تصدير الطبعة الثانية

كثيرة هي الأحداث التي وقعت منذ صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب في يناير من عام ١٩٩٩؛ فبعد مُضيِّ ما لا يَزيد على بضعة أشهر، وبالأدقِّ في نوفمبر من العام نفسه، وقَعَ ما من شأنه أن يُعرَف باسم «معركة سياتل» التي لفتَت انتباه الرأي العام العالمي إلى ما كانت تتبناه ائتلافاتٌ عريضة، قوامها أطرافٌ فاعلةٌ شديدة التبايُن، من تحدٍّ ومُناهَضة لم يَتزعزَعا على مدًى طويلٍ ضد حركة العولمة الليبرالية الجديدة وأهم المؤسسات الداعية إليها، كصندوق النقد الدولي أو منظمة التجارة العالَمية. لقد تحوَّلت الليبرالية الجديدة فجأة من أيديولوجية يُنظَر إليها باعتبارها المسار الوحيد المُمكِن إلى التنمية، بحسب مبدأ «لا بديل» [عن السوق الحرة] وما يُطلَق عليه «إجماع واشنطن»، إلى خيار محلِّ خلافٍ كبير ويفقد رواجَه على نحوٍ مُتزايد. لقد وجد رواد المال وخبراء الاقتصاد وصُنَّاع السياسات، علاوةً على الزعماء السياسيين من يَمين ويسار، أنفُسَهم أمام دعوى تعلن إمكانية وجود منظومة أخرى بالفعل.

وحده المستقبل كفيل بأن يُخبرنا هل السنوات القليلة الماضية قد شهدت حقًّا نشأة قوةٍ سياسيةٍ كبرى جديدة تشكَّلت على هيئة حركة أو حركاتٍ داعية إلى العدالة العالَمية تمارس أنشطتها عبر القارات الخمس؟ نعتقد أن الإجابة نعم، كما سنحاول بيانه في طيات هذا الكتاب، لكن لعلنا على خطأ. مهما يكن من أمر، فلا شك أن السنوات الأخيرة قد شهدت بروزَ مشكلاتٍ جديدة أمام مُحلِّلي الحركات الاجتماعية، ومن ثمَّ أمام كِتاب ككِتابنا هذا. إن الطبعة الأولى من هذا الكتاب كانت جزءًا راسخًا لا يتجزَّأ من صلب تجربة «الحركات الاجتماعية الجديدة» ومُعبِّرًا عنها، والمقصود بالحركات الاجتماعية الجديدة تلك الحركات التي نشأت منذ أواخر الستينيات من القرن العشرين والمَعنية بقضايا كحقوق المرأة، والعلاقات الجنسانية، وحماية البيئة، والانتماء العِرْقي والهجرة، والسلام والتضامُن الدولي، والقائمة على أساسٍ قوي من طبقةٍ وسطى «جديدة» وتميُّزٍ واضح عن نماذج الفعل الجمعي للطبقة العاملة أو أصحاب التيار القومي، التي سبقَتْها من الناحية التاريخية. لا شك أن ثمة أمورًا مشتركة بين تلك الحركات والموجة الراهنة مِن الحملات الداعية للعدالة العالَمية، بَيْدَ أن هناك كثيرًا من الأطروحات القائلة بالاختلاف الملموس بين الأنماط العامة لفعلها الجمعي وتلك التي ألِفناها. بعد سنواتٍ طوال «في المياه الراكدة»، لو جاز لنا استعارة هذا التعبير الموفَّق من ليللا روب وفيرتا تايلور، يبدو أن نشاط الطبقة العاملة عاد وبقوة. وعلى أيِّ حال، فقد حظيَت عمليات التعبئة التي قادَتْها الفئات المَحرومة (سواء أكانَتِ العمالَ غير المَهَرة في الوظائف غير المستقرَّة بالولايات المتحدة الأمريكية، أم سكانًا تَضرَّروا من المجاعات والأمراض في غرب السودان، أم مجتمعاتٍ محليةً يُهدِّدها إنشاءُ سدودٍ جديدة في الهند) باهتمامٍ مُتزايد، وصار لها حضور مُتنامٍ. كما يبدو أن الحقوق الأساسية المُتعلِّقة بالبقاء على قيد الحياة والاستحقاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى الحقوق التي تتجاوَز الاحتياجات المادية؛ تلعب دورًا أكثر توازنًا في حركات الحشد المعاصرة مقارنةً بما كان عليه الحال في الماضي القريب.

لسنا هنا بصدد تناول الأسباب التي دفعَت بالفعل الجَمعي المعني بانعدام المساواة الاجتماعية إلى غياهب النسيان خلال العقود الماضية، والنظر فيما إن كان ذلك يرجع إلى تضاؤل أهميته الفعلية أم إلى إغفال أغلب الباحثين في الحركات الاجتماعية لهذا الجانب عن غير عَمد (ولا نعني بالتأكيد كل الباحثين؛ إذ هناك منهم من دأب على تذكيرنا بهذا المَنحى، ومنهم: كولين باركر أو بول باجولي في المملكة المتحدة، أو جوديث ستيبان-نوريس، أو موريس زيتلين، أو ريك فانتيجا، أو كيم فوس، أو جوفاني أريجي في الولايات المتحدة الأمريكية). وفي كلتا الحالتَين، كان من عواقب ذلك بالنسبة إلى هذه الطبعة الجديدة أن السياق الذي أدرجنا عملنا فيه قد بدا لنا، بعد مُضيِّ ما لا يزيد على خمس سنوات، غايةً في الاختلاف؛ فكان أول ما فعلنا استجابةً لهذا الاختلاف أن غيَّرنا أغلب نماذج عمليات الفعل الجمعي التي نستهلُّ بها كلَّ فصلٍ من فصول الكتاب؛ إذ يُشير أغلبها في هذه الطبعة الجديدة إلى أمثلة على صراعات أو تجاربَ شخصيةٍ لناشطين، مرتبطة على نحوٍ ما بحملات العدالة العالمية أو ربما لها علاقةٌ بعمليات الحشد على نطاقٍ يَتجاوز الحدودَ والقوميات. لم يكن من المستغرَب أن يتَّسم تعديلُ إطارنا المفاهيمي بقدرٍ أكبر من الصعوبة، لكنَّنا قرَّرنا، في نهاية المطاف، تبنِّي «الاكتفاء بالحد الأدنى» كحلٍّ: بدلًا من محاولة صياغة منهجٍ جديد بالكلية مُستوحًى من الظواهر الجديدة، أثبتنا إمكانية الاستعانة بالتصنيفات التحليلية القائمة بالفعل، بل تعديلها أيضًا — عند الضرورة — لتفسير التطورات المستجدَّة.

من البديهي أنَّ مدى نجاحنا في تلك المهمة إنما هو أمرٌ متروك لتقدير قرَّائنا، بَيْدَ أنه مما لا شك فيه أننا مَدينون، كعادتنا، لكثير من الأشخاص الذين أسهموا، بطرق مختلفة، في إخراج هذا الكتاب على نحوٍ أفضل مما كان سيُصبح عليه الحال لو لم نستعِنْ بخبراتهم؛ ففي دار نشر بلاكويل، أبدى كلٌّ من المُحرِّرين سوزان رابينوفيتش أولًا وكين بروفنشر لاحقًا، صبرًا ودعمًا، بينما قدَّم لنا هانك جونستون مراجعةً شاملة ومفيدة بامتياز لمسودتنا الأولى. اضطلع ثلاثة من الزملاء، آثروا عدم ذكر أسمائهم، بمراجعة مُقترحنا لإصدار الطبعة الثانية، مقدِّمين لنا أيضًا رؤًى ونصائحَ قيِّمة. بالنسبة إلى أعضاء «دائرتنا الداخلية»، فإننا نودُّ بادئ ذي بدء أن نُشِيدَ بتشك تيلي لتقديره الدءوب ذي الحسِّ النقدي. كما نتوجَّه بالشكر إلى كلٍّ من ماسيميليانو أندريتا، وديليا بالداساري، وكولن باركر، وبوب إدواردز، وأوليفييه فيليول، وماركو جوني، ودوج ماكادم، وجون مكارثي، وهانسبيتر كريسي، ولورينزو موسكا، وفريدهيلم نايدهارت، وأليساندرو بيتسورنو، وهربرت رايتر، وكريس روتس، وديتر روشت، وديفيد سنو، وسيدني تارو. وأخيرًا وليس آخرًا، أثبتَتْ كريستينا تيشر جدارتَها حين قدَّمت يد مساعدة يُعتمَد عليها في إعداد بيان المراجع الخاصة بالكتاب، أما سارة تارو فقد تفضَّلت بتحرير أربعة فصول من هذا الكتاب، وهي: الفصل الثاني والفصول من السابع إلى التاسع، فأثبتَتِ استحقاقها لسُمعتها كمحررةٍ لغويةٍ متميزة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤