الفصل السادس

صُنْدُوقُ الْعَجُوزِ

(١) عِقَابٌ عَادِلٌ

وَهَكَذَا مَضَى الْيَوْمُ كُلُّهُ عَلَى هَذِهِ الْوَتِيرَةِ، وَقَدِ اشْتَدَّ الظَّمَأُ بِالْأَمِيرَةِ حَتَّى كَادَتْ تَهْلِكُ عَطَشًا، وَلَكِنَّهَا صَبَرَتْ رَاضِيَةً بِقَضَاءِ اللهِ، وَتَقَبَّلَتْ هَذَا الْعِقَابَ الصَّارِمَ فِي غَيْرِ شَكْوَى وَلَا تَمَلْمُلٍ وَلَا ضَجَرٍ، وَقَالَتْ لِنَفْسِهَا مُتَأَسِّيَةً مُتَصَبِّرَةً: «أَلَيْسَ مِنَ الْعَدَالَةِ وَالْحَقِّ أَنْ أُعَانِيَ مِنَ الْأَلَمِ أَكْثَرَ مِمَا عَانَيْتُ، وَأُكَابِدَ مِنَ الْجَهْدِ فَوْقَ مَا كَابَدْتُ، وَأَلْقَى مِنَ الْعِقَابِ أَضْعَافَ مَا لَاقَيْتُ، لَعَلِّي أُكَفِّرُ عَمَّا جَلَبْتُهُ مِنْ نَكَبَاتٍ عَلَيَّ وَعَلَى أَبِي وَابْنِ عَمِّي جَمِيعًا؟ أَلَا لَا بُدَّ أَنْ أَحْتَمِلَ صَابِرَةً جَزَاءَ مَا أَسْلَفْتُ مِنْ إِسَاءَةٍ، وَلَا مَعْدَى لِي عَنِ الْبَقَاءِ حَيْثُ أَنَا فِي مَكَانِي حَتَّى تَطْلُعَ شَمْسُ غَدِي، فَأَبْلُغَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِي.»

وَمَا زَالَتْ كَذَلِكَ حَتَّى جَنَحَتِ الشَّمْسُ لِلْمَغِيبِ، وَشَرَعَتْ طَلَائِعُ اللَّيْلِ تَبْسُطُ ظَلَامَهَا الْبَهِيمَ.

(٢) وَدِيعَةُ الْعَجُوزِ

وَلَمْ تَلْبَثْ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى رَأَتْ عَجُوزًا قَادِمَةً عَلَيْهَا، وَمَا إِنِ اقْتَرَبَتْ مِنْهَا الْعَجُوزُ حَتَّى بَادَرَتْهَا بِالتَّحِيَّةِ، ثُمَّ قَالَتْ: «هَلْ لَكِ أَيَّتُهَا الْحَسْنَاءُ أَنْ تُسْدِيَ إِلَيَّ صَنِيعًا كَرِيمًا، وَجَمِيلًا مَشْكُورًا، فَتَحْتَفِظِي بِهَذَا الصُّنْدُوقِ الثَّقِيلِ وَدِيعَةً عِنْدَكِ، رَيْثَمَا أَذْهَبُ لِزِيَارَةِ إِحْدَى قَرِيبَاتِي فِي مَكَانٍ غَيْرِ بَعِيدٍ؟» فَأَجَابَتْهَا الْأَمِيرَةُ فِي تَلَطُّفٍ وَأَدَبٍ: «لَكِ مَا تَشَائِينَ يَا أُمَّاهُ. وَلَيْسَ أَبْهَجَ إِلَى نَفْسِي مِنْ تَحْقِيقِ مَا تَطْلُبِينَ.» فَنَاوَلَتْهَا الْعَجُوزُ الصُّنْدُوقَ، ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: «شُكْرًا لَكِ — أَيَّتُهَا الشَّابَّةُ الْجَمِيلَةُ — عَلَى مَعْرُوفِكِ، وَلَنْ تَطُولَ غَيْبَتِي إِنْ شَاءَ اللهُ.»
figure

(٣) نَصِيحَةُ الْعَجُوزِ

وَأَخِيرًا قَالَتِ الْعَجُوزُ لَهَا: «وَلَكِنْ لِي رَجَاءٌ عِنْدَكِ، أَلَّا تَفْتَحِي هَذَا الصُّنْدُوقَ، وَأَلَّا يَدْفَعَكِ الْفُضُولُ إِلَى تَعَرُّفِ مَا فِيهِ، وَأَرْجُو أَلَّا يُغْرِيَكِ بِذَلِكَ مَا يَحْتَوِيهِ مِنَ الطَّرَائِفِ الثَّمِينَةِ، وَالْعَجَائِبِ النَّادِرَةِ، الَّتِي لَمْ تَقَعْ عَلَيْهَا عَيْنٌ، وَلَا خَطَرَتْ بِبَالِ كَائِنٍ كَانَ، وَكَذَلِكَ أَرْجُو أَنْ تَتَرَفَّقِي فِي حَمْلِهِ، فَلَا تُلْقِيهِ عَلَى الْأَرْضِ بِقُوَّةٍ وَعُنْفٍ؛ لِأَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ خَشَبٍ رَقِيقٍ لَا يَقْوَى عَلَى الاصْطِدَامِ، وَأَخْشَى مَا أَخْشَاهُ أَنْ يَنْكَسِرَ الصُّنْدُوقُ، فَيَنْكَشِفَ لَكِ مَا يَحْتَوِيهِ مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لِعَيْنٍ أَنْ تَرَاهَا.»

(٤) أَضْوَاءٌ مُؤْتَلِقَةٌ

فَوَعَدَتْهَا الْفَتَاةُ خَيْرًا، وَانْصَرَفَتِ الْعَجُوزُ بَعْدَ أَنْ كَرَّرَتْ لَهَا نَصِيحَتَهَا، وَأَعَادَتْ عَلَيْهَا تَحْذِيرَهَا، فَوَضَعَتِ الْفَتَاةُ الصُّنْدُوقَ إِلَى جَانِبِهَا فِي حَذَرٍ وَعِنَايَةٍ مُتَرَفِّقَةً بِهِ حَتَّى لَا يُصِيبَهُ سُوءٌ، وَجَلَسَتْ مُطْرِقَةً تُفَكِّرُ فِيمَا مَرَّ بِهَا مِنْ أَحْدَاثٍ وَخُطُوبٍ، وَمَا جَرَّهُ عَلَيْهَا فُضُولُهَا مِنْ كَوَارِثَ وَمِحَنٍ. وَمَضَتْ فَتْرَةٌ مِنَ الزَّمَنِ دُونَ أَنْ تَحْضُرَ الْعَجُوزُ، وَحَانَتْ مِنَ الْأَمِيرَةِ الْتِفَاتَةٌ إِلَى الصُّنْدُوقِ، فَرَأَتْ أَضْوَاءً تَنْبَعِثُ مِنْهُ فَتُنِيرُ مَا حَوْلَهُ إِلَى مَسَافَاتٍ بَعِيدَةٍ، فَقَالَتْ فِي نَفْسِهَا مُتَعَجِّبَةً: «تُرَى مَاذَا يَتَلَأْلَأُ فِي هَذَا الصُّنْدُوقِ الْعَجِيبِ؟ وَلِمَاذَا تَنْبَعِثُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَضْوَاءُ الْمُؤْتَلِقَةُ؟» ثُمَّ قَلَبَتِ الصُّنْدُوقَ مُتَرَفِّقَةً، وَأَنْعَمَتْ نَظَرَهَا فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِهِ، فَعَجَزَتْ عَنِ الاهْتِدَاءِ إِلَى حَقِيقَتِهِ، وَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَعْرِفَ سِرَّ مَا يَنْبَعِثُ مِنْهُ مِنْ ضَوْءٍ لَامِعٍ نَفَّاذٍ لَمْ تَأْلَفِ الْعُيُونُ مِثْلَهُ.

(٥) إِرَادَةٌ حَازِمَةٌ

فَأَعَادَتِ الصُّنْدُوقَ إِلَى الْأَرْضِ قَائِلَةً: «أَيُّ فُضُولٍ هَذَا؟ وَلِمَاذَا أَنَا مَشْغُولَةٌ مُولَعَةٌ بِمَا لَا يَعْنِينِي؟ وَمَاذَا يَهُمُّنِي مِنْ أَمْرِ الصُّنْدُوقِ؟ وَكَيْفَ أُبِيحُ لِنَفْسِي أَنْ أَمَسَّ وَدِيعَةً ائْتُمِنْتُ عَلَيْهَا؟ إِنَّهَا أَمَانَةٌ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا إِلَى صَاحِبَتِهَا الْعَجُوزِ كَمَا هِيَ. لَقَدْ أَوْدَعَتْنِي الصُّنْدُوقَ وَحَذَّرَتْنِي أَنْ أَفْتَحَهُ. فَمَا أَجْدَرَنِي بِالْكَفِّ عَنِ التَّفْكِيرِ فِيهِ، وَالِاشْتِغَالِ بِتَعَرُّفِ مَا يَحْوِيهِ؛ حَتَّى لَا يَتَمَلَّكَنِي الْفُضُولُ — كَمَا تَمَلَّكَنِي فِي الْمَرَّتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ — فَيُغْرِيَنِي بِفَتْحِ الصُّنْدُوقِ، كَمَا أَغْرَانِي مِنْ قَبْلُ بِفَتْحِ الْبَيْتِ الصَّغِيرِ، وَتَمْزِيقِ سِتْرِ الْقُبَّةِ.» وَهَكَذا عَرَفَتِ الْأَمِيرَةُ كَيْفَ تَكْبَحُ جِمَاحَ فُضُولِهَا، وَتُحَوِّلُ نَظَرَها عَنِ الصُّنْدُوقِ، فَأَصَرَّتْ عَلَى نِسْيَانِهِ وَالِانْصِرَافِ عَنْهُ. وَهَكَذَا أَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا وَاتَّجَهَتْ بِتَفْكِيرِهَا إِلَى أَدَاءِ وَاجِبِهَا. وَظَلَّتْ مُتَرَقِّبَةً صَبَاحَ غَدِهَا وَهِيَ تَقُولُ: «غَدًا أُدْرِكُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِي، وَيَنْتَهِي بِذَلِكَ سِحْرُ «سُنْعُبَةَ» فَأَرَى الْأَمِيرَيْنِ «غَالِبًا» وَ«صَفَاءً»، وَلَنْ أَخْشَى مَكْرُوهًا بَعْدَ هَذَا اللِّقَاءِ، وَلَنْ أُبَالِيَ دَسَائِسَ الْجِنِّيَّةِ الْحَمْقَاءِ.»

(٦) حِيلَةُ الْجِنِّيَّةِ

وَهُنَا ظَهَرَتْ أَمَامَهَا «سُنْعُبَةُ» وَابْتَدَرَتْهَا قَائِلَةً: «هَا أَنَا ذَا قَرِيبَةٌ مِنْكِ يَا صَفِيَّةُ، وَلَمْ أَبْتَعِدْ عَنْكِ لَحْظَةً وَاحِدَةً، وَقَدْ جَزِعْتُ لِمَا كَابَدْتِ بِسَبَبِي مِنْ كَوَارِثَ وَآلَامٍ، وَلَنْ أَضِنَّ عَلَيْكِ الْآنَ بِرُؤْيَةِ مَا يَحْتَوِيهِ الصُّنْدُوقُ.»

فَلَمْ تُجِبْهَا «صَفِيَّةُ» بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَتْ «سُنْعُبَةُ»: «أَلَا تَسْمَعِينَ يَا «صَفِيَّةُ» مَا أَقُولُ؟ أَتَظُنِّينَ أَنَّنِي لَا أَزَالُ عَدُوَّةً لَكِ كَمَا تَوَهَّمْتِ؟ كَلَّا يَا فَتَاتِي. حَسْبُكِ مَا لَقِيتِ مِنِّي، لَقَدْ تَأَلَّمْتُ لِمَا أَصَابَكِ مِنَ النَّكَبَاتِ، وَعَزَمْتُ عَلَى تَدَارُكِ مَا أَسْلَفْتُهُ إِلَيْكِ مِنْ أَذِيَّاتٍ وَإِسَاءَاتٍ. وَسَنُصْبِحُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ صَدِيقَتَيْنِ مُتَحَابَّتَيْنِ، وَسَتَرَيْنَ مِصْدَاقَ مَا أَقُولُ حِينَ أَفْتَحُ الصُّنْدُوقَ أَمَامَكِ، وَأُطْلِعُكِ عَلَى ذَخَائِرِهِ وَنَفَائِسِهِ وَمُحْتَوَيَاتِهِ.»

(٧) فِي مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ

فَسَكَتَتِ الْأَمِيرَةُ وَلَمْ تَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، وَيَئِسَتْ «سُنْعُبَةُ» مِنْ إِغْرَائِهَا، وَلَمْ يَبْقَ أَمَامَهَا وَقْتٌ تُضَيِّعُهُ، فَانْدَفَعَتْ إِلَى الصُّنْدُوقِ تَقْتَرِضُ غِطَاءَهُ، فَصَاحَتِ الْأَمِيرَةُ بِهَا، وَأَسْرَعَتْ إِلَى الصُّنْدُوقِ فَاحْتَضَنَتْهُ وَضَمَّتْهُ إِلَى صَدْرِهَا، ثُمَّ قَالَتْ ﻟ «سُنْعُبَةَ»: «كُونِي عَلَى ثِقَةٍ أَنَّكِ إِذَا لَمَسْتِ هَذَا الصُّنْدُوقَ قَطَعْتُ رَقَبَتَكِ عَلَى الْفَوْرِ بِلَا تَرَدُّدٍ.» فَنَظَرَتْ إِلَيْهَا «سُنْعُبَةُ» فِي شَيْطَنَةٍ وَخُبْثٍ. وَلَمْ تَسْتَطِعْ «سُنْعُبَةُ» أَنْ تُقَاوِمَ الْفَتَاةَ.

وَحَاوَلَتْ «سُنْعُبَةُ» جَاهِدَةً أَنْ تَبْتَدِعَ حِيلَةً أُخْرَى تُمَكِّنُهَا مِنْ إِغْرَاءِ الْأَمِيرَةِ، وَاسْتِثَارَةِ فُضُولِهَا، وَدَفْعِهَا إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا لَا يَعْنِيهَا، وَالزَّجِّ بِنَفْسِهَا فِيمَا لَا يُفِيدُهَا. وَإِنَّهَا لَغَارِقَةٌ فِي تَفْكِيرِهَا الْمُجْرِمِ، إِذْ دَقَّتِ السَّاعَةُ مُؤْذِنَةً بِانْتِصَافِ اللَّيْلِ. وَفِي اللَّحْظَةِ نَفْسِهَا صَرَخَتْ «سُنْعُبَةُ» صَرْخَةً مُفَزِّعَةً مُؤْلِمَةً، وَقَالَتْ ﻟ «صَفِيَّةَ»: «هَا إِنَّهَا سَاعَةُ مِيلَادِكِ الَّتِي دَقَّتْ يَا أَمِيرَتِيَ الْعَزِيزَةَ؛ فَقَدْ بَلَغْتِ الْآنَ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ عُمُرِكِ، فَأَمِنْتِ بِذَلِكَ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ، وَلَنْ يُصِيبَكِ مِنِّي ضُرٌّ وَلَا أَذًى بَعْدَ الْآنَ. لَقَدْ أَصْبَحْتِ نَاجِيَةً مِنْ كَيْدِي، وَغَدَوْتِ بَعِيدَةً عَنْ مُتَنَاوَلِ يَدِي، كَمَا أَصْبَحَ «غَالِبٌ» وَ«صَفَاءٌ» مُنْذُ هَذِهِ السَّاعَةِ طَلِيقَيْنِ مِنْ كُلِّ أَسْرٍ، وَلَيْسَ لِي عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ بَعْدَ الْآنَ قُوَّةٌ وَلَا سُلْطَانٌ. أَمَّا أَنَا فَوَيْلَاهُ؛ لَقَدْ قُضِيَ عَلَيَّ أَنْ أَبْقَى فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي اخْتَارَتْهَا لِي «الزُّهَرَةُ». وَسَأَقْضِي حَيَاتِي التَّاعِسَةَ كُلَّهَا فِي هَيْئَةِ سِنْجَابٍ صَغِيرٍ، وَلَيْسَ لِي مِنْ سَبِيلٍ إِلَى الْخَلَاصِ مِنَ السِّحْرِ، وَاسْتِرْدَادِ صُورَتِي الْأُولَى، بَعْدَ أَنْ أَخْفَقْتُ فِي الْإِيقَاعِ بِكِ، وَعَجَزْتُ عَنْ إِغْرَائِكِ بِالدُّخُولِ فِيمَا لَا يَعْنِي. وَلَعَلِّي أَظْفَرُ بِفَتَاةٍ كَرِيمَةٍ أُخْرَى أَدْفَعُهَا إِلَى الْفُضُولِ مَرَّاتٍ ثَلَاثًا، فَيَزُولَ عَنِّي بَعْدَ ذَلِكَ سِحْرُ السَّاحِرَةِ. وَفِي وُسْعِكِ الْآنَ أَنْ تَفْتَحِي الصُّنْدُوقَ وَتَطَّلِعِي عَلَى مَا يَحْتَوِيهِ، فَقَدْ أَمِنْتِ مِنْ كُلِّ سُوءٍ.»

وَمَا كَادَ السِّنْجَابُ الصَّغِيرُ يُتِمُّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حَتَّى غَيَّبَتْهُ أَطْبَاقُ الظَّلَامِ.

(٨) الْبُومَةُ النَّاعِبَةُ

وَأَبَى عَلَى الْأَمِيرَةِ حَزْمُهَا أَنْ تَثِقَ بِكَلَامِ عَدُوَّتِهَا اللَّدُودِ، فَلَمْ تَنْخَدِعْ بِتَمْلِيقِهَا، وَلَمْ تُصْغِ إِلَى نَصِيحَتِهَا، وَعَقَدَتِ الْعَزِيمَةَ عَلَى أَنْ تَحْتَفِظَ بِالصُّنْدُوقِ الَّذِي ائْتُمِنَتْ عَلَيْهِ، حَتَّى تَعُودَ صَاحِبَتُهُ فَتَرُدَّهُ إِلَيْهَا، دُونَ أَنْ تَمَسَّهُ يَدَاهَا. وَلَمْ تَكَدْ تَعْقِدُ عَزْمَهَا عَلَى هَذَا الرَّأْيِ حَتَّى سَمِعَتْ بُومَةً تُحَلِّقُ فَوْقَهَا نَاعِبَةً، ثُمَّ رَأَتْهَا تَقْذِفُ الصُّنْدُوقَ بِحَجَرٍ فَتُحَطِّمُهُ تَحْطِيمًا، وَتَنْثُرُ قِطَعَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ. وَثَمَّةَ صَرَخَتِ الْأَمِيرَةُ جَزِعَةً مُرْتَاعَةً وَقَدِ اشْتَدَّ بِهَا الْخَوْفُ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ.

(٩) مَلِكَةُ الْجِنِّيَّاتِ

وَسُرْعَانَ مَا ظَهَرَتْ أَمَامَهَا «الزُّهَرَةُ»، مَلِكَةُ الْجِنِّيَّاتِ، ثُمَّ قَالَتْ لَهَا: «مَرْحَى يَا «صَفِيَّةُ» مَرْحَى! لَقَدْ نَجَحْتِ أَوْفَى نَجَاحٍ، وَعَرَفْتِ كَيْفَ تَتَغَلَّبِينَ عَلَى «سُنْعُبَةَ» عَدُوَّةِ أُسْرَتِكِ، وَقَدْ نَصَرَكِ اللهُ عَلَى تِلْكَ الْجِنِّيَّةِ الشَّرِسَةِ الْقَاسِيَةِ. وَسَأُعِيدُكِ الْآنَ إِلَى أَبِيكِ، بَعْدَ أَنْ تَأْكُلِي وَتَشْرَبِي هَنِيئًا مَرِيئًا؛ فَقَدْ لَبِثْتِ زَمَنًا طَوِيلًا جَاِئَعَةً لَمْ تَأْكُلِي شَيْئًا وَلَمْ تَشْرَبِي.»

•••

ثُمَّ قَدَّمَتْ لَهَا «الزُّهَرَةُ» صَحْفَةً مُلِئَتْ بِالْفَاكِهَةِ، فَلَمْ تَكَدِ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ تَأْكُلُ وَاحِدَةً مِنْهَا، حَتَّى أَشْبَعَتْهَا وَأَرْوَتْهَا.

(١٠) مَرْكَبَةُ «الزُّهَرَةِ»

وَأَعَدَّتْ لَهَا «الزُّهَرَةُ» مَرْكَبَةً لُؤْلُؤِيَّةً فَاخِرَةً يَجُرُّهَا أَفْعَيَانِ رَائِعَتَانِ، فَرَكِبَتَاهَا جَمِيعًا. وَلَمَّا ثَابَتِ الْأَمِيرَةُ إِلَى رُشْدِهَا، وَصَحَتْ مِنْ دَهْشَتِهَا، شَكَرَتِ الْجِنِّيَّةَ أَعْمَقَ الشُّكْرِ لِحِمَايَتِهَا، وَسَأَلَتْهَا أَنْ تُنْجِزَ وَعْدَهَا، فَتُرِيَهَا أَبَاهَا.

فَقَالَتِ الْجِنِّيَّةُ: «إِنَّ وَالِدَكِ يَنْتَظِرُكِ فِي قَصْرِ الْأَمِيرِ «صَفَاءٍ».»

فَقَالَتِ الْفَتَاةُ: «وَلَكِنِّي أَحْسَبُ — يَا مَوْلَاتِي — أَنَّ قَصْرَهُ دُمِّرَ وَاحْتَرَقَ، وَأَنَّ الْأَمِيرَ يُعانِي مِنْ آلَامِ الْجُرُوحِ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ أَحَدٌ.»

•••

فَقَالَتِ «الزُّهَرَةُ»: «كَلَّا، لَا تَخْشَيْ شَيْئًا، فَإِنَّ الْأَمِيرَ بِخَيْرٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَنَا مَقْصِدٌ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا أَنْ نُطْلِعَكِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الْفُضُولُ مِنْ وَخِيمِ الْعَوَاقِبِ، وَسَيِّئِ النَّتَائِجِ. وَقَدْ نَجَحَتْ خُطَّتُنَا — وَالْحَمْدُ لِلهِ — أَوْفَى نَجَاحٍ؛ فَبَرِئْتِ مِنْ نَقِيصَةِ الْفُضُولِ، وَلَمْ تَنْدَفِعِي فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ إِلَى الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَهُمُّكِ. وَسَتَرْيَن الْأَمِيرَيْنِ «غَالِبًا» وَ«صَفَاءً» عَلَى أَتَمِّ صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ، كَمَا كَانَا قَبْلَ أَنْ تَفْتَحِي الْبَيْتَ الصَّغِيرَ، وَتُمَزِّقِي الثَّوْبَ الَّذِي كَانَ يُغَطِّي الْقُبَّةَ الَّتِي أَوْدَعَ فِيهَا الْأَمِيرُ هَدِيَّةَ الْعُرْسِ.»

(١١) فِي قَصْرِ الْأَمِيرِ

وَلَمَّا أَتَمَّتِ «الزُّهَرَةُ» كَلَامَهَا، وَقَفَتِ الْمَرْكَبَةُ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْ سُلَّمِ الْقَصْرِ. وَكَانَ الْأَمِيرَانِ «غَالِبٌ» وَ«صَفَاءٌ» يَنْتَظِرَانِهَا مَعَ حَاشِيَتِهِمَا جَمِيعًا، فَارْتَمَتْ «صَفِيَّةُ» بَيْنَ ذِرَاعَيْ أَبِيهَا، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عَلَى الْأَمِيرِ تُحَيِّيهِ، مُعْتَذِرَةً لَهُمَا عَمَّا بَدَرَ مِنْهَا مِنْ إِسَاءَةٍ غَيْرِ مُتَعَمَّدَةٍ إِلَيْهِمَا، فَلَمْ تَرَ عَلَى مُحَيَّاهُمَا أَثَرًا لِمَا حَدَثَ.

•••

وَبَدَا كِلَاهُمَا كَأَنَّهُمَا لَا يَذْكُرَانِ مَا أَسْلَفَتْهُ إِلَيْهِمَا مِنْ خَطَأٍ جَسِيمٍ.

وَكَانَ كُلُّ شَيْءٍ قَدْ أُعِدَّ لِحَفَلَاتِ الزَّوَاجِ الَّتِي أُقِيمَتْ فِي الْحَالِ، وَحَضَرَتْهَا كُلُّ صَالِحَةٍ مِنَ الْجِنِّ، وَدَامَتِ الْحَفَلَاتُ عِدَّةَ أَيَّامٍ.

وَعَاشَ «غَالِبٌ» وَ«صَفَاءٌ» وَ«صَفِيَّةٌ» عِيشَةً نَاعِمَةً هَانِئَةً، وَلَمْ تَنْسَ الْأَمِيرَةُ الْفَتَاةُ هَذَا الدَّرْسَ النَّافِعَ الْبَلِيغَ الَّذِي شَفَاهَا مِنْ مَرَضِ الْفُضُولِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤