتابه المشار إليه آنفًا، ويعني به أنَّ شيكسبير هنا يسرف في الزحافات والعلل حتى يخلط بين البحور المتجاورة في نظْمِه وهو ما حاولته في مواضع كثيرة في الترجمة. ويقول بيثيل إنَّ الإيقاعات الدارجة، ويقصد بها إيقاعات الكلام المنطوق في الحياة اليومية، تنجح في قهر النهج أو النسق المنتظم لبحر الأيامب الخماسي (ص٢٠) كما تمتد الجملة إلى عدة أسطر حتى نستوعب استطرادات المحادثات العادية وفجوات المعاني فيها. ويعلِّق ماكدونالد المذكور على ذلك قائلًا إنَّ «تعليق» مسار العبارة نحويًّا، أي مقاطعتها أو إيقافها ونحن ننتظر اكتمال المعنى في الفقرة الشعرية ذات التلافيف، يتجلى فيه «تعليق الحدث» وانحرافه من ناحية إلى ناحية ثم عودته، حتى نصل إلى الإيضاح الأخير للتراجيكوميديا (ص٣٢٧).
وبيثيل يستخدم المصطلح النقدي القديم حين يصف الأحاديث المفردة بأنَّها «ذات شحنه عاطفية» (ص٢١) ولكن فرانك كيرمود (Kermode) يشرح في كتابه «لغة شيكسبير» (٢٠٠٠م) هذا الأسلوب قائلًا إنَّ «أسلوب شيكسبير في مسرحياته الأخيرة ملائم بصورة خاصة لتصوير الحالات النفسية المضطربة» (ص٢٧٨). وهكذا، فنحن ننتقل من المبالغة في المجاملة على لسان بوليكسنيس: «لا يوجد في الدنيا أيُّ لسان مهما كان/يقدر أن يُقنعني مثل لسانك» (١ / ٢ / ٢٠-٢١) إلى إيقاع مماثل «من البحر نفسه»، ولكنَّه يُنذِر بالشر بسبب تكرار يتضمن تنويعًا مقبولًا في التفعيلة «وهي تفعيلة الخبب عندي» عندما يقول ليونتيس «قلبي يتواثب لكن ليس من الفرحة … ليس من الفرحة» (١ / ٢ / ١١١). وقد ذكَّرني قول كيرمود بما ذكره الناقد العظيم ويلسون نايت (Knight) في الفصل الذي كتبه عن هذه المسرحية بعنوان «الطبيعة الخلاقة العظمى: مقال عن حكاية الشتاء» في كتابه إكليل الحياة (١٩٤٨م و١٩٧٢م)؛ إذ يقول إنَّ أسلوب الملك ليونتيس في أحاديثه المنفردة «مونولوجاته» أو غير المنفردة تتميز ﺑ «التشنج والتعجب والتفجر» (ص٨٢) ويضرب المثال على هذا باستجواب ليونتيس لكميلو عن احتمال مشاهدته للمداعبات الغرامية ما بين الملكة هيرمون «زوجة ليونتيس» وصديقه الملك بوليكسنيس؛ إذ إنَّ حديث ليونتيس يتكوَّن من جملة نحوية واحدة تمتد على سبعة أسطر تقريبًا، وتتضمن ثلاث عبارات اعتراضية، وبعضها طوله سطر ونصف أو سطران. وهكذا، فإنَّ انطباعنا، كما يقول نايت، بمصطلحه «الانطباعي»، يشبه «السيل العرم من الوسواس المتسلط الذي يتعلل بأوهام ولا تنجح البراهين في إيقافه إلا لحظات قصيرة» (ص٨٣):
أوَلم تُبْصر يا كاميلو —
هذا لا شك به، فلقد أبصرت وإلا
كانت عدسات عيونك أسْمَكَ من قرن الديوث —
أَوَلم تسمع — قطعًا إذ لن تسكت ألسنة الناس
إزاء وقائع واضحة وجلية —
أَوَمَا جال بفكرك — فالمعرفة هنا لا تأتي رجلًا لا فِكر له —
أنَّ قرينتنا خائنة؟
(١ / ٢ / ٢٦٦–٢٧٢)

ويبدو أنَّ الخيط الذي ألقاه ويلسون نايت قد التقطه المحدثون وتوسَّعوا فيه؛ إذ يفيض ماكدونالد المشار إليه في تحليل خطاب آخر يوجهه ليونتيس إلى كميلو في المشهد نفسه، ويعتمد على سلسلة من الأسئلة التي يرجو ليونتيس أن يجعلها إنكارية، وهو ما يندر أن نجده في أعمال شيكسبير الأولى:

أفلا يوجد شيء في الهمس الدائر بينهما؟
في ميْل الخدِّ على الخد؟ وتلامس هذين الأنفيْن؟ والتقبيل
بداخل كل شفة؟ في إيقاف مسار الضحك بتنهيدة؟
— لحنٌ لا يخطئ لخيانة شرف المرء — في وضع القدم على
القدم؟ أن ينزويا في ركنٍ من تلك الأركان معًا؟
وتمنِّي أن يُسرِع عقرب تلك الساعة؟ وقضاء الساعات معًا
وتملِّي كل دقيقة؟ ظهرًا أو في منتصف الليل؟ وتمنِّي
أن تغشى كُلُّ عيون إلا عيناه وعيناها بغشاوة؟ وهما
من دون الناس؟ أفلا يُعتبَر تجاهل رؤية هذا خبثًا؟ هل
هذا عَدَمٌ؟ وإذن هذي الدنيا وجميع الأشياء بها عَدَمُ!
(١ / ٢ / ٢٨٤–٢٩٣)

هذه الأسئلة المتوالية الثلاث عشرة فيما لا يزيد على عشرة أسطر تنتهي إلى غاية تبدو لنا غير منطقية أو — على الأقل — تدعو إلى الدهشة، بل والضحك، حين يقول في ختام هذا «السيل العَرِم»: «والعدم إذن لا شيء به غير العدم» (٢٩٥) وليست هذه نتيجة منطقية لما سبق قوله، أي إنَّه — كما يقول ماكدونالد — «يفقد السيطرة على الحجة الوهمية التي يسوقها بهذه العبارة العجيبة» (ص٣٩٥). بل إنَّه «يفقد السيطرة» أيضًا عندما يحاول من جديدٍ إقامة هذه الحجة الوهمية علنًا أمام اللوردات تمهيدًا لمحاكمة زوجته وإدانتها التي قرَّرها سلفًا، وهو يدرك ذلك بنفسه حين يستخدم اللفظة غير الموفقة، والتي تنطبق في الواقع عليه فيما يُشبه المفارقة — وهي لفظة «المُخرِّصون» — وهو يستدرك ذلك بعبارة تعترض مسار بناء حجته الموهومة، ثم يستأنف السياق بتكرار كلمة «التردد» في السطر ٦٩، في السطر ٧٤ بعبارة «أمَّا ترددكم»، وهذه هي الفقرة المعنية:

لِتنظروا إليها أيُّها اللوردات وافحصوها! ما إن تقولوا
إنَّها جميلة حتى يُضيف إنصافُ القلوب في الصدور:
«لكنَّها ليست مع الأسف … عفيفة ولا جديرة بالشرف!»
فإن مِلْتُم إلى امتداح ما يبدو من الظاهر،
وإنَّه بالحق أهلٌ للثناء العاطر،
هبَّ التردُّد داخل النفوس فورًا.
وعندما تكون الهمهمات أو أصداء بعض الغمغمات
عند كلِّ وصمة يرمي بها المخرِّصون. لا!
لم أُحسِن التعبير بل يأتي بها الرحماء!
فإنَّما التخريص لا يُعفي الفضيلة نفسها قدحًا وذمًّا!
أمَّا تردُّدكم بُعَيْدَ قولكم بأنَّها جميلة،
فسوف يعترض السبيل باستدراككم وسط المديح
— من قبل أن تقولوا «إنَّها عفيفة!»
(٢ / ١ / ٦٤–٧٦)
أي إنَّ الجملة الاعتراضية (في السطر ٧٢) تعترض حقًّا منطق الحجة التي يحاول أن يقيمها على أوهامه، وتجعل لغته «غير مفهومة» لهرميون، كما تقول هي في ٣ / ٢ / ٧٨، ويؤكد ما ذهب إليه بيليت (Bellette) في دراسة له نشرها عام ١٩٧٨م في مجلة دراسات شيكسبيرية بعنوان «الحقيقة والألفاظ المنطوقة في حكاية الشتاء» (ص٦٥–٧٥) ويذهب فيها إلى أنَّ «كل شخص في المسرحية يتكلم بالأسلوب الأقرب إلى التعبير عن طبيعته» (ص٦٥) وهو يقيِّم التضاد بصفة خاصة بين «الكلام المفكك» الذي ينطق به ليونتيس وبين «الكلام المنضبط» الذي نسمعه من هرميون (ص٦٧) «وإن لم يكن كلامها كذلك دائمًا في الواقع». وأمَّا هذا الاعتراض على ما يقوله بيليت، فهو أقرب إلى الاستدراك؛ إذ إنَّ «كلام» ليونتيس في النصف الأول من المسرحية يختلف عن كلامه في النصف الثاني. فهو في النصف الأول مغرم بما يبدو لنا في صورة حجج منطقية ما دام يكتسي صورة المنطق (على ما في هذا من الخطأ الذي بيَّنتُهُ) مستعينًا بالألفاظ الإنجليزية المشتقة من اللاتينية، كما يقول جوناثان سميث (Smith) في دراسة له عن «اللف والدوران» في «حجته»، أو ما يُسميه سميث «اللف والدوران فكريًّا» (ص٣٢١)، وإن كنت ما زلت أعترض على التعميم فيما يقوله سميث، ما دامت لغة ليونتيس تختلف في النصف الثاني للمسرحية.

وفي ظني أنَّ كلًّا من هذين الناقدين يبني هذا الرأي — على وجاهته المحدودة — استنادًا إلى حديث ليونتيس الشهير (١ / ٢ / ١٣٥–١٤٥) الذي عادة ما يُسمى في الدراسات النقدية باسم حديث «الوهم المسيطر»، وهو ما سوف أعود إليه فيما بعد. أمَّا الآن فأناقش بعض ظواهر النسيج الأخرى في كلام بعض الشخصيات، ومنها «المبالغة» باعتبارها من الحيل البلاغية الكلاسيكية، ومن خير ما يمثِّلها هجوم بولينا على سلوك الملك ليونتيس في ٣ / ٢ الذي اشتهر بعنوان «حديث اليأس»؛ إذ تقول بولينا له:

لكن لا تُبدِ الندم أيَا طاغية على هذي الأفعال، فلن تُقبَل
منك التوبة مهما ثقُلَت أحزانُك! وإذن لا شيء أمامك
إلا أن تيأس! إنَّك إن تركع آلاف الركعات وتُخلِص
في التكفير هنا عشرة آلاف سنة … بالصوم وتعرية الجسد
على جبلٍ أجرد في جوِّ شتاءٍ لا يتغيَّر، وعواصف لا تهدأ،
لن تقدر أن تستعطف تلك الأرباب لتنظر ناحيتك!
(٣ / ٢ / ٢٠٦–٢١١)
وتعلِّق هول على ذلك قائلة إنَّ كل مبالغة تتكوَّن من عبارة مركَّبة، وتفضي إلى مبالغة أخرى تزداد صورتها قتامة حتى تصل إلى الذروة، وأخيرًا يأتي جواب الشرط الذي يستكمل الجملة الشرطية الطويلة التي بدأت في ٢٠٨. وأضيف أنَّ الجملة التي تستكمل جملة الشرط الأولى، أي من «بالصوم» إلى «لا تهدأ» (٢٠٩-٢١٠) أهميتها البلاغية لا تقتصر على المبالغة، بل تتجاوز ذلك إلى حيلة الإثبات بالنفي (occupatio) — وهي حيلة تشبه نظيرتها الأخرى (paralipsis) التي ذكرتها في القسم الخاص بالخلفية التاريخية — بحيث يتجاوز معنى الجملة الشرطية دلالة «الشرط» النحوية، ويفيد الأمر المضمر بأن يفعل ليونتيس ما تصفه بولينا وتبالغ فيه، وهو ما يرسم لنا مستقبلًا مكفهرًّا أمام الملك، ناهيك عن كونه محالًا، وهو ما ترمي إليه من الإيحاء باليأس.
وأعود الآن إلى ما ذكرته هول عن الكلام «المنضبط» الذي تزعم أنَّه يميز لغة هرميون، فأضرب مثالًا من مشهد المحاكمة (٣ / ٢) الذي تقع فيه خطبة الملكة. وتقول هول إنَّها ذات بلاغة فائقة وألفاظ بسيطة وإيقاع متَّئد في دفاع الملكة عن براءتها (ص٨٤). ثم تضرب المثل للبلاغة المذكورة بالسطور ٤١–٤٣، حيث تتصدر كلمة «الحياة» العبارة الأولى، وكلمة «الشرف» العبارة الثانية (والتصدير هنا هو foregrounding):
أمَّا الحياة فإنَّ تقييمي لها يوازيها مع الحزن
— والاستغناء عنهما لديَّ واردٌ — أمَّا الشرف،
فإنني أصونه وحده … لأنَّه لنابعٌ مني مورَّثٌ لمن أنجب!

ولست أجادل في دلالة «التصدير»، ولكن الناقدة تتجاهل السطور التالية، ولا أجد مناصًا من تقديمها بالأصل الإنجليزي كي يُقدِّر القارئ ما بها من صعوبة، واحتمالات التفسير المختلفة التي اضطررت أن آخذ بأحدها وأطرح الباقي؛ فالمعنى الذي أخذت به هو التفسير الحديث الذي لا يُمثِّل في رأي أورجيل «إلا اختيارًا تعسفيًّا لمعنى من المعاني، من بين قائمة من ضروب منوعة من المعاني التي كثيرًا ما تتناقض، كما أنَّه لا يحل لنا المشكلة اللغوية بقدر ما يُمَكِّنُنَا من تجاهلها» (ص٨).

وهذا هو النص الإنجليزي أولًا:

I appeal
To your own conscience, sir, before Polixenes
Came to your court how I was in your grace,
How merited to be so, since he came,
With what encounter so uncurrent I
Have strained to appear thus.
III.ii 44–49
وهذه الترجمة لهذه السطور ثانيًا:
إنَّي أخاطِب ما لديكَ من ضميرٍ سيدي! قل كيف كان
موقعي لديك قبل أن يَحُلَّ بوليكسنيس في قصرك؟
أعلن مدى تقديرك الشديد لي، وكيف كنت أستحقُّه!
ومنذ أن أتى: قل لي بأيِّ فعلٍ غير لائقٍ
أخطأتُ حتى أستحقَّ أن أبدو كذلك؟
يقول أورجيل إنَّ تفسير السطرين الأخيرين على هذا النحو (الذي أوردته) ظلَّ سائدًا على امتداد القرن العشرين كله، وإنَّه يمثِّل الرأي الذي اتفق عليه ثلاثة محررين من أبناء العصر الفكتوري هم هاليويل (Halliwell) وستونتون (Staunton) وهوايت (White)، وإن كان تفسير السطور على هذا النحو يؤدي، على الأقل، إلى إخفاء المناقشات والحيرة التي استمرت مدة تزيد على قرن كامل، كما أنَّ معظم محرري طبعات شيكسبير في القرن الثامن عشر كانوا يعتبرون أنَّ هذه السطور غير مفهومة، ومن بينهم الدكتور جونسون (Johnson) الذي كتب يقول عنها: «هذه الأسطر لا أفهمها، واستنادًا إلى الرخصة التي يتمتع بها كل محرر، أفترض أنَّ كل ما لا أفهمه كلام غير مفهوم، ولذلك أقترح تغيير بعض ما فيها.» ويقول أورجيل إنَّ شهادة جونسون في هذه القضية تصبُّ في صلب المسألة بسبب ما تميَّز به من عبقرية في العثور على معنى منثور واضح لأعقد الصور الشعرية عند شيكسبير. ويضيف أورجيل أنَّ جونسون لجأ إلى تعديل عبارة (I/have strained) إلى عبارة (have I/been stained) قائلًا إنَّ التعديل جميل وإن يكن غير مقنع، ثم يقول إنَّ هذا التفسير نفسه يعتمد على تعديلنا لمعاني الكلمتين (encounter) و(uncurrent) حتى تتفقا مع تعديل جونسون، ثم يقول إنَّ البحث التفصيلي في تاريخ المحاولات المماثلة لتفسير معاني الكلمتين إلى جانب كلمة (strain) لن يأتي بغير ما أتى به معجم أوكسفورد الكبير؛ فالكلمتان الأوليان تظلان غامضتين وهما ذواتا أهمية حاسمة لمعنى السطور (ص٧-٨).
وأضيف إلى ما قاله أورجيل في عام ١٩٩٦م أنَّ القرن الحادي والعشرين لم يأتِ — إلى الآن — بتفسيرات مختلفة، كما تشهد على ذلك أحدث طبعتين اعتمدت عليهما (سنايدر ٢٠٠٧م، وبيتشر ٢٠١٠م)، وما ضربت هذا المثل إلا لأُبيِّن أنَّ التعميم الذي جاءت به هول (٢٠٠٥م) عن لغة هرميون يفتقر إلى الدقة الكاملة، وإن كانت لغة هرميون أقل غموضًا من لغة ليونتيس، وخير مثال غموض هذه اللغة هو الخطاب الذي أشرت إليه من قبل (انظر ص٦٠ عاليه) وقلت إنَّه اشتهِر باسم حديث «الوهم المسيطر» (١ / ٢ / ١٣٥–١٤٥). ولكنني أحب قبل أن أناقشه أن أنبِّه إلى أنَّ القول بأنَّ حديث الشخصية يكشف عنها، كقول بافورد (١٩٦٣م، ص١٦٦) بأنَّ ذلك الحديث «قُصِدَ به ألا يكون مفهومًا» بمعنى أن خبل ليونتيس يحتم أن يبتعد كلامه عن المنطق السوي، قد يفرض على المسرحية ما يُسميه النقَّاد «خرافة المحاكاة»، وهي التي تقول بأنَّ كل لفظة «تُحاكي» ما يدف في النفس بصدقٍ وبوضوحٍ من مشاعر، وهو الذي يُشكك فيه المحدثون من عام ١٩٥٩م إلى الآن، أي منذ دراسة جيمز سذرلاند (Sutherland) بعنوان «لغة المسرحيات الأخيرة» في الكتاب الذي حرَّره جون جاريت (Garrett) بعنوان مزيد من الحديث عند شيكسبير (ص١٤٤–١٥٨) إلى دراسة آن بارتون (Barton) بعنوان «ليونتيس والعنكبوت» في كتابها مقالات عن شيكسبير أساسًا عام ١٩٩٤م (ص: ١٦١–١٨١) إذ يبيِّن كلاهما أنَّ هرميون وكميلو وأنتيجونوس وبوليكسنيس يميلون أحيانًا إلى «عدم الشفافية» اللغوية. وكلاهما يدلِّل على ذلك بأمثلة كثيرة، ولكنني لا بد أن أقدم الآن حديث «الوهم المسيطر» المشار إليه، ثم أعرض بعد ذلك رأي أورجيل.
ومثار الاختلاف الذي احتدم، ولا يزال يحتدم حول تفسير الحديث المذكور كلمة مشكل وهي (affection). والكلمة تعني اليوم — كما نعرف — الإحساس الرقيق أو الحب. وكانت تفيد ذلك المعنى أيضًا في وقت كتابة حكاية الشتاء، ولكنَّها كانت تُفيد معاني أخرى، أصبحت اليوم مهجورة أو مهمَلة تمامًا، منها السلوك غير العقلاني، والعاطفة الجيَّاشة الجامحة، والشهوة، والعداوة. كما كانت الكلمة تُستخدَم في معانٍ شبه «فنية» (تقنية) تفيد طبع الشخص، أي ميله إلى الإيذاء مثلًا أو إلى الكرم، وفي الإشارة إلى أسلوب عمل الذهن. وفي عام ١٦٢٤م — وفق ما يقوله معجم أكسفورد الكبير (OED affection n. I. 2.b) — عرَّفها ج. ووتون (Wotton) بأنَّها «التصوير الحي لأيَّة عاطفة — مهما تكن — بحيث تبدو الشخوص لا مرسومة على النسيج أو الورق، بل كأنَّما تمثل فوق خشبة المسرح.» وكان هذا جزءًا من المعنى الواسع للكلمة باعتبارها تفيد الحالة العاطفية أو الذهنية الناجمة عن المؤثرات الداخلية أو الخارجية، مثل الذكريات أو المذاق الخاص أو الرائحة الخاصة. ويقول أحد علماء أواخر العصر الإليزابيثي «إنَّ كل إنسان معرَّض لمثل هذا التصور الحي الذي ينسجه الوهم» (المرجع نفسه).

ولن أفيض في رصد تطور معاني الكلمة عبر العصور (فليس هذا المجال المناسب) ولا بالتفسيرات المختلفة التي أتى بها الشُّراح، بل سأقتصر هنا على الدفاع عن المعنى الذي اخترتُه، فأنا مسئول عن القرار الذي اتخذته باختياره، بادئًا بإيراد النص الإنجليزي أولًا قبل التعليق:

Most dearest, my collop! Can thy dam? May’t be
Affection?—Thy intention stabs the centre,
Thou dost make possible things not so held,
Communicat’st with dreams—how can this be?
With what’s unreal thou coactive art,
And fellow’st nothing. Then ’tis very credent
Thou maysoo-join with something, and thou dost,
And that beyond commission, and I find it,
And that to the infection of my brains
And hardening of my brows.
I-i. 136–145
وهذه الترجمة:
يا أقرب النَّاس لقلبي! يا بضعة مني!
فهل يكون ذاك من أمك؟ هل ذاك ممكن،
يا أيها الوهم المسيطر؟ لديك قوة نفَّاذة وتطعن القلوب
والدنيا، وتجعل المُحال ممكنًا كما تُجسِّد الأحلام.
قل كيف يُمكن أن يكون هذا؟ فأنت تربط الإنسان
بالمحال في الأذهان والعدم. إذن يجُوز تصديق الذي فعلته
بتحويل الخيال في أذهاننا إلى واقع! وذاك ما وجدته
يا أيها الوهم! تجاوزًا لكل ما يكون مشروعًا!
وهكذا سَمَّمت مخِّي فتهاوى منطقي،
ونما على الجبين قرنان.
(١ / ٢ / ١٣٦–١٤٥)
ويتساءل أورجيل بعد إيراد هذا النص «وجدت ماذا؟» ثم يقول إنَّ هذه الفقرة قد استعصت منذ طبعة الناقد والمحرر «رو» (Row) لأعمال شيكسبير في عام ١٧٠٩م، على أي اتفاق في التفسير، بل إنَّ هذا الناقد نفسه الذي اشتهر عنه التسامح الشديد، أي قبول أشد القراءات إثارة للخلاف، اضطر — في هذه الحالة — إلى التدخل في نص شيكسبير، فعدَّل السطرين الثاني والثالث، على النحو التالي:
فهل يكون ذاك من أمك؟ هل ذاك ممكن؟
يا أيها الخيال!

ثم يقول أورجيل إنَّ النقَّاد والمحررين، على الرغم من عدم اقتناعهم بالتعديل، قد أخذوا بإعادة «تقطيع» السؤال الثاني، أي تقسيمه إلى سؤالٍ مبهمٍ ومنادى مفرد، بدلًا من جعل السؤال يتضمن المنادى. ولكنني ملتزم في الترجمة بالنص الأصلي المطبوع عام ١٦٢٣م، وسوف أعرض الآن مشكلة الصياغة هنا، التي تُهمنا في قسم «النسيج» الدرامي.

تتردد الإشارة إلى قول الباحث ج. د. ستيوارت (Stewart) عن هذه الفقرة في كتابه «بعض الصعوبات النصية في شيكسبير» (١٩١٤م): «إنَّها الفقرة التي لم يستطع أحد أن يفهمها» (مقتطف في بافورد، ص١٦٦) كما تكثر الإشارة إلى قول الناقد مارك فان دورين (Doren) في كتابه «شيكسبير» (١٩٣٩م) «إنَّ هذه الفقرة أشد الفقرات غموضًا في شيكسبير، ولا غَرْوَ أن يسأل بوليكسنيس «ماذا يعني ملك صقلية بهذا؟» وليونتيس يعني بصفة عامة أنَّ المستحيل قد أصبح ممكنًا، ولكن تفاصيل معناه لا يشاركه أحد فيها»، ويقول بافورد الذي يقتطف هذه الكلمات:

ولكن ليونتيس معذَّب في ذهنه وفي كلامه، وهذه اللغة الضبابية المريرة تُمثِّل أيضًا حالته تمثيلًا فعالًا. ولنا أن نشرح حديثه المشار على النحو التالي: هل يمكن أن تكون أمك «خائنة»؟ هل هذا ممكن؟ يا أحاسيس الشهوة: إنَّ حدَّتك تنفذ إلى قلب الإنسان وقلب كل شيء. فأنت تجعلين ما نظنُّه محالًا في الأحوال العادية ممكن الحدوث، مثلما تفعل الأحلام … كيف يمكن أن يكون هذا؟ إنَّ الشهوة تُمكِّن المرء من الارتباط ذهنيًّا بأشخاص لا وجود لهم إلا في الخيال، أي من لا وجود لهم على الإطلاق، ومن ثَمَّ نستطيع أن نصدق أنَّ أبعد ضروب الارتباط الشهواني عن التصديق يمكن أن يقع بين أشخاص حقيقيين، ولقد أتيت أيتها الشهوة بهذا في هذه الحالة، فتجاوزت ما هو مشروع، ولقد عانيت أنا إلى الحد الذي فقدت معه الرشاد ونما لي قرنا ديوث على جبيني. (ص١٦٦).

كان هذا عام ١٩٦٣م، وقد ذكَّرني شرحه بما قاله جودارد (Goddard)، (صاحب الكتاب الشهير عن الشاعر وردزورث، ١٩٥٠م) في كتابه معنى شيكسبير ١٩٥١م، وهو كتاب ضخم، فعدت إليه فوجدته يكاد يتفق مع بافورد في شرحه باستثناء تفسيره كلمة (affection) بكلمة «عاطفة» (emotion) دونما تحديد لماهية هذه العاطفة، وربما كان هذا المعنى الأقرب إلى ذهنه هو المعنى الحديث الذي درجنا عليه منذ الصبا، بل وما زلنا نستخدم الكلمة فيما ذكرت في مطلع تحليلي للفقرة المقتطَفة. ولذلك قررت أن آخذ بتفسير بيتشر (٢٠١٠م) ليس لأنَّه الأحدث، بل لأنَّه الوحيد الذي يتفق مع السياق. يقول بيتشر:
يعمد المخرجون في كثير من العروض المسرحية الحديثة إلى حذف سطور كثيرة من هذه الفقرة أو حذفها كلها، وأحيانًا يلقيها الممثِّل بما يشبه الهَذْرَمَةَ حتى لا تستبين مخارج الألفاظ بنبرات المجانين. ولا شك أنَّ هنا جنونًا من لون ما، أو شيئًا شبيهًا به. ولكن الحديث ليس يستعصى على الفهم كما يقول الناس. إنَّ كلمة (affection) يمكن أن تدل على معانٍ كثيرة … ولكن معناها القريب من «الحُمَّى الدماغية» هو المعنى الوحيد الذي يناسب الفقرة الكاملة. ولقد قال بهذا كثير من النقَّاد، أي إنَّ ليونتيس ثائر يُرعِد ويُبرق ضد عقله، أو أنَّه يعبِّر، على وجه الدقة، عن وَهْم السلطة في ذهنه ومواجهة وَهْم مسيطر، ولكن نظرات هؤلاء النقَّاد الثاقبة لم تجد طريقها إلى قاعة المحاضرات، ناهيك بخشبة المسرح، وذلك — إلى حدٍّ كبير — لأنَّ معنى الوهم القائم في الكلمة، وهو معنى تقني، قد فُقِدَ بصورة شبه كاملة في اللغة الإنجليزية الحديثة (ص٤٠-٤١).

ولقد توسعت إلى حدٍّ ما في عرض هذا المثل من أمثلة غموض لغة ليونتيس في النصف الأول من المسرحية، وحيرة النقَّاد فيما يعنيه «حديث الوهم المسيطر» على وجه الدقة لا لإلقاء الضوء فقط على صعوبة عمل المترجم الذي يتصدى لنصٍّ قديم نسبيًّا، ويجد في المعجم عدة معانٍ عليه أن يختار أحدها (بسبب استحالة إيجاد اللفظ المماثل القادر على الإيحاء بكل هذه المعاني في اللغة المترجَم إليها) ولكن أيضًا لأقدم مثالًا حيًّا من الأمثلة التي يستند إليها دعاة التفكيكية في القول باستحالة اقتصار أي نصٍّ «أدبي خصوصًا» على معنى محدد واحد، فالمترجِم هنا بالقطع مفسِّر، وهو مرغم على أن يقتصر على المعنى الذي يراه؛ إذ يفترض وجود معنى محدد لكنَّه غير واضح بين المعاني الكثيرة المحتمَلة لكلمة من الكلمات أو لنصٍّ من النصوص، وهذا ما ينكره التفكيكيون الذين يقولون بالتعدد الأصيل لمعاني الألفاظ والنصوص واستحالة اقتصار أيها على معنى مفرد. ولكن النقَّاد المحدثين (غير التفكيكيين) يقولون بهذه الاستحالة نفسها لأسباب أخرى، وعلى رأسها مبادئ «نقد استجابة القارئ» — المذهب الذي يربط ما بين المعنى أو المعاني المفترضة للنص وبين درجة تقبُّل القارئ لهذا المعنى أو لأيٍّ من هذه المعاني أو لها جميعًا — كما تزداد الصعوبة حين يكون النص نصَّ مسرحيًّا يعتمد على الإلقاء في المسرح والاستماع إليه وفهمه وتذوقه واستيعابه بسرعة إلقائه. فالقارئ يستطيع أن يعيد قراءة النص وتأمُّله والتعمُّق في أجزائه المفردة، ولكن مُشاهِد العرض المسرحي مقيد بزمن إلقاء الكلام على المسرح، وبوجود هذا الكلام في سياق من كلام آخر سابق له ولاحق عليه، وهو السياق الذي قد يُغيِّر من معناه، وفق أسلوب إلقاء الممثِّلين له، ووفق توقعات المُشاهِد/السامع في كل مرة يستمع إلى النص المنطوق.

ويطرح أورجيل سؤالًا آخر بالغ الأهمية: ماذا يكون الحال عليه لو كان النص متعمد الغموض؟ وهو سؤال يهمُّ المترجم بقدر ما يهمُّ الشارح أو المحرر، فهذا الباحث العظيم يؤكد احتفال عصر النهضة الأوروبية بما كان الشعراء يرونه «أسرار الشعر» أي الغموض الأصيل الكامن فيه، مدلِّلًا على ذلك بحجج الشاعر والمترجم جورج تشابمان (Chapman) والشاعر المسرحي بن جونسون (Jonson) والشاعر سبنسر. وأضيف أنا أنَّ كل شاعر أصيل قد أحسَّ بما يعنيه أورجيل ﺑ «الأسرار»، وأذكر كيف كان وردزورث، الشاعر الرومانسي الذي اشتهر ﺑ «بساطة» أسلوبه، يحتفل بما كان يسميه «أسرار الكلمات» قائلًا إنَّ «أنفاس الكون تتردد في أسرار الكلمات» في قصيدته المقدمة، مشيرًا إلى أنَّ الرياح تمثِّل أنفاس الكون، وهي تصاحب هذه «الأسرار» وتهتدي بها. ويقول أورجيل:

علينا أن نتذكر أنَّ النهضة الأوروبية كانت تتقبَّل، بل «تخطب ود» درجة أعلى كثيرًا من درجات الغموض وعدم الشفافية مما نقبله ونطلبه نحن، كما أننا نميل إلى أن ننسى أنَّ ذلك العصر كثيرًا ما وجد في الاستعصاء على الفهم قيمة إيجابية. ولقد شاع في السنوات الأخيرة التسليم بعدم اتساق الصور الشعرية مع النص آنذاك في أبنية التصوير الشعري، وبأنَّ الصور الرمزية لم تكن لغة عالمية، بل كانت على العكس من ذلك، غير محددة الدلالة بصورة جذرية، وكانت دائمًا ما تعتمد على الشرح لتحديد معناها. فإذا لم يتوافر الشرح ظلَّ المشاهدون من دون إيضاحٍ … ولكن الرضا في مثل هذه الحالات ينبع — على وجه الدقة — من وجود السر، فهو الذي كان يؤكد لأفراد الجمهور الذين يشهدون عرضًا مسرحيًّا عميقًا، سواء كانوا من الجهلة أو المثقفين، أنَّهم يشاركون في عالم من المعاني العليا.

إننا نفترض افتراضًا غير معلن أنَّ مُشاهِد حكاية الشتاء في عام ١٦١١م كان يدرك كل ما يُقال ويفهمه، ونقول لأنفسنا إنَّ شروحنا لا تزيد عن «استعادة» ما كان جمهور المسرح في عصر النهضة يعرفه سلفًا. ولكنني أريد أن أقول بعكس ذلك، أي إنَّ … إشارة بوليكسنيس إلى «هبَّة ريح غير مواتية في وطني» (١ / ٢ / ١٠-١١) أو أسئلة هرميون في قاعة المحكمة (٣ / ٢ / ٤٤–٤٩) (المقتطفة عاليه)، و(٣ / ٢ / ١٠٦-١٠٧) أو هذيان الغيرة في أقوال ليونتيس، كانت تعبِّر لجمهور عصر النهضة عمَّا تعبِّر لنا عنه تقريبًا، ألا وهو الشدة والحدة، والغموض، والإبهام … وأمَّا كيف نفسر هذا الغموض — أي هل نفسره باعتباره سمة من سمات الشخصية أم البلاط الصقلي أم لغة الملوك أم تعقيدات الخطاب الجماهيري أم طبيعة المسرحيات في عصر النهضة نفسها؟ — فهذا هو السؤال الحقيقي الخاص بالنص، ولا يزال سؤالًا غير محدَّد الإجابة. ومن طبيعة النص الشيكسبيري نفسه ألا يرشدنا في هذا الأمر، بل إننا نسيء إليه إن أنكرنا إشكاليته الآن ودائمًا، وإن اختزلناه فيما تعارفنا عليه نحن من المنطق السليم (ص١٠–١٢).

ولن أعرض لبقية حُجة أورجيل عن ارتباط الغموض بطبيعة الحكم الملكي، وخصوصًا ما يسميه أسرار الدولة، وهو لا يعني بالتعبير ما نعنيه اليوم بمعلومات جهاز الاستخبارات (أو المخابرات لدينا) بل يعني أنَّ الملك يحكم بوحي من الله، ما دام «يمثِّل» السلطة الدينية أيضًا، ويتمتع بالحق الإلهي في الحكم، وأظنني عرضت لهذا في القسم الخاص بالخلفية التاريخية. وسأكتفي الآن بالتدليل على اختلاف لغة ليونتيس (ولغة غيره) في النصف الثاني من المسرحية. فعلى الرغم من استمراره في موازنة المجردات بالمجسدات، فقد خلا شعره مما يسميه «الصياغة شبه العقلانية» (ص٣٢٦) ومما تسميه نيلي «العادات القديمة، مثل التجريد والتصنيف» (١٩٨٧م، ص٣٣٢) التي كان يبرر بها طغيانه. وهو يستمر في استخدام الأسلوب الواضح الذي كان قد بدأه في نهاية مشهد المحاكمة بعبارة «فلتأخذيني الآن من فوري إلى/حيث استقرت هذه الأحزان» (٣ / ٢ / ٢٣٩-٢٤٠) وهو أسلوب يمتاز بالوقار وما يصفه كيرمود (٢٠٠٠م) بالانتظام (ص٢٧٣) (وربما كان ذلك من وراء استدعاء إيقاع البحر الكامل في الترجمة):
ما دمت أذكر هرميون هنا وكل فضيلة فيها،
سأظل أذكر سيئاتي حين تبرزها هنا حسناتها …
وأظل أذكر أنني كنت الظَّلوم لنفسه ظلمًا يعاقبني
فيحرمني الوريث لعرش هذي المملكة! ورفيقتي وأرقَّ قادرة
على إنجاب طفل ذي رجاء للرجل … هذا صحيح؟
(٥ / ١ / ٦–١٠)
والخطة المتئدة لهذا البحر تتيح التوازي في العبارات والطباق اللفظي، على عكس انبهار ليونتيس حين يواجه «التمثال» الذي يبدو لعينيه حيًّا، ولا غرو فهو هرميون نفسها، وأسلوبه يتجلى فيه اضطرابه على الرغم مما يسميه كيرمود «رهبة الجلال» (ص٢٧٥) فتخرج عباراته مقطعة، وأبياته غير منتظمة (وربما كان هذا ما استدعى الرجز «المعدل»):
إني أحسُّ العار! ألا يلومني هذا الحجر؟
لأنني أزيد قسوة عن الحجر؟ أوَّاه يا مليكتي!
إنَّ الجلال فيكِ ذو سحر عظيم … لأنَّه يستحضر
الشَّرَّ الذي اقترفته لتذكيري به … ويذهل ابنتك،
ويسلب الفتاة جأشها فإذ بها استحالت حجرًا … مثلك!
(٥ / ٣ / ٣٧–٤١)

وأظن أنَّ القارئ سوف يتبيَّن بوضوحٍ في هذين المثالين، على اختلاف الإيقاع فيهما، كيف «تطور» نَظْم ليونتيس وتطورات لغته في النصف الثاني من المسرحية، خصوصًا من زاوية الوضوح والتعبير المباشر.

وأمَّا النثر في المسرحية فهو قليل؛ إذ يقتصر عدد المَشاهِد المكتوبة نثرًا على ثلاثة ( ١ / ١، ٤ / ٢، ٥ / ٢) ولا يتجاوز العدد الكلي للسطور المنثورة ربع العدد الكلي لسطور المسرحية (٧٧٥ من ٣١٣٦)، ولكن هذا الربع هو الذي يتحمَّل عبء الكوميديا أو العناصر الكوميدية في النص، وباستثناء «نيلي» الناقدة التي ذكرتها في مطلع حديثي عن النسيج، لا يكاد أحد من النقَّاد يولي النثر الاهتمام الذي يستحقه، وكنت قد أبديت اعتراضي على وصفها الأسلوب النثري بالأسلوب اليوفوي، لكنني أوافقها على التمييز بين نثر السادة ونثر العامة «الراعي وابنه المهرج والراعيتان وأتوليكوس والخادم» فالمَشاهِد الثلاثة المكتوبة نثرًا شخوصها من السادة، ومادتها في جوهرها «إخبارية»، ووظيفتها «إبلاغ» المشاهدين بشيء ما أو سرد ما لم يقدمه شيكسبير دراميًّا على خشبة المسرح. ولذلك فالنثر محسوب بدقة حتى تؤدي كل كلمة الوظيفة المنوطة بها، وأمَّا في نثر العامة، فالشخوص إمَّا يكلمون أنفسهم «أو الجمهور» أو يتحادثون في غضون بناء موقف درامي فكاهي على خشبة المسرح، وخصوصًا في المشهد الرابع من الفصل الرابع، الذي يتضمن نحو نصف النثر في المسرحية، ويشكِّل النثر نسبة ٤٠ في المائة من هذا المشهد.

وأعتقد أنَّ امتزاج النَّظْم بالنثر الذي يبدأ في ٣ / ٣ معلنًا تغيُّر «النغمة» أي بداية اختلاط الكوميديا والتراجيديا، يقوم بدورٍ مهمٍّ في إعداد الجمهور لتلقي ما لم يكن يتوقع، فنحن حين نهبط في نحو منتصف ٣ / ٣ من «حلم» أنتيجونوس المنظوم بإيقاعاتٍ يمزج فيها شيكسبير أكثر من بحر شعري واحد (وهو ما حاولت محاكاته بالعربية) إلى أرض بوهيميا في اللحظة التي يترك أنتيجونوس فيها الرضيعة التي ينكر أبوها ليونتيس نسبها إليه، وبعد أن يكون شبح أمها هرميون قد ذاب في الهواء (٣٥)، تهب عاصفة، ويدخل المسرح دبٌّ، ويقول النقَّاد إنَّه لو دخل ممثل يرتدي جلد دبٍّ إلى المسرح فسوف يدفع بالبسمات إلى شفاه الجمهور، ويخرج أنتيجونوس قائلًا آخر عبارة له في المسرحية «الآن قد بدأ الطراد! قد ضعت هكذا إلى الأبد!» (٥٨) فإذا بالراعي يفاجئنا بمونولوج منثور يختتم نصفه الأول (أي قبل مشاهدته الرضيعة) بعبارة تربط نثره هنا «هبني يا رب حظًّا حسنًا إن قضت مشيئتك!» (٦٦ / ٦٧) بنظم الملاح ورد أنتيجونوس عليه في مطلع المشهد «إني لأومن أنَّما الأرباب غاضبة على ما نفعل» (٥) والرد «لا رادَّ للمشيئة المقدسة!» (٧).

هذا الربط مهم، لأننا أصبحنا الآن نواجه قوى قدرية، وهي القوى التي تعلن بداية حياة جديدة، وتبشِّر بسعادة شأن كل بداية يعهدها الإنسان، ويلخصها الراعي في العبارتين المتوازيتين (وإن كانت «نيلي» تنفي وجود التوازي في حديث العامة، ١٩٨٧م، ص٣٣٠) ألا وهما «قابلت أنت هناك أناسًا تموت، ووجدت أنا هنا حياة وليدة» (١١٠-١١١) وهي اللحظة التي يعتبرها النقَّاد نقطة التحول من التراجيديا إلى التراجيكوميديا أو الكوميديا الصريحة. ولن أفيض في وصف النثر أو تحليله، لكنني سأختم هذا القسم بكلمة عمَّا يُسمَّى «اللياقة» (decorum) في النقد الأدبي والمسرحي، والمقصود به ملاءمة الكلام لمقتضى الحال، وهو هنا يعني أنَّ الشخص غير المثقف أقرب إلى الحديث نثرًا وباللغة الدارجة من المثقف الذي هو أقرب إلى الحديث بلغة راقية أو رفيعة شعرًا أو نثرًا، وقد نذكر في هذا الصدد كتاب المحاكاة (Mimesis) الذي وضعه إريك أَوِرْبَاخْ (Auerbach) وأثبت فيه أنَّ الكوميديا الكلاسيكية كانت تُكتَب نثرًا، والمأساة نظمًا، وإذن فقد يكون الانتقال إلى «غلبة» النثر في النصف الثاني من المسرحية دليلًا على تغيُّر «النغمة»، ولكن الأهم في نظري هو «الوظيفة» المنوطة بالنثر في كل حالة وبالنسبة لكل شخصية. وسوف يدرك القارئ — ولا شك — كيف تختلف «النغمة» باختلاف مستوى اللغة، وهي التي «يُنسَج» منها العمل الفني على امتداد المسرحية.

(٧) المصادر

من المعروف أنَّ شيكسبير استقى «حبكة» هذه المسرحية، أو ما يُسمَّى «الخيط القصصي» الأول، من رواية معاصره «روبرت جرين» التي جعل لها عنوانين هما: باندوستو أو دوراستوس وفونيا، ونُشِرت للمرة الأولى عام ١٥٨٨م، ثم أُعيد طبعها ببعض التعديلات عدة مرات. ولكن شيكسبير أدخل على هذا «الخط القصصي» من التغييرات ما صبغ عمله الشعري بصبغة مختلفة تمامًا، وقد ظلَّ النقَّاد قانعين بهذا المصدر وحده مدة طويلة، بل كان بعضهم يتصور أنَّ شيكسبير أضاف مشهد «التمثال» في الفصل الأخير عندما راجع المسرحية ونقَّحها بعد عرضها أول مرة عام ١٦١١م، لأنَّ أحد الذين شاهدوها آنئذٍ لم يذكر مشهد «التمثال»، بل ركز اهتمامه على أتوليكوس وحده تقريبًا. ولكن هذا الرأي لم يصمد أمام الدراسات النقدية المتخصصة في القرن العشرين وبداية الحادي والعشرين، وهي الدراسات التي أثبتت أنَّ شيكسبير بنى للمسرحية صورة كلية منذ البداية، وأنَّ لمسرحية «حكاية الشتاء» في ذهنه صورة متماسكة من البداية للنهاية.

وهذه الصورة الكلية تتكوَّن، كما يقول بيتشر من ثلاثة خيوط متشابكة من الكتابات والأساطير اليونانية القديمة. فأمَّا الخيط الأول فهو قصة بيجماليون التي عرفناها من «مسخ الكائنات» للشاعر الروماني أوفيد، وتقول باختصار إنَّ بيجماليون كان نحاتًا نحت تمثالًا لامرأة جميلة، بثَّت فينوسُ — ربة الحب والجمال — فيها أنفاس الحياة فأصبحت امرأة من لحم ودم. ولكن لهذه القصة أصلًا يونانيًّا أسطوريًّا يقول إنَّ بيجماليون كان ملكًا تولَّه في حب أفروديت «الاسم اليوناني لفينوس»، وحاول الزواج من تمثالها. ولا تتضمن الأسطورة القديمة بث الحياة في التمثال بل تركز على جنون الملك وخبله، وترتبط بطقوس عبادة أفروديت في قبرص، حيث كان الملك أيضًا هو الكاهن الأكبر. ولكننا في العصر الحديث — خصوصًا بعد معالجة برنارد شو للقصة نفسها وإكسابها طابعًا اجتماعيًّا — لم نعُد نرى في الأسطورة إلا «الخبل» الناجم عن الهوس المَرَضِي، ونرحب بترويض أوفيد للأسطورة ونقبله. ومن الطريف أنَّ توفيق الحكيم التزم في معالجته لهذه الأسطورة بصورتها في أوفيد، وعندما عُرِضَتْ مسرحيته بيجماليون في مسرح محمد فريد في مطلع ١٩٦٤م (من إخراج نبيل الألفي) فشلت فشلًا ذريعًا.

وأمَّا الخيط الثاني فهو مأساة ألكستيس التي كتبها يوريبيديس في القرن الخامس قبل الميلاد وأشرت إليها في القسم الأول من المقدمة، وهي قصة زوجة تضحي بروحها في سبيل حياة زوجها، ومصدر «القتامة» في هذه القصة هو أنَّ الرب أبوللو قد سمح لزوج ألكستيس «واسمه أدميتوس» بأن يواصل الحياة بعد أن انقضى أجله على الأرض، إذا وجد من يموت بدلًا منه، وهو ما جعل أدميتوس يشعر بالعار ويكره نفسه، عندما رفض الجميع التضحية بأرواحهم، حتى والداه المسنَّان، ولم يقبل أحد سوى ألكستيس. ويرد يوريبيديس على هذه الأسطورة القديمة التي تصور عجز الإنسان في مواجهة القدر بأن يجعل هرقل يتصدى ﻟ «الموت» ويصارعه فيصرعه في جنازة ألكستيس، ويعيدها بهذا إلى الحياة. وبيتشر يتوسع في اقتطاف بعض فقرات من المسرحية (مترجمة إلى اللاتينية والإنجليزية) في ص٤٤٦–٤٤٨.

وأمَّا الخيط الثالث فمستقى من القرن الثاني الميلادي، ولكنَّه غير مستمدٍّ من أسطورة معينة أو عمل أدبي بعينه، ولكن من نوعٍ أدبي قديم يُمكننا أن نصفه ﺑ «الرواية القديمة»، كما يُشار إليه أيضًا بمصطلح «الرومانس اليوناني»، وهو الذي تصب فيه، دون تمييز، جميع الأنواع الأدبية القديمة «الملحمة، والمأساة، والملهاة، والشعر الرعوي»، ولذلك فهو يتَّسم بتنوع أساليبه، وحبكاته، وحالاته النفسية، ومشاغله، كما أنَّ «القتامة» القديمة لا تشغل فيه إلا مواقع هامشية، وربما كان ذلك بسبب بزوغ شمس المسيحية واحتلالها مكان الأرباب الوثنية. وقد ثبت أنَّ «الرومانسات اليونانية»، (وكان بعضها مترجَمًا إلى اللاتينية) كانت ذات جاذبية شديدة للكُتَّاب في عصر النهضة، واستقى شيكسبير منها بعض خيوط مسرحياته، مثلما استقى روبرت جرين منها حبكات عدد كبير من رومانساته، وكانت إحداها باندوستو، المصدر الرئيسي للخيط القصصي في حكاية الشتاء.

كانت باندوستو (Pandosto) رواية تتمتع بإقبال جمهور القراء، وكان عنوانها الأول هو باندوستو أو انتصار الزمن، وعنوانها الثاني هو قصة دوراستوس وفونيا، وقد ظلَّت تُطبَع عشرات الطبعات حتى بدايات القرن التاسع عشر، وفقًا لما تقوله نيُوكِم (Newcombe) في كتابها «قراءة الرومانسات الشعبية في بواكير إنجلترا الحديثة» (٢٠٠٢م)، وتضيف نيُوكِم إنَّ ذائقة الطبقة المتوسطة للرومانس لم يقضِ عليها إلا ازدهار رواية الرسائل، وبعد ذلك لم يكن يقرؤها إلا أبناء الطبقات غير المثقفة، ويروي صمويل ريتشاردسون (Richardson) في رواية كلاريسا (١٧٤٧-١٧٤٨م) كيف أنَّ انهماك خادمة في مطعم منزل الأسرة الكبيرة ليلًا في قراءة قصة دوراستوس وفونيا صرفها عن الالتفات إلى النار الموقدة، وكاد ذلك يؤدي إلى إحراق جميع من في المنزل، وإن اقتصرت الحادثة على إحراق ستارتين (نيُوكِم، ص٧٢٣). وتضيف الباحثة المذكورة أنَّ هذه الرواية قد لاقت هوًى في نفوس المتأدبين الذين اختصرها بعضهم، أو حاكوها، أو صاغوها شعرًا، كما تُرجِمت إلى الفرنسية مرتين، وقُدِّمت على المسرح الفرنسي مرتين (ص٧٢٦). وهكذا، فعندما شرع شيكسبير في استخدامها، كانت الرواية معروفة على نطاقٍ واسعٍ.
وأمَّا سبب عنوانَيْ الرومانسة فوجود حبكتين متداخلتين، تتناول الأولى باندوستو ملك بوهيميا، والثانية ابنته فونيا (Fawnia) وحبيبها دوراستوس (Dorastus). والحدث في «حكاية الشتاء» يتفق في معظمه مع الحبكة الأولى، وذلك حتى مشهد المحاكمة ٣ / ٢؛ إذ إنَّ باندوستو يظن أنَّ زوجته بيلاريا (Bellaria) وصديقه إيجيستوس (Egistus) ملك صقلية، عاشقان، ويأمر خادمًا لديه أن يدسَّ السمَّ له، ولكن الخادم يخبر إيجيستوس، ويهربان معًا، ويزج باندوستو بزوجته في السجن. وتكتشف زوجته أنَّها حامل، ثم تضع طفلتها، وهي فونيا، ابنة باندوستو، ولكن أباها ينكر نسبها إليه، ويعلن أنَّها نغيلة ومن صلب إيجيستوس، ويأمر من ثَمَّ بنبذها بوضعها في قارب صغير أثناء هبوب عاصفة. وعندما يستجوب الملكُ باندوستو ونبلاءُ مملكته الملكة، ترجو منهم طلب حكم أبوللو من عرَّافته في ديلفوس. ويأتي حكم أبوللو ويُقرأ علنًا في قاعة المحكمة، ويقضي بأنَّها عفيفة، وأنَّ إيجيستوس بريء، وبأنَّ ابنة باندوستو، من صلبه حقًّا، وبأنَّ «الملك سوف يعيش بلا وريث إذا لم يُعثَر على ما فُقِد». ويعترف باندوستو على الفور بأنَّه ظلم زوجته، ويعد بتعويضها، ولكن النبأ المفاجئ بموت ابنهما الصغير جارينتر (Garinter) يؤدي إلى انهيار الملكة ووفاتها. ويحاول الملك الانتحار، ولكن أصدقاءه يقنعونه بأن يظل في قيد الحياة من أجل المملكة. وهكذا يتولَّى دفن زوجته وولده في ضريح فخم يزوره كل يوم للبكاء عليهما.
وتبدأ الحبكة الثانية برسو القارب وفيه الرضيعة على شاطئ صقلية، وهي المملكة التي يحكمها إيجيستوس. ويعثر على الطفلة راعٍ فقير يُدعى بوروس (Porrus) ويحمل الطفلة فونيا (Fawnia) إلى زوجته، ويتبنيانها، معلنين أنَّها ابنتهما. وبعد ستة عشر عامًا تكون فونيا قد أصبحت راعية جميلة يافعة، وينتقل الحدث إلى البلاط، حيث يريد الملك إيجيستوس تزويج ابنه دوراستوس من أميرة أجنبية، ولكن الأمير يراوغ ويرفض الانصياع لمشيئة والده، وهو ما يُغضِب الملك كثيرًا. وذات يوم أثناء استخدام صقوره في الصيد، يُشاهِد اليافعُ الفتاةَ فونيا تقوم بدور «الرئيسة» في إحدى الحفلات الريفية، وينفذ سهم الغرام إلى قلبه على الرغم منه، كما تُبادله الفتاة الحب، ولكن الفارق الكبير بين منزلتها ومنزلته يجعلهما يقاومان هذه العاطفة الجامحة. وأخيرًا يُقنع دوراستوس حبيبته فونيا بأنَّه يريد أن يتزوجها، ويقرران الفرار سرًّا إلى إيطاليا، ويدرك الراعي حقيقة ما يدور، ويخشى غضب الملك عليه، ومن ثَمَّ يعتزم أو يقرر إبلاغه بحقيقة عثوره على الرضيعة وبأنَّها ليست ابنته، ولكنَّه أثناء انطلاقه إلى القصر يقابل خادم دوراستوس (ويُدعى كابنيو Capnio) الذي يُرغِمُ الراعي على ركوب السفينة التي ركبها العاشقان قُبيل إبحارها، وعندما يعلم الملك بنبأ زواج ابنه الأمير من راعية، يكاد النبأ يقضي عليه. وتتعرض السفينة لعاصفة تضطرها إلى الرسو على ساحل مملكة باندوستو. وعندما يصل الحبيبان إلى البلاط، يُلفِّق الأمير قصة عن هويتهما، فيأمر باندوستو بحبسه، ويحاول إغواء فونيا. وعندما يسمع الملك إيجيستوس بأنَّ دوراستوس مسجون، يرسل سفراءه للإفراج عنه وإعدام فونيا والراعي وكابنيو. ويوافق باندوستو على ذلك، ولكن الراعي يقصُّ عليه القصة الحقيقية، وكيف عثر على الرضيعة، ومنها يدرك باندوستو أنَّ فونيا ابنته. وتُعقَد الاحتفالات فرحًا بذلك. ويُسافر الجميع بلا استثناء إلى بلاط إيجيستوس الذي يُسعده أن يتزوج الحبيبان فورًا. وعندما تنتهي الاحتفالات، يصيب اليأس باندوستو فينتحر عقابًا لنفسه على شروره، وكان آخرها اشتهاءه ابنته، وتُعاد جثته إلى بوهيميا حيث يُدفن إلى جوار زوجته وابنه، ويحكم زوج ابنته بدلًا منه.

والواضح أنَّ تغييرات شيكسبير في القصة تدل على أنَّه وجد فيها معنى لم يخطر ببال جرين قط، ولم يسع إليه جرين قطعًا. إذ إنَّ نصفي الحدث في باندوستو لا يربط بينهما إلا المصادفة، و«انتصار الزمن»، (كما يقول العنوان)، فالفتاة فونيا رضيعة تنجو من العاصفة البحرية، ثم تعود في يفوعها — كما قالت النبوءة — إلى وطنها بسبب عاصفة بحرية أخرى. ولا يُثير الكاتب لدى القراء أي تساؤل عن سبب نجاتها أو سبب استمرار باندوستو (بكل ما فيه من شرور) في قيد الحياة، حتى يُشاهد ابنته مرة أخرى؛ فالظروف تتغير عند جرين — فتموت أم وتكبر ابنتها لتتزوج أميرًا — ولكن الناس لا يتغيرون. ففي نهاية الرواية لا يزال باندوستو طاغية متسلطًا أرعن سريع الغضب، تمامًا كما كان في البداية. ويبدو أنَّ ذلك هو ما كان جرين يرمي إليه، فإنَّ شخوصه، دون أن يدروا، أسرى الزمن، والزمن ينتصر عليهم، وهم لا يفهمون ما يحدث لهم، وهكذا فعندما تتوالى الأحداث، لا يتعلَّمون شيئًا منها، ولا من الزمن.

ونرى على العكس من ذلك أنَّ الشخوص في حكاية الشتاء — وخصوصًا الشخوص الرئيسية — على وعي أو هم على شَفَا الوعي بأنساق معانٍ أعمق لما يحدث، ويشاركون في الأحداث مسلحين بهذا الوعي، ويتغيرون تبعًا لشدته وانخفاضه. ولا أظنني أخرج عن إطار هذه المقارنة المحدودة إن ألمحت بإيجازٍ إلى المفارقة في العنوان الذي اختاره شيكسبير لمسرحيته، فالحكاية — كما ذكرت في القسم الخاص بالنوع المسرحي — لا تتطلَّب عمقًا أو تطورًا في الشخصية، على عكس الدراما التي تقوم على العمق والتطور. فقديمًا قيل إنَّ الدراما الكلاسيكية (حتى العصر الحاضر) يتماهى فيها الحدث مع الشخصية، بحيث تُملي الشخصية مسار الحدث مثلما يؤدي الحدث إلى تطور الشخصية، وليس هذا من متطلبات «الحكاية». وهي في هذا السياق قرينة الرومانسة، ومن ثمَّ فأنا أجد في عنوان شيكسبير مفارقة مقصودة، ما دام العنوان ينفي العمق والتطور (وهما العنصران اللازمان لكل فعل إرادي في الدراما) في حين أنَّ الشخوص الرئيسية تشتبك مع «الظروف» أو «المصادفات» التي توفِّرها الحكاية التي استخدمها الشاعر حتى توجهها الوجهة التي تريدها. وأعود الآن إلى ما أعنيه بالوعي: إنَّ برديتا، التي يضفي عليها شيكسبير قدرًا من الثقافة والحصافة لا يتأتى عادة لبنات الرعاة في ريف ذلك العصر، تُبْرِزُ وَعْيَهَا بالأسطورة القديمة للأم والبنت المصورة في علاقة بروسربنيا بأمها سيريس، في الحفل الريفي الرعوي، وإذا بها تجسد لنا هذه العلاقة مرة أخرى على المسرح أمام أمها التي تقف وقفة «التمثال» — هل تفعل ذلك دون وعي، كما يقول النقَّاد؟ في ظني أن شيكسبير يستغل معرفة برديتا بتلك الأسطورة (ما دام قد افترض فيها هذه المعرفة) في الربط بين الأسطورة الكلاسيكية والحدث الدرامي، وربما كانت برديتا واعية بما تفعل. ويبرز لنا دور أتوليكوس — العملاق الذي أضافه شيكسبير إلى «الحكاية» فاستأثر بمعظم ما فيها من نثرٍ، وألقى ظله على النصف الثاني كله، كمًّا وكيفًا، فهو محتال أناني، لكنَّه يرى أنَّه سوف ينتهي إلى فعل الخير وإن لم يكن يرغب فيه. كما تنتقل المسرحية في الفصل الرابع أيضًا من الزمن «الحقيقي» أي الزمن اليومي، إلى اللازمنية الأسطورية، فنحن نواجه ما يقال إنَّه «تمثال» يمكن أن يُكتَب له الخلود، نحته النحَّات في سنين كثيرة، وصموده يتأكد — وهذه مفارقة أخرى — بصمود صاحبته هرميون ستة عشر عامًا (فيما يشبه المعجزة، ما دام لم يسمع بها أحد طيلة هذه المدة) وتتأكد المفارقة، بطبيعة الحال، لأنَّ بشرًا فانيًا «هرميون» يحلُّ محل تمثال «خالد»! على أنَّ أهم اختلاف من هذه الزاوية يتعلق بسرعة مرور الزمن، فإن مشاعر الغيرة وانفجار غضب ليونتيس وردود أفعاله تحدث بسرعة شديدة، وأكاد أقول «مفاجئة» لنا في النصف الأول من المسرحية، وهو يتخذ القرارات بسرعة ويعدل عنها بسرعة، والنصف الأول كله يموج بحركة صاخبة عالية النبرة، على عكس الجزء الثاني الذي يُبطئ فيه مرور الزمن، بعد هوة الأعوام الستة عشر، حتى يتسنى الميلاد الجديد وظهور لون آخر من ألوان الحياة، كما تقول إنجا - ستينا إيوبانك (Ewbank) في دراسة لها عنوانها «انتصار الزمن في حكاية الشتاء» (مجلة الأدب الإنجليزي ٥، ١٩٦٤م، ص٨٣–١٠٠)، حيث تُحلل هذه الظاهرة باستفاضة وتنتهي إلى أنَّ الزمن «له جذوره العميقة ووجوده الطاغي باعتباره القوة التي تشكِّل وتسيطر على البناء الدرامي والصنعة الدرامية في المسرحية» (ص٨٤).
وقضية تصوير الزمن باعتباره القوة التي تُسيِّر الأحداث في المسرحية لا تقتصر على تقديمه على المسرح في صورة رجل هرِم، وهي الصورة التقليدية التي كانت تُسمي الزمن «الأب العجوز»، ولكن الصورة تتغلغل في البناء والنسيج معًا، فأمَّا تقديم «شخصية» الزمن في صورة جوقة فكان شائعًا. وأشير بالمناسبة إلى أنَّ القول باستعارة شيكسبير لهذه الصورة من أحد معاصريه أو أسلافه، أو التعجُّل بالقطع فيمن كان «المصدر» قولٌ قد يجانب الصواب، ففي عام ١٩٦٣م كتب بافورد (في مقدمته لطبعة آردن الثانية) يقول باحتمال استعارة شيكسبير هذه الصورة من مسرحية كتبها مؤلفان مغموران وعنوانها أعجوبة تراقيا، وإنَّ صورة الزمن فيها مستعارة من رومانسة كتبها جرين بعنوان مينوفون (Menophon) في عام ١٥٨٩م، وإنَّ كاتب مسرحية «أعجوبة تراقيا» كتبها ما بين عامي ١٦٠٠م و١٦١٠م، وإن لم تُنشَر إلا في عام ١٦٦١م. ولكن البحوث الحديثة قد أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ هذه المسرحية لم تُكتَب إلا بعد كتابة «حكاية الشتاء» أي ما بين أواخر ١٦١١م، وأوائل عام ١٦١٢م، وهو ما يوحي بأنَّ نص شيكسبير هو الذي أثَّر في تلك الصورة، ولم يتأثر بها؛ إذ قام باحث يُدعَى مايكل نولان (Nolan) بنشر تلك المسرحية عام ١٩٩٧م، وأورد أدلَّته القاطعة على ذلك في ص٥٤–٥٧ من مقدمته.
ويبيِّن الباحث نيفيل كوجهيل (Coghill) في دراسة قصيرة له بعنوان «ست نقاط للصنعة المسرحية في حكاية الشتاء» المنشورة في مجلة دراسات شيكسبيرية ١١، ١٩٥٨م، ص٣١–٤١، أنَّ دور الزمن في صورة الجوقة يقتصر على إعداد الجمهور «لتلقي ما لن يشاهده» ويُسمي هذه الصنعة «المفاجأة المحسوبة» (ص٣٢) قائلًا إنَّه يقف عند «نقطة التحول في الحالة النفسية من المأساة إلى الملهاة» (ص٣٥)، وإنَّه يتجلى فيه «صنعة الإضمار» أي فن تقديم صورة شعرية لما شهدناه على المسرح حركيًّا ونفسيًّا في النصف الأول من المسرحية، وهذا كله من صنع شيكسبير، وأضيف أنا كم يختلف هذا عن «شخصية» الزمن الصامتة في «أعجوبة تراقيا» بل وفي رومانسية «مينوفون» لروبرت جرين.
ومع ذلك فقد انشغل الباحثون برصد جذور لكل ظاهرة من ظواهر حكاية الشتاء، وعلى رأسهم جيفري بولو (Bullough) في المصادر القصصية والدرامية لشيكسبير (١٩٥٩–١٩٧٥م). مثل ظهور الدب (الذي يرجعه إلى وجود دب يقتله أحد الأبطال في مملكة الجان للشاعر سبنسر) وظهور دب على المسرح في إحدى المسرحيات التي قدمتها فرقة شيكسبير قبل حكاية الشتاء (ص٢١٤-٢١٥، و٢٠٥-٢٠٦)، وإن كنت أظن أنَّ الشاعر لم يستعِر — بالضرورة — ذلك الدب من هذا أو ذاك، فجو الحدث في المسرحية يطلبه، وإن كان تخصيص «الدب» (من دون الحيوانات المتوحشة جميعًا) يدين للتراث الأدبي والأعراف السائدة آنذاك.
وأنتقل الآن إلى بثِّ الحياة في «التمثال» في المشهد الذي طالما اعتُبِر «خبطة مسرحية مذهلة» (هول ص٢٩) يتميز بها نص شيكسبير عن كل من سبقه، فأقول إنَّ الباحثين قد أثبتوا أيضًا أنَّ تحويل تمثال إلى كائن حي كان خيطًا شائعًا من خيوط نسيج النصوص غير الدرامية في ذلك العصر. وقد سبقت لي الإشارة إلى دراسة لينارد بَرْكَان (Barkan) بعنوان «الأعمال المنحوتة الحية»: أوفيد وميكيلانجلو وحكاية الشتاء (مجلة التاريخ الأدبي الإنجليزي ٤٨، ١٩٨١م، ص٦٣٩–٦٦٧) ويقول بذلك فيها (ص٦٣٩) كما يبيِّن جيمز إليسون (Ellison) في دراسة له بعنوان «حكاية الشتاء والسياسات الدينية في أوروبا» وهي منشورة في كتاب من تحرير إليسون ثورن (Thorne) بعنوان رومانسات شيكسبير، سلسلة دراسات الحالة الجديدة، ٢٠٠٣م (ص١٧١–٢٠٤) أنَّ الاحتفالات «المدنية» المحلية كانت تتضمن «تماثيل متحركة» (ص١٧٥) ويقصد بها أنَّ مواكب الاحتفالات كانت تضم شخوصًا يتظاهرون بأنَّهم تماثيل ثم يتحركون حركات محسوبة، مثلما حدث في حفل استقبال دخول الملك جيمز الأول لندن عام ١٦٠٤م. ويؤكد أنَّ الصورة كانت مألوفة للناس. وأشار غيره، مثل جانيت ديلون (Dillon) في كتابها المسرح والبلاط والمدينة ١٥٩٥–١٦١٠م: الدراما والمشهد الاجتماعي في لندن، الصادر عام ٢٠٠٠م، إلى أمثال هذه الظواهر الاحتفالية؛ إذ تشير ديلون إلى أنَّ الاحتفال بافتتاح بورصة لندن للأوراق المالية «الجديدة» عام ١٦٠٩م شهد عرضًا لتمثال أبوللو وهو «يغني» (ص١٢١-١٢٢). وقد عثرتُ على فقرة في كتاب بعنوان مسرحيات شيكسبير الأخيرة: مدخل جديد كتبته فرانسيس ييتس (Yates) عام ١٩٧٥م، وتقول فيها إنَّها تجد في المشهد الذي تقوم فيه بولينا ببثِّ الحياة في التمثال إشارة إلى الطقوس السرية الهرمسية (نسبة إلى هيرميس الذي سبق ذكره وهو تحوت المصري) أي إشارة إلى «طرائق السحر الدينية التي كان قدماء المصريين، فيما يُفترض، يبثُّون بها الحياة في تماثيل أربابهم» (ص٩٠). وعلى الرغم من هذه البحوث التي ترد الظاهرة المسرحية إلى مصادر «محلية» أو «أجنبية»، فإنني أرجح اتكاء شيكسبير على نص يوريبيديس ألكيستيس الذي سبقت الإشارة إليه، والترجمة التي أبدعها بوكانان (Buchanan) خصوصًا، ونحن نستدل على ذلك ﺑ «الإضافات» الطفيفة من جانب المترجم إلى النص اليوناني في صورته اللاتينية الجديدة، فعندما يتصور أدميتوس زوجته مثلًا بعد الوفاة ويراها وهي تزوره من عالم الموتى أثناء نومه، يقول أدميتوس في ترجمة بوكانان:
(Umbra me per somnia/utinam reversa oblectet.)
أي «ليت شبحك يسعدني فيعودني في أحلامي» وفق ترجمة دجلاس ويلسون (Wilson) الذي يقول إنَّ النص الأصلي لا يتضمن لفظ «الشبح» (Umbra) وهي التي استنبطها بوكانان من السياق فأضافها «مسرحية ألكستيس ليوريبيديس وختام مسرحية حكاية الشتاء لشيكسبير» مجلة بحوث ولاية أيووا، ١٩٨٤م، (ص٣٤٥–٣٥٥).
وقد عادت الباحثة سارة ديوار-واطسون (Dewar-Watson) لتأكيد تأثير هذه المسرحية في نص شيكسبير في دراستها «مسرحية ألكيستيس ومشهد التمثال في حكاية الشتاء» مجلة شيكسبير الفصلية ٦٠، ٢٠٠٩م، ص٧٣–٨٠.
وأعود الآن إلى الصورة الأشهر للتمثال الذي يتحوَّل إلى إنسان حي، أي قصة بيجماليون التي يرويها أوفيد في مسخ الكائنات، والأرجح أنَّ شيكسبير قرأها في النص اللاتيني الأصلي للكتاب العاشر، وإن كان بعض الباحثين يقولون إنَّه قرأ أيضًا ترجمة آرثر جولدنج (Golding) المنظومة، والمنشورة عام ١٥٦٧م، بسبب وجود بعض الأصداء اللفظية لهذه الترجمة في حكاية الشتاء. وتضرب هول بعض نماذج هذه الأصداء اللفظية، فبعد أن يقع بيجماليون في حب التمثال الذي صنعه بيديه يدعو الربة فينوس أن تهبه زوجة تماثله تمامًا، وتستجيب الربة موحية إليه أن يُقبِّل التمثال. وهكذا، فعندما يعود إلى تقبيل تمثاله «إذا بالعاج قد لان» (السطر ٣٠٩ من الطبعة المنشورة للترجمة عام ١٩٦١م) وليونتيس أيضًا يعقد العزم على تقبيل التمثال — «تمثال» هرميون — وهو هرميون الحية. وتضيف هول إنَّ وصف جولدنج لعودة الحياة تدريجيًّا إلى التمثال قائلًا «وبدا أنَّ الدفء انتشر على الفور بجسد المرأة» (٣٠٦) وصفٌ يجد صداه في دهشة ليونتيس حين يلمس هرميون هاتفًا «وإنَّها لدافئة!» (٥ / ٣ / ١١٠) ويقف بيجماليون «مدهوشًا» (٣١٢) وليونتيس تبدو عليه «الدهشة» (٥ / ٣ / ٢١) ولكن هذه الأصداء اللغوية طفيفة، ولذلك فهي لا تحسم القضية، فالموقف يُملي مثل هذه الألفاظ، وأميل إلى قبول رأي نَتُول (Nuttall) في دراسته «حكاية الشتاء: تحويل صور أوفيد» المنشورة في كتاب عنوانه أوفيد عند شيكسبير: «مسخ الكائنات» في المسرحيات والقصائد، وهو الذي حرَّره أ. ب. تايلور (Taylor) عام ٢٠٠٠م، ويقول فيه إنَّ شيكسبير يُقلل إلى الحد الأدنى في حكاية الشتاء «الارتباط الجنسي المنحرف» من جانب بيجماليون بالتمثال الذي صنعه (ص١٣٩) مؤيدًا الرأي الذي كانت قد أبدته بربارا روتش بيكو (Pico) بعنوان «من «اللهجة غير المنطوقة» إلى «الفن المزدهر»: إعادة صوغ شيكسبير لصورة بيجماليون» والتي نشرتها في المجلة الفصلية لمكتبة هنتيجتون ٤٨ (رقم ٣) عام ١٩٨٥م (ص ٢٨٥–٢٩٥) وتقول بيكو (وفق ما يروي نتول) إنَّ «طقوس بيجماليون» في نهاية حكاية الشتاء تتجنب «النبرات الوثنية أو غير اللائقة» التي كانت هذه الطقوس قد اكتسبتها في السياقات الأخرى في عصر النهضة. كما وجدتُ تأييدًا لهذا الرأي في كتاب جوناثان بيت (Bate) شيكسبير وأوفيد، ١٩٩٣م، في صفحة ٢٣٣.
وإن كان لا بد من رصد تأثير أوفيد في شيكسبير، فسوف نجده في أسطورة أخرى من الكتاب نفسه «الكتاب العاشر» وهي أسطورة فقدان أورفيوس لزوجته يوريديس (Euridyce) أثناء محاولته العودة بها من عالم الموتى إلى عالم الأحياء؛ إذ إنَّ بولينا تحذِّر ليونتيس من تجاهل هرميون حتى تموت فعلًا قائلة له:
لا تبتعد عنها سوى عند الوفاة مرة أخرى،
وعندها تكون قد قتلتها للمرة الثانية!
(٥ / ٣ / ١٠٦-١٠٧)
والواقع أنَّ تأثير أوفيد يصعب حصره، لا في هذه المسرحية وحسب، ولا في شيكسبير كله فقط، بل في كتابات عصر النهضة برمته، ولأضرب مثالًا أو مثالين على ما أعنيه؛ إذ إنَّ أوفيد يحكي في الكتاب الحادي عشر من «مسخ الكائنات» كيف حملت الفتاة خيون (Chion) في توءم، وكان أحدهما ابنًا للرب ميركوري والآخر ابنًا للرب أبوللو، فأما ابن ميركوري فهو أتوليكوس والذي يصفه أوفيد بأنَّه «غراب ماكر» وكانت الغربان ذات سمعة سيئة بسبب غرامها باختطاف الأشياء البرَّاقة والملونة، كما يقول صراحة «إنَّه لم يكن له نظير في السرقة وفي النشل» (٣٦٠-٣٦١) وقد أشار إلى هذه «التوازيات» الباحث بيت في كتابه المذكور أعلاه، وكانت قد سبقته الباحثة ماري لام (Lamb) إلى دراسة «تعديل» صورة أتوليكوس التي رسمها أوفيد باعتباره نموذجًا لممارسة «فن السرقة» بأن أبدع شيكسبير — في مقابله — نموذجًا آخر لممارسة «الفن الأخلاقي» — وهو الفن الذي تصفه بالسحر الحلال في أواخر المسرحية — أي شخصية بولينا، ذات الوجود الطاغي في «حكاية الشتاء»، وذلك في الدراسة التي كتبتها لام بعنوان «أوفيد وحكاية الشتاء: نظرتان متعارضتان تجاه الفن» وهي منشورة في كتاب بعنوان شيكسبير والتقاليد الدرامية، من تحرير و. ر. إلتون (Elton) ووليم لونج (Long)، عام ١٩٨٩م.
والصورة الأوفيدية الأقرب إلى «حكاية الشتاء» كلها تقع في مشهد الزهور الذي سبقت مناقشته، في قسم «الفن والطبيعة» عاليه في هذه المقدمة، من وجهة نظر البُنوَّة الشرعية وغير الشرعية، ولكن فيه إشارة أخرى إلى قصة بروسربينا وديس؛ إذ يحكي أوفيد في الكتاب الخامس من «مسخ الكائنات» كيف اختطف ديس (Dis) رب الموتى، الفتاة بروسربينا وحكم عليها بأن تقضي ستة أشهر في عالمه السفلي (مملكة الموتى الرمزية) وبذلك قضى على الأرض بفصل الشتاء قبل أن يسمح لها بالعودة في الربيع لبثِّ الخصب والنماء في الأرض؛ إذ إنَّ ليونتيس يرحب بوصول برديتا إلى صقلية (مسقط رأس بروسربينا) قائلًا لها «فمرحبًا هنا كترحيب البسيطة بالربيع!» (٥ /  ١ / ١٥٠).
وبرديتا تُخاطب بروسربينا مباشرة قائلة:
… يا بروسربينا! يا بنت ربَّة الزراعة!
يا من أخافَها هجومُ ديس — رب موتانا — فأسقطت زهورها
من حِجْرها على مركبته!
(٤ / ٤ / ١١٦–١١٨)
وتضيف برديتا إلى زهور البنفسج والزنابق التي يذكرها أوفيد (في ترجمة جولدنج ٤٩٢) زهور النرجس الأصفر، التي تأسر بالجمال كل ريح عاتية، «في شهر مارس» (٤ / ٤ / ١٢٠) وزهورًا أخرى كثيرة يقول نتول في دراسته المشار إليها إنَّها تعلن مولد الربيع (ص١٣٦). كما يحاول فلوريزيل بث الطمأنينة في نفس برديتا مؤكدًا أنَّ حبَّه صامد، وأنَّه لو عَدَلَ عن إخلاصه لها أي لو حنث بيمينه:
فلتأتِ ربَّة الطبيعة … فتدكَّ أجناب البسيطة ثم تسحقها معًا،
ولتفسد البذور في باطنها!
(٤ / ٤ / ٤٨٣-٤٨٤)
وإفساد البذور في باطن الأرض يُرجِع صدى العبارة التي يصف فيها أوفيد كيف أن سيريس والدة بروسربينا قد غضبت على صقلية لأنَّها فقدت ابنتها فيها «فأفسدت البذور» وجعلت الأرض قاحلة (٥٩٧) وهو ما أشار إليه هونيجمان (Honigmann) في دراسته «المصادر الثانوية لحكاية الشتاء» المنشورة في مجلة فقه اللغة الفصلية ٣٣، ١٩٥٥م، ص٢٧–٣٨، ولا بد أن أقول إنَّه من أوائل النقَّاد الذين لاحظوا التوازي بين بروسربينا وبين برديتا، وكذلك التوازي بين سيريس وهرميون ملكة صقلية (ص٣٤-٣٥).
وأختتم هذا القسم بما ذكرته جوان هول من تأثير طاغٍ لأوفيد في كُتَّاب ذلك العصر دون استثناء تقريبًا، وكيف كان الشعراء والمسرحيون والقصاصون يستلهمون «أساطير» مسخ الكائنات في صورها المعدَّلة عند معاصريهم إلى الحد الذي يجعلنا نعتبر «تضمين» بعض هذه الصور من باب «التناص» لا من باب السرقة الأدبية (ص٣١). وأعتقد أن تحويل أي مادة (شعرية أو قصصية) إلى الشكل الدرامي يتعدى مجرد «تغيير الشكل» ويتجاوزه قطعًا إلى تغيير «المادة» نفسها، التي يميل الكلاسيكيون إلى اعتبارها «مستعارة»، مثلما يفعل دارسو «السرقات» الشعرية في تراثنا العربي، ﻓ «الشكل» لا ينفصل عن «المضمون» — إذا استخدمنا المصطلح القديم — وتقديم صورة أسطورية في سياق حوار مسرحي يختلف عن تقديمها في سياق قصصي، لأنَّ طبيعة الحوار تتطلب مشاركة المُشاهِد (في المسرح) الذي لا يحكم على الحدث والأشخاص إلا من خلال اللغة، فالراوي (كاتب القصة) يختفي ويحل محله شخوص العمل أنفسهم، وتأثير ما يقولونه آنيٌّ، أي حاضر، بسبب «حضورية الحدث» في المسرح. وهذا ما يناقشه كتاب صدر عام ١٩٨٩م بعنوان «شيكسبير والإحساس بالأداء المسرحي» من تحرير مارفن طومسون ورُوْث طومسون (Marvin & Ruth Thompson)، ويتضمن دراسة بديعة للباحثة إنجا - ستينا إيوبانك (Ewbank) (أشرت إليها سابقًا) تناقش فيها هذه القضية تحت عنوان «من اللغة القصصية إلى اللغة الدرامية: حكاية الشتاء ومصدرها» (ص٢٩–٤٧).

(٨) تطور المداخل النقدية للمسرحية

كان نقَّاد عصر الكلاسيكية الجديدة — أواخر القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كله تقريبًا — يفضِّلون ما نسميه اليوم «الواقعية» وما كانوا يسمونه «المعقولية»، ويعلون من مكانة اللياقة (مراعاة مقتضى الحال)، ولهذا لم ينظروا ﺑ «عين العطف» إلى حكاية الشتاء. فإذا تجاوزنا قول بن جونسون (Jonson) بأنَّه يحتقر «الحكايات الخيالية والعواصف وأمثال تلك الأعمال المضحكة» لاشتباهنا في غيرته من معاصره العظيم، فإن درايدن (Dryden) كان يُعبِّر فعلًا عن روح العصر حين قال إنَّ «حكاية الشتاء» من مسرحيات شيكسبير التي تقوم على أُسس يستحيل وجودها في الواقع، وأمَّا الشاعر ألكسندر بوب (Pope)، الذي كان من أوائل محرري مسرحيات شيكسبير (فطبعته للأعمال الكاملة وتعديلاته في نصوص بعضها لا تزال مرجعًا ومهمًّا) فقد رفض في عام ١٧٢٥م أن يُصدق أنَّ الشاعر العظيم نفسه كتب كل المسرحية، ظانًّا أنَّ ما يُنسَب إليه منها لا يزيد على بعض الشخصيات وربما بعض الفقرات. وأمَّا الدكتور جونسون (Johnson)، عملاق النقد في القرن الثامن عشر فقد قال إنَّ المسرحية مُسلية جدًّا على الرغم من كل ما فيها مما لا يقبله العقل، ولم يمتدح إلا أتوليكوس قائلًا إنَّ شيكسبير تصوَّره في صورة «طبيعية جدًّا وقدَّمه بقوة على المسرح.» ولم يبدأ الاهتمام الحقيقي بالمسرحية إلا في العصر الرومانسي، ويبرز الناقد وليم هازليت (Hazlitt) الذي كتب عام ١٨١٧م يمتدح المسرحية من حيث اللغة وتقديم الشخصيات، مشيرًا إلى جَلَدِ هرميون وصبرها على محنتها، ومُطرِيًا شخصية أتوليكوس، ومُثنيًا على الأسلوب المرتبك الملتوي الذي يصوِّر غيرة ليونتيس.
وأما في مطلع القرن العشرين، فإنَّ مسرحيات شيكسبير الأخيرة بصفة عامة، و«حكاية الشتاء» بصفة خاصة، لم تجد من يتولى تحليلها التحليل العميق لأنَّ الشخصيات في هذه المسرحية تفتقر إلى «التركيب» أي إلى العناصر المركبة التي تُغري بالتحليل على عدة مستويات، مثل شخصيات مأساوات شيكسبير التي خصص لها برادلي (Bradley) كتابًا كاملًا (١٩٠٤م) يعالجها فيه معالجة عميقة كأنَّما كانت شخصيات روائية أو تاريخية أو شخوصًا حقيقية، باستثناء وحيد هو شخصية ليونتيس الذي حظى بتعليقات سيكولوجية غزيرة، وكان أحدثها ما جاء به هارولد بلوم (Bloom) في كتابه «شيكسبير وابتكار معنى الإنسان» (١٩٩٨م)، فهو متعاطف مع مذهب برادلي الإنساني، أو ما يسميه البعض المذهب «الجوهري» الذي يرى في كل إنسان «جوهرًا» راسخًا يميزه عن غيره، وهو يطلق على النصف الأول من حكاية الشتاء اسم «رواية سيكولوجية … قصة ليونتيس» (ص٦٣٩). والواقع أننا نلمح جذورًا لهذا الاتجاه في القرن التاسع عشر؛ إذ وصف الشاعر والناقد كولريدج (١٨١٨م) شخصية ليونتيس بأنَّها صورة دقيقة للطبع الغيور، فهو يهتاج دونما سبب مقنع، وهو فظ غليظ في رؤاه وحتى في إحساسه بالعار (النقد الشيكسبيري، المجلد ٣، ١٩٦٠م، ص١١٠–١١٢).
وفي منتصف القرن العشرين بدأ تيار النقد الفرويدي — نسبة إلى عالِم النفس الأشهر سيجموند فرويد (Freud) مبتدع التحليل النفسي ونظريات الكبت واللاوعي ومركبات النقص والتفوق والخوف والولع المرضي — في غزو النقد الأدبي، فكتب ج. أ. ستيوارت (Stewart) كتابًا كاملًا في عام ١٩٤٩م عنوانه «الشخصية والدافع في شيكسبير» يقول فيه إنَّ غيرة ليونتيس نتيجة «لا واعية» لميوله الجنسية المثلية لصديقه بوليكسنيس، ويطبق ستيوارت هنا ما أطلق عليه فرويد اسم «غيْرة الخيلاء المرضية» ومعناها بإيجاز (حسبما يشرحها الناقد) أنَّ «المصاب» بها يدافع عن حبِّه «المكبوت» في اللاوعي بإلصاقه بغيره، أي أنَّه ينكر (استكبارًا، أي من باب الخيلاء) هبوطه إلى هذا المستوى فينقله إلى غيره، ويلخصها الناقد في الصيغة التالية «لست أنا الذي يحبه، بل هي التي تحبه» (ص٣٣–٣٥). وقد مرَّ بنا كيف يُفسر ناقد معاصر هو بيتشر (٢٠١٠م) غيرة ليونتيس بنظرية فرويدية أخرى ألا وهي «النكوص» أو الارتداد إلى الطفولة (انظر القسم الذي أناقش فيه البناء في هذه المقدمة) ولكن السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين كانت الفترة التي ازدهر فيها تطبيق نظريات التحليل النفسي الفرويدية، كما يتبدى لنا من الدراسات المنشورة في مجلة أميريكان إيماجو في تلك الحقبة، وقد اخترت بعضًا منها لإيضاح المقصود: الأولى كتبها ستيفن ريد (Reid) بعنوان حكاية الشتاء عام ١٩٧٠م (ص٣٣–٤٥) ويغوص فيها فيما يُسمَّى المخاوف الأولية لعقدة أوديب التي تؤدي إلى غيرة الخيلاء المرضية، ومعنى هذه المخاوف «قلق الطفل الغريزي من منافسة والده في حبِّه لأمه»، ويؤدي هذا القلق أو الخوف إلى نقل حلبة الصراع اللاواعي إلى ساحة مقبولة اجتماعيًّا، ولا يستطيع ليونتيس أن يجد الشفاء من هذه الغيرة إلا بنقل حبه لبوليكسنيس إلى حب ابنته برديتا (ذاته الأنثوية) وبين فلوريزيل (الذات الذكورية لبوليكسنيس) (ص٣٧). وعلى ما في هذا التأويل من شطط فإنَّه يفسر حماس ليونتيس لتزويج فلوريزيل من برديتا حتى وهو يتصور أنَّها ابنة راعٍ للغنم، ما دام عقله اللاواعي قد ربطها بزوجته، (وهو ما اجتذبه فيها أول الأمر):
بولينا:
مولاي! لا يجمُل بعيونك قط مغازلة فتاة في هذا
العمر الغضِّ! كانت ملكتكم أجدر بالنظرات الحالية،
حتى قبل الموت بما لا يصل إلى شهر واحد.
ليونتيس:
كانت تتراءى لي في هذي النظرات! (إلى فلوريزيل)،
سأُناصرها وأُناصرُك!
(٥ / ١ / ٢٢٤–٢٢٧، ٢٣٠)
والدراسة الثانية كتبها مَرِي م. شوارتز (Schwartz) في المجلة نفسها عام ١٩٨٠م بعنوان «غيرة ليونتيس في حكاية الشتاء» (ص٢٥٠–٢٧٣) ويربط بين غيرته وبين ضروب القلق السابقة على عقدة أوديب، شارحًا إياها بأنَّ شوق الرضيع إلى رعاية أمه يواجه الخوف من «سوء نية الأم» (ص٢٧٣) وهذا في رأيه ما يجعل ليونتيس ينقَض بكل هذا العنف على زوجته هرميون. ومثلما قال ستيوارت إنَّ مسرحيات شيكسبير تغوص بأساليب بارعة في «أنماط من الصراع عادة ما يرفض العقل الواعي الاعتراف بها» (ص٣٨). يبرر شوارتز مدخله النقدي قائلًا: «إنَّ أي استجابة نقدية تنكر الدوافع اللاواعية من شأنها التقليل من قوة لغة شيكسبير التي تتميز بتعدد الأسباب والعوامل الكامنة فيها» (ص٢٥١). وعلى غرار هذا نشرت كاي ستوكهولدر (Stockholder) كتابًا عام ١٩٨٧م عنوانه الحُلم ينجح: عُشَّاق وأُسرٌ في مسرحيات شيكسبير تستخدم فيه المنهجية الفرويدية، وترى أن حدث المسرحية يمثِّل «مداولات» بين الدوافع اللاواعية لبطل المسرحية ودوافعه الواعية (ص١٥) في غضون تصدي ليونتيس لما تسميه «النوازع التي تفرضها عليه أحلامه» (ص٢٥١).
ولكن هذا لا يعني أنَّ الفترة المذكورة سادتها مناهج التحليل النفسي دون معارضة؛ إذ وَجَدتُ في المجلة نفسها عام ١٩٨٦م دراسة بقلم مايدي ج. لاند (Lande) (ص ٥١–٦٥) تقول إنَّ «أفعال الكلام» هي المدخل الصحيح لفهم المسرحية لا نظرية التحليل النفسي، خصوصًا إذا أردنا فهم «غضب ليونتيس وضعفه» (ص٦٤)، كما يقول ميريديث سكورا (Skura) في كتاب صدر عام ١٩٨١م بعنوان ضروب الانتفاع الأدبي بعملية التحليل النفسي، إنَّ عالم حكاية الشتاء واضح ومحدد المعالِم، و«لا مجال» للدوافع غير الواعية فيه (ص٤٠) كما نشر النَّاقد والمحرر الشيكسبيري ل. سي نايتس (Knights) مقالًا بعنوان ««التكامل» في حكاية الشتاء» في مجلة سيواني ريفيو عام ١٩٧٤م (ص٥٩٥–٦١٣) يقول فيه إننا إن كان علينا أن نستفيد من التحليل النفسي فيجب ألا نطبقه على الشخصيات بل على أنفسنا، ما دامت الحركة النفسية التي نستطيع أن نعرفها ونقيسها تدور في باطن قارئ المسرحية أو مُشاهدها. ويدلل نايتس على ذلك قائلًا بأنَّ المسرحية تستكشف «حالتين متضادتين من حالات النفس البشرية» (ص٦٠٨)، الأولى حالة «الانغلاق المختل داخل الذات» (ص٦٠٦) وهي التي يمثِّلها ليونتيس، يتبعها توسيع ﻟ «حلقة العلاقات» في القسم الرعوي من المسرحية، وينتهي من ذلك إلى أنَّ هذه الدراما الشيكسبيرية تجعلنا «نعيش موجات دافقة من الفكر والإحساس والتعاطف، وهي موجات لا بد أن نخبرها باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من نفوسنا» (ص٦٠٤).
وقبل أن أنتقل إلى النقد الجديد أشير إلى ما أتى به من احتفاء بالرمز والأسطورة، وهو ما يتصل بصورة غير مباشرة ببعض ما يترتب على مداخل التحليل النفسي؛ إذ يبيِّن ستيوارت المشار إليه كيف تقترب «حركة النفس البشرية الباطنة اقترابًا شديدًا من مغزى الأسطورة أو الحكايات الشعبية (الفولكلورية)» (ص٣٦). وقد عرضت بعض التحليلات النقدية التي تربط بين العودة إلى العالم الرعوي وعودة الربيع من ناحية وأسطورة بروسربينا من ناحية أخرى، ومن هذه الزاوية نجد أنَّ البناء الرمزي لحكاية الشتاء يسمح بتفسيرها على ضوء نظريات عالِم النفس الأشهر كارل جوستاف يونج (Jung) خصوصًا فيما يتعلق بنظريته الخاصة «بالنشاط الفطري للنفس البشرية» الذي يدفعها إلى الاكتمال والتناغم. وتقول الناقدة إليزابيث بيمان (Bieman) في كتابها شيكسبير: الرومانسات (١٩٩٦م) إنَّ انتقال ليونتيس نحو الاكتمال النفسي تفسره نظريات يونج عن الأنماط الفطرية التي «تعمل» أي تؤثِّر فيما تُسميه عملية «التفرد» الأسطورية، وتختص نمطًا فطريًّا معينًا بهذه الحالة وهو ما يُسمى نمط «الطفل-الشيخ» (puer-senex) الذي قد يفيد نزوع الفرد في مرحلة اكتمال نموه إلى نبذ الطفولة والتطلع إلى النضج، فإذا بلغ النضج كره الشيخوخة وعاد إلى الطفولة (وإن كان هذا يختلف عن النكوص الذي أشرت إليه سالفًا) (ص٨٦). ومن المشهور قول يونج إنَّ كل نفس بشرية تتكون من جانبين: جانب ذكري (animus) وجانب أنثوي (anima) وبيمان تبني على ذلك نظرتها إلى «عملية التفرد» في نفس ليونتيس قائلة إنَّه ينجح أخيرًا في تحقيق التكامل بين الجانبين حين يواجه برديتا، ومن بعدها هرميون في ختام المسرحية، مشيرة إلى ما سبق أن قاله ل. أ. ج. سترونج (Strong) في دراسة له بعنوان «شيكسبير وعلماء النفس» في كتاب عنوانه «الحديث عن شيكسبير»، من تحرير جون جاريت (Garrett) (١٩٥٤م) من أنَّ برديتا تمثِّل الجانب الأنثوي في ليونتيس، وتؤيد ما يقوله من أنَّ عثوره على برديتا يُتيح له أن يقبل عودة هرميون. كما تقتطف بيمان أقوالًا أخرى تدلِّل بها على وجاهة مدخلها القائم على نظريات يونج، ومنها ما ذهبت إليه ديان إليزابيث درير (Dreher) في كتابها «السيطرة والتحدي: الأبناء والبنات عند شيكسبير» (١٩٨٦م) وتناقش فيه ديان المذكورة «بعث ليونتيس أو ميلاده الجديد عندما يعود إلى الحياة جانبه الأنثوي، أي قبوله لجانب المرأة في نفسه الذي يمنح الحياة» (ص١٥٣).
ومنذ منتصف القرن العشرين وحتى الآن، ونحن نشهد التأثير الغلَّاب للكتاب الذي وضعه نورثروب فراي (Frye) عام ١٩٥٧م بعنوان «تشريح النقد» كما سبق لي أن أشرت، والذي أدَّى إلى إعادة تصنيف الأنواع الأدبية من خلال التدليل على مدى عمق تأثُّر الآداب العالمية بالأساطير والأنماط الفطرية. ولقد درج جيلنا على الافتتان بما جاء به استنادًا إلى منهج السير جيمز فريزر (Frazer) في كتابه «الغصن الذهبي» (١٨٩٠م) وهو الذي جمع فيه الأساطير والطقوس التي تدور حول شخص الملك الذي يموت ثم يُبعث، وكان من وراء التشكيل الفني لقصيدة ت. س. إليوت (Eliot) الرائعة «الأرض الخراب» (انظر دراسات العلَّامة ماهر شفيق فريد في هذا الباب). وفي ضوء مذهب فريزر المذكور، يقدم فراي تحليلًا لم أستطع أن أتجاهله في كتابه «منظور طبيعي: تطور كوميديات شيكسبير ورومانساته» عام ١٩٦٥م، يقول فيه إنَّ حكاية الشتاء تبدأ في شتاء المأساة، وتتضمن صيف الرومانس، ثم تنتهي في ربيع الكوميديا، وإنَّ «أساسها الأسطوري أو البدائي» هو «الحركة نحو الميلاد الجديد وتجديد قوى الطبيعة» (ص١١٩). ومن الواضح أنَّ هذا التوصيف أو التصنيف ينطوي على المخاطرة باختزال الدراما المركَّبة من عناصر متعددة في نماذج خاصة بفصول العام وحسب، ومع ذلك، فإن فراي استطاع تحليل فكرة السعي في طلب شيء، وهي الفكرة التي تتميز بها الرومانسات، وإبداء نظرات ثاقبة في دلالتها، كما ناقش ظاهرة «إدراك الحقيقة» في المسرحية مناقشة عميقة في دراسة له بعنوان «إدراك الحقيقة في حكاية الشتاء» عام ١٩٦٢م، يُلقي فيها الضوء على بناء المسرحية وخيوطها الدرامية بما يتجاوز دورها المنسوب للأنماط الفطرية، والدراسة منشورة في كتاب من تحرير ريتشارد هوزلي (Hosley) بعنوان مقالات عن شيكسبير والدراما الإليزابيثية تكريمًا للأستاذ هاردين كريج (١٩٦٢م)، ص٢٣٥–٢٤٦.
ولمَّا كانت حكاية الشتاء تركز على ملك لا بد من تجديد حياته، وتصور بوهيميا في صورة الدنيا الخضراء ذات القوة — التي يصورها الشعر الرعوي — فقد أغرت البعض بتقديم تحليلات مستفيضة لها تربط ربطًا وثيقًا بين «ثيمة تغيُّر الفصول» وبين «الموت والبعث» على امتداد القرن العشرين، وهي التحليلات التي ترى في المسرحية دلالات رمزية أو دينية مثل دراسة تينكلر (Tinkler) المنشورة في مجلة سكروتيني (أي الفحص النقدي) عام ١٩٣٧م، بعنوان حكاية الشتاء (ص٣٤٤–٣٦٤)، التي يقول فيها إنَّ صورة برديتا وفلوريزيل تقترب من صور «أرباب النبات» (ص٣٥٨)؛ فهما يملكان الطاقة على إحياء الأرض الخراب التي أوجدها «أو خربها» ليونتيس. وهي الدراسة التي أدت إلى كتابة دراسة أخرى، بقلم ديفيد هونيجر (Hoeniger) عام ١٩٥٠م، بعنوان «معنى حكاية الشتاء» في مجلة «جامعة تكساس الفصلية» (ص١١–٢٦)، «تطور» الفكرة نفسها. كما وجدتُ إشارات لها في دراسة حديثة نسبيًّا كتبها روي باتينهاوس (Battenhouse) بعنوان «الثيمة والبناء في حكاية الشتاء» (دراسات شيكسبير ٣٣، عام ١٩٨٠م، ص١٢٣–١٣٨)، وإن كانت الأخيرة تركز على الدلالات الدينية التي يحفل بها الفصل الخامس، وتشيع في سطوره منذ البداية:
يا سيدي! لقد فعلت ما الكفاية! قضيت في الحداد
فترة تليق بالقديسين! وما تركت إثمًا واحدًا من دون
تكفير صحيح عنه! بل لقد دفعت في الكفَّارة
زيادة عن كلِّ إثم اقترفته وحان آخِرًا محاكاة الذي
أبدته أرباب السماء من نسيان، فاغفر لنفسك مثلما غفرت!
(٥ / ١ / ١–٥)
ويناقش باتينهاوس بناء المسرحية باعتباره حدثًا رمزيًّا يمثِّل انتصار «رحمة» الله على «خطيئة» البشر (ص١٢٣) مؤكدًا أنَّ النوازع الفضلى للإنسان تلقى في النهاية «جزاءها أو ثوابها من العناية الإلهية» (ص١٢٦)، كما لم يفُته استنباط بعض الإحالات إلى الكتاب المقدس، قائلًا إنَّ السادة الثلاثة الذين يقصُّون نبأ التئام شمل الملكين في الفصل الخامس يُذكِّرون القارئ أو المُشاهِد بالحكماء الثلاثة الذين بشَّروا بمولد المسيح (ص١٢٧). ولا شك أنَّ جمهور شيكسبير كان أكثر وعيًا من جمهور اليوم بالإشارات إلى العهد الجديد، ومن الأرجح أنَّ الجمهور عندما يسمع السيد يقول «في كل طرفة عين سوف نشهد رحمة جديدة من السماء!» ( ٥ / ٢ / ١٠٦-١٠٧) سوف يتذكر قول القديس بولس إلى مؤمني كورنثة: كيف نتغير جميعًا عندما يُنفخ في الصور «في البوق الأخير» ونكتسب الخلود «في طرفة عين» (كورنثة ١ / ١٥ / ٥٢). ويماثل باتينهاوس في مدخله المتوازن الناقد ألاستير فاولر (Fowler) الذي يقول إنَّ حكاية الشتاء تُركِّز على «توبة» ليونتيس، وإنَّ هذا الملك يصل إلى — أو يستعيد — «التناغم المعنوي» الذي تمثِّله هرميون، وأنا أصفه بالتوازن لأنَّه لا يبالغ في رسم أنساق دينية صارمة للعلاقات ما بين الشخوص، كما لا يحاول فرض «شكل» خارجي على تصوير المسرحية للحدث، وعنوان دراسته هو «ندم ليونتيس وإصلاح الطبيعة»، مجلة مقالات ودراسات ١٣، ١٩٧٨م، ص٣٦–٦٤، ومدخله بصفة عامة أدعى للقبول (على ما فيه من تأويل) من منهج بريانت (Bryant)، الذي يبالغ في رصد نهج ديني يتخيله في المسرحية، ويحاول إيجاد أصل في الكتاب المقدس أو في التفاسير الدينية لكل لفظة توحي بذلك في النص، وهي المبالغة التي كان النقد الجديد يرفضها، وحتى إذا اعتبرنا مقابلاته اللفظية ممكنة أو محتمَلة، فإنَّها — قطعًا — لن تخطر على بال مُشاهِد المسرح أو قارئ المسرحية للمرة الأولى، وعنوان دراسته هو «رمزية شيكسبير: حكاية الشتاء» وهي منشورة في مجلة سيواني ريفيو عام ١٩٥٥م، ص٢٠٢–٢٢٢.
وتمهيدًا للحديث عن النقد الجديد أقول إنَّ الفترة من أواخر الأربعينيات حتى الستينيات كانت تشترك، على كل ما فيها من تيارات متعارضة، في الاهتمام بالرمزية والصور الشعرية، وخصوصًا أنساق هذه الصور أو «عناقيدها»، إلى جانب التحليل النصي والمقارنات، وكل هذا ينتمي (إلى جانب المفارقة) إلى اهتمامات النقد الجديد، ولا شك أنَّنا نجد فيها من خرج عن روح الفترة فاتجه إلى التأويل مثل بريانت المذكور، ولكن كان فيها نقَّاد كبار لم ينتموا «رسميًّا» إلى النقد الجديد الذي مارسه تطبيقيًّا ودعا إليه نظريًّا كلينث بروكس (Brooks)، وو. ك. ويمسات (Wimsatt)، وأخص بالذكر منهم ويلسون نايت الذي أعتبره ناقدًا انتقائيًّا، فإنَّ إيمانه الديني العميق لم يمنعه من ممارسة التحليل النصي والمقارنة، جامعًا في تفسيره للمسرحية بين رمزية الطبيعة وما في النص من نبرات ذات «طابع مسيحي عميق» (ص٩١)، في الفصل الخاص بحكاية الشتاء، في كتابه إكليل الحياة، المشار إليه آنفًا، وهو ما يختتمه بنبرات شبه صوفية، قائلًا:

ولكن هذه الدراما، بفضل اللغز الكامن فيها نفسه، ومقولتها التي لم تُحَلَّ وإن كانت لا تعرف الحلول الوسط، تخلق — مثلما يخلق مشهد الحوار حول الزهور على نطاق ضيق — إحساسًا غامضًا روحيًّا بوجود قوى جبارة تمارس عملها من خلال النظام الطبيعي والوعي الديني للإنسان في الحفاظ على الخير، على الرغم من كل ما يبدو لنا من ظواهر أخرى، فالتقاليد الصحيحة قائمة ولكنَّها لا تفرض المسار، إلى جانب المذهب الطبيعي الوثني. فلقد كان الكتاب المقدس أحد المؤثرات، ولكن إلى جانب الأساطير الكلاسيكية والتراث الرعوي في عصر النهضة، وأمَّا التأثير الأكبر فهو تأثير الحياة نفسها، تلك الربَّة الخالقة الحافظة، وهي التي تجتهد الدراما لتحديد حضورها وقواها الفائقة لكل ما هو بشري (ص١٢٨).

ويحسب لويلسون نايت أنَّه سبق المحدثين إلى التنبيه إلى تأثير الدراما اليونانية، وإن اقتصر ذلك على حاشية في هذه الصفحة الأخيرة من الفصل المذكور يُشير فيها إلى ذلك «وخصوصًا سوفوكليس حيث نجد طاغية يُعاقَب مثل ليونتيس» (المرجع نفسه).

نعلم أنَّ النقد الجديد كان يرفض تحليل الشعر باعتباره نتاجًا لسياقه الثقافي أو تحليل الدراما من حيث «العناصر التي يسهل استخراجها منها» مثل «الحبكة» و«الشخصية»، كما يقول ل. س. نايتس (Knights) في كتابة بعض الثيمات الشيكسبيرية ومدخل إلى هاملت، ١٩٦٠م، خصوصًا في الفصل الأول وعنوانه «بعض الاتجاهات المعاصرة في النقد الشيكسبيري» (ص١٣)؛ إذ يوضح هذا الناقد أنَّ النقد الجديد أصبح يتوسل بما يسميه «الحيوية اللغوية» و«أنساق الصور الشعرية» — بالمعنى الذي حددته كارولاين سبيرجون المشار إليها — أي كيف تمثِّل مجموعات الصور الشعرية نُظُمًا باطنة تخاطب وجدان القارئ أو المُشاهِد، ويضيف نايتس أنَّ هذه وتلك تعتبر مفاتيح تكشف لنا مغاليق «الثيمات المُلِحَّة في أية مسرحية شيكسبيرية» (ص١٤). ومن الطريف أنَّ ف. ر. ليفيس (Leavis) عضو جماعة نقَّاد مجلة سكروتيني قد شارك النقَّاد الجدد رفضهم لتركيز برادلي (المشار إليه آنفًا) على الشخصية، وتصدى ليفيز في دراسته لحكاية الشتاء (في كتابه السعي المشترك ١٩٦٢م) في الفصل الذي جعل عنوانه «نقد مسرحيات شيكسبير الأخيرة» لتبيان طبيعة إحدى القضايا التي شغلت هؤلاء النقَّاد؛ إذ انتهى من تحليله إلى أنَّ «الثراء المجسد» في لغة المسرحية يؤكد عمق مادتها الإنسانية ويناقض ما يزعمه العنوان (أي حكاية الشتاء) من أنَّها قصة خرافية (ص١٧٥)، وهي المفارقة التي ألمحت إليها من قبل. وعلى غرار ذلك نجد أنَّ ديريك ترافيرسي (Traversi) في كتابه شيكسبير: المرحلة الأخيرة (١٩٥٣م) يقدم تحليلًا دقيقًا للنسيج اللغوي وموسيقى الشعر، ويخلص منه إلى نتيجة مفادها أنَّ هذا وذاك يتجلى فيهما إيقاع الخبرة الإنسانية في النص خصوصًا عندما يتحول الحدث من «الانهيار التراجيدي» إلى «التناغم الشامل» كما ينتهي إلى أنَّ الحبكة — بمعناها المعروف — تختفي ما دامت «الصورة الشعرية قد هضمتها فأصبح التفاعل بين هذه الصور يتضمن كل ما يمكن أن نسميه حبكة»، وهكذا لا يتناول ترافيرسي المشهد الأخير باعتباره «انتصارًا» للحركة المسرحية أي للفعل المسرحي أمامنا، بل باعتباره «تتويجًا للتطور المعقد للموارد الشعرية» (ص١٠٦-١٠٧، ١٠٨).
وإلى جانب النقَّاد الجدد الذين كانوا يطلبون «ويمارسون» تجاوز الحبكة والأعراف الدرامية، اتجه عدد من النقَّاد إلى دراسة حكاية الشتاء من حيث انتماؤها التاريخي، ومن حيث بناؤها الدرامي (سواء كان ثنائيًّا أو ثلاثيًّا) مع وجود الروابط اللازمة فيما بين الأجزاء، وكذلك — وهو الأهم — من حيث النوع الأدبي. ويقول أوفرتون في كتابه مناظرة النقَّاد حول حكاية الشتاء (١٩٨٩م) إنَّ الهدف من دراسة النوع لم يكن «التحديد النقدي الضيق» له بل استكشاف الأعراف النوعية التي كان شيكسبير يستمتع بتحديها بقدر ما كان ينتفع بها أو يعيد صوغها (ص٣٤). فالمعروف، كما قلت في مستهل المقدمة، أنَّ حكاية الشتاء تنتمي إلى مجموعة من المسرحيات الشيكسبيرية الأربع التي كثيرًا ما تُوصَف بأنَّها مسرحياته الأخيرة، وتستند إلى حبكة باندوستو الرواية النثرية التي كتبها روبرت جرين، ولكن فريقًا من نقَّاد هذه الفترة كانوا يصرون على تبيان «التحويلات» البنائية والنسيجية التي تجعلها عملًا جديدًا متفردًا يتجاوز هذه الرواية تجاوزًا شبه كامل، على نحو ما يفعل فِيتزرُوي بايل (Pyle) في كتابه حكاية الشتاء: تعليق على البناء، ١٩٦٩م؛ إذ يقطع في مقدمته بأنَّ المسرحية تمثِّل «تحويلًا كاملًا لمصدرها الأَوَّلي» (ص١١)، كما تعمد أليسون ثورن (المشار إليها) في الكتاب الذي حررته عام ٢٠٠٣م، عن رومانسات شيكسبير في سلسلة دراسات حالة جديدة إلى تعميم هذا الحكم بحيث يشمل جميع رومانسات شيكسبير، قائلة إنَّ الشاعر يبدو فيها باحثًا عن «إطار توفيقي» متحرر من «أوجه القصور المعرفية» الخاصة ﺑ «طرائق التمييز النوعي التقليدية» (ص٣) وتعني بهذا أنَّ شيكسبير كان يبحث عن صيغة تُوَفِّقُ بين أعراف الرومانسة المتوارثة وطموحه الشعري إلى استشفاف ما يَخفَى عن عين الرائي أو القارئ للرومانسة من مادة إنسانية حافلة لم تلقَ الاهتمام اللائق بها من كُتَّاب الرومانسات. فإذا كان بعض دارسي المسرحية قد حددوا معالم «الرومانس»، كنوعٍ أدبي مميز، مثل بيتيت (Pettet)، في شيكسبير وتقاليد الرومانس (١٩٤٩م)، ومثل هوليت سميث (Smith) — في رومانسات شيكسبير (١٩٧٢م) — فإنَّ أحدًا لم ينجح حتى السنوات الأخيرة في تفسير ما تتميز به المسرحية بوضوحٍ من روح «السخرية والتهكم» وهي «روح» تتناقض كل التناقض مع أعراف الرومانس، وهو ما اجتهد سايمون بولفري (المشار إليه آنفًا) في مناقشته في كتابه أواخر مسرحيات شيكسبير: عالم جديد من الكلمات (١٩٩٧م) كما يتوسع في إيضاح دور السخرية والتهكم في تقويض بعض أعراف الرومانس التي تحدثت عنها في المقدمة (ص٣٩ وما بعدها من كتابه). وكنت قد أشرت إلى ما قاله بلوم في كتابه الذي ذكرته (١٩٩٨م) من أنَّ المسرحية قد تكتسب صفة الرواية السيكلوجية إذا فصلنا «قصة ليونتيس» عن باقي عناصرها (ص٦٣٩) ولكنه في الواقع يعود إلى مناقشة المسرحية في الفصل التالي من كتابه الضخم لا للتركيز على العناصر الإنسانية التي يتشكل منها ليونتيس (وتتفق مع موضوع كتابه) بل للتطرق إلى براعة المزج بين الأنواع الأدبية، وهو ما يؤدي إلى إظهار جوانب أخرى من «معنى الإنسان» (موضوع كتابه)، ولذلك يفضِّل بلوم ألا توصف المسرحية بأنَّها «رومانسة رعوية» بل يقترح وصفها بأنَّها «كوميديا جروتسك» أي ذات عناصر «زخرفية غريبة» قد تكون «مخيفة» أيضًا! ويصل إلى ذروة تحليله في ص٦٦٠، حيث يقول إنَّ الإنسان قد يضحك على الغريب المخيف «الجروتسك» وهو ما يفسر كون المسرحية كوميديا. والواقع أنَّ المسرحية، كما سبق أن بينت في قسم النوع الأدبي في هذه «المقدمة»، تتجاوز أي تعريف ضيق النطاق، أو حتى واسع النطاق، مثل الذي قال به مارفن هيريك (Herrick) في كتابه التراجيكوميديا: نشأتها وتطورها في إيطاليا وفرنسا وإنجلترا (١٩٥٥م) وهو الذي يقول إنَّها «تراجيديا تنتهي نهاية سعيدة» ص٣١٧، وأعتقد أننا ما زلنا في لجة هذه التعاريف المتضاربة.
وأضيف بعد هذه الفقرة الطويلة أنَّ حيرة نقَّاد منتصف القرن العشرين إزاء النوع المسرحي الذي تنتمي «حكاية الشتاء» إليه، وانغماس بعضهم الشديد في مناقشة هذه القضية «قضية النوع الأدبي بصفة عامة» مثل روزالي أ. كولي (Colie) (انظر كتابها «فن شيكسبير الحي»، ١٩٧٢م، وخصوصًا فصلًا عنوانه «منظورات للفن الرعوي: الرومانس، والكوميدي والتراجيدي» ص٢٤٤–٢٦٧) لم يمنع الجميع بلا استثناء تقريبًا من امتداح الطابع التجريبي «المغامر» لحكاية الشتاء، فمثلما قالت كولي إنَّ قلقلة المنظورات في التراجيكوميديا، والتحولات المفاجئة في «النغمة»، تهدف إلى «قلقلة» القارئ أو المشاهِد، تقول معاصرتها جوان هارتويج (Hartwig) إن هذه القلقلة تؤدي إلى جعل الجمهور «مشاركًا في الحدث ومنفصلًا عنه في الوقت نفسه» ولهذا فإن غرضها يتجاوز الإثارة في ذاتها، لأننا «مدعوون إلى كشف الوهم الفني نفسه، بكل ما يتميز به من حيل مسرحية صريحة، والتغلغل من خلاله إلى مستوى للحقيقة كنا نطمح إليه دون أن ندري» (ص٧ و٣١ من كتابها «رؤية شيكسبير التراجيكوميدية»، ١٩٧٢م). وعبارتها توازي «أو تكاد توازي» ما انتهى إليه هوارد فيلبرين (Felperin) في كتابه عن «الرومانس الشيكسبيري»، ١٩٧٢م، المشار إليه آنفًا، من أنَّ هذا «الغرض» هو أن «يكون الفن من أجل الحياة» (ص٢٤٤). وقد سبقت لي الإشارة إلى إعجاب بربارا مووات «بفنون الصنعة المسرحية» عند شيكسبير في «حكاية الشتاء» التي تصفها بأنَّها خير مثال على «الصنعة المسرحية المفتوحة» أي التي تستخدم «بتَّ الصلات بين الثيمات» و«خلخلة مواقع الشخصيات» وهي أساليب تميز «تأملات شيكسبير الناضجة» في فنِّه المسرحي، وتُعتبَر وسيلة لتقديم «الحياة بكل تعقيداتها، تراجيدية وكوميدية، رائعة وفظيعة، حقيقية وموهومة» (ص١١٧، ١١٩ من كتابها: الصنعة المسرحية في رومانسات شيكسبير، ١٩٧٦م). واستمرت هذه «النظرة» إلى ما بعد ١٩٨٠م، بل وتعمقت عند بعض دعاة ما بعد الحداثة، مثل كيرنان ريان (Ryan) الذي حرَّر كتابًا عن «مسرحيات شيكسبير الأخيرة»، ١٩٩٩م، ويقول في مقدمته إن هذه المسرحيات تتجاوز واقعية المحاكاة، وتقدم بدلًا منها «خطاب المستقبل». وهو يركز في تلك المقدمة على تحليل حديث الزمن في مستهل الفصل الرابع، وينتهي من تحليله الشائق إلى أنَّ الحديث يمثِّل نموذجًا للطابع المؤقت في كل شيء ولكل فعل، قائلًا إنَّ شيكسبير في هذا المشهد القصير يقدِّم صيغة زمنية جديدة تجمع بين المستقبل والماضي (ويسميها صيغة «المستقبل التام» للفعل) ومن خلالها يُوَسِّع من نطاق الممكن والمحتمل (ص١٦–١٨).

(٩) المسرح والميتامسرح

يهتم دارسو الفنون الدرامية بطرائق العرض المسرحي والظروف المادية له اهتمامهم بالنص المسرحي الذي قد يُعتبَر أدبًا من نوع خاص، فقد يقرؤه الناس ويستمتعون به في ذاته، ولكنَّه يظل مرتبطًا بأسلوب تقديمه على المسرح وظروف هذا المسرح، أي المكان المادي الذي نطلق عليه اسم «خشبة المسرح»، حتى ولو كان مكانًا طبيعيًّا مثل ساحة في الخلاء أو ركن في حديقة عامة، وقد لا يكون فيه من «الديكور» المسرحي إلا ما يتوافر عادة في تلك الأماكن مثل المقاعد أو الأرائك أو ضروب السياج النباتي والشجر وأحواض الزهر. والباحثون يهتمون بإقامة علائق بين هذه الأماكن وبين الحوار المسرحي، وخصوصًا بين ما ينص المؤلف عليه من قطع الديكور اللازمة في الإرشادات المسرحية إلى جانب «الحركة» الجسدية (بما في ذلك نبرات الصوت وأنغام الإلقاء) التي يتصورها أثناء الكتابة، وقد يلتزم بها مخرج العمل المسرحي أو لا يلتزم، إذا رأى أنَّ تجسيده للنص يستلزم استبدال غيرها بها تحقيقًا لمفهومه أو «تصوره» الخاص للنص، أو لأنَّ ثقافة الزمن الذي تُقدَّم فيه المسرحية (أو ثقافة المكان) تحتم العدول عمَّا كتبه المؤلف.

وقد اهتمَّ نقَّاد المسرح، خصوصًا من تخصصوا في تاريخه، بطبيعة مسرح شيكسبير وكيف أثرت ظروف هذا المسرح في طبيعة العروض المسرحية المقدَّمة فيه، بل وفي طبيعة النص الشيكسبيري نفسه، فنجد مثلًا أنَّ أحد هؤلاء النقَّاد يستدل من تقديم «حكاية الشتاء» في مسرح مغلق ابتداءً من عام ١٦٠٨م، (مثل مسارحنا المسقوفة التي لا تتسع إلا لعددٍ محدود من أفراد الجمهور) في موسم الشتاء، أن شيكسبير كتب المسرحية لجمهور من الخاصة (إن لم يكن من «المثقفين»، أي من تلقَّوا قدرًا معينًا من التعليم) مثل ج. أ. بنتلي (Bentley) في الدراسة التي نشرها عام ١٩٤٨م، بعنوان «شيكسبير ومسرح بلاكفرايرز» في مجلة «دراسات شيكسبيرية» (ص٣٨–٥٠) ولكن بعض الباحثين الآخرين عارضوا هذا الرأي قائلين إنَّ الرومانسات بطبيعتها ومسرحيات شيكسبير الأخيرة منها، تتطلب الجمهور العريض، ولذلك فقد قُدِّمت على المسرح المغلَق والمسرح المكشوف لأنَّ النوعين يلائمانها، مثل الباحث ألفريد هاربدج (Harbage) في كتابه «جمهور شيكسبير» (١٩٦١م) الذي يقول إنَّ معظم إنتاج شيكسبير قُدِّم في مسرح الجلوب (المفتوح) حيث كان الجمهور يضم المثقفين والعامة (ص٩٠).
والقارئ اليوم الذي «يستمتع» بأنساق الأساطير والصور الشعرية التي يزخر بها النص، أو الدارس الذي يتعمق في دلالاتها «الأدبية» أو «الفنية» لا بد أن يذكر أنَّها جميعًا تمثِّل جانبًا من الكلام المنطوق الذي لا بد أن «يحيا» عند إلقائه على المسرح، ويكتسب دلالاته الآنية فيه، والمرجح أن يفوت غير المثقفين بعض هذه الدلالات، وأن يزيد استمتاع المثقفين بها، حتى لو قُدِّمت المسرحية على مسرح مفتوح، ما دام الممثِّل يتحكم في أسلوب إلقاء هذه الإشارات الأسطورية والصور الشعرية ولو اقتضى الأمر تكرارها، بل وأكثر من مرة! وإلى جانب كون المسرح مغلقًا أو مفتوحًا، علينا أن نعمل حسابًا لمساحة خشبة المسرح نفسها، وما إذا كانت تسمح بابتعاد أحد الشخوص إلى الحد الذي يحُول دون سماعه ما يقوله آخر «أو اثنان أو ثلاثة» مثلما يحدث في مشاهد أتوليكوس، حين يتقدم من الجمهور ويقول كلامًا لا يسمعه غيره من الحضور على المسرح، أو كما نشهد في المشهد الثاني من الفصل الأول حين «يبتعد ليونتيس ليُحادث أحد أفراد الحاشية» عند السطر ٤٢ تاركًا زوجته الملكة حتى تحاول إقناع الضيف بوليكسنيس بالبقاء، وفق ما يقوله المحررون المحدثون، ثم يعود ليونتيس إليهما، حسبما تقول الإرشادات المسرحية الحديثة، فلا يسمع إلا آخر كلماتهما المتبادلة، وهو ما يؤكد له شكوكه، وهذا هو الجزء المقصود:
هرميون:
غفرانك اللهم! حذار أن تواصل استخدام هذا المنطق!
هذا وإلا قلتَ إنني وزوجتك … من الشياطين!
ولكن استمر … فإنَّنا سنقبل المساءلة،
إن كان أول الذي اقترفتماه من خطايا … معنا!
(يقترب ليونتيس ويُصغي لما يقال.)
ولا تزال عندنا تقوم هذه الخطيئة،
من دون زلة أخرى بغيرنا.
ليونتيس: فهل نجحتِ في إقناعه؟
هرميون: لَسَوْف يبقى سيدي.
(١ / ٢ / ٨٠–٨٧)
ويعلق ج. ل. ستيان (Styan) في كتابه «الصنعة المسرحية عن شيكسبير» (١٩٦٧م) على أنَّ هذا يُماثل التوزيع الموسيقي، أي تحديد أيَّة آلات تعزف أيَّة ألحان، أو حتى يشبه النوتة المسرحية (قياسًا على النوتة الموسيقية») فإنَّها دائمًا ما تخضع لظروف خشبة المسرح المادية، قائلًا إنَّ الممثل الذي يلعب دور ليونتيس هنا لا بد أن يستغل المساحة الضخمة لخشبة المسرح في الابتعاد، وعدم المشاركة في الحوار، مع التطلع بعين قلقة إلى حوار زوجته مع الضيف الملك بوليكسنيس، خلال السطور التي تزيد على أربعين، وقد تزيد على خمسين إذا اقتضى الأمر، وفي هذه الحالة عليه أن يبتعد عنهما قبل السطر ٤٢، حتى يتمكَّن من الوصول في اللحظة التي لا يسمع فيها إلا العبارات التي يمكن تفسيرها على أنَّها اعتراف من الملكة بخطيئتها مع بوليكسنيس، ما دام ضمير الجمع المتصل هو ضمير الجمع الملكي (ص٨١). ويؤكد ستيان ضرورة ضبط الإيقاع حتى عند إلقاء هرميون سطريها الأخيرين (١ / ٢ / ٨٤-٨٥) بحيث يبرز إمكان إشارتهما إلى علاقة «خاصة» (آثمة) مع بوليكسنيس، وبحيث يصل ليونتيس في لحظة إلقائهما تمامًا، لا قبلها ولا بعدها! كما يُشير ستيان إلى أنَّ على هرميون أن تقف ساكنة في دور التمثال خمس دقائق، وهي المدة اللازمة لإلقاء ما يزيد على ثمانين سطرًا، وبعدها تبدأ حركات مسرحية محسوبة بدقة ثم تصل إلى ذروتها عندما تهبط هرميون من قاعدة التمثال وتعانق زوجها في صمت (ص١٣٥).
ودائمًا ما يُشير ستيان إلى ما يتميز به مسرح شيكسبير من جوانب تنزع عنه الوهم المسرحي، وهو من «أبعاد» مسرح شيكسبير التي يقول ستيان إنَّها ضاعت (أو فسدت) بسبب ميل مخرجي القرن التاسع عشر، مثل وليم ماكريدي (Macready) وتشارلز كين (Kean) إلى الواقعية التي قد تصل إلى حد «الطبيعية»؛ إذ إنَّ محاولة تقديم حدث يتسم بالكثير من سمات الرومانس في قالب واقعي «يُفسد» جو الغرابة والدهشة التي يؤكدها كبار المحدثين، ويخصص لها بيتشر بضع صفحات في مقدمته، يختتمها بأنَّ الغرابة تبدأ عندما يحاول ليونتيس تغيير العالم «الحقيقي» وفقًا لعالمه «الخاص»، وهو ما يمثِّل بداية الحدث الحقيقي في «حكاية الشتاء»، في حين أنَّ فن «الماصك» (انظر مناقشة هذا الفن في مقدمة الترجمة العربية «للعاصفة»، القاهرة، ٢٠٠٤م، ص٢٢–٢٦) كان يركز على التحويل الرمزي من الخارج، مع اقتصار مصدر العجب على الشعر وعلى التغييرات المدهشة للمناظر، ثم يقول:

وأمَّا في منزل بولينا في «حكاية الشتاء» فنحن لا نثق قط في تحوُّل التمثال إلى هرميون، أو في عدم تحوله. ومنبع العجب هو أنَّ الشخوص في المسرحية يريدون ذلك، وأنَّ أفراد الجمهور يريدونه كذلك، بل يريدونه بشدة تبلغ حدًّا لا يقف عند قهر العقل والمنطق، كما يزعم أتباع أرسطو، بل إنَّ الذي يُقهر هو الشك المدمر للنفوس. وهذا هو التحول — في النفس وفي الذهن — الذي تحدثه المسرحية. (ص٧٢)

وفي القرن الحادي والعشرين كذلك أصدر ألان ديسين (Dessen) كتابًا عنوانه «إعادة كتابة شيكسبير: النص والمخرج والعروض المسرحية الحديثة»، ٢٠٠٢م، يقول فيه ويشرح كيف يمكن أن يتعلم المُخرج الحديث شيئًا من العودة إلى النص الأصلي. ففي «طبعة الفوليو الأولى» (١٦٢٣م) يقول النص بعد السطر ٣ / ٢ / ١٠ «الصمت!» ويطبعها بالحروف المائلة، إشارة إلى أنَّها من «الإرشادات المسرحية» بعد استدعاء هرميون إلى المحاكمة، وهي التي تحوَّلت في جميع الطبعات الست التي عندي «وفي غيرها» إلى جزء من نداء الحاجب الذي يأمر بالصمت في قاعة المحكمة، كما ينص على ذلك في الهامش فرانك كيرمود في طبعة سيجنت. ولكن ديسين يقول (ص٢٢٩-٢٣٠) إنَّها قد تُعبِّر عن «لحظة مكهربة» على المسرح إذا قصد بها الإشارة إلى امتناع هرميون عن المثول في المحكمة، أو عن الرد على ما يقال! ويقول ديسين «وكلما استمر الصمت زاد تكهرب الجو» (ص٢٣٠). ثم يضيف إنَّ الكلمة قد تفيد في الإشارة إلى صمتها في مشهد التمثال الأخير (٥ / ٣) مدافعًا عن اقتصارها على قول أسطر سبعة وحسب.
وتتوسع الناقدة جين هوارد (Howard) داعية التاريخية الجديدة، في إمكان ما أشرت إليه بعبارة «التوزيع الموسيقي» (وعبارتها هي التوزيع الأوركسترالي) قائلة إنَّ على المخرج ﻟ «حكاية الشتاء» أن يُحاكي ما نتصور أنَّه كان يمثِّل توزيعها الأوركسترالي «البصري والسمعي والحركي» في أيام شيكسبير، وتعني به توزيع مؤثرات النص الكثيرة ما بين مظاهر الممثلين وأصواتهم وحركاتهم على المسرح (التوزيع الأوركسترالي في شيكسبير، ١٩٨٤م، ص١٣٦) والواقع أنَّها تتوسع فيما قاله تشارلز فراي (Frey) أولًا في دراسته عن «حكاية الشتاء» التي نشرها عام ١٩٧٨م بعنوان «تفسير حكاية الشتاء» في مجلة دراسات الأدب الإنجليزي (ص٣٠٧–٣٢٩) قبل أن يكتب كتابًا كاملًا عن المسرحية بعنوان «رومانسة شيكسبير الشاسعة: دراسة لحكاية الشتاء»، ١٩٨٠م، وهو يعبِّر في دراسته الأولى عن طموح أكبر من طموح هوارد، بحيث يجمع بين دلالات «النص الأدبي» ودلالات العرض المسرحي، ويسميه أسلوب «الأبعاد المتعددة» وأسلوب «التأثير الزمني» ويعني به عدم تجاهل التوالي الزمني «لأبنية الأفكار» وكذلك «للمكتشفات التي تتوالى في لحظات متعاقبة» في أثناء تقدُّم حدث المسرحية إلى خاتمته الزمنية. ومن ثم فإنَّ فراي يركز على إيضاح كيفية دلالة «عناقيد إيقاعات المَشَاهد، وظواهر الأسلوب، وأنساق الأحداث» على التوزيع الأوركسترالي للقوة الدافعة للمسرحية (ص٣١٢، ٣١٣). وأمَّا في كتابه المذكور فإنَّه ينجح في الجمع بين اهتمامات القارئ «الأدبي» وبين اهتمامات مُشاهد المسرح (انظر ص١١٤ خصوصًا).
ولكن كسر الإيهام المسرحي الذي ألمحت إليه آنفًا، في غضون عرضي لكتاب ستيان، لا يقتصر على ما ذكرته من إشارة النص إلى نفسه، مثل الكثير من نصوص شيكسبير، ولكنَّه يتضمن تذكير أفراد الجمهور بأنَّهم في مسرح ويشهدون مسرحية، وتشجيعهم على إقامة علاقة بين ما نسميه «الوهم الدرامي» والعالم الحقيقي الذي يعيش فيه أفراد الجمهور. والكتابان اللذان يعتبران الأساس الأول لهذه النظرة هما كتاب آن رايتر (Righter) «شيكسبير وفكرة المسرحية» (١٩٦٢م) وكتاب جيمز كولدروود (Calderwood) «الميتادراما الشيكسبيرية» (١٩٧١م). ومنذ صدورهما والنقَّاد يناقشون الآثار المحتملة — من الزاويتين الجمالية والشعورية — لهذا الوعي من جانب المسرح بأنَّه مسرح، أو ما يسمى «الوعي الذاتي المسرحي». وقد سبقت لي الإشارة إلى تحليل مولي م. ماهود في كتابها «التلاعب اللفظي في شيكسبير» (١٩٥٧م) للمعاني المختلفة لكلمة «اللعب» ومشتقاتها، (وأساسًا اللهو البريء في مقابل لعب الأدوار والخداع) في قول ليونتيس الشهير «اذهب غلامي والعب! فإنَّ أمَّك تلعب! وأنا كذلك ألعب» (١ / ٢ / ١٨٧) وما يليه. وقد التقط هذا الخيط وتوسَّع فيه الباحث توماس ف. فان لان (Van Laan) في كتاب أصدره عام ١٩٧٨م بعنوان «لعب الأدوار في شيكسبير» يبيِّن فيه كيف يطوِّر ليونتيس «فكرة المسرحية الصغرى» فيغدو «مؤلفًا مخرجًا» عمدًا سواء في قوله المشار إليه أو في مشهد المحاكمة (ص٢٢٧، ٢٣٦) قائلًا إنَّ الملك ينعم النظر في غموض دلالة «اللعب» مستغلًّا هذا الغموض في التعبير عن إحساسه العميق بالاغتراب أي بالحرمان من أمن الأسرة المتماسكة، كما يقول، على نحو ما نشهد حين يخاطب الجمهور حتى دون توجيه الخطاب مباشرة إلى المُشاهدين في المسرح قائلًا:
بل بيننا الكثير منهمو، في اللحظة التي أقول فيها هذا،
وكلهم أحاط بالذراع زوجته … وليس فيهم من يرى
بأنَّ شخصًا قد أتى يصيد في غيابه بماء بِرْكَته،
وأنَّ جاره اللَّصيق يأخذ الأسماك من مائه.
فجاره اسمه «بسَّام»! في ذاك لي بعض العزاء … نعم!
(١ / ٢ / ١٩٢–١٩٦)

والواقع أنَّ باقي مناجاة (مونولوج) ليونتيس موجَّه للجمهور، فهو حين يُشير إلى طغيان «كوكب الفجور» يدعو السامع إلى أن يدرك جبروت هذا الكوكب بفعل الأمر «أدرك» ثم يستخدم فعليْن بعده من أفعال الأمر، مباشرة أيضًا: «اعلم وثق في هذا» (٢٠١، ٢٠٣).

وأمَّا رايتر فإنَّها تركز على المفارقة في الموقف «الميتامسرحي» لكل من هرميون وابنتها برديتا، فإنَّ هرميون ترى نفسها في صورة من يشارك في عرض مسرحي ابْتُكِرَ «لِسلْبِ ألباب المُشاهدين في المسرح» (٣ / ١ / ٣٥-٣٦) معبرة بذلك عن الهوان الذي تشعر به بسبب اضطرارها إلى الدفاع عن نفسها علنًا، كما تقول إنَّ برديتا تبدو لنا في أول مشهد نراها فيه في صورة «ممثلة تلعب دور الملكة» أي إنَّها تعي أنَّها تلعب دورًا أرستقراطيًّا في حفل جزِّ صوف الأغنام، لكنَّها لا تعي بأنَّها في الواقع تمثِّل دورها الحقيقي (لأنَّها أميرة وسوف تصبح ملكة في المستقبل) (ص١٧٨) ثم تقول رايتر «الواقع أنَّ الحياة واللعب لا ينفصلان» إذ سرعان ما تُكتَشَفُ الحقيقة المذكورة، تمامًا مثلما يَكتَشِفُ الجمهور أنَّ التمثال هو هرميون نفسها «فما كان يبدو وهمًا كان دائمًا حقيقة واقعة» (ص١٨٠).

كما انبرى نقَّاد الميتامسرح لمناقشة العلاقة بين الفن والطبيعة، وهو ما ناقشته في القسم الخامس من هذه المقدمة، وهي علاقة معقدة أعتقد أنني أوفيتها حقها في ذلك القسم، وإن كان عليَّ هنا أن أشير إلى ارتباطها بالميتامسرح، وكان من أوائل من تنبَّهوا لهذا الارتباط في «حكاية الشتاء» بيتر إيجان (Egan) في كتابه الذي أصدره عام ١٩٧٥م بعنوان «الدراما داخل الدراما: وعي شيكسبير بفنِّه في الملك لير، والعاصفة، وحكاية الشتاء» وفيه يبيِّن أنَّ الشاعر في كل مسرحية من هذه المسرحيات يقدِّم «بيانًا فنيًّا جسورًا» يرسم فيه حدود الصلات «الجمالية والأخلاقية» بين الفرد والواقع كما يقول (ص٨٩ و٥٧) ويفصل فيه القول عن الدلالات المباشرة التي نجدها في ربط دهشة المتفرجين مما يدور على المسرح بدهشتهم مما يجري في حياتهم الواقعية، مستغلًّا الأفكار الشائعة، في ذلك العصر عن السحر، في إثارة العجب والإحساس بأنَّ المسرح مرتبط بالواقع اليومي، وهي الفكرة التي عاد لها بالتفصيل ناقدٌ معاصر هو ت. ج. بيشوب (Bishop) في كتابه «شيكسبير ومسرح الدهشة»، ١٩٩٦م.

(١٠) المداخل النقدية الحديثة (من ١٩٨٠م حتى اليوم)

سبق لي أن تعرضت لأهم النظرات النقدية في المسرحية في هذه العقود الثلاثة في غمار التحليل العام للمسرحية، ولكنني سوف أتناول الآن المداخل التي يُمكن في إطارها تحديد تَوَجُّه بعض مجموعات النقَّاد الذين كتبوا دراسات مهمة عن المسرحية في هذه الفترة، مقتصرًا على مدخلين أراهما يحتلان مكانة بارزة في العقود المشار إليها، وهما التاريخية الجديدة/المادية الثقافية، والنقد النسوي.

(١٠-١) التاريخية الجديدة والمادية الثقافية

تتميز التاريخية الجديدة (إلى جانب نسبة كبيرة من نظريتها النقدية المتأثرة بتيار ما بعد الحداثة) بأنَّها ترفض النظرة «الجوهرية» للأدب، ومعناها القول بأنَّ الأدب يركز على الفرد ويقدم نظرات عالمية لا علاقة لها بالتاريخ وقادرة على النفاذ إلى «جوهر» الطبيعة البشرية. وهكذا فإنَّ التاريخية الجديدة لا تركز، مثل المداخل الأخرى، على الاهتمامات الإنسانية بالشخصية واللغة والشكل، بل على ما اكتشفه التاريخيون الجدد من ضروب «خطاب السلطة» في الأدب الدرامي في بواكير العصر الحديث. ومعنى هذا أنَّهم يميطون اللثام عن «استراتيجيات» معينة قد تُمكِّن نصًّا من الطعن في الأيديولوجيات السائدة في عصر من العصور، وإن كان ينتهي الأمر به إلى إعادة التعبير عن هذه الأيديولوجيات، أي بما يُسمَّى «احتواء» أية عناصر تُعتبَر أو تمثِّل عدوانًا أو تجاوزًا للأوضاع الاجتماعية «المقبولة». وقد انهمك دعاة المادية الثقافية؛ الجناح اليساري البريطاني للتاريخية الجديدة، في الفحص الدقيق للطرائق التي تنشأ بها الصور الأدبية «أي الصور التي يرسمها الأديب في أعماله» من الأحوال القائمة في مجتمع من المجتمعات، وعلى ضوء هذا المفهوم يمكن أن تُعتبَر مسرحيات شيكسبير ذات أصول أو جذور راسخة في السياقات السياسية والثقافية والاقتصادية لفترة أواخر القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وباعتبارها «كلامًا» أو «خطابًا» (وفق المصطلح الجاري) فقد تنزع إلى الطعن في «أيديولوجيا الحكم المطلق» للقصر الملكي لا مساندتها بصورة تلقائية. والمعروف أنَّ جين هوارد (Howard) كانت قد حددت مسار التاريخية الجديدة في دراستها التي أشرت إليها في مقدمتي لترجمة «ضجة فارغة» لشيكسبير عام ٢٠٠٩م (ص٧١-٧٢) حين قالت في مقال لها نُشِر أولًا عام ١٩٨٦م «إنَّ من أهم ما يميز التاريخيين الجدد عمن سبقوهم، إنكارهم حصر النظر إلى النصوص في اعتبارها انعكاسًا لواقعها الاجتماعي مثلما يعكس سطح المرآة الأملس صور ما يقع عليه من أشياء أي بصورة سلبية، فهم يرون أنَّ النصوص الأدبية تمثل تفاعلًا إيجابيًّا مع الواقع، وقد يؤدي ذلك إلى تغييره، وسبيلها إلى ذلك يتمثَّل في خلق التعارض والتعدد بين المعاني والقضايا المطروحة» (انظر نص كلام هوارد في ص٧١ المشار إليها أعلاه). وهكذا فإنَّ الاهتمام بأصوات المهمشين أو «الأصوات المهمشة» الذي يبديه دعاة المادية الثقافية يبيِّن كيف كانت هذه النصوص كثيرًا ما تقاوم الثقافة السائدة وتفتح الطريق أمام إمكان التغيير الاجتماعي.
وتقول هول (٢٠٠٥م) إنَّ «الرومانس باعتباره نوعًا أدبيًّا لم يأت بالثمار الوافرة في التحليل الأيديولوجي مثل تراجيديات شيكسبير» (ص١٤٨) ومع ذلك فإنَّ «حكاية الشتاء» تثير عدة قضايا اهتم بها نقَّاد التاريخية الجديدة والمادية الثقافية؛ إذ تقول كونستانس جوردان (Jordan) في كتابها «الأسر الملكية في شيكسبير: الحاكم والرعية في الرومانسات» (١٩٩٧م) إنَّ «حكاية الشتاء» تصور ملكًا طاغية، وتسهم بذلك في الخطاب السياسي حول «الانحراف بسلطة الحكم» في الوقت الذي كان نزوع جيمز الأول إلى الحكم المطلق يتحدى الدعوة إلى الملكية الدستورية أو حتى «المزج بين الحكم الدستوري والحكم الملكي» (ص٣٠، ٣٣) وتشير جوردان في كتابها إلى الدراسة التي كتبها وليم مورس (Morse) وأشرت إليها من قبل وعنوانها «الميتانقد والمادية: حالة «حكاية الشتاء» لشيكسبير» ونشرها عام ١٩٩١م في مجلة «التاريخ الأدبي الإنجليزي» (٥٨) ويقدم فيها، كما تقول تذكيرًا بأنَّه من المحال تعريف ثقافة أمة من الأمم بأنَّها كيان «شمولي» موحد (ص٢٩٩) شارحة ذلك بأنَّ الشكل الدرامي كان من أفضل السبل إلى تقديم تضارب الآراء الذي تراه في صورة حوارية «جدلية». وقد سبق لي أن ذكرت في القسم الخاص بالخلفية التاريخية ما ذكرته دونا هاميلتون وما ذكره ستيوارت كورلاند عن تعرض المسرحية للقضايا المطروحة على الساحتين الاجتماعية والسياسية، من دون إلهاب المشاعر إلى الحد الذي يجعل الرقباء يأمرون بحظر عرضها، كما سبق أن أبديت ما يؤيد ذلك الرأي، مبينًا كيف كان الملك جيمز الأول ومن خَلَفَهُ (تشارلز الأول) لا يريان فيها أدنى إثارة أو تمرد، مما أتاح عرض المسرحية سبع مرات في القصر الملكي قبل عام ١٦٤٠م.
كما كنت أشرت إلى دراسة جيمز إليسون (Ellison) بعنوان «حكاية الشتاء والسياسات الدينية» التي نشرها عام ٢٠٠٣م، في كتاب عن رومانسات شيكسبير، وهي التي يسوق فيها حجة مفصَّلة تقول إنَّ ختام المسرحية، الذي يوحِّد ما بين بوهيميا البروتستانتية وصقلية الكاثوليكية يُعتبر تعليقًا على رغبة الملك جيمز الأول في التوفيق بين الدول البروتستانتية المعتدلة والدول الكاثوليكية المعتدلة في أوروبا. ولا شك أنَّ الفصل الخامس الذي يُعيد تثبيت جذور الأسرة المالكة يُعيد أيضًا تثبيت الأوضاع الراهنة في بلاط صقلية، ولو أنَّ إليسون يختلف قليلًا عن بيرجرون (Bergeron) الذي أشرت إلى كتابه من قبل أيضًا في مدى «إفصاح» المسرحية عن هذا التثبيت؛ إذ يذهب إليسون إلى أنَّ «حكاية الشتاء» قد تكون مناصرة للحكم الملكي، ولكنَّها لا تصل قط إلى مستوى «الملق الصريح» (ص١٩٦، ١٧١–٢٠٤).
وأمَّا ما يقول به دعاة التاريخية الجديدة من أنَّ هذه الأعمال الأدبية، أي مسرحيات بواكير العصر الحديث، «المتمردة في ظاهرها» تعود إلى تأكيد الأعراف السلطوية آخر الأمر، فيجد خير تعبير عنه في فصل عنوانه «طقوس الأسرة» في كتاب صدر عام ١٩٨٦م بعنوان «السلطة في العرض المسرحي: السياسة في الأنواع الأدبية عند شيكسبير» للباحث لينارد تينينهاوس (Tennenhouse)، ويقول فيه إنَّ «حكاية الشتاء»، شأنها في ذلك شأن مسرحيات شيكسبير الأخيرة، «تُعيد كتابة وتأكيد وجود الأسرة المنغلقة على نفسها (ويقصد بها الأسرة الحاكمة) في إطار الأسلوب الخاص للحكم الأبوي» الذي كان جيمز يدعو إليه، أي باعتبار الملك «مصدر السلطة الوحيد» وما دام هو «الوالد» للأمة الإنجليزية، كما كان يقول (ص١٧٤).
ولكن التاريخية الجديدة تنتفع كذلك بالمدخل التفكيكي (والتفكيكية هي المصطلح الذي شاع) وإن كان الأقرب إلى المعنى هو «التقويض» «أو النقض، كما ذكر جابر عصفور»؛ إذ يفعل هذا جراهام هولدرنس (Holderness) الذي أشرت إليه عَرَضًا من قبل في تحليل بالغ الغرابة بعنوان «حكاية الشتاء: تحويل الريف إلى بلاط ملكي» ونشره عام ١٩٩٠م في كتاب وضعه بالاشتراك مع نيك بوتر (Potter) وجون تيرنر (Turner) عنوانه «شيكسبير: خارج البلاط» ويقول فيه إنَّه اكتشف في المسرحية قدرًا أكبر من «التخريب» (subversiveness) والمقصود به «التقويض» (deconstruction) إذ يقول في عبارة لاحقة في الصفحة نفسها «إنَّ التقويض [وهو اللفظ المستخدم للتفكيك] يجري على عدة مستويات في المسرحية» (ص٢٣٥)، ويضرب المثل بالفصل الرابع حيث يجري في حفل جزِّ صوف الأغنام الصاخب ما يصفه بأنَّه «ماصك من نوع ماصكات البلاط الملكي يقدمه الهواة» ويبيِّن فيه بالتفصيل الشديد (والمُقْنِع) كيف تتعرض قيم البلاط للتشكيك والطعن فيها بإدراجها في رومانسٍ رعوي. كما يقول هولدرنس إنَّ ذلك يظهر في صورة أخرى في ختام المسرحية، ما دامت بولينا تتولى تدبير وإدارة خاتمة المسرحية، فمعنى ذلك «نقض/تقويض أولويات النظام الأبوي بإثارة إشكالية إزاء السلطة الذكورية ومناصرة السلطة الأنثوية» (ص٢٣٦).
وعلى الرغم من أنَّ تركيز هوارد فيلبرين (Felperin) المشار إليه آنفًا في الدراسة التي كتبها بعنوان «معقودة اللسان يا مليكتي؟ تقويض الحضور في حكاية الشتاء» (١٩٨٥م) ليس أيديولوجيًّا في المقام الأول فإنَّه يُسهم في المناقشة التفكيكية ﻟ «حكاية الشتاء» من طريق تبيان كيف أنَّ اللغة فيها «تقوِّض» احتمال ما يسميه «أي موقع لمرجعية ثابتة»، بل إنَّ «صوت» كاهن دلفي الذي ينطق باسم الرب أبوللو نفسه يتعرض للتشكيك في صدقه، مثلما يغدو محالًا علينا في نظره أن نثبت أو ننفي — بصورة قاطعة — صحة الأسس التي يبني عليها ليونتيس شكوكه في زوجته، وينتهي من ذلك إلى أنَّ غموض اللغة وقلقلتها يعني أنَّ المعنى «يرجئه» النص مرارًا وتكرارًا (ص١٥) (من كتاب «شيكسبير ومسألة النظرية» من تحرير باتريشيا باركر وجيفري هارتمان (Parker & Hartman) ولكن غموض اللغة يلقى تفسيرات «غير تفكيكية» في التسعينيات، بعد انحسار موجة الافتتان بذلك المدخل من مداخل النظرية الأدبية الحديثة؛ إذ إنَّ ستيفن أورجيل (الذي أكثرتُ من الإشارة إلى دراساته) ينشر دراسة في عام ١٩٩١م، عنوانها «شعرية الاستعصاء على الفهم» (في مجلة شيكسبير الفصلية ٤٢، ص٤٣١–٤٣٧) يُحلل فيها أربع فقرات غامضة في «حكاية الشتاء» (١ /  ٢ / ١٣–١٦، ١ / ٢ / ١٧٥–١٨٣، ٣ / ٢ / ٤٤–٤٩ (التي اقتطفتها آنفًا) و٣ / ٢ / ١١١–١١٣) مستخدمًا تحليله في إقامة حجة تقول إنَّ «عدم الشفافية اللغوية» جانب أساسي من جوانب المسرحية، وهو ما عاد إليه في مقدمته لطبعة أوكسفورد ١٩٩٦م التي أشرت إليها من قبل، ولكنَّه هنا يبالغ بعض الشيء في تحذير القرَّاء والنقَّاد (والمترجمين؟) من فرض أي وضوح بصورة تعسفية، ما دام الغموض مقصودًا، حتى بالنسبة لجمهور شيكسبير. ثم يقول عبارة مهمة وهي إنَّ بعض السطور التي قصد بها قطعًا أن تعني شيئًا ما قد قصد بها رغم ذلك «أن تقاوم أي شرح منثور لمعناها» وينتهي من ذلك إلى أنَّ «حكاية الشتاء» تتضمن كلامًا يستعصي على الفهم، وأنَّ هذا جزء من أسسها الشعرية (ص٤٣٧).
وأمَّا الجانب الآخر من «حكاية الشتاء» الذي دعا النقَّاد إلى التحليل التاريخي والثقافي فهو جانب الطبقة الاقتصادية الاجتماعية في بوهيميا، وهو الجانب الذي عرضتُ له من قبل، فالناقد الماركسي سي. ل. باربر (Barber) الذي أشرت إليه آنفًا قد سبق التاريخية الجديدة بعشرين عامًا حين قال في دراسته «حكاية الشتاء والمجتمع اليعقوبي» (المنشورة في كتاب عنوانه «شيكسبير في عالم متغير» من تحرير أرنولد كيتل (Kettle) عام ١٩٦٤م) «إنَّ المسرحية تعالج عملية التغيُّر الاجتماعي في إنجلترا في القرن السابع عشر»، وهو يلجأ إلى التعميم حين يقول في نهاية تحليله إنَّ القضايا الناجمة عن «الصراع الدرامي» تتناول «صلابة الحياة الريفية التقليدية في مواجهة التغيير الاجتماعي» إلى جانب «الأمل المعقود على توحيد البلاط مع الكوخ في تجديد شباب إنجلترا بل ومولدها الجديد» ص٢٥١.
وقد تناول التاريخيون الجدد والماديون الثقافيون شخصية أتوليكوس (التي ناقشتها من قبل) من زوايا متفاوتة، ومن أهمهم بربارا مووات في دراستها المشار إليها «أوغاد ورعاة» (١٩٩٤م)؛ إذ تخصصها لتبيان أهمية الصراع ما بين «السياقات الباطنة» في «حكاية الشتاء»، وهي التي ترسم لنا الصور المختلفة التي يمكن أن يمثلها أتوليكوس، والتي يمكن أن تشير إلى الواقع التاريخي والحالي في إنجلترا. فعلى مستوى معين نجده يمثِّل المحتالين في مجتمع القرية، وعلى مستوى آخر نجده يمثِّل «المتشردين والعاطلين»، وعلى مستوى ثالث نجد فيه صورتين متضاربتين؛ الأولى صورة المتسول الذي يتظاهر بما ليس فيه استدرارًا للشفقة، والثانية صورة الفقير المسكين «الذي يُرثى له حقًّا»، المعدم الذي كان من ضحايا «حركة الاستقطاع» المشار إليها آنفًا (ص٦٩). وسبق لي أن بيَّنت أن ما زعمته مووات أخيرًا فيه نظر؛ إذ ليس أتوليكوس ريفيًّا حقيقيًّا بل هو خادم سابق للأمير أي إنَّه نازح من القصر الملكي، ولا يجد أدنى صعوبة بعد ذلك في التظاهر بالانتماء إلى القصر عندما يرتدي ملابس الأمير فلوريزيل في المشهد الرابع من الفصل الرابع. وقد نقض دعواها كريج هورتون (Horton) في دراسة له بعنوان «لا بد أن يتقلص الريف: لندن في العصر اليعقوبي ورسم الساحة الريفية في «حكاية الشتاء»» (مجلة باراجون ٢٠، رقم ١، ٢٠٠٣م) حيث يقول إنَّ «الساحة الريفية» تمثِّل الرأسمالية الوليدة، حيث يزدهر الراعي ويصبح مالكًا للأراضي وقطعان الأغنام التي تُعَدُّ بالآلاف، «فنجاحه التجاري» مرتبط بحياة المدينة (ولذلك يقول إنَّه يمثِّل مَعلَمًا «ثقافيًّا» خاصًّا) وحيث ينشط تاجر من نوع آخر هو أتوليكوس، وهو جانب هذه الشخصية الذي يؤكده بريستول في دراسته المشار إليها آنفًا، وتعود إليه هول (٢٠٠٥م)، وكل هذا يستكمل الصورة التي رسمتها مووات له.

(١٠-٢) النقد النسوي

منذ أوائل الثمانينيات والنقَّاد النسويون يجدون في «حكاية الشتاء» مادة خصبة للدرس والتحليل، ولا عجب في ذلك، ففي المسرحية «ثلاثة أدوار نسائية لها أهمية أولية» كما يقول أوفرتون في كتابه «مناظرة النقَّاد» (١٩٨٩م) (ص٤٦)؛ إذ إنَّ هرميون وبرديتا امرأتان قويتان وبولينا شخصية غير تقليدية، أضف إلى ذلك الشخصية الرئيسية التي تؤدي قسوتها إلى دفع أحداث المسرحية إلى حافة الفاجعة. ولا يقتصر الأمر على الهوس المَرَضي عند ليونتيس الذي يصوِّر له أنَّ النساء من طبعهن الخيانة «لا يستطيع حصنٌ حفظ عفة امرأة» (١ / ٢ / ٢٠٣)، بل إنَّ أنتيجونوس، زوج بولينا، يهدد تهديدًا غريبًا بأن يزيل أعضاء التناسل من أجسام بناته، أي يُهدد بمعاقبة جنس المرأة كله من دون تمييز، إن ثبت أن هرميون، رمزَ العفة، غيرُ عفيفة (٢ /  ١ / ١٤٥–١٤٧). وتلفت بولينا نظر القصر إلى ضروب القلق التي تسيطر على الذكور كالوسواس القهري إزاء صحة نسب أبنائهم إليهم، في عبارات تهكمية يغيب عنها المنطق؛ إذ تدعو ربَّة الفطرة «الطبيعة» ألا تجعل برديتا تعرف «الغيرة» مثل أبيها، حتى لا تراودها «الشكوك» مثله قائلة «حتى لا تشتبه بأنَّ بنيها/ليسوا من صلب الزوج كما يشتبه الملك بها!» (٢ / ٣ / ١٠٥-١٠٦)، وهو ما أشار إليه ديريك كوهن (Cohen) في دراسة له بعنوان «الأبوة والغيرة في «عطيل» و«حكاية الشتاء»» المنشورة في مجلة «اللغات الحديثة الفصلية» ٤٨، عام ١٩٨٧م (ص٢٠٧–٢٢٣) مبينًا أنَّ: «إخلاص الزوجات في المجتمع الأبوي يُعتبَر سندًا كبيرًا وشرطًا أساسيًّا للنظام الاجتماعي» (ص٢٠٧).
وقد استخدم عدد كبير من النقَّاد النسويين نماذج التحليل النفسي الفرويدي للقول بأنَّ ضروب القلق التي يعاني منها ليونتيس ناشئة من «حاجاته» السابقة على ارتباطه الأوديبي بأمه (كما سبق لي أن أشرت في سياق سابق)، وذهب آخرون إلى تفسير آخر لها في ضوء آراء جاك لاكان (Lacan) أي باعتبارها عرضًا من أعراض ثقافة «يبني فيها الرجل صورة المرأة باعتبارها الآخر»، كما يقول بذلك مارك برايتنبرج (Breitenberg) في كتابه «قلق الذكور في إنجلترا في بواكير العصر الحديث» (١٩٦٩م) (ص١٨١)، وأضاف آخرون عامل «الخوف من المرأة بسبب غَيْرِيَّتهَا [أي كونها تُمثل «الغير» أو «الآخر»] التي من المحال على الرجل أن يعرف طبيعتها»، حسبما يقول يوكو تاكاكووا (Taka Kuwa) في دراسة له بعنوان «تشخيص غيرة الذكور: المرأة باعتبارها عَرَضًا من أعراض الرجل في «زوجات وندسور المرحات» و«عطيل» و«حكاية الشتاء»» وهي منشورة في كتاب صدر في ٢٠٠٠م (انظر القائمة الببليوجرافية). وقام آخرون بتحليل المواقف الجنسية تجاه المرأة، إلى جانب أساليب بناء الدور الاجتماعي للمرأة في السياق الأبوي لعالم المسرحية.
وفي عام ١٩٨١م أصدرت مارلين فرينش (French) كتابها «تقسيم الخبرة في شيكسبير» الذي يدل عنوانه على موضوعه؛ إذ تتجاهل العوامل التاريخية تجاهلًا شبه تام، وتقدم تحليلًا منهجيًّا للقوى المحركة في المسرحية بتقسيمها إلى «مبادئ» ذكورية وأنثوية، مؤكدة كيف تنجح القيم الأنثوية في إخضاع عالم الذكور القائم على «السلطة»، بحيث يحتل مكانة ثانوية إزاء هذه القيم، ما دام ليونتيس يقبل آخر الأمر زوجته هرميون باعتبارها، كما تقول الباحثة «تجسيدًا لمبدأ القرابة الأنثوي» وهو ما تُفسره بأنَّه يضم «الحب والتناغم وفرحة التربية والرعاية» (ص٢٩٠-٢٩١، ٣١١). والفكرة الأخيرة، أي صورة المرأة باعتبارها القوة التي تتولى التربية والرعاية، تلتقطها كارول توماس نيلي (Neeley) المُشار إليها آنفًا، قائلة إنَّ النساء يلعبن دورًا بالغ الأهمية في المسرحية ويثبتن قدرتهن على «تغيير الرجال» وذلك في دراسة لها في فصل خاصٍّ من كتابها الذي أُكثر الإشارة إليه في مقدماتي الشيكسبيرية وهو «الزيجات المقاطعة في مسرحيات شيكسبير» (١٩٩٣م) وأود أن أدرج هنا استطرادًا موجزًا بالإشارة إلى استعمالها مصطلحًا شهيرًا في علم النفس وهو «التعويض» (compensation) بعد إكسابه دلالة خاصة في النقد النسوي؛ إذ تقول في دراسة لها بعنوان «طرائق النقد النسائي: التعويض والتبرير والتحويل» مجلة «الدراسات النسائية» ٩ (١٩٨١م) ص٣–١٥، إنَّه يعني «المدخل الذي يهيئ للأصوات الأنثوية في النص وزنها الكامل بل ويتوسع في دلالتها» (ص٦) وهذا معنى خاص يصعب إدراكه على من لم يقرأ الدراسة المذكورة. وأمَّا عنوان الفصل الذي أشرت إليه آنفًا فهو «حكاية الشتاء: زنا المحارم والأبناء» وأهم ما فيه قول الباحثة إنَّ تَغَلُّب ليونتيس على «نزعة امتلاكه القائمة على كراهية المرأة» يُمَكِّنه من احترام «الاستقلال الجديد» الذي ظفرت به هرميون في مشهد التمثال، فالأمر لا يقتصر وحسب على إطلاق سراح المرأة من الانحباس في «تصورات الذكور الجامدة» لها، بل يشمل أيضًا «تحرير الرجال … وتمكينهم من إعادة إحياء ذواتهم» (ص٢٠٧، ٢٠٩). كما تتعرض نيلي، كغيرها من النقَّاد، لتحليل حديث بوليكسنيس عن فترة صباه مع ليونتيس («كنا كتوءم من الحملان لاهيين» … إلخ) (١ / ٢ / ٦٦–٧٤) قائلة إنَّ الترابط بين الغلامين في الفترة السابقة للمعرفة الجنسية يعتبر «من جذور كراهية الملكين للنساء أو وسيلة للدفاع عن أنفسهما إزاء المرأة» (ص١٩٤). وفي هذا ما فيه من تأويل قد يصعب قبوله.
والطريف أنَّ هذا الذي قد أجده صعب «القبول» شائع في النقد النسائي القائم على ما يُزعم أنَّه نظريات فرويدية؛ فالباحثة كوبليا قان (Kahn) تقول في كتاب أُكْثِرُ أيضًا من العودة إليه وهو «حالة الرجل: الهوية الذكورية في شيكسبير» (١٩٨١م) إنَّ رفع مرحلة الطفولة والصبا المبكر بين الغلامين إلى مستوى المثل الأعلى يعتبر رفضًا ونبذًا للحياة الجنسية في مرحلة النضج، أو بالمصطلح الفرويدي يُعتبر «جهدًا لتكرار الوحدة الحيوية بين الأُم وطفلها وتجنب الهوية الذكورية». وتنتهي من ذلك إلى أنَّ برديتا التي تجمع في شخصها بين «صفات الأم العفيفة في المرحلة السابقة على الارتباط الأوديبي» وبين «صفة الأم الأوديبية المرغوبة جنسيًّا» تمثِّل القناة التي يستطيع من خلالها ليونتيس التوفيق بين مواقفه المنقسمة على نفسها تجاه المرأة (ص٢١٩). وعلى غرار ذلك تقول رُوث نيفو (Nevo) في كتابها «لغة شيكسبير الأخرى» (١٩٨٧م): «إنَّ المخاوف الطفولية — أي الخوف من العزلة، والانفصال، والهجر — تكمن خلف نوبة الغيرة التي تتملَّك ليونتيس» (ص١٠٥-١٠٦) ولكن نيفو لا تتوسع فيما يعنيه هذا الكلام الغامض ولا تشرح معناه، على العكس من جانيت أديلمان (Adelman) التي تحلل معنى «الفقدان الأول»، أي هجر الأم للابن، وكيف يعود هذا الإحساس «بالعزلة والانفصال» إزاء «جسد الأنثى المشحون بالدلالة الجنسية» في شخص هرميون في آخر مراحل الحمل. وتكتشف أديلمان، مثل نيلي، بعض مظاهر «الشفاء» في ختام «حكاية الشتاء» وهو ما تسميه «الاستعادة الجذرية لجسد الأم من خلال برديتا وبولينا معًا» (أمهات خانقات: خيالات يرجع أصلها إلى الأم في مسرحيات شيكسبير، من هاملت إلى العاصفة، ١٩٩١م، ص٢٢١، ٢٢٢، ٢٢٨).

وتمتاز أديلمان عن غيرها بأنَّها لا تتجاهل ضروب التوتر في ختام المسرحية، فهي تُسلِّم «بعودة سلطة الذكور»، مشيرة إلى أنَّ هذا المجتمع المعين ينجح في احتواء سلطة «حضور الأم» لأنَّ هرميون قد تجاوزت سن إنجاب الأطفال، وأمَّا «التكاثر الموعود عند برديتا فهو مُرْجَأ إلى المستقبل» (ص١٩٤، ٢٣٦). وهي تعارض الناقدات النسويات الأخريات اللاتي يتشككن في تأكيد سلطة الرجال في آخر «حكاية الشتاء»، قائلة إنَّ هرميون تمارس سلطة الأم ما دامت تركز على ابنتها، وهو ما يمكن أن يوحي باستمرار صورة الأم وقدرتها على «منح» الحياة خارج نطاق الرغبة الذكورية (ص٣٣٤). كما تُشير إلى ما تقوله غيرها من الناقدات بأسلوب متزن ودون شطط «اكتفاء بشطحات التأويل».

وتُعلِّق بعض الناقدات النسويات على ما ذكرتُه آنفًا من صمت هرميون، أي عدم مخاطبتها زوجها في المشهد الأخير؛ إذ تقتصر على السطور السبعة التي تقولها لابنتها، وتعلق جويس ويكسلر (Wexler) على ذلك في دراسة لها بعنوان «زوجة فُقدت و/أو عُثِر عليها» (نُشرت في مجلة Ucrow ٨ عام ١٩٨٨م، ص١٠٦-١١٧) قائلة إنَّ التصالح مستحيل بينهما إذ «لا يمكن لزوجة ما» أن تغفر ما فعله ليونتيس قط (ص١١٦). وتقول ناقدة أخرى هي لين إنترلاين (Enterline) في دراسة مطولة لها في مجلة «شيكسبير الفصلية» ٤٨، ١٩٩٧م، ص١٧–٤٤ إنَّ المثال الذي يبني عليه شيكسبير تصويره هو المرأة «معقودة اللسان» في وجود «الرجل» — وإن كانت تضع هذا الكلام في صورة تساؤل إنكاري — إذ تعقد مقارنة مفصلة بين قصة بيجماليون في «مسخ الكائنات» عند أوفيد وبين ليونتيس وزوجته هنا، قائلة «إنَّ خيال بيجماليون يضع قيودًا صارمة على حديث الأنثى إلى الحد الذي يجعل هرميون لا تجد شيئًا تقوله، دون مبالغة، لزوجها ليونتيس» (ص٤٣) وعنوان دراستها «إنَّك تتحدث لغة لا أفهمها: بلاغة بث الحياة في حكاية الشتاء». وقد نوافق هذه الباحثة في قولها إنَّ ليونتيس يشارك فيما تُسميه «بث الحياة» في التمثال — على المستوى الرمزي — بمعنى أنَّ توبته وتحوله الكامل يُهيئ الجو اللازم لعودة الزوجة إلى زوجها، ولكنَّه كان قد «قتلها» قبل ١٦ عامًا، على المستوى الرمزي أيضًا، حين أحالها، كما تقول فاليري تروب (Traub) إلى كائن لا حول له ولا قوة، «وحَدَّ من سلطان جاذبيتها الجنسية» (الرغبة والقلق: دورات الرغبة الجنسية في الدراما الشيكسبيرية، ١٩٩٢م، ص٤٥). بل إنَّ العديد من الناقدات يواصلن التشكيك في التئام الشمل من الزاوية العاطفية؛ إذ تقول أبيه بلوم (Blum) إنَّ هرميون عندما تعود إلى الحياة في آخر المسرحية تكون قد تحوَّلت رمزيًّا إلى تمثال صامت، لا يخضع إلا لنظرات الرجل، أي تكون قد أثبتت خضوعها الكامل للصورة التي رسمها الرجل لها، وأكدت انصياعها لأعراف المجتمع الأبوي (١٩٩٠م، وانظر عنوان دراستها والكتاب الذي وردت فيه في قائمة المراجع). وتتفق ﻫ. و. فوكنر (Fawkner) مع هذه النظرة وإن كانت تطرح تساؤلاتها عنها وحسب، قائلة إنَّ هرميون تُرغم نفسها على الصمت، وعلى الجمود، عندما تتحول حتى تتفق مع نظرة الرجل إليها (مسرحيات الخوارق عند شيكسبير: بيركليس وسيمبلين وحكاية الشتاء، ١٩٩٢م، ص١١٤) وموجز حجتها أنَّ المرأة تستوعب قيم المجتمع الأبوي فتحوِّل نفسها إلى «مثلها الأعلى» الذي يرسمه الرجل، وهي الفكرة التي التقطتها جويل دافيز (Davis) فركزت في دراستها القصيرة بعد ذلك على تحليل «رمزية التمثال الصامت الذي لا يُمثِّل تهديدًا للرجل ويُهيئ له متعة تأمله واشتهاء صاحبته» وعنوان الدراسة «طلاء بولينا وجدلية الرغبة الذكورية في «مسخ الكائنات وباندوستو وحكاية الشتاء»» (مجلة دراسات في الأدب واللغة ٣٩، رقم ٢، ٢٠٠٣م) وتقول لوري نيوكم (٢٠٠١م) إنَّ استخدام الغلمان في القيام بأدوار النساء في شيكسبير يؤكد الدور النمطي المنوط بالمرأة في مسرح شيكسبير، ويُساعد على تثبيت الصورة التقليدية للمرأة (انظر عنوان دراستها والكتاب الذي وردت فيه في المراجع).
وفي عام ١٩٨٥م أصدر بيتر إريكسون (Erickson) كتابًا مهمًّا ومعتدلًا بصفة عامة، وسبق لي الرجوع إليه في مقدماتي الشيكسبيرية السابقة بعنوان «الأبنية الذكورية في الدراما الشيكسبيرية» ويخصص فيه فصلًا لهذه المسرحية عنوانه «حدود الذكورة بعد إصلاحها في حكاية الشتاء» يبدؤه قائلًا إنَّ السلطة الأبوية التي تَثْبُتُ دعائمها في ختام المسرحية «سلطة صالحة، قادرة على أن تشمل المرأة وتُقدِّر قيمتها الحقيقية» (ص١٤٨)، ولكنَّه حين ينطلق في مناقشة جوانب القضية يقل حماسه للختام المذكور، ويبدي من اعتراضاته ما يكاد ينفي هذه البداية؛ إذ يبيِّن أنَّ الخاتمة تدعم «الرابطة بين الذكور» (ص١٦٧)، وأنَّ المرأة فيها تعاني من «تقلص السلطة» (ص١٦٢) وهو ما يتيح لنا أن نقول إنَّ ختام المسرحية يُعيد — إلى حدٍّ ما — تثبيت «المفهوم التقليدي للاستقطاب بين دور كل من الجنسين» (ص١٧٢). وشتَّان بين الحذر والتحرز الذي يبديه إريكسون وبين اللهجة القاطعة التي تستخدمها تروب المشار إليها حين تقول إنَّ في المسرحية «ترسيخًا لأبنية الدفاع عن السيطرة التي أقامها الرجال» (ص٤٥ من كتابها المشار إليه) وإنَّ ضروب القلق التي جعلت ليونتيس يفرض «الخمود» على هرميون لا تزال «قائمة في العلاقة بينهما» (ص٤٨) وهكذا فإنَّ ختام «حكاية الشتاء» يقوم رمزيًّا بدور «تحقيق أماني ليونتيس» أكثر من تحريره للملكة، ما دام يستعيد السيادة «للأوامر الملكية» على «العلاقات الاجتماعية»، على نحو ما يتبدى لنا، وبسرعة، حين يعمد ليونتيس إلى «احتواء» بولينا (التي وجد صعوبة في السيطرة عليها) بتزويجها من كميلو (ص٤٩). ومع ذلك، فإنَّ تروب لا تناقش زواج فلوريزيل وبرديتا، وهي وحدة من نوع جديد من الجنسين؛ إذ لا يبدي فلوريزيل أيَّة دلائل على اتصافه بصفات أبناء الجيل السابق، فلا هو غيور ولا نزَّاع للامتلاك ولا يُضمر أدنى كراهية للمرأة، بل يُجِلُّ خطيبته برديتا التي فرضت الاحترام طوال الفصل الرابع بشخصيتها الباهرة وباعتبارها أميرة حفل جزِّ صوف الأغنام. ولهذا وجدنا ناقدة تتصدى للرد على حجة تروب، وهي روث فانيتا (Vanita) في دراسة لها نشرتها عام ٢٠٠٠م في مجلة «دراسات في الأدب الإنجليزي» بعنوان «الذكريات الزوجية في «حكاية الشتاء» و«هنري الثامن»» (ص٣١١–٣٣٧) تقول فيها إنَّ الأمل معقود على برديتا في أن تُنشئ «حضورًا قويًّا للأم في مملكتي صقلية وبوهيميا بعد توحيدهما»، كما ترى أنَّ «الارتباط بين الأم والابنة» يتخذ صورة «نسبة البنت إلى أمها» (ص٣١٦) وهو النسب العامر «بالسلطة المعنوية» القادرة على إحداث التوازن «بل وقهر» السلطة «الاقتصادية والسياسية» للذكور (ص٣١٢). وهي تعرب عن تأييدها لما سبق أن قالته م. لينزي كابلان (Kaplan) وكاثرين (Kaplan) وكاثرين إيجرت (Eggert) في الدراسة التي كتبتاها بعنوان «مليكة شريفة مولاي! مليكة شريفة: الافتراء الجنسي ومحن السلطة الأنثوية في حكاية الشتاء» (النهضة والإصلاح الديني ٢٥، ١٩٩٤م، ص٨٩–١١٨) قائلة إنَّ تفسيرهما إيجابي «للرابطة بين الطابع الجنسي للأنثى وبين سلطة المرأة» ما دامت المسرحية ترسم للمرأة صورة «الراعية التي يُعتمد عليها والتي تُشكِّل جزءًا لا يتجزأ من المشروع الأبوي لميراث النسب والسلطة» (ص١٠٤، ١١٠).
وتقول هول (٢٠٠٥م) إنَّ بولينا تُعيد السلطة إلى ليونتيس عندما تستأنف دورها باعتبارها زوجة تقليدية في الزيجة التي رتبها لها. وعلى الرغم من استيعابها في نهاية ملهوية تقليدية واستقطاب نظام الحكم الذكوري لها آخر الأمر، فإنَّها قد اكتسبت سلطة كبيرة في غمار أحداث المسرحية (ص١٥٣). ويقول أوفرتون (١٩٨٩م) إنَّ شخصيتها تتضمن عناصر من شخصية «السليطة» ذات اللسان المنفلت، ولكنَّها تتجاوز هذه الأنماط الملهوية الثابتة (ص٦٦) فهي ترفض أن تُرغَم على الصمت بل تستخدم قوة لسانها «بوقًا معلنًا عن غضبة حمراء» (٢ / ٢ / ٣٣) ضد طغيان ليونتيس، ويسميها هولدرنس (في دراسته المشار إليها) «امرأة مخربة» (subversive) بمعنى «المناوئة» أو «الثائرة»، ما دامت تريد اكتساب سلطة الذكور (ص٢١٧) كما تصفها جين تايلوس (Tylus) بأنَّها «نموذج مصور بحيوية للأنثى المتمردة التي تفلت من قبضة السيطرة الأبوية» (ص١٦٥ من كتابها «الكتابة والاستضعاف في عصر النهضة»، ١٩٩٣م) والملك يتهمها بأنَّها «ساحرة من الذكور» (٢ /  ٣ / ٦٧) وينبغي «إحراقها» (٢ / ٣ / ١١٣) ومن الطريف أنَّ الملك بوليكسنيس يعود إلى الصورة نفسها، فعندما يجد أنَّ برديتا «تضمر تهديدًا جنسيًّا وسياسيًّا»، كما يقول ريتشارد ويلسون (Wilson)، «لأنَّ ابنه الأمير قد «وقع» في حبها، يرجع إلى النمط المعهود، وهو وصف المرأة «المتمردة» بأنَّها ساحرة» (من كتاب قوة الإرادة: مقالات عن السلطة في شيكسبير، ١٩٩٣م، ص١٦٩) وهو يخاطبها قائلًا: «يا ساحرة فائقة شابة!» (٤ / ٤ / ٤٢٩) ويضيف ويلسون أنَّ بولينا، رغم أنَّها لم تُساعد هرميون في وضع برديتا «لأنَّها ولدت في السجن» تأتي بالطفلة إلى الملك ليونتيس وبذلك تصبح قابلة (داية) لارتباطها بميلاد الطفلة، وهو الدور الذي يؤكد ويلسون أنَّه خضع لرقابة شديدة في بواكير العصر الحديث لما يكمُن فيه من التحدي لحاجة الحكم الأبوي إلى «فرض السيادة على جسد المرأة» (ص١٧١). والواقع أنَّ بولينا تحل محل كميلو في دور كاتم أسرار ليونتيس و«ضميره الحي»، وهكذا تكتسب — بصورة متزايدة — أحد الأدوار التي قصرتها التقاليد على الرجال، ألا وهو دور «المستشار ذي النفوذ الجبَّار» ودور طبيبة أيضًا، كما تقول كارولين آسب (Asp) في دراسة لها بعنوان «صورة بولينا عند شيكسبير وتقاليد مستشاري الملوك» (مجلة دراسات شيكسبيرية ١١، ١٩٧٨م، ص١٤٥–١٥٨) وتضيف آسب أنَّها لم تجد نظيرًا قط لبولينا في دور المستشار في السياق السياسي أو الاجتماعي لعصر شيكسبير (ص١٤٦). وعلى العكس من ذلك تقول أميليا زوركر (Zurcher) في دراسة لها بعنوان: «تماثيل في الوقت غير المناسب: الرواقية، والتاريخ، ومشكلة الوحدة في «حكاية الشتاء وبريكلس»» (مجلة «التاريخ الأدبي الإنجليزي» ٧٠، رقم ٤، ٢٠٠٣م، ص٩٠٣–٩٢٧) إنَّ بولينا تُعتبر «مقالًا رواقيًّا» نادرًا، ولذلك فهي تُمثِّل «تحديًا معنويًّا لا سياسيًّا» (ص٩١٣-٩١٤)، أي إنَّها تقلل مما ذهب النقَّاد إلى استشفافه من السلطة الاجتماعية أو السياسية في دور بولينا الذي يرسمه شيكسبير. ولكن كيف نتجاهل موقف بولينا في الفصل الخامس حين تُرغم الملك على أن يُقسم ألا يتخذ لنفسه زوجة جديدة حتى تأتيه بوريثٍ للعرش؟ أليس هذا دورًا اجتماعيًّا بل وسياسيًّا؟ وتقول نيلي في دراستها المشار إليها (١٩٩٤م) إنَّ بولينا تلعب دور «المدافع» عن هرميون و«البديل» لها في غيابها (ص١٩٩) كما أنَّها تقوم في المشهد الأخير أيضًا بدور مدير المسرح وممارسة السحر «الحلال» حين تُعيد هرميون التي كانت تتظاهر بأنَّها تمثال إلى زوجها. وتقول باتريشيا سوثارد جورلي (Gourlay) في دراسة لها بعنوان ««يا أنبل النساء قاطبة!» الاستعارة الأنثوية في حكاية الشتاء» (مجلة «النهضة الأدبية الإنجليزية» ٥، ١٩٧٥م، ص ٣٧٥–٣٩٥) إنَّ بولينا هنا تتنكر في صورة ممارسة السحر الحلال، كأنَّما أوتيت — مثل بروسبيرو في «العاصفة» — الطاقة على التحكم في الأرواح والجن، ولكنَّها في الحقيقة تُمثِّل الدور الذي كتبته وأخرجته بنفسها، فليست في الواقع مسئولة عن بث الحياة في هرميون، ولكنَّها — بتعبير جورلي — «تحوِّل المخاوف من كون النساء ساحرات إلى اعترافٍ بدور النساء الخيِّر باعتبارهن القوى الواهبة للحياة» (ص٣٩٣) وقد عادت إلى الفكرة نفسها دراستان، الأولى بقلم ديفيد شالكويك (Schalkwyk) بعنوان ««كلمة حقًّا من فم سيدة ليست أضعف من حقًّا ينطقها سيِّد!»: المرأة، والكلمة، والسحر في حكاية الشتاء» (مجلة التاريخ الأدبي الإنجليزي ٢٢، رقم ٢، ١٩٩٢م، ص٢٤٢–٢٧٢)، الذي يُضيف أنَّ أهمية المشهد الأخير تكمن في «الطرد التدريجي لشبح السحر» المرتبط بالمرأة، والدراسة الثانية بقلم كريستي جوليك روزنفليد (Rosenfield) بعنوان «رعاية العدم: السحر والطابع الجنسي للمرأة في «حكاية الشتاء»» وهي تناقش الرابطة التي يقيمها ليونتيس أخيرًا بين سلطة بولينا «في السحر وبين سلطة الفن» بدلًا من نظرته السابقة إليها باعتبارها «ساحرة شيطانية» (ص١٠٦) (مجلة موزيك ٣٥، رقم ١، ٢٠٠٢م).

وأقول في ختام هذه المقدمة التي طالت على الرغم من جهودي في الضغط والتلخيص، إنني أردت أن أقدم بانوراما حديثة للنظرات النقدية لهذه المسرحية التي عانت طويلًا من التجاهل، وأرجو أن أكون قد أوفيتها حقها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤