الفصل الثاني

فَكَاكُ الْأَسِيرِ

(١) صَوْتٌ فِي الظَّلَامِ

وَنَظَرَتِ الْأَمِيرَةُ مُتَلَهِّفَةً مَشْغُوفَةً تُحَاوِلُ أَنْ تَتَعَرَّفَ مَا حَوْلَهَا، فَوَجَدَتِ الظَّلَامَ مُخَيِّمًا مُتَرَاكِمًا فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ الصَّغِيرِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَتَبَيَّنَ شَيْئًا، وَلَكِنَّهَا لَمْ تَلْبَثْ أَنْ سَمِعَتْ ذَلِكَ الصَّوْتَ الْخَافِتَ يَهْمِسُ قَائِلًا: «شُكْرًا لَكِ يَا «صَفِيَّةُ»، وَلَوْلَا أَنْتِ لَمْ أَظْفَرْ بِالْحُرِّيَّةِ، وَالْخَلَاصِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ. شُكْرًا لَكِ أَلْفَ شُكْرٍ؛ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِي إِنْقَاذِي عَائِدٌ إِلَيْكِ.»

(٢) نَجَاحُ الْحِيلَةِ

وَكَأَنَّمَا كَانَ الصَّوْتُ يَنْبَعِثُ مِنْ جَوْفِ الْأَرْضِ. فَلَمَّا أَنْعَمَتِ الْأَمِيرَةُ النَّظَرَ رَأَتْ فِي رُكْنٍ قَرِيبٍ عَيْنَيْنِ صَغِيرَتَيْنِ تَلْتَمِعَانِ، وَتُحَدِّقَانِ فِيهَا، وَتُطِيلَانِ النَّظَرَ إِلَيْهَا فِي سُخْرِيَةٍ وَخُبْثٍ، وَسَمِعَتِ الصَّوْتَ الْخَافِتَ يَهْمِسُ قَائِلًا: «لَقَدْ نَجَحَتْ حِيلَتِي، وَتَمَّتْ خَدِيعَتِي لَكِ يَا «صَفِيَّةُ»، فَغَلَبْتُكِ عَلَى أَمْرِكِ، وَجَعَلْتُكِ تَخْضَعِينَ لِفُضُولِكِ وَتَنْدَفِعِينَ مُتَوَرِّطَةً فِيمَا لَا يَهُمُّكِ، وَتَشْغَلِينَ بَالَكِ بِمَا لَا يَعُودُ عَلَيْكِ بِأَيَّةِ فَائِدَةٍ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ نَصِيحَةِ أَبِيكِ وَتَحْذِيرِهِ، فَلَوْ لَمْ أَسْتَثِرْ فُضُولَكِ بِغِنَائِي وَرَجَائِي لَرَجَعْتِ أَدْرَاجَكِ، وَعُدْتِ مِنْ حَيْثُ أَتَيْتِ، وَلَوْ تَمَّ لَكِ ذَلِكَ، لَفَقَدْتُ كُلَّ أَمَلٍ فِي نَجَاتِي مِمَّا أُعَانِيهِ مِنَ الشَّقَاءِ، وَأُكَابِدُهُ مِنْ فُنُونِ الْبَلَاءِ. أَمَّا الْآنَ وَقَدْ كُتِبَ لِيَ الْفَوْزُ فَقَدْ أَصْبَحْتِ أَنْتِ وَأَبُوكِ قَيْدَ سُلْطَتِي وَرَهْنَ إِشَارَتِي.»

(٣) عَدُوَّةُ الْأُسْرَةِ

وَلَمْ تَكُنِ الْأَمِيرَةُ قَدْ أَدْرَكَتْ مَدَى الْكَارِثَةِ الَّتِي جَلَبَتْهَا عَلَى نَفْسِهَا وَعَلَى أَبِيهَا بِانْدِفَاعِهَا فِيمَا لَا يَهُمُّهَا، وَتَوَرُّطِهَا فِيمَا لَا يَعْنِيهَا، وَتَنَكُّبِهَا سَبِيلَ الطَّاعَةِ. أَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَبَيَّنَتْ أَنَّ هَذِهِ الْمُتَحَدِّثَةَ السَّاخِرَةَ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ صَدِيقَةً، بَلْ هِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَدُوَّةٌ خَطِيرَةٌ سَجَنَهَا أَبُوهَا لِيَقِيَ بِنْتَهُ شَرَّهَا، وَيُؤَمِّنَهَا مِنْ كَيْدِهَا. وَهَمَّتْ أَنْ تَخْرُجَ وَتُغْلِقَ الْبَابَ، فَانْبَعَثَ الصَّوْتُ قَائِلًا فِي لَهْجَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ السُّخْرِيَةِ وَالشَّمَاتَةِ وَالْوَعِيدِ: «مَكَانَكِ يَا «صَفِيَّةُ»، فَقَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدَيْكِ وَمِنْ يَدَيْ أَبِيكِ، وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِكِ أَنْ تُبْقِينِي بَعْدَ هَذِهِ اللَّحْظَةِ فِي هَذَا السِّجْنِ الْكَرِيهِ. وَلَوْ أَنَّكِ صَبَرْتِ بِضْعَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَتِمَّ الاحْتِفَالُ بِعِيدِ مِيلَادِكِ الْخَامِسَ عَشَرَ لَمَا بَقِيَ لِي أَمَلٌ فِي الْخَلَاصِ مِنَ السِّحْرِ، وَالانْطِلَاقِ مِنْ ذُلِّ الْأَسْرِ، وَلَقَضَيْتُ حَيَاتِي كُلَّهَا مَحْبُوسَةً مُعَذَّبَةً فِي هَذَا السِّجْنِ الْخَانِقِ.»

(٤) سُخْرِيَةُ السِّنْجَابِ

وَمَا هِيَ إِلَّا أَنِ اسْتَخْفَى الْبَيْتُ الصَّغِيرُ وَبَقِيَ الْمِفْتَاحُ وَحْدَهُ فِي يَدِ فَتَاتِنَا الْمُتَأَلِّمَةِ الْحَزِينَةِ. وَتَلَفَّتَتْ «صَفِيَّةُ» حَوْلَهَا فَلَمْ تَجِدْ أَمَامَهَا غَيْرَ سِنْجَابٍ صَغِيرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهَا غَاضِبًا حَاقِدًا بِعَيْنَيْنِ يَكَادُ الشَّرَرُ يَتَطَايَرُ مِنْهُمَا. وَظَلَّ السِّنْجَابُ الصَّغِيرُ يَضْحَكُ بِصَوْتٍ كَانَ — عَلَى انْخِفَاضِهِ — مُزْعِجَ النَّبَرَاتِ مُفَزِّعَ الْجَرْسِ (مُرَوِّعَ الصَّوْتِ) قَائِلًا: «هِي، هِي، هِي! أَيُّ جَزَعٍ يَبْدُو عَلَيْكِ يَا أَمِيرَتِيَ الصَّغِيرَةَ! شَدَّ مَا رَفَّهْتِ عَنِّي أَيَّتُهَا الْفُضُولِيَّةُ الْجَرِيئَةُ، وَأَزَلْتِ وَحْشَتِي بِانْدِفَاعِكِ فِي تَعَرُّفِ مَا لَا يُفِيدُكِ. شُكْرًا لَكِ أَيَّتُهَا الْغَبِيَّةُ الصَّغِيرَةُ، فَقَدْ مَلَأْتِ نَفْسِي بَهْجَةً وَسُرُورًا، شُكْرًا لَكِ أَيَّتُهَا الْبَلْهَاءُ عَلَى مَا أَسْدَيْتِ إِلَيَّ مِنْ جَمِيلٍ. آهٍ، مَا أَلْطَفَكِ أَيَّتُهَا الشَّقِيَّةُ! لَقَدْ سُجِنْتُ هُنَا قَرَابَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ عَامًا فِي هَذَا السِّجْنِ الْفَظِيعِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِي أَنْ أُلْحِقَ الْأَذَى بِكِ وَلَا بِأَبِيكِ، لَوْلَا انْدِفَاعُكِ فِي الْفُضُولِ، وَاشْتِغَالُكِ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَكِ مِنْهُ. لَقَدْ هَيَّأْتِ لِي فُرْصَةً نَادِرَةً لِلِانْتِقَامِ مِنْ أَبِيكِ الَّذِي خَصَصْتُهُ بِكُلِّ مَا يَسَعُهُ قَلْبِي مِنْ كَرَاهِيَةٍ وَبَغْضَاءَ، فَأَنَا أَبْغَضُهُ لِأَنَّهُ أَبُوكِ كَمَا أَبْغَضُكِ لِأَنَّكِ ابْنَتُهُ».

(٥) حِقْدُ الْعَجُوزِ

فَقَالَتِ الْأَمِيرَةُ: «وَمَنْ تَكُونِينَ أَنْتِ أَيَّتُهَا الْفَأْرَةُ الْحَمْقَاءُ؟» فَقَالَتْ لَهَا شَامِتَةً: «أَنَا الْجِنِّيَّةُ «سُنْعُبَةُ»، وَإِنَّنِي لَأَبْغَضُ الْأُسْرَةَ الَّتِي تَنْتَمِينَ إِلَيْهَا وَأَمْقُتُهَا أَشَدَّ الْمَقْتِ، وَلَا أُطِيقُ أَنْ أَرَاهَا تَعِيشُ عَيْشًا نَاعِمًا هَانِئًا. وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيَّ عَارِفِيَّ لَقَبَ «نَاقِمَةَ» حِينَ أَدْرَكُوا مَا أُضْمِرُهُ مِنَ الْكَرَاهِيَةِ وَالْمَقْتِ وَالنِّقْمَةِ لِكُلِّ مَنْ رَأَيْتُ، مِنْ دَابَّةٍ وَحَيَوَانٍ، وَجِنِّيٍّ وَإِنْسَانٍ. وَقَدْ بَادَلَنِي الْجَمِيعُ كُرْهًا بِكُرْهٍ، وَإِسَاءَةً بِإِسَاءَةٍ، فَأَصْبَحْتُ أَلْعَنُهُمْ وَيَلْعَنُونَنِي، وَأَبْغَضُهُمْ وَيَبْغَضُونَنِي. وَلَقَدْ أَفْرَدْتُ أَبَاكِ — مُنْذُ زَمَنٍ طَوِيلٍ — بِكُرْهٍ لَا يَشْرَكُهُ فِيهِ أَحَدٌ، كَمَا أَفْرَدَنِي بِمِثْلِهِ. وَسَتَرَيْنَنِي — مُنْذُ هَذِهِ اللَّحْظَةِ — أَلْزَمَ لَكِ مِنْ ظِلِّكِ، حَيْثُمَا ذَهَبْتِ، وَأَيْنَمَا حَلَلْتِ.»

فَقَالَتِ الْأَمِيرَةُ مُنْزَعِجَةً: «تَبًّا لَكَ أَيُّهَا السِّنْجَابُ الشَّقِيُّ الْحَقِيرُ. إِنَّ سِنْجَابًا مِثْلَكَ لَنْ يُخِيفَ مِثْلِي؛ فَاعْزُبْ عَنِّي أَيُّهَا الشِّرِّيرُ وَإلَّا نَكَّلْتُ بِكَ وَسَحَقْتُكَ بِقَدَمِي هَذِهِ. وَلَنْ يُعْجِزَ مِثْلِي مُعَاقَبَتُكَ وَالتَّخَلُّصُ مِنْكَ.» فَقَالَ السِّنْجَابُ: «مَا أَبْعَدَ مَا تَقُولِينَ عَنِ الصَّوَابِ! وَسَيَتَجَلَّى لَكِ صِدْقُ مَا أَقُولُ، وَسَأَكُونُ فِي إِثْرِكِ أَنَّى ذَهَبْتِ!»

(٦) مِكْنَسَةُ الدَّارِ

وَأَسْرَعَتِ الْأَمِيرَةُ تَجْرِي صَوْبَ الْمَنْزِلِ، وَكَانَتْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ تَتَلَفَّتُ فِيهَا إِلَى الْوَرَاءِ، تَرَى السِّنْجَابَ يُلَاحِقُهَا وَلَا يُفَارِقُهَا، وَكُلَّمَا ابْتَعَدَتْ عَنْهُ رَأَتْهُ يَضْحَكُ مِنْهَا سَاخِرًا هَازِئًا. وَلَمَّا وَصَلَتِ الْأَمِيرَةُ إِلَى الْمَنْزِلِ هَمَّتْ بِإِغْلَاقِ الْبَابِ مُتَعَمِّدَةً أَنْ تَسْحَقَ السِّنْجَابَ الصَّغِيرَ بَيْنَ مِصْرَاعَيْهِ، وَلَكِنَّ الْبَابَ ظَلَّ مَفْتُوحًا عَلَى الرَّغْمِ مِمَّا بَذَلَتِ الْأَمِيرَةُ مِنْ جُهْدٍ فِي إِغْلَاقِهِ، وَظَلَّ السِّنْجَابُ وَاقِفًا لَا يَتَحَرَّكُ عِنْدَ سُدَّةِ الْبَابِ (عَتَبَتِهِ).

فَصَاحَتِ الْأَمِيرَةُ قَائِلَةً وَهِيَ تَكَادُ تَنْشَقُّ مِنَ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ: «انْتَظِرِي أَيَّتُهَا الْفَأْرَةُ الْحَمْقَاءُ حَتَّى أُنْزِلَ بِكِ مَا أَنْتِ جَدِيرَةٌ بِهِ مِنْ عِقَابٍ.» وَأَسْرَعَتِ الْأَمِيرَةُ إِلَى الْمِكْنَسَةِ فَرَفَعَتْهَا بِيَدِهَا فِي الْهَوَاءِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تُهْوِيَ بِهَا عَلَى رَأْسِ السِّنْجَابِ الصَّغِيرِ بِضَرْبَةٍ شَدِيدَةٍ قَاتِلَةٍ، فَاشْتَعَلَتِ الْمِكْنَسَةُ نَارًا، وَامْتَدَّ لَهَبُهَا إِلَى يَدِ الْأَمِيرَةِ فَأَلْقَتْهَا بِسُرْعَةٍ، وَدَفَعَتْهَا بِقَدَمِهَا إِلَى الْمَوْقِدِ حَتَّى لَا تَحْتَرِقَ أَرْضُ الْحُجْرَةِ.

(٧) الْمَاءُ الْغَالِي

ثُمَّ تَنَاوَلَتْ إِنَاءً يَغْلِي مَاؤُهُ فَوْقَ النَّارِ؛ فَأَلْقَتْهُ عَلَى السِّنْجَابِ. وَسُرْعَانَ مَا تَحَوَّلَ الْمَاءُ الْغَالِي لَبَنًا حَلِيبًا، فَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِ «سُنْعُبَةُ» تَشْرَبُهُ سَائِغًا هَنِيئًا وَهِيَ تَقُولُ: «مَا أَلْطَفَكِ يَا «صَفِيَّةُ»! فَأَنْتِ لَمْ تَكْتَفِي بِأَنْ خَلَّصْتِنِي، بَلْ جِئْتِنِي أَيْضًا بِفَطُورٍ لَذِيذٍ!»

(٨) حَيْرَةُ الْفَتَاةِ

فَأَنْشَأَتِ الْأَمِيرَةُ الْمِسْكِينَةُ تَبْكِي بِحَرَارَةٍ، وَلَمْ تَدْرِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ وَلَا كَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا؟ وَإِنَّهَا لَمُرْتَبِكَةٌ حَائِرَةٌ مُضْطَرِبَةٌ إِذْ سَمِعَتْ أَبَاهَا يُنَادِيهَا؛ فَاشْتَدَّ خَوْفُهَا، وَالْتَفَتَتْ إِلَى الْفَأْرَةِ مُتَوَسِّلَةً ضَارِعَةً وَهِيَ تَقُولُ: «هَا هُوَ ذَا أَبِي قَادِمًا. أَبِي … أَبِي، أَشْفِقِي عَلَيَّ أَيَّتُهَا الْفَأْرَةُ، وَابْتَعِدِي عَنِّي حَتَّى لَا يَرَاكِ أَبِي.» فَقَالَتِ الْفَأْرَةُ: «كَلَّا، لَنْ أَذْهَبَ، بَلْ سَأَبْقَى مُتَوَارِيَةً خَلْفَ كَعْبَيْكِ حَتَّى يَعْلَمَ وَالِدُكِ كَيْفَ عَصَيْتِهِ وَنَكَّبْتِ عَنْ طَاعَتِهِ.»

(٩) أَيْنَ الْمِفْتَاحُ؟

وَلَمْ يَكَدِ السِّنْجَابُ الصَّغِيرُ يَسْتَخِفِي خَلْفَ الْأَمِيرَةِ حَتَّى دَخَلَ الْأَمِيرُ «غَالِبٌ»، فَرَأَى الْأَمِيرَةَ مُرْتَبِكَةً خَائِفَةً مُمْتَقَعَةَ الْوَجْهِ، فَقَالَ لَهَا بِصَوْتٍ مُضْطَرِبٍ: «لَقَدْ نَسِيتُ هُنَا مِفْتَاحَ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، فَهَلْ وَجَدْتِهِ؟» فَقَالَتِ الْأَمِيرَةُ وَهِيَ تُقَدِّمُ الْمِفْتَاحَ وَقَدِ احْمَرَّ وَجْهُهَا خَجَلًا: «هَا هُوَ ذَا الْمِفْتَاحُ يَا أَبِي.» فَسَأَلَهَا مُتَعَجِّبًا: «وَمَا هَذَا اللَّبَنُ الْمُرَاقُ (الْمَسْكُوبُ) عَلَى الْأَرْضِ؟» فَأَجَابَتْهُ فِي اضْطِرَابٍ وَقَلَقٍ: «الْقِطَّةُ سَكَبَتْهُ يَا أَبِي.» فَقَالَ لَهَا مَدْهُوشًا: «كَيْفَ تَقُولِينَ؟ كَيْفَ سَكَبَتْهُ الْقِطَّةُ؟ وَهَلْ تَسْتَطِيعُ الْقِطَّةُ أَنْ تَحْمِلَ إِنَاءَ اللَّبَنِ إِلَى وَسَطِ الْحُجْرَةِ ثُمَّ تَسْكُبَهُ عَلَى أَرْضِهَا هَكَذَا؟»

فَقَالَتْ لَهُ وَقَدِ اشْتَدَّ اضْطِرَابُهَا: «كَلَّا، لَمْ تَسْكُبْهُ الْقِطَّةُ يَا أَبِي. كَلَّا، لَمْ يَسْكُبْهُ غَيْرِي؛ فَقَدِ انْقَلَبَ الْإِنَاءُ مِنْ يَدِي وَأَنَا أَحْمِلُهُ، فَسَالَ مَا فِيهِ عَلَى أَرْضِ الْحُجْرَةِ كَمَا تَرَى.» وَكَانَتِ الْأَمِيرَةُ تَتَكَلَّمُ بِصَوْتٍ خَافِتٍ يَدُلُّ عَلَى تَلْفِيقِهَا وَبُعْدِ مَا تَقُولُ عَنِ الصِّدْقِ، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَرْفَعَ عَيْنَيْهَا حَتَّى لَا تَلْتَقِيَا بِعَيْنَيْ أَبِيهَا، فَتَكْشِفَا لَهُ مَا تَسْتُرُهُ مِنْ ذَنْبِهَا. وَلَمْ يَخْفَ عَلَى الْأَمِيرِ «غَالِبٍ» مُدَاوَرَتُهَا فَقَالَ لَهَا: «هَلُمِّي فَأَحْضِرِي الْمِكْنَسَةَ، وَأَزِيلِي هَذَا اللَّبَنَ.»

فَأَجَابَتْهُ: «لَا مِكْنَسَةَ هُنَا يَا أَبِي.»

فَقَالَ لَهَا: «كَيْفَ؟ أَلَمْ تَكُنْ هُنَا مِكْنَسَةٌ حِينَ خَرَجْتُ؟»

فَقَالَتْ: «أَحْرَقْتُهَا — يَا أَبِي — دُونَ انْتِبَاهٍ، وَأَنَا … وَأَنَا …!»

(١٠) غَضَبُ الْوَالِدِ

وَاعْتُقِلَ لِسَانُهَا فَلَمْ يَنْطَلِقْ بِحَرْفٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُوهَا مُحَدِّقًا، وَأَلْقَى نَظْرَةً قَلِقَةً فِي الْحُجْرَةِ، ثُمَّ تَنَهَّدَ، وَخَطَا مُتَبَاطِئًا إِلَى الْبَيْتِ الصَّغِيرِ فِي آخِرِ الْحَدِيقَةِ، فَتَهَافَتَتِ الْأَمِيرَةُ عَلَى كُرْسِيٍّ قَرِيبٍ مِنْهَا، وَاسْتَرْسَلَتْ فِي بُكَاءٍ وَانْتِحَابٍ. وَظَلَّتِ الْفَأْرَةُ السِّنْجَابِيَّةُ فِي مَكَانِهَا سَاكِنَةً لَا تَتَحَرَّكُ. وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ عَادَ إِلَيْهَا الْأَمِيرُ «غَالِبٌ» مُسْرِعًا، مُكْفَهِرَّ الْوَجْهِ مُفَزَّعًا، فَقَالَ لَهَا فِي حَسْرَةٍ وَلَهْفَةٍ: «مَاذَا فَعَلْتِ يَا «صَفِيَّةُ»؟ مَاذَا فَعَلْتِ يَا شَقِيَّةُ؟ دَفَعَكِ الْفُضُولُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا لَا يَعْنِي. فَمَاذَا كَانَتِ النَّتِيجَةُ؟ هَيَّأْتِ سَبِيلَ الْخَلَاصِ لِخُصُومِنَا الْأَشِدَّاءِ، وَأَعْدَائِنَا الْأَلِدَّاءِ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤