الفنان وزمانه

(نص المحاضرة التي ألقاها كامو، بالمدرج الكبير لجامعة أوبسال السويدية بتاريخ ١٤ ديسمبر (كانون الأول) ١٩٥٧م)

وُجِد في قديم الزمان حكيم صيني كان يلتمِس دائمًا في أدعيته أن تجنبه القدرة الإلهية العيش في حقبة مهمة. وبما أنَّنا لسْنَا حكماء، فالقدرة لم تُجنِّبْنا ذاك المصير، وها نحن نعيش حقبة مهمة. على كل حال، فهي لا تقبل أن نتمكَّن من التخلِّي عن الاهتمام بها، والكُتَّاب يعلمون اليوم ذلك. وهم إنْ تكلموا تعرَّضوا للنقد وهوجموا، وإنْ تواضَعوا لزموا الصمت، ولن يخاطبهم أحد إلا عن صمتهم، ليُلَاموا بصخب.

وسط هذا الضجيج، لا يستطيع الكاتب أن ينعزل بنفسه ليواصل تأمُّلاته والصور الغالية عليه. فحتى الآن، ظل الامتناع عن الكلام، بشكل أو بآخر، ممكنًا في التاريخ. الذي لم يكن يوافق كثيرًا ما يصمت أو له أن يتحدث عن شيء آخر. أما اليوم فقد تَغيَّرت الأمور، والصمت ذاته بات شأنًا مخيفًا. إذ انطلاقًا من اللحظة التي عُدَّ فيها الصمت نفسه اختيارًا، يُعاقَب عليه أو يُجازى، فقد أصبح الفنان، أحبَّ أو كره، مُقلِعًا (Embarqué). وهذا تعبير أكثر دقة من قولنا ملتزمًا. فهو ليس التزامًا إراديًّا من قِبَل الفنان، وإنما بالأحرى خدمة عسكرية. وكل فنان هو اليوم مُقلِع في مركب زمنه، عليه أن ينصاع لذلك، حتى ولو شمَّ الزَّفر، وأن الرقباء على محابيس المركب كُثر، وأن هذا الأخير لا يبحر في الاتجاه الصحيح.

إننا في قلب البحر، والفنان، شأن غيره، عليه أن يُجدِّف بدوره، بدون أن يموت ما أمكن، بمعنى أن يواصل العيش ويُبدِع.

وما هو في الحقيقة أمر سهل، وأنا أتفهَّم لِمَ يأسف الفنانون على رفاهيتهم القديمة. فالتغيير نوعًا ما عنيف. أكيدٌ، فقد وُجِد دائمًا في سِيرك التاريخ الشهيدُ والأسد، الأول يَتحفَّز بمواساة أبدية، والثاني بتغذية تاريخية طازجة. بيد أن الفنان حتَّائذٍ ظل في وضع فُرجة، يُغَنِّي من أجل لا شيء، لنفسه، وفي أحسن الأحوال ليشجع الشهيد ويصرف الأسد قليلًا عن شهيته. أما الآن، فهو العكس، بعد أن انتقل الفنان إلى السِّيرك. تبدَّل صوته، بأن أصبح أقلَّ اقتناعًا.

بوسعنا أن نرى ما يمكن للفن أن يخسره جرَّاء هذا الجبر الدائم. اليسر أولًا، والألوهية المنبعثة من أعمال موزار. نفهم أفضل النزعة الساهمة والعنيدة لأعمالنا الفنية، قلقها واندحارها المفاجئين. ونقول بأنَّنا سنتوفَّر هكذا على عدد من الصحفيين أكثر من الكُتَّاب، ومن هُواة الرسم أزيد من واحد كسيزان، وأخيرًا على خزانة من القصص الحب والجنس، حيث الرواية البوليسية تأخذ مكان «الحرب والسلم» [لتولستوي]، أو [لستندال] . بالطبع بالإمكان دائمًا مواجَهة هذه الحالة بالتباكي الإنساني، أن نصبح ما أراد ستيبانوفيتش أن يكون عليه بالقوة في رواية «المَمْسوسون» (١٨٧٢م) [لدوستويفسكي]. ولنا أن ينتابنا، مثل هذه الشخصية، بعض الحزن، وإن لم يُغيِّر من الواقع شيئًا. أما من وجهة نظري، فمن الأفضل أن نحسب حساب الزمن، بما أنه يتطلب ذلك بشدة، وأن نعترف بهدوء بأن عهد الأساتذة الأعزاء، والفنانين الباهرين، والنوابغ، قد ولَّى. أن تبدع اليوم معناه أنك تبدع في خطر. كل إصدار هو فعل، فِعل يعرض لأهواء قرن لا يرحم شيئًا. والمسألة ليست معرفة هل هذا مُضِر بالفن أو لا. المسألة بالنسبة للذين لا يستطيعون العيش بدون الفن وما يعنيه، هي فقط معرفة كيف بالإمكان وسط شرطة عديد الأيديولوجيات (والكنائس، أيُّ وحدة هذه!)، الحفاظ على الحرية الغريبة للإبداع.

لا يكفي في هذا الصدد القول بأن الفن مُهدَّد من قِبل قوة الدول. ففي هذه الحالة يبدو المُشكِل بسيطًا: إما أن يقاوِم الفنان أو يستسلم. المشكِل أعقد من هذا، وأشد هلاكًا، بمجرَّد ما نعي بأن المعركة تجري داخل الفنان نفسه. إن كراهية الفن التي يعطي عنها مجتمعنا أقوى الأمثلة ليست بفاعليتها القصوى اليوم إلَّا لأنها محمولة من الكُتَّاب أنفسهم. كان شك الفنانين الذين سبقونا يمس موهبتهم، أما فنَّانو اليوم فشكُّهم يمس مدى ضرورة فَنِّهم، وإذن، وجودهم ذاته. فلو كان راسين [١٦٣٩–١٦٩٩م] موجودًا سَنتَنا هذه (١٩٥٧م) لاعتذر عن كتابة مسرحيته Bérénice عوض الدفاع عن l’Edit de Nantes [مرسوم الملك هنري الرابع لإنهاء الاقتتال بين الكاثوليك والبروتستانت، ومهد لِلَائكية (العلمانية)، نظام فصل الدين عن الدولة في فرنسا، ٣٠ أبريل ١٥٩٨م].

إن لتساؤل الفنان هذا حول الفن أسبابًا عِدة، لن نُبقي إلا أعلاها. يمكن شرحها في أحسن الأحوال بالانطباع الذي قد يخامر الفنان المعاصر بأنه يكذب أو يتكلم عن لا شيء، إنْ هو لم يدخل في حسابه مصائب التاريخ. ذلك أن ما يطبع عصرنا، في الواقع، هو انبثاق الجماهير من وضعيتها البئيسة أمام الحساسية المعاصرة. ونحن نعلم أن هذه الجماهير موجودة، في حين ملنا إلى تجاهلها. وإذا ما علمنا فليس مردَّ ذلك إلى أن النخب الفنية وغيرها قد غدت أفضل، كلا، وإنما لأن الجماهير صارت أقوى، وتمنع أن ننساها.

هناك أسباب أخرى، وبعضها أقل لياقة، لشرح استقالة الفنان. وهي على كلٍّ تذهب إلى الهدف ذاته: تثبيط الإبداع الحر بالتعرُّض لمبدئه الجوهري، الذي هو إيمان الفنان نفسه. يقول إمرسون [الباحث والشاعر الأمريكي] (١٨٠٣–١٨٨٢م) بعبارة بديعة إن «خضوع إنسان لنبوغه الشخصي لهو الإيمان بامتياز». وأضاف كاتب أمريكي آخَر من القرن التاسع عشر: «طالما ظل المرء وفيًّا لنفسه، فالكل سيشاطره الرأي؛ الحكومة، المجتمع، الشمس أيضًا، القمر والنجوم». أين منا اليوم من هذا التفاؤل العظيم، والفنان في أحسن الأحوال يخجل من نفسه وامتيازاته، لو ملكها وعليه أن يجيب قبل كل شيء عن السؤال الذي يطرح: هل الفن تَرَف وهمي؟

١

أول جواب مشرِّف يمكن تقديمه هو الآتي: بالفعل، يحدث أن يكون الفن ترفًا وهميًّا. فعلى سطح المركب نستطيع دائمًا أن نتغنَّى بالمجرَّات، فيما المحابيس يُجدِّفون ويَذوبون في قَبْو المركب. بإمكاننا دائمًا تسجيل الحوار المتحذْلِق الدائر فوق مُدرَّجات السِّيرك بينما الضحية تُسحق تحت أنياب الأسد. ومن الصعب جدًّا الاعتراض بشيء على هذا الفن الذي عرف نجاحات باهرة في الماضي، اللهم إلا إن الأمور تغيَّرت قليلًا، وأن عدد المحبوسين والشهداء قد زاد فوق مساحة المعمور بشكل مهول. وأمام الكمِّ الهائل من البؤس، فإن هذا الفن إن أراد أن يتواصل كَتَرفٍ فعليه القبول بأن يتحوَّل إلى كذبة.

لنتساءل، سلفًا، عن أي شيء تكلَّم؟ فهو إن تطابَق مع ما يطلبه المجتمع في غالبيته، فسيكون بلا مردود. وإن رفض ذلك بعماء، إذا ما قرر الفنان الانعزال في حلمه، فهو لن يُعبِّر سوى عن رفضه. عندئذٍ سنتوفر على إنتاج أناس لاهِين، ونحويين شكليين، يفضي في كلتا الحالتين إلى فَن منقطع عن الواقع الحي. ونحن منذ قرن نعيش في مجتمَع ليس حتى مجتمع المال (فالمال والذَّهب قد يثيران شهوات جسدية)، ولكن ذلك الذي للرموز المجرَّدة للمال. إن مجتمع التجار يمكن تعريفه بوصفه المضمار الذي تختفي الأشياء فيه لفائدة العلامات. وحين تقيس طبقة اجتماعية ثروتها لا بما تملك من أراضٍ وتكنز من ذهب، وإنما بعدد أرقام عمليات المبادَلات، فمعناه أنها تُقدِم بنفسها على جعل المُخاتَلة في قلب تجربتها وعالمها. إن مجتمعًا قائمًا على العلامات لهو في جوهره مجتمع مصطنع حيث الحقيقة الجسدية للإنسان تصبح مخدوعة. لن نستغرب عندئذ أن يختار هذا المجتمع كعقيدة له أخلاقًا من مبادئ شكلية، وأن يكتب كلمات الحرية والمساواة على السجون كما على معابده المالية. بيد أنه لا يمكن تعهير الكلمات بلا ثَمن. كما لا تُوجَد قيمة استبيحت اليوم مثل قيمة الحرية. وثمة عقول جيدة (لقد فكرت دائمًا بوجود نوعين من الذكاء، الذكيِّ منه والغبيِّ) أن هذه القيمة ما هي إلا عائق في وجه التقدُّم الحقيقي. وقد أمكن لتُرَّهات كهاتِه أن تنتشر؛ لأن المجتمع التجاري جعل من الحرية على مدى مائة سنة استخدامًا حكرًا عليه وأحاديًّا، واعتبرها بمثابة حق أكثر منها كواجب، ولم يخشَ من وضْعِها غير مرة وكلما استطاع حرية مبدأ في خدمة اضطهاد فِعْلِي. وإذن، ما العجب في كون هذا المجتمع لم يطلب من الفن أن يكون أداة للتحرُّر، وإنما تمرينًا بدون نتيجة، ومجرَّد تسلية؟ هكذا وجَدْنا بشرًا عديدًا بهموم مادية فقط، وأحزان غرامية، يُقبِل طيلة عشرات السنين على الروائيين المتحذلقين، والفن الأكثر سخفًا، هذا الذي قال عنه أوسكار وايلد، وهو يفكر في نفسه قبل أن يعرف السجن، بأن الرذيلة الكبرى هي أن تكون مصطَنعًا.

وهكذا وجدْنَا، أيضًا، صُنَّاع الفن (انتبهوا أني لم أقل الفنانين بعدُ) في أوروبا البورجوازية قبل وبعد ١٩٠٠م، يَقْبلون اللامسئولية؛ لأن المسئولية تفترض قطيعة منهكة مع مجتمعهم (الذين قاطعوا فعلًا؛ هم: رامبو، ونيتشه، وستريندبرغ، ونعلم أي ثَمن أدَّوْا). إلى هذه الحقبة يعود تاريخ نشوء نظرية الفن للفن، والتي ليست سوى اعتناق هذه اللامسئولية. الفن للفن، تسلية فنان مُتوحِّد، هذا بالضبط الفن المُصطنَع لمجتمع شكلاني ومجرَّد. ومصيره المنطقي هو فن الصالونات، حيث يتغذَّى الفن الشكلي من الحذلقات والمجرَّدات وينتهي إلى تدمير كل حقيقة. وفيما تُبهِج بعض الأعمال أفرادًا مُعيَّنين، فإن غيرها فَجَّة كثيرة تفسد عديدين. والنتيجة أن الفن يتشكَّل بمعزل عن المجتمع وينقطع عن جذوره الحية. وتدريجيًّا، فإن الفنان، حتى المحتفَى به جدًّا، يغدو وحيدًا، أو على الأقل لا تعرفه أمته إلا عن طريق الصحافة واسعة الانتشار، أو الراديو، يعطيان عنه فكرة مُرضية ومُبسَّطة. كل ما تخصص الفن إلا أصبح من الضروري إشاعته. وسيتهيأ لملايين الناس أنهم عرفوا هذا الفنان الكبير أو ذاك لاطلاعهم عَبْر الصُّحف على هوايته في تربية الطيور أو كون زواجه لا يستمر أكثر من ستة أشهر. وأعظم شهرة اليوم هي أن تُمحِّض الإعجاب أو تَتعرَّض للكراهية دون أن يقرأك أحد. على كل فنان يطمح للشهرة في مجتمعنا معرفة أن ليس هو من سيشتهر ولكن شخصًا آخر تحت اسمه، سيفلت منه في نهاية المطاف، وربما أن يقتل ذات يوم الفنان الحقيقي فيه.

كيف نستغرب، والحالة هذه، أن كل ما أُبدِع من لائق في أوروبا التجارية للقرن التاسع عشر والعشرين، في الأدب مثلًا، قد نهض ضد مجتمَع زمنه! وبوسعنا القول إنه إلى مَشارف الثورة الفرنسية كان الأدب الممارَس في مجمله أدبَ ترضية. وانطلاقًا من اللحظة التي استقر فيها المجتمع البورجوازي، وليد الثورة، سوف يظهر، على العكس، أدب التمرُّد. سيتم عندنا مثلًا التَّنكُّر للقيم الرسمية، إما مِن حَمَلة القيم الثورية، والرومانسيين على طريقة رامبو [الشاعر الفرنسي ١٨٥٤–١٨٩١م]، أو من المحافظِين على القيم الأرستقراطية، خير من يمثلهم فنِّيًّا [الشاعر والمسرحي الفرنسي Alfred de Vigny 1797–1863] وبلزاك [الروائي الفرنسي صاحب الكوميديا الإنسانية، ١٧٩٩–١٨٥٠م] في كِلتا الحالتين، الشعبية والأرستقراطية، اللذين هما مصدر كل حضارة، سينخرطان ضد زيف زمانهما.
بَيْد أن هذا الرفض المتواصل والمُصمَت أمسى مصطنَعًا بدوره، وأدَّى إلى ضرب من العقم. إن تيمة الشاعر الملعون، المولود في مجتمع تجاري (أحسن من يمثله الشاعر شترتون Chatterton «شاعر إنجليزي، ١٧٥٢–١٧٧٠م») تقوَّت في صورة حُكْم مُسبَق انتهَت إلى القول بأنه لا يمكن لك أن تصبح فنانًا عظيمًا إلا إذا وقفتَ ضد مجتمع زمنك. لقد كانت تسمية «الشاعر الملعون» مشروعة حين عَنَتْ أن الفنان الحقيقي لا يتوافق مع عالَم المال، ليغدو المبدأ زائفًا حين تقرر أن الفنان لا يصبح قائم الذات إلا وهو ضد كل شيء على العموم. هكذا تطلع كثير من شعرائنا ليصبحوا ملاعين، وأشقياء إن لم يفلحوا في ذلك، وهم يبغون الإعجاب والاستنكار في آن واحد. وبالطبع، فالمجتمع بحكم أنه اليوم إما مُتعب أو لا مبالٍ، لا يصفِّق إلا صُدفة، ومن ثمَّ لا يتوقف مثقف زماننا عن التصلُّب ليعظم. لكن، وبكثرة ما يرفض كل شيء، وصولًا إلى تقليده الفني، يتوهَّم الفنان المعاصر أنه يخلق قواعده الخاصة، لينتهي به الأمر إلى الاعتقاد بأنه إله. ليعتقد بعدُ في قدرته على خَلْق حقيقته هو. ولن يُخلَق بمعزل عن مجتمعه سوى أعمال شكلية أو مجرَّدة، مثيرة في حد ذاتها كتجارب، لكن مفتقرة إلى الخصوبة القرينة بالفن الحقيقي، الذي من طَبْعه التجميع. ولنختم نقول: إنه سيوجد من الفرق بين التدقيقات والتجريدات المعاصرة، وبين عمل تولستوي أو موليير بقدر ما يُوجَد بين المعالَجة المحسوبة لقَمح غير مرئي، والأرض السميكة بأخاديدها المحروثة نفسها.

٢

يمكن للفن هكذا أن يكون فنًّا وهميًّا. ولن نستغرب إذن أن وُجد أناس أو فنانون أرادوا الرجوع إلى الوراء والعودة إلى الحقيقة. من هذه اللحظة، أنكروا أي حق للفنان في الوحدة، أعطوه كموضوع، لا أحلامه وإنما الواقع المعيش، الذي يعاني منه الجميع. هؤلاء الأشخاص، وإيمانًا منهم بأن الفن للفن، مواضيع وأسلوبًا، أبعد من فَهْم الجمهور، أو لا يُعبِّر في شيء عن واقعها، فإنهم أرادوا من الفنان التعبير عن ومن أَجْل الجمهور العريض. بأن يُترجِم آلام وسعادة الجميع بلغة الكل، وأن يكون مفهومًا كونيًّا. وكتعويض عن هذا الوفاء المُطلَق للواقع سيحصل على التواصل التام بين جميع بني البشر.

إن مثال التواصل الكوني لهو في الحقيقة مَرام كل فنان عظيم. وخلافًا للحكم المسبق السائر، إن كان هناك مَن ليس له الحق في الوحدة، العزلة، فهو الفنان بالذات. لا يمكن للفن أن يكون مونولوجًا، والفنان المتوحِّد مجهول بذاته، وهو حين يدعو إلى المستقبل فليؤكِّد نزوعه العميق. وإذ يعتبر الحوار مستحيلًا مع معاصريه الصم أو السَّاهين، تراه يدعو إلى حوار متكاثر مع الأجيال.

لكن، ومن أَجْل أن يتكلم عن الجميع وكل شيء، فينبغي أن يتكلَّم عمَّا يعرفه جميع الناس، والواقع المشترَك بيننا. عن البحر، والأمطار، والحاجة، والرغبة، عن مُصارعة الموت، فهذا ما يجمعنا. إننا نتشابه فيما نراه جميعًا، فيما نتألم له. والأحلام تتغير حسب الأفراد، أما واقع العالَم فهو وطننا المشترَك. من هنا فإن طموح الواقعية مشروع؛ لأنه مرتبط بعمقٍ بالمغامَرة الفنِّية.

وإذن، لنكن واقعيين، أو بالأحرى لنحاول ذلك لو أمكن. فليس أكيدًا أن للكلمة معنًى، وليس مؤكدًا أن الواقعية حتى وهي مأمولة ممكنة. لنسأل أولًا هل الواقعية الخالصة ممكنة في الفن. استنادًا إلى أقوال روَّاد الحركة الطبيعية في القرن الماضي فهي إعادة الإنتاج الدقيقة للحقيقة، فيصدق على الفن ما يصدق على التصوير الفوتوغرافي بالنسبة للرسم: الأول يعيد الإنتاج فيما الثاني يَنتَقي. لكن، ما تراه يُعاد إنتاجه؟ وما هي الحقيقة أو الواقع؟ فأفضل الفوتوغرافيات ليست بالرغم من ذلك إعادة إنتاج مُطلَقة، غير واقعية كليًّا. أي شأن أكثر واقعية، مثلًا، في عالمنا أكثر من حياة إنسان، وهل أفضل من فيلم واقعي لنراها تعيش أمثل؟ إنما بأية شروط يُصبِح هذا الفيلم ممكنًا؟ بشروط خيالية خالصة. يلزم بالفعل افتراض كاميرا مثالية مُثبتة ليلًا ونهارًا على هذا الشخص، وهي تُسجِّل حركاته بدون انقطاع. وستكون النتيجة شريطًا يتطلب عرضُه حياة إنسان، ولا يستطيع مشاهدته إلا جمهور قابل ليضيع حياته كي يهتم تخصيصًا بتفاصيل وجود كائن آخر. ومع هذه الشروط ذاتها فإن هذا الفيلم صَعْبَ التَّخيُّل لن يكون واقعيًّا، وذلك لسبب بسيط هو أن واقع أو حقيقة حياة إنسان لا تُوجَد دائمًا حيث هي. توجد في حيوات أخرى تعطي شكلًا لحياته، حيوات أفراد محبوبين، ينبغي تصويرهم بدورهم، وكذا أشخاص مجهولون، أقوياء وبؤساء، من مواطنيه. شرطة، ومُدرِّسون، رفاق مناجم، وأوراش، دبلوماسيون، ودكتاتوريون، مصلحون دينيون، فنانون يَخلُقون أساطير لتوجيه سلوكنا، وأخيرًا ممثلون للصدفة المهيمنة على أكبر حياة منظمة. وإذن، لا يوجد إلا فيلم واقعي واحد، ممكن، هذا عينه المعروض بلا توقُّف أمامنا بواسطة جهاز غير مرئي على شاشة العالَم. والفنان الواقعي الوحيد سيكون هو الله، هذا إن كان موجودًا. أما الفنانون الواقعيون الآخَرُون فهم حتمًا غير أوفياء للواقع.

لذلك، فإن الفنانين الذين يرفضون المجتمع البورجوازي وفَنَّه الشكلي، الذين يريدون الكلام عن الواقع، عنه فقط، يُوجَدون في طريق مسدود بضراوة. يريدون أن يكونوا واقعيين ولا يستطيعون. يريدون إخضاع فَنِّهم للحقيقة ولا يمكن وَصْف هذه دون القيام بانتقاء يخضعها إلى أصالة الفن. إن إنتاج السنوات الأولى من الثورة الروسية يُبيِّن لنا هذا المنعطف. وما أعطتناه روسيا وقتئذٍ مع بلوك Blok [ألكسندر١٨٨٠–١٩٢٠م]، والشاعر الكبير باسترناك Pasternak [بوريس١٨٩٠–١٩٦٠م]، كذلك مع مايكوفسكسي Maikovski [فلاديمير١٨٩٣–١٩٣٠م]، وإيسِّنين Paiessennine [سيرجي١٨٩٥–١٩٢٥م]، والروائيين الأوائل للأسمنت والفولاذ، مختبر بديع للأشكال والتيمات، انشغال خصب، وطفرة مجنونة من الأبحاث. إنما لزم الاستخلاص وقتئذٍ والقول كيف يمكن أن تكون واقعيًّا والحال أن الواقعية كانت مستحيلة. ذلك أن الدكتاتورية، هنا وفي كل مكان، كانت قد حسَمَت أمْرَها بقوة: الواقعية بالنسبة إليها ضرورية أولًا، ثم هي، ثانيًا، مُمكِنة، شريطة أن تصبح اشتراكية. ما هو يا تُرى معنى هذا المرسوم؟

معناه كونه يعترف صراحة أنه لا يمكن إعادة إنتاج الواقع بدون إنجاز اختيار، ويرفض نظرية الواقعية كما صِيغت في القرن التاسع عشر. ولا يبقى أمامها سوى العثور على مبدأ اختيار ينتظم حوله العالَم. وهو يَعثُر عليه لا في الحقيقة التي نعرف، وإنما الحقيقة التي ستحدث، أي في المستقبل، إذ من أَجْل إعادة إنتاج حَسنة لما هو قائم ينبغي رسم ما سيصبح. بعبارة أخرى فإن الموضوع الحقيقي للواقعية الاشتراكية هو بالذَّات ما لا حقيقة له بعدُ.

إنه لَتناقُض عجيب، لكن أَلَم يكن تعبير الواقعية الاشتراكية نفسه متناقضًا؟ وإلا كيف يمكن عمليًّا وجود واقعية اشتراكية بينما الواقع ليس كله اشتراكيًّا؟ لا في الماضي ولا في الحاضر بما يلزم. أما الجواب فبسيط: أن يتم الاختيار مِن واقع اليوم أو أمس ما يهيئ ويخدم المدينة الفاضلة للمستقبل. هكذا سوف يُعمد إلى نفي وإدانة ما ليس اشتراكيًّا في الواقع، ومن جهة ثانية إلى تمجيد كل ما هو كذلك وسيصبحه. سنَجْنِي من هذا حتمًا فنًّا للدعاية (البروباغاندا)، بالناس الأخيار والأشرار، وخزانة وَردِيَّة، منقطعة شأن الفن الشَّكلِي عن الواقع المركَّب والحي. في النهاية، لن يصبح هذا الفن اشتراكيًّا بقدر ما لن يغدو واقعيًّا.

بذا، فهذه الاستاطيقا التي ابتغَت الواقعية مطلبًا تتحوَّل إلى مثالية جديدة، لهي عقيمة بالنسبة لفنان حقيقي، شأنها شأن المثالية البورجوازية. وما إبراز الواقع بجلاء في مرتبة عالية إلا لتصفيته بشكل أنجع. هنا يتقلَّص الفن إلى لا شيء؛ إنه يخدم، وبخدمته يمسي خادمًا. ووحْدَهم الذين سيتجنبون وصْف الواقع، سيُسَمَّون واقعيين وسيُمجَّدون، فيما الآخرون سيتعرضون للرقابة بتصفيقات الأوائل. والشهرة التي كان عمادها في المجتمع البورجوازي، أن يكون الكاتب مقروءًا أو بشكل ضعيف، ستعتمد في المجتمع الشمولي (التوتاليتاري) على مَنْع الآخَرِين من أن يُقرءوا. هنا، أيضًا، سيتَشوَّه الفن الحقيقي، أو يُكَمَّم، وسيستحيل التواصل الكوني بسبب من أرادوه حاميًا أنفسهم.

سيكون من الأيسر إزاء فَشَل كهذا؛ الاعتراف بأن الواقعية المُسمَّاة اشتراكية واهنة الصلة بالفن العظيم، وأن على الثوريين، لمصلحة الثورة، البحث عن استاطيقا أخرى. فيما يصرح المدافعون عنها أنه لا يُوجد أي فن ممكن بعيدًا عنها، فيما أعتقد بعمق أنهم غير مقتنعِين بهذا، وقرروا إخضاع القيم الفنية لزامًا لقيم العمل الثوري. لو كان هذا الكلام يُصرَّح به بوضوح لسَهُل النقاش. فبإمكاننا احترام التنازل العظيم لدى أناس يُعانون بشدة من المفارَقة القائمة بين شقاء الجميع والامتيازات المرتبطة أحيانًا بمصير فنَّان، والذين يرفضون المسافة الشاسعة التي تفصل بين مَن يخنق صوتَهم البؤسُ، وعلى العكس منهم الذين يَتهيَّأ لهم التعبير دائمًا. نستطيع عندئذٍ فَهْم هؤلاء الناس، ومحاولة محاورتهم، بالقول، مثلًا، بأن القضاء على حرية التعبير ليست ربما الطريق السليم للانتصار على الاستعباد، وبأنه في انتظار التحدث باسم الجميع فمن السُّخْف نَزْع حق التكلم للبعض على الأقل. نعم، على الواقعية الاشتراكية الاعتراف بقرابتها، بتوأمتها للواقعية السياسية. فهي تُضحِّي بالفن من أَجْل غاية أجنبية عنه، ولكنها في سُلَّم القيم يمكن أن تظهر رفيعة. إجمالًا، فهي تلغي الفن مؤقتًا لإقامة صرح العدالة أولًا، وعندما ستستَتِبُّ هذه في مستقبَل غير محدَّد سوف يبعث الفن. هكذا يطبق على أشياء الفن القاعدة الذهبية للذكاء المعاصر المعتمدة منطق أنه لا إمكانية لصنع عِجَّة بيض إلا بكَسْر البيض، بَيْدَ أن هذا المنطق الراجح لا يجب أن يَستبِدَّ بنا، فلا يكفي كَسْر آلاف البيض لصُنع عُجَّة جيدة، وليس بعَدد القواقع المكسَّرة تُقدَّر خبرة الطباخ. على العكس، فإن الطَّبَّاخين الفَنِّيين لزماننا مَدعُوُّون أن يخافوا من إسقاط طبقات البيض أكثر ممَّا رغبوا، وعندئذٍ فإن عجَّة الحضارة لا تتماسك أبدًا، والفن لن يبعث. ليست البربرية مؤقَّتة أبدًا، لا يحسب حسابها، ومن الطبيعي أن تمتد إلى أنماط السلوك. عندئذٍ نرى كيف تُولَد من شقاء ودماء البشر آداب قيمة لها، وسُمعة طيِّبة، ولوحات فوتوغرافية ومسرحيات لأرباب العمل تَحل فيها الكراهية محل الأديان. هنا يبلغ الفن أوج تفاؤله في القيادة، أسوأ ترف بالضبط، وأنكى أنواع الكذب.

أَوَنستغرب لهذا؟ إن حُزن البشر لَهُو موضوع من الضخامة حدًّا لا يستطيع أحد أن يقترب منه، اللهم أن يكون مثل كيتس [John Keats، الشاعر الإنجليزي الكبير١٧٩٥– ١٨٢١م من أكبر ممثلي الرومانسية الإنجليزية] بلغ من الحساسية حدًّا حتى قيل إنه كان بمقدوره أن يلمس الألم نفسَه. وهو ما نراه حين يخوض أدب موجَّه في تقديم المواساة الرسمية لهذا الحزن. لقد تظاهَر خداع الفن للفن بتجاهُل الألم وتحمَّل بِذَا مسئوليته، لكن الخداع الواقعي إذا ما تحمل الاعتراف بشقاء الحاضر للبشر، فهو يخونه بفداحة، مُستعمِلًا إياه لإثارة سعادة آتية لا يعلم عنها أحد شيئًا، تسمح بكل المخادَعات. ومع ذلك، فإن الإستاطيقَتَين [مُثنَّى إستاطيقا] اللتين تَواجَهَتا طويلًا، تلك الداعية إلى الرفض الكُلِّي لما هو راهن، والأخرى المُحرِّضة ضد كل ما ليس راهنًا؛ إنهما ينتهيان رغم كل شيء إلى الالتقاء بعيدًا عن الواقع حول خداع واحد، وفي القضاء على الفن، فأكاديمية اليمين تتجاهل بؤسًا تستعمله أكاديمية اليسار. لكن، وفي كلتا الحالتين، يَستفحِل البؤس بتزامن مع إلغاء الفن.

٣

هل علينا استخلاص أن الخداع هو جوهر الفن نفسه؟ أقول على العكس بأن الأوضاع التي تحدَّثتُ عنها إلى الآن ليست خداعات إلا بقدر ما لا علاقة لها تُذْكَر بالفن. فما هو الفن، إذن؟ ما هو بالشأن البسيط، بكل تأكيد، ومن الصعب أكثر معرفته وسط صراخ عديد البشر المعاندين في تبسيط كل شيء. يراد، من جهة، أن تكون العبقرية بديعة ومتوحدة، ومن جهة ثانية يطلب منها أن تشبه الجميع، ومن أسف فالواقع أكثر تركيبًا مما يظن، وهذا ما عبَّر عنه بلزاك في عبارة واحدة: «العبقرية تشبه الجميع، ولا أحد يشبهها». كذلك الفن الذي ليس شيئًا بدون الواقع، والذي بدوره قليل قيمة بدون الفن. وبالفعل، كيف يُمكِن للفن أن يَستغنِي عن الواقع، وكيف يخضع له؟ إن الفنان يختار موضوعه بقدر ما هذا يختاره. إن الفن — نوعًا ما — تمرُّدٌ ضد العالم بما فيه من هارب وغير مكتمل: إنه لا يقترح شيئًا إلا ما يعطي شكلًا آخَر لواقع مضطر، بالرغم، للحفاظ عليها؛ لأنها مصدر شعوره. بهذا الصَّدَد فنحن كلنا واقعيون ولا أحد، في آنٍ. فما الفن رفضٌ تامٌّ، ولا قبول كلي بالموجود. هو رفض وقبول معًا؛ ولذا لا يمكن أن يكون إلا تمزقًا مستمرًّا، متجددًا. والفنان يوجد دومًا ضمن هذا الالتباس، عاجزًا عن إلغاء الواقع، وهو في الآن مدفوع لمُعارضَته في وجهه الناقص أبدًا. فمن أَجْل رَسْم طبيعة مَيِّتة، ينبغي أن يتواجَه رسَّام وتفاحة. وإذا لم تكن الأشكال لتَتحقَّق من غير ضوء العالم، فهي تضيف بدورها لهذا الضوء. إن الكون الحقيقي الذي بجماله يثير الأجساد والتماثيل ليتلقَّى منها ضوءًا ثانيًا يثبت الذي في السماء. وهكذا فالأسلوب العظيم يوجد في منتصف الطريق بين الفنان وموضوعه.

لا يتعلق الأمر، إذن، بمعرفة هل على الفن أن يهرب من الواقع أو يخضع له، ولكن بأي نسبة لكي لا يتبخر في السحب، أو بالعكس يتعثَّر بنعالٍ من رصاص. هذا مشكل يفضُّه كل فنان كما يحس به، وحسب استطاعته. وكلما كان تَمرُّد الفنان قويًّا ضد حقيقة العالم، جاء كبيرًا ثقل الواقع الذي سيقيم توازنه، بيْدَ أنه ثقل لا يمكن أن يخنق الوحدة الضرورية للفنان، أبدًا. وكلما كبرت ثورة الفنان ضد واقع العالم، جاء أكبر ربما ثقل الواقع الذي عليه أن يعيد توازنه. على أن هذا الثِّقل لن يخنق أبدًا ضرورة الوحدة بالنسبة للفنان.

إن العمل الأكثر رفعة سيكون دائمًا، كما في التراجيديات الإغريقية، وعند ملفيل [هرمان ١٨١٩–١٨٩١م]، وتولستوي [١٨٨٣–١٩٤٥م] أو موليير [١٦٢٢–١٦٧٣م]، ذلك الذي يصنع توازن الواقع والرفض الذي يواجه به الإنسان هذا الواقع، كل واحد منهما يثير الثاني في انبثاق متواصِل هو ما يميز الحياة الفرحة والمتمزِّقة. هنا ينبجس، من بعيد لبعيد، عالَم جديد، مختلف عن عالَم كل يوم وهو ذاته في الآن عينه، خصوصي لكن كوني، مليء بمخاوف بريئة تثيرها لبضع ساعات قوة وعدم رضا العبقرية. شيء من هذا القبيل، وليس هو كذلك، ما العالَم بشيء، والعالَم هو الكل، هذه هي الصرخة المزدوجة والمتكرِّرة لكل فنان حقيقي، الصرخة التي تبقيه واقفًا، والعينان دومًا مفتوحتان، والتي، من بعيد لبعيد، توقظ لدى الجميع في قلب العالم النائم الصور الهاربة والمُلحَّة لواقع نتعرف عليه دون أن نكون قد التقينا به أبدًا.

كذلك، فإن الفنان وهو أمام القرن الذي يعيش فيه لا يستطيع أن يشيح عنه، ولا أن يضيع فيه. فهو إن أشاح سيتكلم في الفراغ، ولكن، وفي الحالة المعاكسة، وبحدود اتخاذه لهذا القرن مادة، فهو يُعلِن عن وجوده الخاص كموضوع، ولا يستطيع أن يخضع له كليًّا. بعبارة أخرى، ففي اللحظة التي يختار فيها الفنان أن يتقاسَم مصير الكل، عندئذٍ يؤكِّد الفردَ فيه. ولن يَقدِر على الفِكاك من هذا الالتباس. يأخذ الفنان من التاريخ ما بوسعه أن يراه بنفسه، أو يتألَّم منه بنفسه كذلك، مباشرة أو بشكل غير مباشر، أي الراهن بالمعنى الدقيق للكلمة، والناس الذين يعيشون اليوم، وليس التقرير عن هذا الراهن في مستقبل غير منظور من الفنان الحي. أن تحكم على إنسان معاصر بِاسم إنسان غير موجود بعدُ، فهذا دور النبوءة. أما الفنان، فليس بوسعه إلا أن يقدِّر الأساطير التي تُقتَرَح عليه حسب انعكاسها على الإنسان الحي. نحن نعلم أن النبي، الديني أو السياسي، قادر أن يحكم مُطلقًا وهو لا يَتورَّع عن ذلك، أما الفنان فلا يستطيع. فلو حَكم مطلقًا، لقسَّم الواقع بين الخير والشر بدون أي تمايزات، وهنا سيصنع الميلودراما. وهدف الفن، على العكس، ليس أن يشرع أو يسود، هدفه أولًا أن يفهم. نعم، يسود أحيانًا من شدة الفهم، لكن لا يوجد أي عمل عبقري قام على الكراهية والاحتقار، ولذا تجد الفنان في خاتمة مَساره يسامح عِوَض أن يُدين. هو ليس حَكَمًا ولكن مُسوِّغ. إنه المحامي الدائم للمخلوق الحي لأنه حي. يدافع حقًّا عن محبة القريب لا محبة البعيد الذي يحط قيمة الإنسانية في صورة التربية الدينية للمحاكم، بل العمل العظيم هو ما ينتهي إلى خَلْق التشويش في أذهان كل القضاة. بواسطته يعطي الفنان، في آن واحد، الاعتبار لأرفع إنسان، وينحني أمام أعتى المجرمين. كتب أوسكار وايلد [١٨٥٤–١٩٠٠م]، وهو في السجن: «لا يوجد في السجن شخص واحد من الأشقياء المحبوسين معي في هذا المكان البئيس ممن ليس على صلة رمزية مع سرِّ الحياة.» أجل، فسرُّ الحياة هذا يلتقي مع سِرِّ الفن.

اعتقد كُتَّاب المجتمع التجاري على مدى خمسين عامًا، وباستثناءات قليلة، أنهم قادرون أن يعيشوا لامسئولية سعيدة. وقد عاشوا فعلًا، ثم ماتوا وحيدين، كما عاشوا. أما نحن كُتَّاب القرن العشرين فلن نكون أبدًا وحيدين. بل علينا أن نعرف، على العكس، بأننا لن نستطيع الفرار من البؤس الجماعي، وأن مبررنا الوحيد، لو وُجد، هو أن نتكلم حسب قدراتنا لأؤلئك الذين ليس بإمكانهم ذلك. إنما علينا فعله من أَجْل ما يعانون في هذه اللحظة، كيفما كانت عظمة البلدان والأحزاب التي تضطهدهم، في الماضي والحاضر، فلا يوجد عند الفنان سَفَّاحون جيدون. من هنا تجد الجمال، اليوم أيضًا، بل اليوم خاصة، لا يمكن أن يخدم أي حزب، إنه لا يخدم على المدى البعيد أو الوجيز، إلا الألم أو حرية الإنسان. الفنان الملتَزِم الوحيد هو ذاك الذي — ومن غير أن يرفض المعركة — لا يقبل على الأقل الانضمام إلى الجيوش النظامية، أَعْنِي وَضْع المُقاتِل المستقل. هنا فالدرس الذي يجده في الجمال، لو استخلص بنزاهة، ليس درس الأنانية بل الأخوة القاسية. بهذا التصور لم يستعبد الجمال الإنسان أبدًا. بل على العكس، ومنذ آلاف السنين، وفي كل يوم، كل الثواني، خفف من عبودية الملايين، وأعتق البعض منهم أحيانًا.

ونحن بصدد الختام، ربما كنا نلمس هنا عظمة الفن، في التوتر الدائم بين الجمال والألم، محبة الناس وجنون الإبداع، الوحدة غير المحتملة والحشد المتعب، الرفض والقبول. نراه يمشي بين هاويتين، النَّزَق والدعاية. في هذا الخط الفاصل الذي يتقدم فيه الفنان فإن كل خطوة تُعدُّ مغامَرة، بل خطرًا مهولًا، والذي بالرغم من أنه يحتضن وحده حرية الفن. وهي حرية صعبة وتُشبه انضباط النُّسك، أي فنان حقًّا سينكر هذا؟ وهل هناك من سيدَّعي إعلان كونه في مستوى هذه المهمة الملحة؟ إنها حرية تفترض عافية القلب والجسد، وأسلوبًا يشبه قوة الروح ومواجهة متحفزة. وككل حرية فهي محذور مستمر، مغامَرة مُنهكة، ولذا نهرب اليوم من المَحذور كما نهرب من الحرية اللازمة لنرتمي في كل أنواع الاستعباد، ونحصل في الأقل على رفاهة الروح. لكن، ما هو الفن إن لم يكن مغامَرة؟ وأين يوجد مُبرِّره؟ كلَّا، الفنان الحر، شأن الإنسان الحر، ليس إنسان الرَّفَاهة. الفنان الحر هو الذي يخلق بتعب شديد نظامه بنفسه. وكلما انعتق ما يريد تنظيمه، جاءت قاعدته دقيقة، وأكد حريته. هناك عبارة لأندري جيد [١٨٦٩–١٩٥١م] كثيرًا ما أيدتُه فيها رغم ما قد تثير من سوء تفاهم: «يعيش الفن من الإكراه ويموت من الحرية.» وهذا صحيح، من دون أن نستخلص بأن الفن يقبل أن يُوجَّه. أبدًا، الفن لا يعيش إلا بالإكراهات التي يفرضها هو على نفسه، بينما يموت من ضغط سواها. وبالمقابِل، فإن يخضع لإكراه ذاته فسينساق إلى الهذيان ويتسخَّر للظلمات. عندئذٍ، فإن الفن الأبلغ حريةً، والأشد تمردًا، سيمسي الأكثر كلاسيكية؛ سوف يتوَّج الجهد الأكبر. وطالما أن مجتمعًا وفنَّانيه لا يُصادقون على هذا الجهد الطويل والحر، وما داموا مأخوذين بالتَّسليات أو بالشَّكليات، بلعب الفن للفن، أو عِظات الفن الواقعي، فإنهم سيبقون في العدمية والعقم. بكلامنا هذا فنحن نقول إن النهضة اليوم تتوقف على شجاعتنا وإرادتنا في التنوير.

بلى، إن هذه النهضة مِلك أيدينا. وإنه ليتوقَّف علينا نحن أن يُقْدِمَ الغرب على ربط عرى جديدة للحضارة بعد أن قُطِّعت بضربة سيف بتراء. ومن أَجْل هذا نحتاج إلى كل المَخاطر وأعمال الحرية . لا يتعلق الأمر هنا بمعرفة ما إن كنا باتباعنا لخطى العدالة سنحافظ على الحرية، وإنما بمعرفة أنه بدون الحرية لن نحقق شيئًا وأننا سنضيِّع في آن واحد عدالة المستقبل والجمال القديم. إن الحرية وحْدَها ما يَسحَب الناس من العزلة، والسخرة، وهي لا تنشر جناحيها عاليًا إلا فوق حشد من العزلات. والفن، بسبب هذا الجوهر الحر الذي حاولت تعريفه، يجمع هنا حيث يفرِّق الاستبداد. لا عجب والحالة هذه أن يكون العدوَّ الذي تُسدَّد إليه كل أشكال الاضطهاد، ولا غرابة منذئذٍ إن كان الفنانون والمُثقَّفون الضحايا الأوائل لنُظم الطغيان الحديثة. إن الطغاة يعرفون أنه يُوجد داخل العمل الفني قوة التحرُّر، والتي ليست غامضة إلا لمن يفتقدون حِس التَّعبُّد. كل عمل عظيم يجعل وجه العالم أجمل وأغنى، هنا السر كله. لن تكفي آلاف المعتقلات والقضبان للتشويش على شهادة الكرامة المثيرة هاته.. لذا ليس حقيقيًّا أن بالإمكان ولو مؤقتًا إيقاف الثقافة لإعدادِ أُخْرَى جديدة، فلا أحد يُوقِف الشهادة الدائمة للإنسان عن بُؤسه وعظَمَته، لا نُوقف عملية التنفس. لا ثقافة بدون ميراث، ولا نستطيع كما لا ينبغي أن نرفض شيئًا من موروثنا، ميراث الغرب. وكيفما كانت أعمال المستقبَل فستحمل كلها السر ذاته، ومصنوعة من الشَّجاعة والحرية، مُغذَّاة بجرأة آلاف الفنانين من كل القرون وجميع الأمم. نعم، حين يبيِّن لنا الطغيان الحديث أن الفنان، حتى وهو منفرد في حرفته، يبقى العدو العمومي، فهو على حق. بيد أنها بهذا المذهب تكرِّم عَبْره وجه الإنسان الذي لم يستطع أي شيء إلى الآن سحقه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤