الفصل السادس

من البحر إلى الجبل

بعد ثلاثة أيام أبحرت فرقة «نورث أتلانتيك» التابعة للبحرية البريطانية بموازاة الساحل قادمةً من مدينة هاليفكس، ولم تتوقَّف قليلًا حتى في مدينة بار هاربر، وإنما أرسلَت برقيةً إلى السفينة «كونسترنيشن» التي رفعَت بدورها المرساة وانضمَّت إلى الأسطول بالخارج، وهكذا غادرت السفن الحربيةُ إلى ميناء آخر.

كانت كاثرين تقف إلى جوار النافذة العريضة بغرفة الحياكة في وِقفتها المفضلة؛ إذ تُسند جانب رأسها على زجاج النافذة، بينما تحدِّق عيناها في تراخٍ إلى الخليج، وتنقر أصابعها على حافة النافذة بلحن عسكري هذه المرة بطيء جدًّا. كانت دورثي جالسةً على كرسيٍّ هزازٍ، وفي يدها رسالةٌ تقرؤها للمرة الثانية. على مدى بضع دقائق سادَ الغرفةَ صمتٌ لم تقطعه النقراتُ الهادئةُ من أصابع الفتاة على أُسْكُفَّة النافذة، بل زاده وضوحًا. وأخيرًا تنهدت كاثرين تنهيدةً عميقةً وتمتمت بينها وبين نفسها:

يتلاشى أسطولنا بعيدًا.
تخبو نيرانه على الأرض والرمال.
ويح على مجدنا القديم،
يلقى مصير «نينوى» و«صور».

همسَت بينها وبين نفسها: «أتُراني قلتُ الأبياتَ بدقةٍ أم لا؟» لقد نسيَت أن في الغرفة أحدًا غيرها، وارتاعَت للغاية عندما تكلمَت دورثي.

«كِيت، إن هذا تغييرٌ كئيب من أوبرا جيلبرت إلى شعر كيبلينج. إنني دائمًا ما أعرف مزاجَكِ من اقتباساتِك. هل أصبحَتِ الحياةُ فجأةً أقسى من أن تُعبِّر عنها أوبرا «بينافور» أو «ميكادو»؟»

قالت كاثرين، دون أن تَلتفِت: «آه، لا أدري. كلُّها مسرحياتٌ تتسم بروح الدعابة، وكلٌّ منها كذلك يُقدِّم شيئًا يناسب القلب الحزين. إن الحكمة تنبع من فهم الأبجدية على النحو الملائم. مثلًا، في البداية جاء «جيلبرت»، وهذا أعطانا حرف الجيم؛ ثم جاء «كيبلينج»، وأعطانا حرف الكاف؛ وهكذا أصبح لدينا صيغةٌ جبريةٌ هي الجيم والكاف، والتي تُمثِّل أول حرفَين من اسم الكاتِب جيلبرت كيث تشِسترتون الذي ظهر بعدهما، وعندما يزداد القلبُ كآبةً يوغل أكثر في حروف الأبجدية حتى يَصل إلى حرف الشين، ليجد برنارد شو، الذي يُعد نسخةً محسَّنة من المدرسة الكِلياردية في الرواية، ويتبنَّى نظرةَ التأفُّف من الحياة. وبعد أن أتركه، أتعمَّق أكثر حتى أصل إلى حرف الواو الذي يمثِّله ويليام جيكوبز — شدَّ ما أتمنى أن يكتب الشِّعر! سيصبح أظرف البحَّارة جميعًا، وربما يتخلى ذات يوم عن مراكب نقل البضائع من أجل السفن الحربية. وحينها سيزداد استمتاعي بقراءة مؤلفاته.»

علَّقت دورثي بحسم: «أما أنا فلن أتنازل عن مارك توين مهما حدث.»

«مارك توين ليس مِلْككِ كي تَتنازلي عنه يا عزيزتي. إنه يخصُّني هو الآخر. لقد نسيتِ أن المقارنات أمرٌ بغيض. ليست صنعتنا عقدَ المقارنات بين الكُتَّاب، وإنما أخْذ ما يرضينا من كلٍّ منهم.

عجبًا لتلك النحلة الصغيرة الدءوبة!
ساعة بعد ساعة يزيد نشاطها.
في جمْع العسل تقضي نهارها.
تجنيه من كل زهرة متفتحة.

شِعر «واتس». أترين، لا أزال في العمق بين من يبدءون بحرف الواو. يا إلهي، دورثي، كيف يمكنكِ أن تجلسي بكل هذا الهدوء بينما السفينة «كونسترنيشن» توارَت لتوِّها عن أبصارنا؟ يا لكِ من فتاةٍ أنانية!

هَبْ لي الدُّمُوعَ لكربِ غيري، إنما
هَبْ لي أنا الصَّبرَ الجميلَ لكُربتي.

لا أدري مَن كتبَ هذا البيت، لكنكِ لا تبكين على كربات الآخرين، بل تستقبلينها بضحكٍ ماجن.» ذلك أن ضحكات دورثي الصاخبة المرحة، وهي ممسكةٌ بالرسالة التي أحسنَت قراءتها، كانت تدوي في العوارض الخشبية لسقف الغرفة، وهو شيءٌ لم يحدث قبل ذلك قطُّ خلال مدةِ استئجارها الطويلة لتلك الغرفة. أدارت كيت رأسها ببطءٍ، وكانت تعبيرات وجهها تجمع بين السخط والهزل، بينما كانت عيناها كخبيرتَي أرصادٍ حائرتَين، فأنبأتا بدرجاتٍ متساويةٍ عن بهجةِ اليوم المشمس وكآبة الجو الماطر في الوقت نفسه.

«يا إلهي، كاثرين، إنكِ تبدين كأيقونةٍ للكآبة، بدلًا من أن تكوني تجسيدًا للمرح! هل هذه حقًّا حالةٌ من حالات «طائر الميكادو الحزين»؟ أترين، إنني أنقذكِ من هاوية حروف الأبجدية، وأرفعكِ إلى مُستوى كتابات «جيلبرت»، في ذلك المكان الذي اعتدتُ أن أراكِ فيه أكثر من غيره، وحيث يمكنني أن أفهمكِ بطريقةٍ أفضل. هل السبب في هذه الكآبة هو رحيل السفينة «كونسترنيشن»، وأنها أخذَت معها الحدَّاد جاك لامونت؟»

انتهَت التنهيدةُ الطويلةُ بكلمة «نعم» حزينة.

«إننا نشير إلى السفينة التي غادر على متنها بضمير المؤنث. لو كان هربَ مع أُنثى حقيقة ليتزوَّجها، فلربما صار ارتداءُ ثياب الحزن أو الغناء الحزين مفهومًا حينذاك بالرغم من عدم جدواه. أمَّا في وضعنا هذا فأنا لا أرى ما يدعو إلى هذه التنهيدة.»

«هذا لأنكِ شريرةٌ قاسيةٌ يا دورثي. أنتِ لا قلبَ لكِ، أو ربما لكِ قلبٌ بدائي على أحسن تقدير؛ لهذا لا يمكنكِ أن تتفهمي حالتي. لو كانت هذه الرسالة التي في يدكِ رسالةً غراميةً لا خطابًا من محامِيكِ لكنتِ أكثر إنسانيةً يا دورثي.»

أغلقَت اليدُ التي كانت تُمسك بالرسالةِ قبضتها عليها وغضنتها قليلًا عندما تكلمت كاثرين.

قالت دورثي وحُمرةُ الخجل تغمر وجنتيها: «إن خطابات العمل ضرورية للغاية، وهي جزء من العالم الذي نعيش فيه. ثم إنَّ عهدك بالسيد لامونت قصير للغاية.»

قالت كاثرين بنبرةٍ عنيدةٍ مؤكدة: «إنه لم ينقطع عن زيارتي يومًا واحدًا منذ ليلة الحفل الراقص.»

«حسنٌ، إنها ثلاث مراتٍ لا أكثر.»

«ثلاث مراتٍ فقط! انظري ماذا تقولين! وكأنك لم تدرسي الحساب قط. يا إلهي، إن ثلاثةً رقمٌ سحري. يُمكنكِ أن تفعلي به الكثير من الأشياء الرائعة. ألا تعلمين أن الرقم ثلاثة هو رقم الحب؟»

ردت دورثي في ابتهاجٍ لا يعكس تعاطفها: «كنتُ أظن أن الرقم اثنين هو رقمُ الحب.»

ألقت كاثرين نظرةً أخيرةً على الأُفق الخالي، ثم قالت وهي تجلس أمام صديقتها: «بل ثلاثة، فهو رقم عشريٌّ متكرِّر. إنه مستمرٌّ إلى الأبد، ولو جلستِ تكتبينه ألف سنةٍ فستظلين بعد انقضائها بعيدةً عن إدراك النهاية كما كنتِ تمامًا حين بدأتِ في الكتابة. سوف يدور بكِ هذا الرقم حول العالم ويعود بكِ مرةً أخرى، ولن يَنقص. إنه الرمز الرياضي لما ينبغي أن يكون عليه الحب الحقيقي.»

سألتها دورثي بنبرةٍ أكثر وقارًا من ذي قبل: «هل الأمر في هذه الدرجة من الجدية يا كيت، أم أنكِ تمزحين من جديد فحسب؟ هل تكلَّمَ معكِ؟»

«تكلَّم؟! إنه لم يفعل شيئًا سوى الكلام، وأنا أنصتُّ؛ يا إلهي، أنصتُّ بانتباهٍ شديد، وبتفهُّمٍ كبيرٍ للغاية. إنه لم يَلتقِ امرأةً مثلي قبل ذلك قط، وقال لي هذا بصراحة.»

«أنا مسرورةٌ للغاية لأنه يُقدِّركِ يا عزيزتي.»

«نعم، أنت تعلمين يا دورثي، إنني في الحقيقة أكثر حكمةً بكثيرٍ من أي امرأةٍ عادية. فمَن سواي مثلًا تستطيع أن تجد مثل هذا التشبيه الجميل للحب في كتابٍ لعلم الحساب ثمنُه خمسةٌ وعشرون سنتًا مثلما اكتشفتُ أنا في الكسور العشرية؟ إذا أخذتِ هذا المثال في الحسبان، كيف يُمكنكِ أن تشكِّكي في أن مجلدات التعليم الجامعي الأخرى ستكشف لي عن مكنون معانيها؟ لقد أهداني جون، وهو يُودعني، نسخةً مجلدةً جميلةً من ذلك الكتاب المدرسي الذائع الصيت المدعو «كتاب سوندرز في الكيمياء التحليلية»، وكان فيه صفحاتٌ رقيقةٌ للغاية مكتوبٌ عليها بالرصاص، بخطه الجميل.»

كان كلام كيت من النوع المثير للشفقة، ولم يُخفِّف من حدته أيُّ أثرٍ للهزل، ولذا وقعَت دورثي في شيءٍ من الارتباك، لكنها برغم ذلك ضحكَت، لكن الضحكةَ لم تجِد لها صَدًى عند كاثرين.

«وهل أعطيتِه مجلدًا من كتابات الشاعر روبرت براونينج في المقابل؟»

«لا، لم أفعل. كيف تتصرفين بكل هذا الجمود؟ أمن المستحيل عليكِ أن تفهمي الرابطة غير المرئية التي تَربطني أنا وجون؟ لقد نقَّبتُ في محل الكتب حتى وجدتُ نسخةً صغيرةً ساحرةً من «كتاب مارشال في الجيولوجيا للجيب» مُغطاةً بطبقةٍ لينةٍ بُنِّيَّةٍ جميلةٍ من الجلد الروسي، لقد رأيتُ أن الجلدة الروسية ستكون مُلهمةً جدًّا، وكان للكتاب إبزيمٌ صغيرٌ جميلٌ يبقيه مغلقًا وجدت أنه رمزٌ نموذجيٌّ ليَدينا عند الفراق. وكتبتُ على الورقة البيضاء في أول الكتاب: «إلى جي إل، تخليدًا لذكرى محادثاتٍ ماتعةٍ كثيرةٍ مع صديقته، كيه كيه.» لم يكن ينقصه سوى «كيه» أخرى حتى يصبح رمزيًّا وسياسيًّا، تذكارًا للأيام الغابرة، حين كنتم أنتم أهلَ الجنوب، يا دورثي، ترهقوننا من أمرنا عسرًا، نحن الصالحين من أهل الشمال. لم يكن لديَّ وقتٌ لتصفُّح الكتاب بالكامل، لكنني وجدتُ إشاراتٍ كثيرةً لحجر الكلس، فوضعتُ عليها علامات، كما اخترتُ بعنايةٍ فائقةٍ كلماتٍ ذاتَ صلةٍ بتذويب العديد من المعادن وإعادة مزجها، ورسمتُ حولها متوازي أضلاعٍ بالحبر الأحمر. لقد تفضَّل صديقٌ لي يركبُ زورقًا بخاريًّا بحمل الطرد الصغير مباشرةً إلى السفينة «كونسترنيشن»، ولا أشك أن جاك يقرأ الكتاب بتمعنٍ الآن، ولعل ذهنه مشغولٌ بمَن أهدته إياه. أرجو أن يكون حديثًا، وألَّا يكون اشترى نسخةً منه من قبل.»

«أتقصدين يا كيت أن كلامكما كان كله عن الجيولوجيا؟»

«بالطبع لا. كيف تشرَّبتِ مثل هذه الفكرة السخيفة؟ لقد كان بيننا الكثير من المداعبات المبهجة في البساتين الرومانسية للكيمياء، وأحاديث من القلب إلى القلب عن علم التعدين، وذات مرةٍ لن أنساها أبدًا، كان الغسق يلفنا برفقٍ، وكنتُ أنا أُحدِّق في عينيه المتألقتين الناطقتين الذكيتين هاتين وهو يَنحني مقتربًا منِّي أكثر فأكثر؛ بينما راحَ صوتُه الرنانُ الخفيض يصوِّر لي في كلماتٍ مختارةٍ بعنايةٍ ما يَحمله الأسمنتُ المُسلحُ من أمل للعالم؛ أعني، أيتها الجاهلة، الأسمنتُ البورتلاندي المُقوَّى بدعامات الحديد؛ وجلستُ أنا أُصغي بأنفاسٍ محبوسةٍ بينما عباراته المتوهجةُ تتنبأُ بمستقبل هذا المزيج.»

أغلقت كاثرين عينيها، وراحَت تتأرجَح برفقٍ إلى الأمام والخلف، وأخذَت تدندن بصوتٍ لا يكاد يُسمع:

عندما تمضي، يا جيمي،
بعيدًا في البحر، أيها الصبي الصغير،
عندما تمضي إلى الأراضي الروسية،
ماذا سترسل لي، أيها الصبي الصغير؟

«أنا أعرف ما الذي سأحصل عليه. ربما ستكون وصفة مُكتشَفة حديثًا لمزج الأسمنت ستلغي الحاجةَ إلى الحديد المستخدَم من أجل التقوية.»

«كيت، حبيبتي، إنكِ تبالغين في الأمر. صحيحٌ أن المرأةَ يجب أن تكون لُغزًا بالنسبة إلى الرجل، لكن يجب عليها ألَّا تطمحَ إلى أن تكون لُغزًا لأختها المرأة. هل تمزحين فقط، أم إن هناك شيئًا ما في كلِّ ما تقولينه هذا أكثر جديةً مما ينطوي عليه كلامُك؟»

«مثل الحديد المُستخدَم في تقوية الأسمنت، قد يكون داخَله، لكنكِ لا تستطيعين رؤيتَه، ولا يمكنكِ لمسُه، لكنَّ المدهش أنه يشكِّل فرقًا كبيرًا في أحجار البناء. أُفٍّ يا دورثي، فلنترك هذه المواضيع العملية، ولنتحوَّل إلى شيءٍ إنساني. ماذا أراد محاموكِ منكِ؟ هل ثمة مشكلةٌ بخصوص المال؟»

هزَّت دورثي رأسها.

«كلا. ولكن يوجد العديد من الأمور التي يجب عليهم أن يستشيروني فيها بالطبع، وأن يحصلوا على موافقتي على هذا المشروع أو ذاك.»

«اقرئي الخطاب. ربما يُساعدكِ عقلي الرياضي بأمرٍ ما.»

كانت دورثي قد أخفت الرسالة، ولم تُظهرها في تلك اللحظة.

«إنَّ ما أودُّ أن أتحدث إليكِ بشأنه مُتعلقٌ بمساعدتكِ، ومساعدتكِ المستمرة. لنتبع مثال الأسمنت والصُّلب، ولنعقد اتفاقًا. سوف أحاكي السفينة «كونسترنيشن» في أمر، سأغادر بار هاربر في الأسبوع المقبل.»

اعتدلت كاثرين في كرسيِّها، واتسعَت حدقتاها.

وسألَت: «ما مشكلةُ بار هاربر؟»

«تستطيعين الجواب عن هذا السؤال أفضل مني يا كيت. إن أفراد أسرة كَمْت ليسوا زوارًا، بل يعيشون هنا طوال العام. ما مشكلة بار هاربر في ظنكِ أنتِ؟»

«أعترفُ أنها تكون كئيبة قليلًا في فصل الشتاء، كما أنها بعيدةٌ جدًّا عن نيويورك طوال فصول العام. إلى أين تنوين الذهابَ يا دورثي؟»

«سوف يعتمد هذا بقدرٍ كبيرٍ على المكان الذي تَنصحني صديقتي كيت بالذهاب إليه؛ لأنني سآخذها معي، إذا رغبَت في هذا.»

«تُرى، أيَّ الأعمال سأتولَّى إذن: وصيفة، ماشِطة، خادمة للضيوف، خادمة عامة، طاهية، مربية، عاملة على الآلة الكاتبة؟ هل سأحصل يومًا ما على إجازة لمدة أسبوع، وهل سيُسمَح لفتاي بزيارتي، هذا إذا صار لي فتًى، والأكثر أهمية من ذلك كله: كم سيكون راتبي؟»

«ستُحدِّدين راتبكِ بنفسكِ يا كيت، وسيُرتِّب المحامون أمرَ وصولِ المبلغ المحدَّد إليكِ، حتى إذا تشاجَرنا نستطيع أن نتشاجر مشاجرةَ الندِّ للند.»

«يا إلهي، فهمت، سأكون ابنةً متبناةً إذن، أليس كذلك؟»

«بل أختًا متبنَّاة.»

«هل تظنِّين أنِّي سأستغل كوني صديقة إحدى الوريثات وأجعل لنفسي معاشًا؟»

قالت دورثي: «إنني أنا المستفيدة. وأنا أرجوكِ ألا تأخذكِ الرغبةُ في الاستغلال، وإنما أرجوكِ أن تأخذكِ الشفقةُ على فتاةٍ وحيدةٍ ليس لها أي أقارب ألبتَّة.»

«هل أنتِ جادةٌ حقًّا يا دوت؟»

«بالطبع جادة. وهل كنتُ سأعرض مثل هذا العرض إن لم أكن جادةً فيه؟»

«حسنًا، هذا أول عرضٍ يُعرَض عليَّ في حياتي، وأعتقد أنَّ المعتاد في مثل هذه المناسبات أن أقول إن الأمر كان مفاجِئًا جدًّا، أو غير متوقَّع، وإنني أحتاج إلى الوقت من أجل التفكير.»

«متى ستُقرِّرين يا كيت؟»

«يا إلهي، لقد قررتُ بالفعل. إنني مُتلهفةٌ لقبول عرضكِ، لكنني أظن أن من الأليق بالسيدة الكريمة التظاهر بشيءٍ من التمنُّع. ماذا قررتِ أن تفعلي يا دورثي؟»

«لا أدري. لم أستقرَّ إلا على قرارٍ واحدٍ حتى الآن. أنوي بناء كنيسةٍ صغيرةٍ من الحجارة والقرميد تكون على الطراز العتيق وجذَّابةً للغاية، هذا لو وجدتُ المهندس المعماريَّ المناسب لرسم تصميمٍ لها، وستكون هذه الكنيسة في هافرستوك.»

«أين هافرستوك هذه؟»

«إنها قريةٌ قريبةٌ من نهر هدسون، في السَّهل الممتد قرب جبال كاتسكيل.»

«هذا هو المكان الذي كنتِ تعيشين فيه مع والدك، أليس كذلك؟»

«بلى، وستُسمى كنيستي «كنيسة نصب الدكتور إمهيرست التذكاري».»

«وهل تنوين الإقامة في هافرستوك؟»

«كنتُ أفكِّر في هذا.»

«ألن تكون الإقامة هناك كئيبةً قليلًا؟»

«بلى، أظن ذلك، لكنه يبدو لي مكانًا مناسبًا لفتاتَين كي تُفكِّرا فيه لِما ستفعلانه في حياتهما.»

«نعم، هذه مسألةٌ مهمةٌ للاثنتين. أقترح يا دورثي أن نذهب إلى الجانب الآخر من النهر، ونلتحق بكلية «فاسير كوليدج». حينها سنَحظى ببعض المتعة على الأقل، وسيكون هناك أناسٌ على قدرٍ جيد من التعليم نتبادل معهم أطراف الحديث.»

«يا إلهي، تُريدين أن تستخدمي ما حصَّلتِه مؤخرًّا من المعرفة العلمية كي تجتازي الامتحانات؛ لكنني لم أحظَ كما تعرفين بمعلِّمٍ خاصٍّ ليشرح لي ألغاز إحراق الكلس وخلط الأسمنت. والآن، لقد ازدريتِ أنتِ الجانبَ الذي اخترتُه من النهر، وأنا اعترضتُ على الجانب الذي اخترتِه أنتِ. هذه هي البداية السيئة، ولنأمل أنها ستُؤدي إلى النهاية الجيدة. مَن عساه يحكم بيننا؟»

«يا إلهي، سوف نصل إلى حلٍّ وسطٍ بالطبع.»

«كيف يمكن أن نفعل هذا؟ نعيش في مركبٍ في النهر كما في رواية فرانك ستوكتُن «بودَر جرينج»؟»

«لا، بل نستقرُّ في مدينة نيويورك، التي هي في الواقع جزيرةٌ في نهر هدسون.»

«أتحبين أن تعيشي في نيويورك؟»

«ألا يبدو عليَّ ذلك! لا أتخيَّل أن تُتاح هذه الفرصةُ لأي أحدٍ ثم يسكن في مكانٍ آخر!»

«نقيم في فندق، وليكن فندق «هولدورف» على سبيل المثال.»

«نعم، يمكننا أن نعيش في فندق ريثما نجد الشقة المثالية، في شقةٍ عاليةٍ في إحدى العمارات السكنية، وتُطلُّ على منظرٍ كذلك الذي يُرى من قمَّة جبل «ماونت واشنطن»، أو من قمة مسلَّة «واشنطن مونيومنت».»

«لكنكِ نسيتِ أنَّني اشترطتُ شرطًا في البداية، وهو أنني سأبني كنيسة، ولن تكون الكنيسة في نيويورك، بل في قرية هافرستوك.»

«إن نيويورك هي المكان المُلائم تمامًا لكي تَبني منه مثل هذا الصرح. فقرية هافرستوك تقع بالقُرب من سكك حديد «ويست شور». ولا بأس في أن نُسافر إلى هناك مرةً كل أسبوع، أو أكثر إذا أحببتِ، ونرى سير العمل، وحينها سيُجِلُّنا أهلُ قرية هافرستوك. وعندما نركب العربة من محطة القطار سيقولون:

«ها هما تان الفتاتان القادمتان من نيويورك اللتان تَبنيان الكنيسة.» أما لو أقمنا بينهم فلن يعرفوا مدى تميُّزنا وسيَحسبون أننا مجرَّد قرويتَين عاديتين. يُمكننا أيضًا أن نقيم في أحد الفنادق الكبرى في مقاطعة كاتسكيلز ريثما تُجهَّز شقتُنا، ونأتي كلما أحبَبنا عبر خطوط السكة الحديدية الجبلية المنحدرة. الحق أنَّ مقاطعة كاتسكيلز هي المكان الأنسب، قبل أن تزداد برودة الجو.

يا للعجب، إن جبال كاتسكيلز تترك بصمتها السماء البعيدة،
وفوق قِمَمها الشاهقة تطفو السُّحُبُ الباهتة،
وتمتزج في رفقٍ شديد، حتى إنَّ العين المخدوعة لتنسى
أين تنتهي الأرض وأين تبدأ السماء.»

«هذا يَحسم النقاشَ لصالح كاتسكيلز يا كيت. أيُّ نوعٍ من السكنى عسانا نختار؟ فندقٌ كبير، أم مثوًى مُستأجَر خاص من نوع ممتاز؟»

«يا إلهي، فندقٌ كبيرٌ بالطبع؛ أكبر فندق موجود، أيًّا كان اسمه. فندقٌ من تلك الفنادق الباهظة الأسعار للغاية لدرجةِ أن المالك لا يَجرُؤ على الإعلان عنها، وإنما يقول في إعلانه: «لمعرفة الأسعار يُرجى التواصل مع المدير.» لا بد أن تكون مساحته كبيرة، وأن يكون متعاقدًا مع فرقةٍ موسيقيةٍ ممتازة، وأن يُعلِن عن وجود أطعمةٍ شهيرة. يجب أن يكون لغرفتك، على الأقل، شُرفةٌ خاصةٌ تستطيعين أن تضعي بها تلسكوبًا وتُشاهدي بِناء كنيستك في الأسفل. ولأنني فتاةٌ مُتواضعةٌ ذاتُ مكانةٍ ثانويةٍ، فسيكون لديَّ شرفةٌ كذلك لأُعوِّض نقاط النقص تلك.»

«لا بأس يا كيت، اتفقنا. غير أنَّ امرأتَين وحيدتَين تستطيعان الشئون المنزلية في شقةٍ في نيويورك، لكنَّهما لا تستطيعان الإقامة بمفردهما في أحد الفنادق الراقية بالسهولة نفسها.»

«يا إلهي، بلى، نستطيع. يُمكننا تقديم أفضل التزكيات لنا والمطالبة بمثلها للفندق.»

واصلَت دورثي كلامها، غيرَ منتبهةٍ لمقاطعة الحديث: «كنتُ سأقترح عليكِ أن ندعو والدك ووالدتكِ لمُرافقتنا. ربما يستمتعان بالتغيير من جو البحر إلى جو الجبال.»

عبست كاثرين قليلًا، واعترضَت قائلةً:

«هل ستتمسَّكين بالتقاليد بهذه الطريقة المخيفة يا دورثي؟»

«يجب أن نُولي التقاليد بعضَ الاهتمام، ألا تظنين ذلك؟»

«كنتُ آمل ألَّا نفعل. إنني أتوق إلى أن أُصبح فتاةً مستقلة، وأن أحمل مفتاح بيتي.»

«سوف تملكُ كل واحدةٍ منا مفتاح بيتها عندما نُقيم في نيويورك. سوف تكون شقتنا قلعَتنا الخاصة، ورغم أن مِفتاحنا سيُمكِّننا من الدخول، فسوف يمنع قُفلُ شقتنا الآخرين من الدخول إليها. إنَّ منتجعًا صيفيًّا شهيرًا ليتطلَّب معاملةً مختلفة؛ لأننا سنعيش هناك حياةً شِبه عامة. فضلًا عن ذلك، فأنا أنانيةٌ بما يكفي لأتمنَّى أن يكون خروجي تحت رعاية رجلٍ مشهورٍ للغايةِ مثل القبطان كِمْت.»

«حسنٌ، سأرى ما رأيهما في هذا الاقتراح. أنتِ لا تُريدين سابينا، أنا أفهم هذا، أليس كذلك؟»

«بل أريدها، إذا وافقَت أن تأتي.»

«أشك أن تُوافق، لكنَّني سأُجرِّب. فضلًا عن ذلك، فعندما فكَّرتُ في الأمر وجدتُ أن من الإنصاف أن أُعلِمَ والديَّ المُولَعَين بي أنني على وشك أن أهجرهما.»

بعد هذه الكلمات غادرَت كاثرين الغرفةَ، ونزلت تتواثب على الدَّرج.

أخرجت دورثي الرسالة من مخبئها، وقرأتها للمرة الثالثة، مع أنَّ أي شخصٍ غير مُهتمٍّ بالموضوع كان من الممكن أن يقول إنها وثيقةٌ عاديةٌ جدًّا. بدأت الرسالةُ كالآتي:

«عزيزتي الآنسة إمهيرست»، وانتهَت بهذه الكلمات: «المخلص لكِ دائمًا: آلان دروموند.» كان في سطورها بعض التفاصيل لِما فعله منذ أن ودَّعها. لقد أخبرها أن البحَّارة لا يحتاجون سوى قليلٍ من الوقتِ لحزم أمتعتهم، وفي تلك المرة بالذات كان وجود الأمير مفيدًا جدًّا. لقد خرجا معًا لإدراك القطار الذي ينطلق في الصباح الباكر، وودَّع كلٌّ منهما الآخر عند المحطة. كان دروموند قد عزم على الإبحار من نيويورك، لكنه قابل شخصًا ودودًا على متن القطار وأخبره ذلك الشخص أن باخرة ليفربول المسماة «إنثيوزييَانا» سوف تَنطلِق من بوسطن في اليوم التالي، ولذا تخلَّى عن فكرة الإبحار من نيويورك، وحجز للسفر على متن الباخرة المذكورة، والتي كتب رسالته هذه على ورقةٍ من ورق الرسائل الخاص بها، وأخفتها دورثي مرةً أخرى عندما سمعَت خُطا كاثرين الخفيفةَ على الدَّرَج.

اندفَعَت تلك الفتاةُ المتهورة إلى داخل غرفة الحياكة، وصاحت قائلةً:

«سوف نذهب كلنا؛ أبي وأمي وسابينا. يبدو أن أبي حصل على عرضٍ ممتازٍ لتأجير البيت، ويبدو أن هذا سيستمر حتى نهاية شهر سبتمبر، وهو يقول بما إنه يحب المرتفعات فسيقضي الوقت فوق قمة كاتسكيلز. إنه يتخلى عني، ويقول إنه لو تمكَّن من اقتراض أي مبلغٍ فسيوصي بحرماني من أن أرثَه فيه. إنه يشعر بالأسى لرحيل الأسطول البريطاني؛ لأنه يعتقد أنه ربما كان سيتمكَّن من الحصول على مُرتبٍ حقيقيٍّ نظير الالتحاق بالأسطول والعمل على متن السفينة. وبالرغم من ذلك، أصرَّ أبي على شرطٍ واحد، وهو أنه سيتولى نفقات نفسه وأمي وسابينا؛ ولذا فهو لا يريد غرفةً ذات شرفة. لكنني قلتُ إنني على الرغم من حرمانه إياي من ميراثه سوف أُساعد الأسرة من مرتبي، ولذا فسيُعيد النظر في تغيير وصيته.»

قالت دورثي وعلى وجهها ابتسامة: «سوف نتَّفق على الشروط عندما نصل إلى كاتسكيلز.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤