الفصل التاسع عشر

الجدران الصخرية لا تصنع سِجنًا

في مدةٍ وجيزةٍ للغاية أصبحَ لدى دروموند من الخبرة في إذابة الصخر مثل ما كان لدى صديقه. لقد كان يصفه بأنه عملٌ بطيءٌ إلى درجة العَبَث، لكنه مع ذلك كان مُجِدًّا فيه إلى أبعد حَدٍّ، رغم أنه قد مرت أيامٌ، وأسابيعُ، وشهور أيضًا مثلما ظنَّ الصديقان، قبل أن تتلاقى يداهما في منتصف الصخرة. من التفاصيل السعيدة التي سهَّلت عليهما مهمتهما أنَّ السجَّان لمْ يكن يزور دروموند إلَّا مرةً واحدةً كلَّ أربعةِ أيام.

نجحَ المُلازمُ في شق طريقه الصعب، وذلك بإقحام جسمه عبر النفق الذي اكتملَ حفرُهُ مؤخرًا بعد مرور نصف ساعةٍ على وضع السجَّانِ رغيفَ خبزٍ على منضدته. عَلِمَ جاك أنَّ السفينة البخارية رحلَت منذ عهدٍ قريب؛ لأنَّ المدير كان قد أرسلَ في طلبه قبل يومَين، وعرضَ عليه كميةً من الأدوات القادمة حديثًا، كان من بينها عددٌ من الأجراس الكهربائية والتليفونات التي كان المدير يعتزم أن يجهِّزها لكي تعمل بينه وبين الآخرين، وكذلك بين غرفته وغرفتَي الكاتِب والسجَّان. كان هناك بطارياتٌ جافة، وبطارياتٌ أولية، والكثير من الأشياء الأخرى، مما جعلَ جاك يكاد يأسف على أنه سيُغادر المكان.

سُمِعَ على طول الممرِّ الخارجي وقعُ خُطًا ثقيلةٍ يكتمها سُمكُ الباب.

همسَ جاك قائلًا: «جاهز؟ ها هما ذان قادمان. تذكَّر، لو أخفقتَ في ضربتك الأولى فسنهلك أنا وأنت.»

لم يُجب دروموند؛ لأن الخُطوات اقتربَت بصورةٍ مخيفةٍ وخَشِيَ أن يُسمَع صوتُه. بهدوءٍ عبرَ الزنزانةَ وأخذَ مكانه ملتصقًا بالجدار وراء المساحة التي سيغطيها البابُ عندما يُفتَح.

في اللحظة نفسها أطفأ جاك الإضاءة، وتركَ الغرفةَ مُظلمة. كان كلُّ واحدٍ من السجينَين المنتظرين يستطيع أن يسمع الأنفاسَ القصيرة التي يُصدِرها الآخرُ في الظلام.

واصلَت الخطواتُ الثقيلةُ للسجَّانِ وحامِل المصباح تقدُّمَها. لقد وصلا إلى باب الزنزانة رقم واحد، ثم توقَّفا، ثم تجاوَزاها وتوقَّفا أمام الزنزانة رقم اثنين.

همسَ جاك في ذُعر: «زنزانتك! ولم يكن من المتوقَّع أن يزوراك لمدة أربعة أيام. سوف ينتهي كلُّ شيء! سوف يَكتشفان أن الزنزانة فارغةٌ وسوف … إلى أين تذهب أيها الرجل؟» وتوقَّفَ فجأةً؛ لأنَّ دروموند غادر مكانه قُربَ الباب، وراحَ يتلمَّس طريقه بسرعةٍ على امتداد الجدار.

«سأعودُ إلى مكاني وأُقاتلهما. هذا أفضل من …»

«انتظر!»

وقعَت يَدُ لامونت على كتفه، وهمسَ بأمرٍ قاطعٍ كي يُسكته. لقد توقَّفَ المرافقان أمام الزنزانة رقم اثنين، وبينما راحَ حامِلُ المصباح يتحسَّس المزلاج المُربِك، قال رفيقه:

«انتظر! أظن أنني سأجلِب للآخر طعامه أولًا رغم كل شيء.»

اعترضَ حامِلُ المصباح قائلًا: «لكنَّ المدير أمرنا بإحضار الرجل الإنجليزي إليه في الحال.»

«وماذا لو كان قال ذلك؟ كيف سيَعرف أننا اختلسنا نصفَ دقيقةٍ لإعطاء الأمير غداءه؟ لو أخذنا الرجل الإنجليزي إلى الطابَق العلوي أولًا، فربما يتعيَّن على الأمير أن ينتظر ساعةً قبل أن نتمكَّن من العودة بالرجل الإنجليزي مرة أخرى.»

«فليَنتظر إذن.»

«وجَيبُه مليءٌ بالروبيلات؟ كلا، لن أفعل ذلك. ربما يُقرِّر ألا يعطي المزيد من قِطَعه الذهبية بعد الآن لسجَّانٍ يتركه جائعًا كل هذه المدة.»

«لقد فتحتُ المزلاج الآن و…»

«أغلِقه مرةً أخرى إذن وعُد معي إلى الزنزانة رقم واحد.»

رغم أن الكلمات كانت خافتةً؛ إذ أضعفتها الجدرانُ الفاصلة، فقد وصلَ معناها إلى جاك.

همسَ قائلًا: «عُد إلى مكانك. إنهما قادمان!»

أعقبَت كلماتِه مباشرةً جلجلةُ المزاليج. أُديرَ البابُ الكبيرُ للزنزانة رقم واحد بتثاقلٍ إلى الداخل. دخلَ حامِلُ المصباح رافعًا ضوءَه عاليًا أمامه، ثم تنَّحى جانبًا ليَسمح للسجَّان بالدخول، فدخلَ وراءه مباشرةً وصينيةُ الطعام على يديه الممدودتَين.

من سوءِ حظ خُطةِ الأَسيرَيْن أنَّ حامِل المصباح قد وقفَ في جانب الزنزانة المقابل للمكان الذي جثمَ فيه آلان. لم يكن من الممكن الوصول إليه بوثبة. كان البابُ المفتوح يحول بينهما. إذا هُوجِم السجَّانُ أولًا فسيستطيع رفيقُه بسهولةٍ أن يخرج من الزنزانة ويقطع نصفَ الطريق عبر الممر قبل أن يطمع آلان في الوصول إليه.

كان الصديقان يعتمدان على أن يدخل الرجلان معًا إلى الغرفة ويَعبُراها كالمعتاد وصولًا إلى المنضدة. أما هذا التغييرُ في الخُطة فقد أَربكهما. وضعَ السجَّانُ صينيتَه على المنضدة بالفعل وكان يستدير كي يواجه الباب. وقفَ آلان في الظل عاجزًا قليلَ الحيلة، وراحَ يَقضم شارِبَه الأشقرَ في غيظٍ يائس. بعد لحظةٍ أخرى ربما تختفي فرصتُهما الغالية. وبما أنَّ زيارة السجَّان التالية ستكون إلى الزنزانة رقم اثنين، فقد تجسَّد خوفُ انكشاف أمرهما أمام أعينهما وراحَ يُحدِّق فيها.

كان جاك هو مَن كسر فترة التبلُّد الوجيزة. وكان يقفُ حينها عند الطرف البعيد من الزنزانة، قريبًا من جدول الماء.

نادى جاك حامِلَ المصباح فجأةً: «من فضلك! أحضِر مصباحك هنا. لقد تعطَّلَ نظامُ أدواتي الكهربائية، وقد أضعت أعواد الثقاب الخاصة بي. أريد أن أُصلح …»

تقدَّم حامِلُ المصباح، طائعًا، إلى داخل الغرفة. كان قد أصبح في وسطها بينما لامونت لا يزال يتكلم. عندئذٍ، لمح بطرف عينه آلان وهو جاثم في الزاوية خلف الباب؛ إذ أصبح مكشوفًا بالكامل حينها تحت أشعة المصباح.

اندفعَ الرجل مذعورًا فورَ أن وثبَ آلان. وبهذا طارَت قبضةُ الرجل الإنجليزي الضخمةُ بجوار رأسه، وأخطأتها بمقدار بوصةٍ كاملة.

تعافى السجَّانُ من ذهوله واستلَّ أحد المسدَّسَين الموجودين في حزامه. غير أنَّ جاك قفزَ إلى الأمام وأسقطه من يده قبل أن يتمكَّن من إطلاق النار، وصفعَ شفتَي الرجل المُلتحي بإحدى يديه، بينما لفَّ ذراعه الأخرى حول ذلك الجسم القوي البِنية كي يمنعه في الحال من استلال المسدس الثاني.

لقد أخطأت ضربةُ آلان الأولى هدفها تمامًا، لكنَّ الثانية لم تُخطئ. أتبعَ ضربةَ يدِه اليمنى بأقصى ما يمكن أن يمتلكه ملاكمٌ مُدرَّبٌ من براعةٍ وخِفةٍ، وسدَّد باليد اليُسرى ضربةً مباشِرةً إلى زاوية فَكِّ حامِل المصباح. أسقطَ الرجلُ مصباحَه وتكوَّم على الأرض مَغشيًّا عليه، بينما اندفعَ آلان نحو السجَّان في الحال.

انطفأ الضوءُ بسقوطِ المصباحِ. ومرةً أخرى غرقت الزنزانة في ظلام كثيف تخلَّله صوتُ لهاث الأمير والسجَّان وعراكهما.

لم تَنقضِ سوى ثانية منذ أمسكَ جاك الرجلَ في المرة الأولى، لكن هذه الثانية كانت كافيةً كي يستجمعَ الأخير قوَّته الوحشية الكبيرة، ويتخلَّص من خَصمه الأقل منه ضخامةً، ويستلَّ مسدسه.

قال جاك لاهثًا: «أسرِع يا آلان! لقد أفلتَ مني. سوف …»

مسترشِدًا بصوتِ صاحبه، اندفعَ دروموند إلى الأمام بسرعةٍ في الظلمة، فعلقَت قَدمُه بجسم حامِل المصباح الممدَّد على الأرض وسقطَ بقوة، لكنه سقطَ على ذراعيه اللتَين امتدَّتا في حركةٍ غريزيةٍ من حركات حفظ الذات. في اللحظة نفسها التي فقدَ فيها توازنه سمعَ صوتَ طقطقة حادةٍ أمامه مباشرةً. لقد سحبَ السجَّانُ زناد المسدس، لكنَّ مسدسه، الذي كان مصنوعًا بالتعاقد ومعيبًا، مثل العديد من الأسلحة التي يَحملها الجنود العاديُّون في المواقع الحدودية الروسية، لمْ يطلق النار.

إلى تلك المصيبة المفيدة للغاية، وهي عجزُ إحدى الخراطيش الفاسدة عن الانفجار، كان الصديقان يَدينان بسلامتهما المؤقتة.

انزلقَ آلان إلى الأمام واصطدمَت إحدى ذراعَيه الممدودتَين في عقبةٍ ما. كانت جسمًا بشريًّا، ومن خلال ملمس الأشرطة الجلدية، التي لمستها أصابعُه عند الاصطدام، علمَ أنه كان السجَّانَ وليس لامونت.

تذكَّر آلان تكتيكات كرة القدم القديمة، فتشبَّث بالرَّجل الذي وقعَت ذراعه عليه مصادفة، ودفعه على الأرض؛ فأُسقِطَ جاك الذي كان قد تحرَّك إلى الأمام في الظلام، بإسقاط الرجل الآخر.

وهكذا راحَ السجَّانُ والأمير والرجل الإنجليزي يتشاجرون على الأرضية الحجرية في كومةٍ غير متمايزة الملامح. لم يكن قتالًا عاديًّا لاثنين ضد واحد؛ لأنَّ كلا السجينَين لمْ يستطِع أن يُميِّز بين السجَّان وصديقِه. أما السجَّان فلم ينزعج بمثل تلك الشكوك، وراحَ يُقاتل بضراوة، ولم يمنعه من الصياح سوى أنَّ قبَّعته الثقيلة المصنوعة من الفراء انزلقت في أثناء سقوطه وغطَّت وجهه وذقنه ولم يستطِع في تلك اللحظة أن ينزعها.

مدَّ السجَّانُ يَده واستلَّ الحربة التي كانت معلَّقة في جنبه (إذ ضاعَ مسدسه الثاني في خضمِّ المشاجرة)، وراحَ يطعن بها بتهور. وبعد مرة أو مرتَين اصطدمَ النصل بشيءٍ ما ثم انغرسَ في جسد أحدهما.

قال آلان لاهِثًا: «جاك، هذا الحقيرُ يطعنُ بسلاحه. حرِّر نفسك واعثر على المصباح الكهربائي.»

بينما كان آلان يتكلَّم وقعَت يدُه على حَلْقِ السجَّان. لقد عَلِمَ أنها لم تكن رقبة جاك من اللحية الخشنة التي كانت تُغطِّيها. جُنَّ جنون السجَّان من الضغط الواقع على رقبته، وراحَ يطعن بحنقٍ بالغ؛ لكنَّ معظم ضرباته، لحُسن الحظ، ضاعَت في قلب الظلام.

مدَّ آلان يده الأخرى وعثر على الذراع التي كانت تمسك بالحربة، وللحظةٍ تصارع الاثنان باستماتةٍ من أجل الاستحواذ عليها.

بعد ذلك سُمِعَ صوتُ طقطقة مفتاحٍ ما، وغمرَ الغرفةَ ضوءٌ ساطع، وذلك في اللحظة نفسها التي أرخى فيها آلان قبضته عن حَلْقِ الرجل الروسي، وسدَّد له ضربةً في الذقن بكل قوةِ عضلاته المُدرَّبة. تراخت أطرافُ السجَّان المشدودة واستلقى مُمددًا على الأرض، بينما قاوم آلان، رغم نزيفه وإعيائه، ووقفَ على قدمَيه.

قال آلان لاهثًا: «معركةٌ ضارية، أليس كذلك؟ كان من الصعب توجيه ضربةٍ حاسمةٍ من هذا المكان. بالرغم من ذلك، فقد أمسكتُ به كما ينبغي. أعتقد أنه لن يُزعجنا لبضع دقائق. إنك تنزف! هل جرَحَك؟»

«جرحٌ طفيفٌ فقط على خدِّي. وأنت؟»

«جرحٌ في الرُّسغ وآخر في الكتف، على ما أظن. كلاهما ليس خطيرًا، بفضل انعدام التصويب في الظلام. لقد نجونا بأعجوبة! والآن لنَشُدَّ وثاقهما. لم يتحرَّك أحدٌ منهما بعد.»

«لا بد أنك كنت على وشك قتلهما بضرباتك الشبيهة بضربات المرزبة تلك!»

قال الملاكم الرابط الجأش: «هذا لا يهمُّ كثيرًا. سوف يكونان بخيرٍ بعد نصف ساعة. الأمر كله يعتمد على معرفة المكان الذي تسدَّد فيه الضربة. إذا لم يكن في الطابق السفلي إلا أربعة رجال، فلا حاجة لنا في ارتداء ثياب هذَين الحقيرين. فلنَأخُذ مجموعة المفاتيح والمسدَّسات فحسب.»

بعد أن حصل الاثنان على هذه الأشياء خرجا إلى الممر، وأوصدا الباب بالمزاليج، ثم تقدَّم جاك الذي كان يعلم طريقه، على طول الممر وتوجَّه إلى الدَّرَج، وصعدَ السلالم بسُرعة ورشاقةٍ، وأوصدَ الباب المؤدِّي إلى مسكن الجنود بالمزاليج، ثم نزلَ وأوصدَ البابَ السُّفلي.

«والآن لنتوجَّه إلى الكاتِب، ثم إلى المدير.»

كانت غرفة الكاتِب متَّصلةً بمُستودَع الأسلحة، الذي كان الطريقُ إليه من خلال عبور الغرفة التي تحتوي على المحرِّك التوربيني ومولِّد الكهرباء الذي وجداه يُخرخِر بمرح.

صوَّبَ الاثنان أربعة مُسدَّساتٍ إلى الكاتِب الذي انتابه الذعر، وقال له جاك بالروسية إنه لو أحدث صوتًا فسيكون آخِرَ صوتٍ له في الدنيا. بعد ذلك أخذه الرجلان، وفتحا الزنزانة رقم ثلاثة التي كانت فارغةً، وزجَّا به داخلها.

دخل الاثنان غرفة المدير وهما يُصلصلان بالمفاتيح. رفعَ الرجل العتيق بصره إليهما، دون أن تختلج عضلةٌ واحدة في وجهه؛ حتى عيناه الخاليتان من التعبير لمْ تُظهرا أثرًا لعاطفةٍ أو مفاجأة.

قال جاك باحترام: «أيها المدير، رغم أنكَ تحت فوَّهات أربعة مسدَّساتٍ، فنحن لا ننوي أن نصيبك بأذًى. ومع ذلك، يجب عليك ألَّا تُغادر مكانك حتى تنزل معنا إلى القارب، وحينها سأعطيك المفاتيح، وفي الزنزانة رقم واحد سوف تجد السجَّانَ وحاملَ المصباح وربما يكونان جريحَين، لكني أرجو أنهما لا يزالان بخير. في الزنزانة رقم ثلاثة ستجد كاتِبك في انتظارك. أنا ذاهبٌ الآن لتحرير سجنائك. كلُّ الاتصالات بينك وبين العسكريِّين ممنوعة. سوف أترك صديقي ليَحرسك حتى أعود من الزنازين. عليك ألَّا تُحاول استدعاء المساعدة، أو الصراخ، أو التحرُّك من مقعدِك. صديقي لا يفهم الروسية ولا الألمانية؛ ولذا لا فائدة من الاستغاثة به في أيِّ شيء، ورغم ما أُكن لك من محبَّةٍ على المُستوى الشخصي، ورغم إعجابي باجتهادك في تعلُّم العلوم، فإنَّ وضعنا يائسٌ للغاية، بحيث إنك لو تحرَّكتَ أيَّ حركةٍ فسيُضطرُّ إلى قتلك بالمسدَّس.»

أحنى المديرُ رأسه.

وسأل: «هل لي أنْ أُكمِل ما كنتُ أكتبه؟»

ضحكَ جاك بود.

وقال: «بالتأكيد»، ثم انصرفَ إلى الزنازين، وراحَ يفتحها واحدةً تلو الأخرى، لا لشيءٍ إلا ليجدها فارغةً كلها.

بعدما عادَ قال للمدير:

«لماذا لمْ تَقُل لي إننا كنا سجينَيك الوحيدَين؟»

أجابَ المديرُ بلطف: «خشيتُ ألَّا تصدقني.»

قال جاك، وهو يمدُّ يده، والتي صافحها الآخرُ بشيءٍ من عدم الاكتراث: «رغم كل شيءٍ، لا أعلم إن كان يجدر بي أن أصدِّقك.»

قال المدير ببطء: «أودُّ أن أشكرك على كلِّ ما علَّمتني إياه عن الكهرباء. أتوقَّع أن أُوظِّف هذه المعرفةَ في العديد من الأغراض النافعة في المستقبل. ثم إنَّ ممارستها ستجعل الوقت يمضي أسرع مما كان قبل مجيئك.»

صاحَ جاك مُتحمِّسًا: «يا إلهي! هذا جيدٌ. تأكَّد أن ما تمكَّنتُ من تعليمك إياه كان عن رضًا وسرورٍ خالصَين منِّي، وما كان لأيِّ مُعلِّمٍ أن يطمع في وجود تلميذٍ أكثر ذكاءً منك.»

«يسعدني أن أسمعَ منك هذه الكلمات يا سمو الأمير، رغم أنه يُؤسفني أنني كنتُ مُهملًا في مهامي، وربما تكون المعرفة التي جنيتَها أنتَ عن هذا المكان بسبب إهمالي قد ساعدَتْك في التمكُّن من هروبٍ لمْ أظن أنه كان ممكنًا.»

ضحكَ جاك بلطفٍ.

وقال: «كلُّ الأمور مشروعةٌ في الحب والحرب. والسجنُ قطعةٌ من الحرب. يجب أن أعترف أنَّ الكهرباء قدَّمَت لنا مساعدةً فعَّالة. بالرغم من ذلك، ينبغي ألا تلوم نفسك أيها المدير، لأنك دائمًا ما كنتَ تتخذ كامل حَذرك، وكان السجَّانُ يتبعني على الدوام. لا يُمكنك أبدًا أن تتظاهر بأنك وثقتَ بي، أليس كذلك؟»

قال الرجل العجوز بحزن: «كنتُ أحاول أن أؤدِّي مُهمتي. وإذا كانت الكهرباء قد ساعدتْك، فلم يكن هذا بإقرارٍ منِّي. مع ذلك، ثمَّة أمرٌ بخصوص الكهرباء كنتَ قد أقررتَه في ذهني، وهو أنه برغم سرعة مرورها، فثمةَ دائمًا تيارٌ عائد.»

«ماذا تقصد بهذا أيها المدير؟»

«أليس الأمر كذلك؟ إنها تَسري داخل سلكٍ ما، وتعود من خلال الأرض. أعتقد أنك أخبرتني بهذا.»

«بلى، لكنَّني لا أفهم تمامًا لماذا تذكر هذه السمة تحديدًا من سمات الكهرباء في هذا الوقت بالذات.»

«أردتُ أن أتأكَّد من صحة المعلومة التي قلتُها. فما من أحدٍ أستطيع أن أسأله بعد أن تذهب كما تعلم.»

طوال هذا الوقت كان المديرُ العجوزُ مُمسكًا بيد جاك في شيءٍ من اللِّين. ظهرت على دروموند علاماتُ نفاد الصبر.

صاحَ دروموند أخيرًا: «جاك، ربما تكون هذه المحادثةُ شائقةً للغاية، لكنها تُشبه التدخين فوق مَنجم بارود. لا يَعلم المرءُ مطلقًا ما قد يحدث. لن أشعر بالأمان إلا بعدما نخرج من هنا تمامًا ونصبح في البحر، ولا حتى عندما يحدث ذلك. أَكمِل وداعَك بأسرعِ ما يمكن، وهيا لننصرف.»

«أنت مُحقٌّ يا آلان يا صديقي. حسنٌ أيها المدير، أنا مُضطرٌّ رغمًا عني لتوديعك الوداع الأخير، لكنني أتمنى لك حظًّا سعيدًا.»

بدا الرجلُ العجوزُ غيرَ راغبٍ في التخلي عنه، وظلَّ متشبثًا بيده.

وقال: «كنتُ أرغب في أن أحدثك عن واقعةٍ أخرى، تكاد تقترب في إثارتها للدهشةِ من دخولك إلى هذه الغرفة منذ قليل، حدثَت هذه الواقعةُ منذ ستة أو ثمانية أشهرٍ مضت. لعلك تعلم أننا نحتفظ بقارب صيدٍ فنلنديٍّ في الخليج الصغير بالأسفل.»

قال جاك بنفاد صبرٍ وهو يسحب يده من يد المدير: «نعم، نعم.»

«حسنٌ، منذ ستة أشهر مضت أو ثمانية، اختفى هذا القارب، ولم نعلم عنه شيئًا قطُّ منذ ذلك الحين. لمْ نفقد أيًّا من سجنائنا ولمْ نفقد أحدًا من الحامية؛ وكان مُساعدِيَّ الثلاثة لا يزالون هنا، ومع ذلك سُرِقَ القارب في المساء.»

«حقًّا. يا له من أمرٍ مثيرٍ للاهتمام! ولم تكتشفُوا السرَّ مطلقًا، أليس كذلك؟»

«بلى، لكنني اتخذتُ احتياطاتي، وعندما حصلنا على القارب الثاني جعلتُ حراستَه أفضل من سابقه، ولذا عيَّنتُ رجلَين لحراستِه ليلًا ونهارًا.»

«هل رجُلاك مسلَّحان أيها المدير؟»

«نعم.»

«إذن ينبغي لهما أن يستسلما وإلَّا فسنضطرُّ لإطلاق النار عليهما. انزل معنا، وانصحهما بالاستسلام بهدوء، وإلَّا فإننا نستطيع، من مَكمنٍ آمنٍ على الدَّرَج، أن نصيبهما عن كثبٍ وهما في قاربٍ مكشوف.»

قال المدير: «سوف أنزل معكما وأفعل ما بوسعي.»

«سوف يُطيعانكَ بالطبع.»

«نعم، سوف يُطيعانني إذا سمعاني. كنتُ سأقول أيضًا إنَّني بالأمس فقط أعددتُ الجرس الكهربائي للعمل بالأسفل عند المرفأ، ووجهتُ تعليماتٍ لهذَين الرجلَين بأخذ برقيةٍ، كنتُ قد كتبتُها مُسبقًا، في حالة الطوارئ، إلى البر الرئيسي، في أيِّ لحظةٍ من الليل أو النهار، عندما يُدقُّ هذا الجرس. سموَّ الأمير، لقد دقَّ الجرسُ منذ أكثر من نصف ساعة. غير أنه لمْ يُسمَح لي بالخروج لرؤية النتيجة.»

وضع العجوزُ الرزينُ يدَه على كتف الأمير، وكأنه كاهنٌ يمنحه البركة. فُوجِئَ دروموند الذي لم يفهم اللغة الأجنبية، عندما رأى جاك يتخلَّص من قبضة المدير، ويتلفَّظ بشيءٍ خمَّن دروموند أنه سِبابٌ شديدٌ بالروسية، ويثبُ على الباب ويفتحه. لقد رقا فوق المقعد الصخري الذي مكَّنه من رؤية البحر. كان ثمةَ قاربٌ، بشراعَين منشورين، يُسرع باتجاه الجنوب الغربي، عبْرَ الريح الغربية العاتية، وكان على بُعد ميلَين أو أكثر منهم.

«لقد تقطَّعَت بنا السبيلُ، وحَقِّ الرب!» هكذا صاحَ الأمير، وراحَ يدور حوله ويُصوِّب مسدسه إلى رأس المدير الذي وقفَ هناك مثل تمثالٍ للكآبة، دون أن تظهر عليه أيُّ علامة تدلُّ على أي شيء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤