الفصل التاسع

الحركات الاجتماعية والديمقراطية

في عام ١٩٨٨، أطلقَت حكومة مدينة بورتو أليجري — إحدى كبرى الحواضر البرازيلية؛ إذ تقطنها ١٣٦٠٠٠٠ نسمة — مشروعًا لصُنع القرار التشارُكي لإعداد موازنة المدينة، بهدف تعزيز المشاركة من خلال خلق مساحة عامة للتعبير عن مطالب المواطنين (جريت وسينتوميه ٢٠٠٢: ٢٦). وُصِف إعداد الموازنات التشارُكية بأنه أهمُّ ابتكارات أمريكا اللاتينية الرامية إلى زيادة مشارَكة المواطنين وإخضاع الحكومة المحلية للمُساءلة؛ وقد تضمَّنت تلك التجربة إنشاء جمعيات للمُواطِنين في كل حي من أحياء المدينة لتحديد الأولويات المتعلِّقة بإنفاق جزءٍ من إيرادات المدينة (سوزا ٢٠٠٠)، وهي نموذج لمنظومة من الحَوكمَة يتَّخذ «المواطنون العاديون» في إطارها قرارات ملزمة بشأن عدة مجالات من العمل الحكومي، أبرزُها تلك المجالاتُ المؤثِّرة على الاستثمارات الرأسمالية الجديدة في المدينة (بايوكي ٢٠٠٢أ). يَشهد كلُّ عام، في الفترة من مارس إلى يونيو، تفاعلاتٍ واسعةً بين المواطنين والحكومة؛ حيث تُناقِش جمعياتُ المدينة الكبيرة، وكذلك جمعياتُ الأحياء اللامركزية، أولوياتِ الإنفاق وتُصوِّت بشأنها، وتنتخب مندوبين باسمها لدى مجلس إعداد الموازنات التشارُكية إلى جانب اللجان المواضيعية، ثم تنتخب كلُّ لجنة مواضيعية مُمثِّلين لدى مجلس إعداد الموازَنات التشارُكية؛ حيث يشارك أيضًا ممثلو النقابات، وروابط الأحياء، والحكومة. وخلال شهرَيْ يوليو وأغسطس يشرع خبراءُ المدينة بالتعاون مع مندوبي الجمعيات في ترجمة المَطالب إلى مشروعات. وفي الفترة بين سبتمبر وديسمبر يجتمع المندوبون لإعداد مُقترَحٍ عامٍّ للموازنة ومسوَّدةِ خطةِ الاستثمار، اللتين ستَنتظِران مناقشةَ مجلس المدينة ثم التصديق عليهما (أليجريتي ٢٠٠٣: ١١٦-١١٧). تتضمن إجراءات اتخاذ القرار ممارسةَ الديمقراطية المباشِرة والديمقراطية التفويضية على حدٍّ سواء، مع تطبيق التفويض الإلزامي في منتديات الأحياء. من اللافت للنظر أن انتخاب المندوبين يُحفِّز المشارَكة، لكونه مُتناسبًا مع عدد المشاركين في الجمعيات (مندوب عن كل عشرة مشاركين). تنطوي العملية أيضًا على تفويض للسلطة إلى المؤسسات التمثيلية، مُتمثِّلَةً في كلٍّ من مجلس المدينة واللجان المواضيعية المسئولة عن إعداد الموازَنة التشاركية (الخاصة بالنقل، والصحة، والضمان الاجتماعي، والثقافة، والتعليم والترفيه، والتنمية الاقتصادية، والتنمية الحضرية).

في إطارِ عمليةٍ قائمةٍ على التجربة والخطأ، اكتسبَتْ عمليةُ إعداد الموازنة التشاركية بنيةً معقَّدة من أجل تحقيق غرضَيْن مُختلفَيْن لكنَّهما متكاملان؛ قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، لكن مع تشجيع معدَّل أعلى من المشاركة في الوقت عينه. تُركِّز المبادرة على الحد من مظاهر انعدام المساواة الاجتماعية، مع مراعاة عملية التخصيص للأولويات التي وضعها المواطنون ومعدَّلات الحرمان النسبية في الأحياء المختلفة. يهدف التوقيت المحكم للعملية إلى تقليص المثالب المعروفة لنظام الجمعيات، لا سيما ما يتَّصل بعرقلة القرارات، دون التنازل في الوقت نفسه عن ميزات الديمقراطية المباشرة، خاصةً من ناحية تمكين المواطنين.

أحرَزَت هذه التجارب بعض النَّجاح من حيث تحفيز المُشاركة، بالرغم من أنها كانت أبعد ما يكون عن إشراك المجتمع بأكمله؛ فقد ارتفعَت المشاركة في عملية إعداد الموازنة التشارُكية في الواقع من أقل من ١٠٠٠ شخص عام ١٩٩٠ إلى ما يَزيد على ٣٠٠٠٠ شخص عام ٢٠٠٢ (أليجريتي ٢٠٠٤: ٢٠٤). فضلًا عن ذلك، أتاحت العمليةُ المجالَ أمام المجموعات التي كانت مُهمَّشةً في الماضي لتقرير أولويات الاستثمار في مجتمعاتهم ومراقَبة استجابات الحكومة (سوزا ٢٠٠٠). وبالرغم من أهمية المستوى التعليمي والطبَقي في تقلُّد المناصب القيادية كمَندوبين، تحظى الفئاتُ الأشدُّ فقرًا بتمثيلٍ زائد في الجمعيات الشعبية. لكنْ من العوامل التي تُمهِّد الطريقَ بصورة خاصة للمُشاركة الانخراطُ السابق في الروابط وتنظيمات الحركات الاجتماعية؛ فالمشاركة في الأحياء تتناسَبُ في الواقع مع ثراء حياة الروابط والجمعيات (بايوكي ٢٠٠١)، كما تقترن زيادةُ مشاركة الأفراد بعُضويتهم في الجمعيات والروابط (على الرغم من ارتفاع عدد المشاركين ممَّن لا ينتمون إلى جمعياتٍ أو روابط، من ربع المشاركين عام ١٩٩٥ إلى أقل من ثلثهم عام ٢٠٠٢) (أليجريتي ٢٠٠٣: ٢٠٦). وفي سبيل الحد من مظاهر عدم المساواة الناتجة عن الفروق في قدرات التخاطُب، لا يُشجِّع السياق الخطابي (كالسماح بمُداخلات غاية في القِصَر مثلًا) على إلقاء الخطب الرسمية، وهي المَلَكَة التي تُميِّز الحاصلين على قسط وافر من التعليم (بايوكي ٢٠٠١). لا يستمدُّ المشاركون في الاجتماعات سلطتَهم من مستواهم التعليمي أو الطبقي، بل يَستمدُّونها من أشكال أخرى للمَكانة الاجتماعية؛ كالاحترام الذي يَحظون به داخل مجتمعاتهم، وهو ما يَرتبط غالبًا بعُضويتهم (أو حتى دورهم القيادي) في مجموعات محلية شتى (بايوكي ٢٠٠٢). بالالتفات إلى ما أفرزَتْه التجارب من آثارٍ ملموسة، قد تجدر الإشارة إلى أن بورتو أليجري قد جنَتْ، فيما يبدو، مكاسِبَ فيما يخص معايير العدالة الاجتماعية؛ إذ تحتلُّ حاليًّا المرتبةَ السادسة من بين ٥٥٠٧ بلدات برازيلية على مقياس متدرِّج للإقصاء الاجتماعي (حيث المرتبة الأولى تُشير إلى أقل البلدات إقصاءً)، والسابعة من ناحية جودة الحياة (أليجريتي ٢٠٠٣: ٧٤-٧٥). كذلك أدرجت الأمم المتَّحدة إعدادَ الموازَنات التشاركية ضمن قائمة «أفضل الممارسات» على مستوى العالم، البالغ عددها ٤٠ ممارسة (أليجريتي ٢٠٠٣: ١٧٣).

ثمَّة طائفة مُتنوِّعة من الظروف سهَّلت إنجازَ تجربةِ بورتو أليجري، في مقدَّمتها الدستورُ البرازيلي الجديد الصادر عام ١٩٨٨، والذي نصَّ على تطبيق لا مركزية تحصيل الضرائب على مستوى المدن، وهو ما وفَّرَ مواردَ لتمويل الموازنة التشاركية. هذا إلى جانب ما أعقب الدستورَ الجديد من لوائح جديدة للمدينة، أتاحَت فرصةً للمشاركة على المستوى المحلِّي (أليجريتي ٢٠٠٣: ١١٠). علاوة على ذلك، ظلت بورتو أليجري زمنًا طويلًا تحت إدارة حزب العمال، وهو حزبٌ اشتراكي يسعى إلى إيجادِ قاعدةِ دعمٍ له تمكِّنُه من التعامل مع عملية التحول الديمقراطي في البرازيل وما تشهده البلاد من فقر مُدقِع. والأهم من ذلك ما لمدينة بورتو أليجري من تاريخٍ طويل من نشاط الجمعيات والروابط، لا سيما على مستوى المجتمعات المحلية. وتُمثِّل روابط الأحياء، التي صمدت في وجه الحقب السلطوية، نموذجًا للديمقراطية التشاركية في جنوب العالم، الذي يَفوق النماذجَ التمثيلية الغربية للديمقراطية عراقةً ورسوخًا (سِن ٢٠٠٣). وبالرغم من أن بعضًا من تلك الروابط كانت جزءًا من شبكاتِ نفوذٍ تقوم على المحسوبية والتفاوض مع الرعاة أصحاب النفوذ بشأن الأصوات الانتخابية، فإنَّ التقليد الاحتجاجي ظلَّ حيًّا جنبًا إلى جنب مع تقليد المحسوبية. ومع إشراف عقد الثمانينيات على الانتهاء، تمخَّضت موجةٌ من الاحتلالات للمنشآت العامة عن تقوية شبكات الروابط (أليجريتي ٢٠٠٣: ١٠٧). ذهب العديد من المُراقِبين إلى أن الإصلاحات التشاركية قد عزَّزت مؤسَّسات جديدة في المجتمع المدني ومزيدًا من الترابط بين التنظيمات المحلية، كما رفعت من مستوى النشاط ليتجاوَزَ قضايا الأحياء إلى قضايا المدينة بأكملها، وذلك على عكس حقبة سابقة سادَها أسلوب «الوصاية»، تأرجَحَت فيها روابط الأحياء ما بين الانصياع للحكومة المحلية والصراع معها (بايوكي ٢٠٠٢).

يُمثِّل إعداد الموازنات التشاركية، إذن، تمكينًا للمشاركة الفردية، بل ميدانًا أيضًا لنمو الحركات الاجتماعية؛ ولذلك لم يكن من قبيل المصادَفة أن لعبَتْ بورتو أليجري دورًا محوريًّا أيضًا في حركة العدالة العالَمية، مُستضيفةً أولى جمعياتها المتعدِّدة الجنسيات. فضلًا عن ذلك، كانت المدينة مقرًّا للمنتديات الاجتماعية العالمية (شونلايتنر ٢٠٠٣) التي تُمثِّل تجربةً ﻟ «ديمقراطية أخرى»؛ ولكنها تُمارَس هذه المرة داخليًّا، فيما بين الأطراف الفاعلة في الحركات. وقد زادت المشاركة أيضًا في تلك التجربة من ١٦٤٠٠ مشارك خلال الاجتماع الأول الذي انعقد في يناير ٢٠٠١، لتصلَ إلى ٥٢٠٠٠ مشاركٍ عامَ ٢٠٠٢، وما يقرب من ١٠٠٠٠٠ مشاركٍ عامَ ٢٠٠٣. وعلى مدار آلاف من الندوات والاجتماعات، صِيغت مُقترَحاتٌ تتفاوت في واقعيَّتها وإبداعها بُغيةَ خلقِ عولَمةٍ تنطلق من القاعدة إلى القمة؛ كما طُرِحت للنقاش رُؤًى سياسيةٌ وسياساتٌ بديلة وخضَع بعضها للتَّجربة (من بينها «الموازنة التشاركية» التي جرَت تحت رعاية فعالة من «مخطَّط البلديات الجديدة» الذي تشكَّلَ خلال المُنتدى الاجتماعي الدولي الثاني). ومنذ عام ٢٠٠٢ بصفة خاصة، اتَّسع نطاق تجربة المنتديات الاجتماعية كمُلتقًى للاجتماع والنقاش ليَشملَ المُستويات المحلية والإقليمية الكلية. فقد شهد خريفُ العامِ نفسِه، تحديدًا، استضافةَ فلورنسا أولَ منتدًى اجتماعي أوروبي امتد على مدار ثلاثة أيام، عُقِدَت خلاله ندواتٍ حضَرَها ٦٠٠٠٠ مشارك. وأُجريَت نقاشات في الفترة ذاتها بشأن نماذج التنمية البديلة — المَعنية ببناء «مُجتمعات مُستدامة» — في مدينة باماكو التي استضافت المنتدى الاجتماعي الأفريقي، وبيروت التي استضافت المُنتدى الاجتماعي الشرق-أوسطي، وبليم التي استضافَتِ المُنتدى الاجتماعي لبلدان دلتا الأمازون، وحيدر آباد الهندية التي استضافَت المُنتدى الاجتماعي الآسيوي. وقد وقع الاختيار على مدينة باريس لعَقد المُنتدى الاجتماعي الأوروبي الثاني في نوفمبر عام ٢٠٠٣، ولندن لعقد المنتدى الاجتماعي الأوروبي الثالث في أكتوبر ٢٠٠٤.

سوف نَستعين فيما يَلي بالتجارب الديمقراطية التي جرَت في بورتو أليجري لإبراز إمكانيات الأبحاث المُتعلِّقة بنتائج الحركات الاجتماعية، وكذلك أوجه القصور في تلك الأبحاث. لا شك أن تحليل النتائج التي أحرزتها الحركات الاجتماعية يُعَدُّ جزءًا لا يتجزَّأ من دراسة الحركات الاجتماعية باعتبارها عواملَ مُساعدة للتغيير الاجتماعي. لقد اختلفَت درجات النجاح المُحرَز باختلاف الحركات، واحتلَّت مناقشةُ مُحدِّدات نتائجها قلبَ الجدل الدائر بشأن الحركات الاجتماعية. وكثيرًا ما أُشِيرَ إلى عددٍ من سمات الحركات الاجتماعية باعتبارها مُؤثِّرةً للغاية في هذا الصدد. وركزت الأبحاث بوجه عام على تساؤلات من قبيل: هل الحركات التي تطرح تغييراتٍ راديكاليةً أكثرُ نجاحًا من نظيراتها التي تطرح تغييراتٍ مُعتدلة، أم العكس؟ هل من جدوى للعنف؟ أيُعَدُّ التنظيم المركزي والبيروقراطي أداةً مُساعِدة للحركات الاجتماعية أم حجرَ عثرةٍ في طريقها؟

نستهلُّ تحليلنا بالنظر في المصاعب التي تُواجِهُها الحركات (والمحلِّلون) عند تعيين الاستراتيجيات الناجحة (القسم ١)، ثم نُعرِّج على التغيُّرات في السياسات (القسم ٢)، والرُّؤى السياسية (القسم ٣). بعد ذلك سوف يُلقي القسمُ ٤ الضوءَ على المحاولات التي بذلتْها (بعض) الحركات الاجتماعية في سبيل تغيير مفهوم الديمقراطية، متناولًا التفاعُلات بين النظرية المعيارية للديمقراطية والاحتِجاج، ثم نَختَتِم هذا الفصلَ بالقسم ٥؛ حيث سنُناقش التفاعُلات الفعلية بين عمليات الدمقرطة الواسِعة والحركات الاجتماعية.

(١) استراتيجيات الحركات الاجتماعية وتأثيراتها

في واحدة من أولى الدراسات المَعنيَّة بتأثيرات الاستراتيجيات التي تتبنَّاها الحركات الاجتماعية وأقواها تأثيرًا، حدَّد ويليام جامسون (١٩٩٠) العوامل المساهمة في إحراز النجاح، وهي الاستراتيجية التقليلية (التبسيط)، وتبنِّي الفعل المباشر، والتنظيم المركزي والبيروقراطي. غير أن باحثين آخرين في مجال الفعل الجمعي لم يجمعوا على قبول أطروحته. فكما أشرنا سلفًا فيما يتعلَّق بأنماط الفعل، بدا العنف في مراحل تاريخية معيَّنة خيارًا استراتيجيًّا واعدًا، بل إنَّ جامسون نفسه قد أقرَّ (١٩٩٠) بأن الأهداف الأوسع نطاقًا تُعزِّز التضامن الداخلي وتدعم خلق التحالُفات. وأخيرًا، أشار بعض الباحثين إلى أنه حين تَصطبِغ التنظيمات، بما فيها تنظيمات الحركات الاجتماعية، بالصبغة البيروقراطية، تبدأ الرغبة في بقاء التنظيم تَطغى على الأهداف الجمعية المُعلنة. فقد ذهب كلٌّ من فرانسيس فوكس بيفن وريتشارد كلاورد (١٩٧٧: ٢١-٢٢) إلى أن الجهد المبذول في بناء التنظيمات ليس جهدًا عقيمًا فقط، بل مدمِّرٌ أيضًا: «إن اجتهاد المنظِّمين في تحقيق ما لا يسعهم تحقيقه يُفضي بهم في النهاية إلى الإخفاق في تحقيق ما يَسعهم تحقيقه؛ ففي تلك الفترات الوجيزة التي يَثُور فيها سخط الناس ويُبدون استعدادهم لتحدِّي السلطات التي اعتادوا الخضوع لحُكمها … لا يَعمد أولئك الذين يُسمُّون أنفسهم زعماء عادةً إلى تصعيد ذلك الزخم الاحتجاجي.» إنَّ بحث الحركات الاجتماعية عن موارد مادِّية لضمان البقاء التنظيمي يُؤدِّي بها لا محالة إلى النُّخَب التي يَسرُّها تقديمُ مثلِ هذه الموارد؛ لإدراكها أن ذلك من شأنه أن يحدَّ مِن الخطر الكامن الذي يُهدِّد النظامَ الاجتماعي على يدِ أعضائه الأضعف. ولكن لُوحِظَ أنَّنا لا يُمكننا تقييمُ عنصرٍ استراتيجي معيَّن بمعزل عن بقية العناصر، ودون الأخذ في الاعتبار الظروفَ التي يَتعيَّن على الحركات الاجتماعية العملُ في إطارها (برستاين وآخرون ١٩٩٥)، ووجود الحلفاء أو الخصوم في موقع السلطة (كريس وسنو ٢٠٠٠).

في الواقع، يُمثِّل تحديد «استراتيجية للنجاح» مهمة مُضنية بالنسبة إلى الناشطين والباحثين على حدٍّ سواء. يُقدِّم المُنتدى الاجتماعي العالَمي في بورتو أليجري نماذج عديدة للنقاشات الدائرة بشأن صياغة المطالب العامة الداعية إلى «عالم آخر مُمكن» في هيئة مُقترَحات إصلاحية محدَّدة، وكذلك النقاشات المرتبطة بالقدر المَقبول من التنازلات. تتراوح طائفة النماذج التنظيمية المختارة (والمدافَع عنها) من الجمعيات ذات التنظيم البِنيوَي المُحكَم (مثل أتاك) إلى المجموعات المُتجانسة غير الرسمية، ومن ضمنها نماذج عديدة للتحالُفات المُتعدِّدة الجنسيات (مثل فيا كامبسينا، وهي مجموعات احتِجاج شبكية من الفلاحين ينتمون إلى ٥٠ بلدًا). وعلى الرغم من أن الحركة تتَّسم باستراتيجياتها غير العنيفة، فقد ثار كثير من الجدل بشأن اللجوء إلى أنماط محدَّدة من الفعل المباشر؛ كالاستيلاء على محتويات مطاعم ماكدونالدز، وإدارة حركة سيم تيرا لعملية احتلال الأراضي، والديمقراطية المحلية التي تمارسها حركة زاباتيستا في سييرا لاكاندونا، بل إن الإجراءات ذاتها التي اتَّبعها المنتدى الاجتماعي العالمي في اتخاذ قراراته كانت هدفًا للنُّقاد الذين اتهموا المنتدى بإيثار الفاعلية على المساواة والشفافية.

ثمَّة سلسلة من العقبات تعوق أيضًا إرجاع الفضل في إحراز النجاحات الملموسة إلى عوامل محدَّدة (تارو ١٩٩٤؛ روشت ١٩٩٢؛ جوني ٢٠٠٤؛ دياني ١٩٩٧؛ ماكفي وويلش وبجارناسون ٢٠٠٣). تكمن إحدى المشكلات الرئيسية والتي يَعرفها علماء الاجتماع حق المعرفة في وجود علاقات وثيقة للغاية بين مجموعة من المُتغيِّرات بحيث يَصير مِن المُستحيل تحديد السبب والمسبب؛ فالتحضُّر والتصنيع، مثلًا، سهَّلا إنشاء التنظيمات؛ وذلك من خلال تقوية العلاقات المادية، لكنَّهما أضعفا مصادر معينة للتنشئة الاجتماعية والتضامن، وعزَّزا نشأة مصادر أخرى (للاطلاع على نظرة عامة، انظر شتومبكا ١٩٩٣؛ وكذلك الفصل الثاني من هذا الكتاب)، كما أن تقديم خدمات تعليمية أفضل رفَعَ الوعي بالمظالم، وجعَلَ الدفاع عن المصالح الشخصية يبدو أمرًا مشروعًا. هذا إلى جانب أن ازدياد فاعلية منظومة الاتصالات يسهم في بث المعلومات المتعلِّقة بعمليات التعبئة الجماهيرية حول العالم. وفي خضمِّ هذه التحوُّلات تُولَد الحركات وتُسهِم فيها؛ فالنماذج الاجتماعية-الاقتصادية والثقافية والسياسية التي أفرزتها العولَمة هي نتاج للحركات السابقة وردود فعل لها في ذات الوقت، كما أنها تُمثِّل تكيفًا مع ضغوط الحركات، وهو ما يَخلق موارد وقيودًا جديدة أمام النشاط الاحتجاجي.

ثالثًا: يتسبَّب وجود عدد كبير من الفاعلين في مزيد من الصعوبة في إرجاع النجاح أو الإخفاق إلى استراتيجية واحدة معيَّنة (دياني ١٩٩٧)؛ فالحركات الاجتماعية هي ذاتها أطراف فاعلة معقَّدة تتكون من تنظيمات كثيرة تسلك استراتيجيات بالغة الاختلاف. والحركات الحديثة، بصورة خاصة، تَمضي قدمًا من خلال حملات تُساهم فيها تنظيمات شتى بالذَّخائر التي تتفوَّق في استخدامها؛ فتُمارس المنظمات البيئية غير الحكومية الضغوط على المنطَّمات الحكومية الدولية؛ والنقابات العمالية تدعو إلى الإضرابات المُناوئة لاتفاقيات التجارة الحرة؛ والفلاحون البرازيليون الأعضاء في حركة سيم تيرا يحتلون الأراضي غير المستخدمة، بينما يَعمد القراصنة الإلكترونيون إلى إحداث تكدُّس في المواقع الإلكترونية للمؤسسات الكبرى. ولذلك فمن الصعب تمييز الإسهام الخاص بكل مجموعة في الناتج النهائي.

الأهم من ذلك هو أنه لا يُمكن إطلاقًا النظر إلى الحركات باعتبارها الأطراف الفاعلة الوحيدة التي تُسهم بمداخلات في القضايا، بل إنها تؤدي ذلك الدور متحالفةً مع أحزاب سياسية إلى جانب هيئات عامة في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، تعدُّ الخيارات السياساتية التي تتَّخذها الأطراف الفاعِلة الأخرى، الاجتماعية والسياسية، عنصرًا مهمًّا في تفسير نشأة التجربة التشاركية في بورتو أليجري، حيث أسهم الحزب الاشتراكي المنخرط في الحكومة باستثمار موارد رمزية ومادية في هذا المشروع. وهكذا يتبيَّن أن «ما تتمخَّض عنه عملية التفاوض ليس نتاجًا لسمات أي مِن الطرفَين، وإنما نتاج مواردهما بعضها بالنسبة إلى بعض، وعلاقاتهما بأطراف ثالثة، وغيرها من العوامل القائمة في البيئة المحيطة» (برستاين وأينفونر وهولاندر ١٩٩٥: ٢٨٠). وكما ذكرنا (انظر الفصل الثامن)، كثيرًا ما فسَّر الباحثون النتائج التي تُحرِزها الحركات الاجتماعية (أو إخفاقها في إحرازها) في إطار الأوضاع البيئية، لا سيما مُواتاة الفُرَص السياسية وتوفُّر الحلفاء، لكن من العسير أن نَعزو المسئولية عن رد فعل أو آخر إلى أيٍّ من الفاعلين الكثر المُنخرِطِين في ميدان سياساتي معيَّن. ففي حال اتَّسمت دورة احتجاجية ما بعدد كبير من التفاعُلات، فإن النتائج الُمحرَزة ستكون، كما أوردنا سلفًا، نتاج ذلك العدد الكبير من التفاعُلات؛ ومن ثم فمِن الصعب دائمًا أن نثبت لو أن سياسة معيَّنة كانت لتُسَنَّ عبر فاعلين مؤسَّسيِّين آخرين على أيِّ حال.

رابعًا: تسهم صعوبة إعادة بناء الديناميكيات السببية التي تقوم عليها قرارات عامة معيَّنة في مُضاعفة المصاعب الناتجة عن كثرة عدد الأطراف الفاعلة. فالوقائع، من ناحية، تتداخل وتتشابَك بحيث يصعب تحديد أيها حدث قبل الآخَر، لا سيما في ذروة التعبئة، بينما تتطلَّب الحركات الاجتماعية، من ناحية أخرى، تغيُّرات طويلة المدى، بيد أنَّ الدورة الاحتجاجية من شأنها أن تُحفِّز إصلاحات «إضافية» فورية. حينما تَنجَح الحركات الاجتماعية في إدراج قضايا معينة على الأجندة العامة؛ فإن ذلك «لا يتحقَّق مباشرةً أو حتى في مسار تتابعي. فالواقع أن الثائرين الأوائل في الدورات الاحتجاجية غالبًا ما يَختفون من المشهد تزامنًا مع شيوع أفكارهم وإيلافها. بيد أن قسطًا من رسالتهم يتبلور في الأطر المشتركة للثقافة العامة أو الخاصة، في حين تُغفَل بقيتها» (تارو ١٩٩٤: ١٨٥). تتَّسم عملية التطوُّر تلك بخطوات إلى الأمام وأخرى إلى الخلف، وفترات تَقترِب فيها السياسة العامة من تلبية مطالب الحركات الاجتماعية وأخرى تشهَد تدهورًا في الأوضاع.

ثمَّة مشكلة أخرى تتمثَّل فيما إذا كان يَنبغي تقييم نتائج الاحتجاجات على المدى القصير أم الطويل. كثيرًا ما تحقق الحركات الاجتماعية نجاحات في المراحل المبكِّرة من التعبئة، بيد أن هذا من شأنه أن يُحفِّز مصالح متضاربة وأن يُثير في كثير من الأحيان ردَّ فعل معاديًا في الرأي العام. وعليه، فإنه وإن كان صحيحًا وجود توافُق واسع بشأن كثير من القضايا التي تُثيرها الحركات الاجتماعية (السلام، الدفاع عن الطبيعة، تحسينات في المنظومة التعليمية، المساواة)، فقد تُفضي التعبئة إلى استقطاب الرأي العام، وهو ما يَخلق عادةً نموًّا فيما تحظى به الحركات من دعم، لكنه يُولِّد في أغلب الأحيان نموًّا في المعارضة أيضًا. علاوةً على ذلك، وكما هو مشار إليه في الفصل السابق، كثيرًا ما يؤدِّي نجاح الحركات في تحقيق مطالب محدَّدة إلى خلق حركات مضادَّة؛ فقد فسَّر الباحثون نشأة الليبرالية الجديدة كأيديولوجية اعتنقتها الطبقة الرأسمالية باعتبارها استجابة لانتصارات الحركة العمالية على صعيد الحقوق الاجتماعية (سكلير ١٩٩٥).

تقفُ المشكلات الورادة أعلاه كحجرٍ عثرة أمام تقييم الفاعلية النسبية لما تتبنَّاه الحركات من استراتيجيات معيَّنة، لا سيما حين يعمد المرء إلى عقد مقارنة بين حركات أو بلدان مختلفة. ثمَّة مشكلة أخرى تتجلَّى بطبيعة الحال فيما يتعلَّق بعَزْو نتائج معيَّنة إلى أطراف فاعلة ذات طابع مؤسَّسي أقوى، كالأحزاب السياسية ومجموعات الضغط.١ وتزداد الأمور تعقيدًا بفعل عوامل أخرى تنفرد بها الحركات الاجتماعية، مثل مدى قربها من مقاليد السلطة أو بُعدها عنها، والتعريف غير المُتجانس لأهدافها، وعدم الاستقرار التنظيمي؛ ولذلك لن نسعى فيما يَلي إلى تحديد الاستراتيجيات الناجحة، وإنما سنُحاول النظر في بعض من التبعات المترتِّبة على التفاعل بين الحركات الاجتماعية وبيئتها.

(٢) التغيُّرات في السياسة العامة

يعدُّ ميدان السياسة الفعلية من أول الميادين اللازم دراستها عند تقييم تأثيرات الحركات الاجتماعية، وهو ما أوضَحَه المثال الذي صدَّرنا به هذا الفصل. تتشكَّل الحركات الاجتماعية في العموم للتعبير عن عدم الرضا عن سياسة قائمة في قطاع معيَّن؛ فالمجموعات البيئية قد طالبَت بالتدخُّل لحماية البيئة، ودعاة السلام وقَفُوا مناوئين لثقافة الحرب، والطلاب كالوا الانتقادات لمَظاهِر الانتقاء والسلطوية في التعليم، والحركة النسوية كافحَت التمييز ضد النساء، والمُنتديات الاجتماعية العالمية انتقدت العولمة الليبرالية الجديدة. جرت العادة على التفريق بين الحركات السياسية والثقافية؛ إذ تتبَع الأولى منطقًا أكثر أداتية في حين تتبع الثانية منطقًا تغلب عليه السمة الرمزية، غير أن جميع الحركات تَميل إلى فرض مطالب على المنظومة السياسية.

في كثير من الأحيان يَصير مطلب معين غير قابل للتفاوض، باعتباره الأساس لهوية الحركة. فقد قامت الحركة النسوية، مثلًا، في كثير من البلدان، استنادًا إلى حق النساء غير القابل للنقاش في «الاختيار» فيما يتعلق بالإنجاب، بينما أدى مطلب وقف تركيب القذائف النووية التابعة لحلف الناتو دورًا مشابهًا بالنسبة إلى الحركة الداعية إلى السلام. كانت التعبئة في الحالة الأولى استباقية؛ إذ كانت تَرمي إلى اقتناص مكسب جديد؛ ألا وهو الحق في حرية الإجهاض، بينما كانت في الحالة الثانية رد فعل رامٍ إلى عرقلة قرار (بتركيب قذائف موجهة) اتُّخِذَ بالفعل. تُعدُّ منظَّمة أتاك، وهي إحدى المنظمات المؤسِّسة للمُنتدى الاجتماعي العالَمي في بورتو أليجري، مثالًا آخر على تلك المسألة؛ إذ ولدت من رحم المطالب الداعية إلى فرض ضريبة على المعاملات والصفقات المُتعدِّدة الجنسيات، ومثلها في بورتو أليجري حملة تخفيف عبء الدَّين المطالبة بإسقاط الدَّين الخارجي للبلدان الفقيرة. لقد كانت الحركات الاجتماعية، في جميع الحالات، تُطالب بتغييرات معتبَرة في السياسة العامة. ومن أهم ما يُميِّز تلك الأهداف غير القابلة للتفاوض دورها في تعريف الحركات الاجتماعية لذاتها وللعالم الخارجي (بيتسورنو ١٩٧٨)، بل إن المطالب التي ترتفع قيمتها الرمزية للغاية، مثل تعديل المساواة في الحقوق في حالة الحركة النسوية الأمريكية، تحتفظ بأهميتها الحيوية بالنسبة إلى أيِّ حركة حتى حين تصير فاعليتها المُحتمَلة محل شك (مانزبريدج ١٩٨٦). ومما يُؤكِّد أهمية مثل هذه الأهداف أن الناشطين ربما يُبدون استعدادًا للتفاوض بشأن مطالب أخرى، بيد أن مجرد إحرازهم لانتصارات جزئية على صعيد تلك القضايا، مثْل حقِّ المرأة في إنهاء الحمل طوعًا، يَعدُّونه من قبيل الهزائم، وهو ما يُفسِّر شعور كثير من ناشطي حملة يوبيل ٢٠٠٠ بعدم الرضا حيال الاستجابات المؤسسية التي لاقَتْها مطالبهم، بالرغم من أن حملتهم قد وصِفَت بأنها «كانت تحديًا من الناحية الاستراتيجية، ومعقَّدة من الزاوية السياسية، لكنَّها أحرزت نجاحًا نسبيًّا»؛ إذ «مارست ضغوطًا فعالة على الحكومات الدائنة لاتخاذ تحرُّكات مهمَّة في طريق إسقاط ديون العالم الثالث غير القابلة للسداد»، إلى جانب «تركيز رقابة عامة غير مسبوقة على سياسات الاقتصاد الكلي الرسمية» (كولينز وجاريو وبوردن ٢٠٠١: ١٣٥).

وبينما تتَّسم المطالب غير القابلة للتفاوض بأهمية خاصة في بناء الهُويات الجمعية، غير أن الحركات الاجتماعية نادرًا ما تقتصر على تلك المطالب. ففي مثال حركة العدالة العالَمية، صاغت الحركة هدفها العام، ألا وهو «بناء عالم آخر مُمكِن»، في مَطالب محدَّدة، تراوحت بين معارضتِها لخصخَصَة الخدمات والمنافع العامة (مثل الحملة الداعية إلى حرية الحصول على الماء)، ودفاعها عن حقوق الحكومات الوطنية في تنظيم الإنتاج المُنخفِض التَّكلفة للأدوية في حالات الطوارئ؛ وبين معارضتها لمشروعات محدَّدة لبناء السدود إلى الدعوة إلى إجراء إصلاح ديمقراطي داخل الأمم المتَّحدة. وفي إطار تعاونها في حملات الاحتِجاج العالمي، شدَّدت الجمعيات البيئية على عدم الاستدامة البيئية للرأسمالية الليبرالية الجديدة وأكَّدت النقابات العمالية على التَّبعات السلبية للتجارة الحرة على حقوق العُمال ومعدلات التوظيف، فيما أبرزت الجماعات النسوية معاناة النساء في ظل تآكل دولة الرفاه.

لو تناولنا التغيُّرات التي أحدثتها الحركات الاجتماعية من منظور السياسة العامة، ربما يُمكن أن نُقيِّمها بإلقاء نظرة على مختلف الأطوار التي تمرُّ بها عملية صنع القرار: بروز قضايا جديدة، ووضْع تشريعات جديدة وتطبيقها، وتحليل آثار السياسات العامة في التخفيف من وطأة الظروف التي يعيشها مَن احتَشدُوا تحت راية الفعل الجَمعي. يُمكن التمييز بين خمسة مُستويات من الاستجابة للمطالب الجمعية داخل المنظومة السياسية:

يُشير مفهوم «استجابة الوصول» إلى مدى استعداد السلطات للإنصات إلى شواغل مجموعة كهذه … في حال تحوُّل المطلب … إلى قضية أُدرِجَت على أجندة المنظومة السياسية، فنحن إذن بصدد نوع ثانٍ من الاستجابة، والتي يُمكن أن نطلق عليها «استجابة الأجندة» … وإذا صار المشروع … قانونًا، فإن نوعًا ثالثًا من الاستجابة قد تَحقَّق؛ يُشير مفهوم «استجابة السياسة» إلى مدى اعتناق القائمين على المنظومة السياسية لتشريعات أو سياسات مُتوافِقة مع المطالب الواضحة للمجموعات المحتجَّة … مع اتخاذ تدابير تكفل التنفيذ الكامل للتشريع، يبرز نوع رابع من الاستجابة: «استجابة الناتج» … ولا يتحقَّق النوع الخامس والأخير، وهو «استجابة الأثر»، إلا إذا أُزيلت المظالم الأصلية التي أشعلت فتيل الاحتجاج.

(شوميكر ١٩٧٥: ٤٩٤-٤٩٥)

أولت الأبحاث المعنية بالحركات الاجتماعية تركيزها لعملية إنتاج التشريعات. حسبما أشار استعراض حديث للدراسات السابقة، فإن أغلب «الدراسات تُركِّز على استجابة السياسة، بينما يركز عدد أقل على استجابة الوصول، في حين تُتناول قلة قليلة من الدراسات على الأجندة السياسية، أو النَّواتج، أو أثر السياسات، أو التغيُّر البِنيوي» (برستاين وآخرون ١٩٩٥: ٢٨٥). من واقع تعيينها لسلسلة من مجالات تدخل الحركات، تسعى التحليلات الكمِّية والنوعية إلى قياس استجابة البرلمانات والحكومات. عودة إلى مثال الحركة الحقوقية، فقد انبثقت معايير مُتجاوِزة للحدود والقوميات من أجل حماية السكان الأصليِّين من التعذيب والدفاع عن حرياتهم الديمقراطية (ريس وسيكينك ١٩٩٩)، وقد أسهمت تلك المعايير في عملية الدمقرطة من خلال إضفاء زخم في المُنتديات فوق الوطنية على الحركات القومية المنتمية إلى البلدان السلطوية (كيك وسيكينك ١٩٩٨).

يمكن إذن أن ينطلق تحليل للآثار الملموسة للحركات الاجتماعية من عملية إنتاج التشريعات، بيد أن هذا ليس بكافٍ. فكما أورَدْنا في معرض نقاشنا عن الحركات الاجتماعية والفُرَص السياسية، فالقدرة على تنفيذ التشريعات تختلف باختلاف الدول المختلفة، ومن هذه المرحلة ذاتها تُجنى المَكاسب الملموسة. والأهم أن ما تنصُّ عليه الاتفاقات الدولية من معايير مُتجاوِزة للحدود والقوميات يتطلَّب سن قوانين على المستوى الوطني. فكما هو الحال في الاتفاقات المعنية بانتشار الأسلحة والألغام الأرضية، أو اتفاقية كيوتو لمكافحة التغيُّرات المناخية، كثيرًا ما تَمتنع القوى العظمى (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية) عن توقيع الاتفاقات الدولية أو تنفيذها. ولذلك، فلكي نقيِّم ما أحرزته الحركات الاجتماعية من نتائج، يلزمنا أيضًا أن نحلل كيفية التطبيق الفعلي للقوانين أو الاتفاقات التي أفرزتها تلك النتائج.

إن الأشد صعوبة هو تقييم التغيير الحقيقي، مُتمثِّلًا في التأثيرات التي تسفر عنها التشريعات، كيفما كانت طريقة تطبيقها. فالقوانين الرامية إلى تلبية بعض من مطالب الحركات الاجتماعية ربما تكون محدودة التأثير أو حتى تُفضي إلى نتائج عكسية، بصرف النظر عن مدى فاعلية تطبيقها. ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما أسفرت عنه تجربة بورتو أليجري، بما خصَّصته من مِنَح للأحياء الأكثر مشاركةً، وهو ما هدَّد بإحداث اختلالات في الإنفاق، فضلًا عن أن ما شهده إعداد الموازنات التشاركية من استثمارات أولية في إنشاء الطرق، بقصد تحسين وضع أشد المناطق فقرًا وهامشية، قد أفرز آثارًا جانبية فيما يتعلَّق بالاستدامة البيئية (أليجريتي ٢٠٠٣: ٢٢٦). ولم يَتبلوَر برنامج للتنمية الحضرية يقوم على خلق مساحات مفتوحة تَسمح بالاندماج الاجتماعي إلا لاحِقًا (المصدر السابق: ٢٨١).

إنَّ الحديث عن المعايير يَنطوي بالفعل على فكرة مفادها أن التحوُّل الثقافي، إلى جانب التغيُّرات البِنيوية في وضع تلك الفئات أو المجموعات الاجتماعية التي يَحشُدُها الفعل الجَمعي، هو عنصر آخَر له أهميته في إحراز مكاسب جديدة وتعزيزها. صحيح أن جميع الحركات عادةً ما ترغب في تحقيق تغييرات تشريعية، غير أن هذا ليس هدفها الوحيد، وقد لا يكون حتى هدفها الرئيسي. فالحركات في الواقع كالرسل الذين يحملون رسائل رمزية (جامسون ٢٠٠٤: ٢٤٧): فهي تهدف للتأثير على الجالسين في مقاعد المُتفرِّجين؛ وذلك ببثِّ تصوُّرها الخاص عن العالم، كما تكافح لانتزاع الاعتراف بالهُويات الجديدة، فضلًا عن الصلة التي تربط تأثيرات الحركات الاجتماعية بالتغيرات الثقافية واسعة الانتشار، مُتمثِّلةً في صياغة «قواعد جديدة» (ميلوتشي ١٩٨٢، ١٩٨٤أ). فالأفكار الجديدة عادةً ما تُولد داخل المجتمعات النقدية، ثم ما تلبث أن تَنتشِر عبر الحركات الاجتماعية، كما دوَّن روتشن (١٩٩٨: ١٧٩) هذه الملاحظة قائلًا: «إن ترجمة المشكلة المزمنة كما يراها المجتمع النقدي إلى مشكلة حادَّة من شأنها أن تجتذب الاهتمام الإعلامي لهيَ مهمَّة تقع ضمن اختصاص الحركات الاجتماعية والسياسية.»

وعلى الرغم من أن قدرة الحركات الاجتماعية على بلوغ أهدافها العامة قد اعتُبرت محدودة، فإنها تعدُّ أكثر فاعلية في جلب قضايا جديدة إلى طاولة النقاش العام، أو ما يُسمَّى بالموضوعاتية. فعقب أحداث سياتل، على سبيل المثال، يبدو أن حركة العدالة العالمية قد أحرزت نجاحًا في إدراج موضوعَي انعدام المساواة الاجتماعية وافتقار عملية صنع القرار العابرة للحدود والقوميات إلى الشفافية على الأجندة العامة. ففي استطلاع رأي وطني (أجراه المركز الدولي لأبحاث السوق) في يونيو عام ٢٠٠١، قبيل اجتماع قمة مجموعة الثماني في جنوة، تبيَّن أن نحو ٤٥ بالمائة من الإيطاليِّين مُتعاطِفون مع الحجج التي تسوقها الحركة، فيما أبدى ٢٨ بالمائة عدم تعاطفهم معها، بينما أحجم ٢٧ بالمائة عن إبداء رأيهم (صحيفة «لا ريبوبليكا»، في عددها الصادر بتاريخ ١٧ / ٦ / ٢٠٠١). لكن دراسة استقصائية أجراها لاحِقًا مركز أبحاث ذكاء المحاكاة أظهرت أن غالبيةً كبيرة من المواطنين الإيطاليين مؤيدون لأهداف الحركة؛ كإسقاط ديون العالم الثالث (٨١ بالمائة)، وترسيخ «المساواة في الأوضاع الاقتصادية وظروف العمل بين العمال على مستوى العالم» (٨٠ بالمائة)، والمعارضة المطلَقة للحروب (٧٤ بالمائة)، والقضاء على الملاذات الضريبية (٧٠ بالمائة)، وحظر الأغذية المعدَّلة وراثيًّا (٧٠ بالمائة)، وتطبيق ضريبة توبين (٦٤ بالمائة)، ومنْح المهاجرين الحق في حرية التحرُّك (٥٥ بالمائة). بوجه عام، أجاب ١٩ بالمائة ممن شملتْهم الدراسة بأن الحركة «المناهضة للعولَمة» كانت «إيجابية للغاية»، في حين رأى ٥٠٫٩ بالمائة أنها كانت «إيجابية إلى حدٍّ كبير»، ولم يرَ إلا ١٦٫١ بالمائة منهم أنها كانت سلبية إلى حدٍّ كبير أو سلبية للغاية (لمزيد من التفاصيل، انظر ديلا بورتا وأندريتا وموسكا ورايتر ٢٠٠٥، الفصل السابع).

لذلك فمِن المُفيد النظر إلى تأثير الحركات التوعوية، وهو ما نقصد به «احتمالية إثارة حركة ما لوعي فاعل اجتماعي معيَّن على الساحة السياسية أو الساحة العامة، يسير في اتجاه خدمة أهداف الحركة» (كريسي وآخرون ١٩٩٥: ٢١١). إضافةً إلى ذلك، فإن الحركات الاجتماعية أشد وعيًا من بعض الأطراف الفاعلة الوفيرة الموارد بحاجتها إلى الدعم العام؛ فالتعبئة الاحتجاجية قصيرة الأجل، ومن ثم فلا يُمكن للحركات الاجتماعية أن تكتفي بالإصلاحات التشريعية التي دائمًا ما يُمكن التراجع عنها لاحقًا. ولذلك يجب أن تضمن انتشار ما تحظى به من دعم على نطاق شديد الاتِّساع بما يكفل إحباط أيِّ محاولة لنقض الإصلاحات.

يَجدر بنا أن نضيف في هذا السياق أن الحركات الاجتماعية لا تهدف فحسب إلى تغيير الرأي العام، بل تسعى أيضًا إلى اغتنام الدعم بين المسئولين عن تطبيق السياسة العامة، إلى جانب تغيير قِيَم النُّخَب السياسية، وكذا قِيَم عامة الجماهير. فرغم أن التعبئة الجماهيرية قد تنجح مؤقتًا في إقناع الأحزاب السياسية بتمرير قانون ما، فلا بد من تطبيق هذا القانون أيضًا. والحركات الاجتماعية، في تلك الحالة أيضًا، لا تَملك دائمًا الوسائل الكافية للوصول إلى الجوانب الخفية من عملية تنفيذ السياسات، وهو ما يجعل فرص نجاحها مُعتمِدةً على ما تبذله من تأثير على الأجهزة العامة المُضطلعة بتطبيق القوانين محل اهتمامها. فعلى سبيل المثال، تمكَّنَ خُبراء داخل الحركات أو مُقربون إليها من اختراقِ مجتمع الدعوة الدولية والإسهام في نَشر تيار معارَضَة للاستراتيجيات الليبرالية الجديدة بين صفوف النُّخبة السياسية وغير السياسية؛ وذلك بفضل اتصالاتهم المباشِرة أو عبرَ الوُسَطاء. وقد طالعتنا نتائج ذلك التوجه أواسط التسعينيات؛ إذ عمد زعماء الكثير من الدول الغربية إلى التخلِّي عن الليبرالية المحضة التي ميَّزت حقبة تاتشر وريجان. وبإلقاء نظرة على الساحة الدولية، سنَجد أنَّ ثمَّة آراء مسموعة، صادرة في بعض الأحيان من أطراف غير متوقَّعة، تلفت الأنظار إلى قضايا الخدمات الاجتماعية وإعادة تنظيم السوق (أوبراين وجوتس وشولتِ وويليامز ٢٠٠٠: ٩).

(٣) الحركات الاجتماعية والتغييرات الإجرائية

لا تَقصر الحركات الاجتماعية تدخُّلاتها على السياسات المُنفردة، وإنما كثيرًا ما تُمارس تأثيرها على طريقة أداء المنظومة السياسية لدورها؛ مِن ناحية إجراءاتها المؤسسية والرسمية، واستقطاب النُّخَب، والشكل العام غير الرسمي للسلطة (كيتشيلت ١٩٨٦؛ روشت ١٩٩٢). تُطالب الحركات بلا مركزية السلطة السياسية، أو التشاوُر مع المواطنين المعنيين بشأن قرارات معينة، أو وضع إجراءات للطعن على قرارات الإدارة العامة، وغالبًا ما يتحقَّق لها ذلك. ويَتزايد تفاعلها مع الإدارة العامة، مقدِّمةً نفسها كمؤسَّسات تهدف إلى تحقيق «الديمقراطية من القاعدة» (روث ١٩٩٤)؛ فتُطالب بإتاحة الفرصة أمامها للإدلاء بشهادتها أمام المؤسسات التمثيلية والقضاء، والإنصات إليها باعتبارها خبيرًا مضادًّا، والحصول على الاعتراف القانوني والحوافز المادية.

لا شكَّ أن الاحتجاج، والذي لا يُمثِّل إلا جزءًا ضئيلًا من نشاط الحركات الاجتماعية إجمالًا، ذو أهمية، لكنه يَفقِد جدواه أيضًا ما لم تُصاحبه أنشطة الضغط الأكثر تقليدية. ربما لا تبدو إقامة علاقات بالوزارات الحكومية ومنظومة البيروقراطية العامة في ذاتها وسيلة فعالةً للدرجة في التأثير على السياسات، بيد أنها تعدُّ ذات جدوى في جمع المعلومات والتصدِّي لتأثير مجموعات الضغط: على سبيل المثال، تمكَّنت الحركة البيئية من مواجهة مناهضيها بتشكيل تحالُفات داخل بيروقرطية المفوضية الأوروبية (روتسا ٢٠٠٤). إن الحركات الاجتماعية، كما سنرى فيما يَلي، تزيد من احتمالات النفاذ إلى المنظومة السياسية، وذلك من خلال القنوات المخصَّصة لقضايا معيَّنة، وكذلك عبر المؤسَّسات المُنفتحة على جميع الفاعلين غير المؤسِّسيين.

لقد نجَحَت الحركات الاجتماعية بالفعل في أواخر القرن العشرين في طرح تغييرات باتجاه زيادة الرقابة الشعبية على المؤسَّسات العامة. فقد شهدت الكثير من البلدان الأوروبية تحقيقًا للامركزية الإدارية منذ سبعينيات القرن الماضي، تزامنًا مع إنشاء قنوات جديدة للوصول إلى صنَّاع القرار. وجرت تَجربة أنماط شتى من المشاركة في صنع القرار داخل تنظيمات الحركات الاجتماعية. وعليه، فإذا كان صعود الأحزاب السياسية الجماهيرية قد وُصف بأنه «تأثير من اليسار» وصعود ديمقراطية الإعلام الجماهيري «تأثير من اليمين»، فإنَّ الحركات الاجتماعية الجديدة قد أشيد بها باعتبارها «تأثير من القاعدة» (رورشنايدر ١٩٩٣أ). لقد ضاعفَتِ الحركات الاجتماعية من أساليب اتخاذ القرارات السياسية، مدفوعة بمَشاعر السخط المُتكرِّرة حيال الديمقراطية التمثيلية بصورتها المركزية البيروقراطية (انظر أدناه). يتبيَّن لنا مما سبق أن الحركات الاجتماعية، بهذا المفهوم، قد أحدثت تغييرًا في الثَّقافة السياسية، مُتمثِّلةً في مجموع المعايير والمخطَّطات المرجعية التي تُعيِّن ما هو مشروع سياسيًّا من قضايا ووسائل. ويُمكِن أن نلمس هذا التغيير في القبول المتأني لذخائر الفعل الجمعي التي كانت مُستهجَنةً يومًا ما ويُنظَر إليها باعتبارها مجرد مشكلات تُواجه النظام العام (ديلا بورتا ١٩٩٨ب).

تُشكل الديمقراطية المباشرة في كثير من البلدان قناة وصول مُكمِّلة لتلك القنوات المتاحة داخل الديمقراطيات التمثيلية. ففيما يتعلَّق بقضايا مثل الطلاق أو الإجهاض أو التمييز الجنساني، على سبيل المثال، استطاعت الحركة النسائية في كثير من الحالات أن تَجتذِب دعم الجماهير بصورة مباشِرة إما باستخدام تشريعات مُستحدَثة شعبيًّا، أو بعقد استفتاءات لإلغاء قوانين قائمة، أو تنفيذ مُعاهَدات متعدِّدة الجنسيات. وقد اكتسبت الاستفتاءات أهمية مُتزايدة كأداء في يد المواطنين العاديِّين للتعبير المباشر عن آرائهم، لا سيما فيما يخصُّ القضايا غير ذات الصلة المباشرة بالانقسامات الاجتماعية التي تشكَّلت الأحزاب السياسية على أساسها؛ إذ تُقدِّم الحملات الاستفتائية للحركات الاجتماعية فرصة للترويج لما يُهمها من قضايا، كما تمنحُها أملًا في قُدرتها على تخطِّي العقبة التي تُمثِّلها الحكومات المعادية لمطالبها.

علاوةً على ما سبق، تُسهم الحركات الاجتماعية في خلق مجالات جديدة لتبلور السياسة العامة، وتتفاوت هذه المجالات الجديدة لصنع القرار من حيث انفتاحها، ومدَّتها، وحجم السلطة. غير أنها تَشترك في أمرَين؛ أنَّها لا تستمدُّ شرعيتَها من مبادئ الديمقراطية التمثيلية، وأن لها حضورًا أقوى مقارنةً بالجوانب المؤسَّسية لصُنع القرار. من المُمكن تحديد عدَّة مجالات جديدة لصناعة القرارات.

كثيرًا ما تتشكَّل لجان خبراء لتناول قضايا أثارتها الاحتِجاجات، وقد يُتاح لمُمثِّلي الحركات الاجتماعية المشاركة فيها، ربما كمُراقبين. وتعدُّ «لجنة الرئيس المعنية باضطرابات الحرم الجامعي»، التي ترأَّسها ويليام سكرانتون في الولايات المتَّحدة الأمريكية (عام ١٩٧٠)، مثالًا لتلك اللِّجان. ثمة نماذج أخرى لتلك اللجان، كتلك التي قادَها لورد سكارمان بشأن أعمال الشغَب في المملكة المتَّحدة خلال ثمانينيات القرن الماضي، ولجنة التحقيق التي انعقَدَت بشأن «الاحتجاجات الشبابية في الدولة الديمقراطية» في ألمانيا (فيليمس وآخرون ١٩٩٣). كذلك عُقِدَت عقب أحداث سياتل لجان مكوَّنة من خبراء مُستقلِّين بُغية دراسة الآثار الاجتماعية للعولَمة (كاللجنة البرلمانية في ألمانيا)، فضلًا عن دراسة سلوك أفراد الشرطة أثناء الفعاليات الاحتِجاجية المتعدِّدة الجنسيات (انظر لجنة مجلس مدينة سياتل بشأن أحداث سياتل). من الملاحَظ أن ثمَّة عاملًا مُشتركًا بين جميع هذه اللجان، ألا وهو إقرارها بأن ما تَتناوله من مشكلات استِثنائي على نحو ما ويَستلزِم حلولًا استثنائية. ورغم أن مثل هذه اللجان عادةً ما تكون محدودة الولاية وذات سُلطة استشارية فقط، فإنها تخوض حوارًا مع الرأي العام عبر الاتصالات الصحفية ونشْر التقارير.

إلى جانب لجان التحقيق، تُتاح قنوات وصول أخرى من خلال إنشاء مؤسَّسات استِشارية تُعنى بتناول القضايا المتعلِّقة بمطالب الحركات الاجتماعية. فثمَّة وزارات رسمية وإدارات حكومية محلية وغيرها من الأجهزة المشابهة المعنية بالقضايا النسائية أو البيئية في كثير من البلدان حاليًّا، بل وفي المنظمات الحكومية الدولية أيضًا. تتميز مثل هذه المؤسسات، التي تقام غالبًا بصفة دائمة، بامتلاكها لميزانياتها الخاصة والصلاحية لتطبيق السياسات. وقد تأسست بعض الأجهزة الإدارية التنظيمية تحت ضَغطِ عمليات التعبئة التي قادَتْها الحركات، وتَعتبِر ناشطي الحركات حلفاء مُحتمَلين (أمينتا ١٩٩٨)؛ بل إن أجهزةً عامَّةً محدَّدة قد وقع اختيارها على بعض ناشطي الحركات ليكونوا ضمن طاقم موظفيها (أو العكس). تنشأ داخل الهيئات التنظيمية المُقامة لتنفيذ أهداف يدعمها ناشطو الحركات أيضًا فرص جديدة لمُمارسة «التعاون التصادمي» (جوني وباسي ١٩٩٨: ٨٥). كما يتوسَّط الإداريون العاملون في تلك المؤسسات العامة لتنفيذ مطالب محدَّدة للحركات الاجتماعية؛ وذلك من خلال القنوات الرسمية وغير الرسمية، وكثيرًا ما يتحالَفُون مع مُمثِّلي الحركات في سبيل زيادة حجم الموارد العامة المُتاحة في المجالات التي يُشرِفون عليها. يَميل هؤلاء الإداريون إلى الاحتفاظ بعلاقات كثيرة بمُمثلي الحركات الاجتماعية المنخرطة في مجالاتهم، مع اضطلاع تنظيمات الحركات بدور استشاري في كثير من الحالات، وقد تَجمعهم أحيانًا مصالح مشتركة. يُمكن أن يتَّخذ هذا التعاون أشكالًا شتى: بدءًا من التشاور، مرورًا بالإشراك في اللجان، وانتهاءً بتفويض الصلاحيات (المصدر السابق: ٨٦).

تمكَّنت بعض المنظَّمات الحكومية الدولية، بفضل التفاوض غير الرسمي، من استيعاب روابط من الحركات الاجتماعية التي تقبل العمل عبر قنوات سرِّية، ومن ثم مُنِحَت المنظَّمات غير الحكومية في الحوكمة العالَمية وضع الفاعلين، المهمِّين أحيانًا، المعترف بهم كمُشاركين في وضع المعايير الدولية (كتلك المعنية بحقوق الإنسان) وفي تنفيذها (باجنوكو ١٩٩٦: ١٤). «تتغير المؤسسات الدولية العامة استجابةً لضغوط من الحركات الاجتماعية، والمنظَّمات غير الحكومية، والأطراف الفاعلة في ميدان الأعمال التجارية، غير أنَّ هذا التغيُّر يتفاوت فيما بين المؤسسات، اعتمادًا على ثقافة المؤسسة، وبِنيتها، والدور الذي يلعبه الرؤساء التنفيذيون ومدى تأثُّرها بضغط المجتمع المدني» (أوبراين وجوتس وشولتِ وويليامز ٢٠٠٠: ٦). وقد شهدَت منظَّمة الأمم المتحدة منذ عام ١٩٤٨ تدشين المؤتمر غير الحكومي للمُنظَّمات غير الحكومية ذات الوضع الاستشاري، ولم يَحلَّ عقد التسعينيات حتى بلَغَت عضويته ١٥٠٠ عضو (روشت ١٩٩٦: ٣٣). وفي الاتحاد الأوروبي، عقَد البرلمان، بصورة خاصة، إلى جانب أجهزة أخرى، عمليات غير رسمية لتبادُل المعلومات مع أنماط شتى من الجمعيات (انظر مثلًا ماركس وماكادم ١٩٩٩؛ ميزي وريتشاردسون ١٩٩٣؛ ديلا بورتا ٢٠٠٤ب؛ روتسا ٢٠٠٤؛ لاهوزين ٢٠٠٤)، كما اعتُرِف بالحركات الاجتماعية فيما يخصُّ إسهاماتها الإجرائية في البنك الدولي، مع توجيه مزيد من التركيز إلى المشاركة واستقطاب بعض الكوادر ذات النزعة التقدمية (شيريبوجا ٢٠٠١: ٨١). وعلاوةً على نَيلها قدرًا معينًا من الاعتراف المؤسسي، تلقَّت المنظمات غير الحكومية المتخصصة في المساعدة الإنمائية تمويلًا لما قدمته من برامج إنمائية، أو لمشاركتها في مشروعات طرحتها بالفعل حكومات وطنية أو دولية (أوبراين وجوتس وشولتِ وويليامز ٢٠٠٠: ١٢٠)، كما أن كثيرًا منها مشارك في إدارة الموارد المالية المخصَّصة للحالات الطارئة والمساعدات الإنسانية، وتُشكِّل حاليًّا أكثر من نصف مشروعات البنك الدولي (بريكر وكوستيلو وسميث ٢٠٠٠: ١١٤). فضلًا عن كل هذه الإسهامات، شاركت الحركات الاجتماعية في بناء المؤسسات على الصعيد الدولي (لا سيما المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان وحماية البيئة)، مُستغلةً «قوتها الناعمة» المتمثِّلة في المعرفة والمعلومات (بوردو ٢٠٠٠؛ سميث ٢٠٠٤ب: ٣١٧).

يحتفظ ناشطو الحركات الاجتماعية بوجه خاص بصلات مباشرة بصنَّاع القرار، ويشاركون في المجتمعات المعرفية المؤلَّفة من مُمثلي حكومات وأحزاب ومجموعات مصالح مختلفة الأنماط والقناعات. فقد لجأت المنظَّمات غير الحكومية الناقدة للعولَمة الليبرالية الجديدة، على وجه الخصوص، إلى الضغط على كلا المستويَين، الوطني والدولي، مع تنمية خبرات محدَّدة. وبدءًا بجماعات حقوق الإنسان وانتهاءً بالمدافعين عن البيئة، حظيَت المجتمعات المعرفية — المؤلَّفة من ناشطين وبيروقراطيِّين مُنتمين إلى منظمات دولية، بالإضافة إلى سياسيين من بلدان كثيرة — بمكاسب معتبرة في عدد من المَيادين؛ مثل إزالة النفايات المشعَّة، وإنشاء محكمة دولية للنظر في انتهاكات حقوق الإنسان، وحظر الألغام المضادة للأفراد (كاجرام ورايكر وسيكينك ٢٠٠٢؛ كلوتس ١٩٩٥؛ ريس وسيكينك ١٩٩٩؛ توماس ٢٠٠١). لم تَكتفِ بعض المنظمات غير الحكومية بمضاعَفة حجمها، بل مضت أيضًا في تعزيز تأثيرها على مختلف مراحل عملية وضع السياسات دوليًّا (سيكينك وسميث ٢٠٠٢؛ بولي ١٩٩٩)، مستعينةً بأصول تشمل مصداقيتها المتنامية لدى الرأي العام وما يترتب عليها من توافر التمويل الخاص،٢ إلى جانب ترسُّخها على المستوى المحلي. تبدو الكثير من المنظمات غير الحكومية كمَصادر ذات موثوقية خاصة؛ نظرًا لما تتمتَّع به من معرفة متخصِّصة وعلاقات مفيدة داخل الوسط الصحفي، كما أنها قادرة على المحافظة على مستوى معقول من النشاط حتى في ظلِّ تراجُع عمليات التعبئة الاحتجاجية، وهو ما يرجع إلى ما يتوفَّر لديها من كوادر مهنية. تحظى بعضُ المنظمات غير الحكومية بميزة أخرى، ألا وهي استقلالها عن الجهات الحكومية وسُمعتها القائمة على العمل الدءوب محليًّا، مما يُمكِّنها من أداء دور حيوي في الوساطة في الصراع بين العرقيات (فريبري وهيتن ١٩٩٨). أخيرًا وليس آخرًا، تُعزِّز المنظمات غير الحكومية التعدُّدية داخل المؤسسات الدولية؛ وذلك بتمثيلها لمجموعات كانت ستظلُّ لولاها محل إقصاء وتهميش (ريدل-ديكسون ١٩٩٥)، وبتسليطها الضوء على المبادرات متعدِّدة الجنسيات، وهو ما يجعل الحوكمة أكثر شفافية (شميت وتيك ١٩٩٧).

والأهم من كل ذلك ما شهده العقدان الأخيران من نشأة ما يُدعى باسم المجالات التداولية، لا سيما على المستوى المحلي. تَستند تلك المجالات إلى مبدأ مشاركة «المواطنين العاديِّين» في مجالات عامة للنقاش، مزوَّدين بالمعلومات والقَواعد التي تمكنهم من التواصُل رفيع المستوى. ثمَّة نماذج عدة لتلك الظاهرة في جميع أنحاء أوروبا؛ هيئات المواطنين المحلَّفين في بريطانيا العُظمى وإسبانيا، وخلايا التخطيط في ألمانيا، والمؤتمر التوافُقي في الدنمارك، ومؤتَمرات المواطنين في فرنسا، إلى جانب أجندة ٢١ وغيرها من مختلف التجارب التي أُجريَت في إطار التخطيط الحضري الاستراتيجي. لو التفَتْنا إلى المستوى فوق الوطني، سنَلحظ أنَّ المنظمات غير الحكومية قد تلقَّت اعترافًا بكونها شريكًا غير رسمي في التشاور بشأن القرارات الخاصة بالسياسات، وفي المشاركة في تنفيذ تلك السياسات. وتُعدُّ مبادرة «الورقة البيضاء حول الحَوكَمَة الأوروبية» (٢٠٠١) واحدةً من عدة مبادرات تُنادي بمبدأ المشاركة من خلال التشاور المفتوح مع المواطنين وجمعياتهم باعتباره أحد الركائز الأساسية للحَوكَمَة داخل الاتحاد الأوروبي. وثمَّة فاعلون على صِلَة بالحركات الاجتماعية لعبوا دورًا في نشأة بعضٍ من تلك التجارب، كمُشاركين محوريِّين تارةً وكمُعارضين خارجيِّين تارةً أخرى.

فضلًا عن إعداد الموازَنات التشارُكية، طُرِحَت تجارب مُتنوعة كجزء من نموذج الديمقراطية التشاركية التمكيني القائم على المشاركة، ونوعية الخطاب، وتمكين المُواطِنين (فانج ورايت ٢٠٠١)، من بينها مجالس حوكمة الأحياء الفقيرة وسط مدينة شيكاجو التي تَتناول مسائل حفظ الأمن وقضايا المدراس العامة في المدينة، والجهود المُشتركة التي يبذلها العمال والإدارة من أجل إدارة أسواق العمالة الصناعية، ووضع الأطراف المعنية في الولايات المتحدة الأمريكية لترتيبات حوكمة النظام البيئي في إطار قانون الأنواع المهدَّدة بالانقراض، وحوكمة القرى في ولاية البنغال الغربية الهندية. ينصبُّ تركيز تلك التجارب على حل مشكلات محدَّدة من خلال إشراك المواطنين العاديِّين المتضرِّرين، وتتضمَّن إنشاء مؤسسات جديدة وتفويض سلطة اتخاذ القرارات، لكنها تتضمَّن أيضًا التنسيق مع المؤسَّسات التمثيلية. من بين أهداف هذه المؤسَّسات الحل الفعال للمشكلات وإيجاد حلول منصفة، إلى جانب تحقيق المشاركة المستدامة التي تتَّسم بالاتساع والعمق. وقد نُسب إلى الموازنات التشاركية، بوجه خاص، الفضل في خلق سياق إيجابي للتعاون وتعزيز قدر أكبر من النشاط، وربط الجمعيات، والعمل من منظور شامل على مستوى المدن (بايوكي ٢٠٠٢أ).

لكن ما الذي تُقدمه على وجه التحديد تلك المجالات الجديدة للحركات الاجتماعية؟ يرى بعض الباحثين أن وجود قنوات وصول كتلك يُشكِّل مخاطر تفوق مزاياه؛ فالحركات، بادئ ذي بدء، تُحمَل على قبول انتقال الصراع من الشوارع إلى ميادين أقل ملاءمةً، حيث تكتسب الموارد التي تَنقصُها، كالخبرة الفنية أو العِلمية، أهمية خاصة. علاوة على ذلك، فإن تنظيم لجنة ما قد لا يعدو كونه لفتة رمزية نُخبوية بالنسبة إلى جمهور الناخبين ووسيلة لإرجاء قرار ما إلى مرحلة أكثر استقرارًا (ليبسكي ١٩٦٥). بل إن وضع إجراءات جديدة وإيجاد مجالات مؤسسية جديدة يُمكن أن يُنظر إليه في الواقع باعتباره أداةً للاستحواذ على نخب الحركات وتسريح قواعدها الشعبية (إن كانوا من السذاجة بحيث يعجزون عن ملاحَظة تلك الخدعة) (بيفن وكلاورد ١٩٧٧: ٥٣). ويتَّضح التشكُّك في حقيقة استقلال المُنظَّمات غير الحكومية من خلال انتشار تسميات مثل المنظَّمات غير الحكومية التي تُنظمها الحكومات، والمنظَّمات غير الحكومية التي تُنظمها المؤسسات التجارية، والمنظَّمات غير الحكومية التي تُديرها/تنشئها الحكومات. تقع أغلب المنظمات غير الحكومية في الشطر الشمالي من العالم (حيث تقع المقرَّات الرئيسية لثُلثَي المنظَّمات غير الحكومية المسجلة لدى الأمم المتحدة في أوروبا وأمريكا الشمالية) (سيكينك ٢٠٠٢)؛ وتتبنَّى الجمعيات الكبرى، بوجه خاص، تنظيمًا هرميًّا وشفافية محدودة في أساليب عملها (شميت وتيك ١٩٩٧؛ سيكينك ٢٠٠٢). بل إنَّ المنظَّمات الحكومية الدولية قد آثرت التعامل مع المنظَّمات غير الحكومية الأكبر حجمًا والتي تَحوي قاعدة عريضة من القيادات وأقل خضوعًا لرقابة قاعدة مؤيديها (تشاندهوك ٢٠٠٢؛ جيرودون ٢٠٠٢). في حين كانت بعض المنظَّمات غير الحكومية هي أول من بادر بالتعبئة ضد المؤسسات المالية الدولية (لا سيما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالَمية)، فقد نشأت الاحتِجاجات وتنامَت نتيجةً للتشكُّك الذي أحاط بفاعلية جهودها في الضغط، والذي اقترن بتصوُّر مفادُه أن المنهج الإصلاحي الذي تبنَّتْه المنظَّمات غير الحكومية الكُبرى قد أثبت فشله (براند وفيسن ٢٠٠٢). علاوةً على ذلك، تُواجه المنظمات غير الحكومية، في أوقات خفض الإنفاق العام، خطر استغلالها لتحلَّ محلَّ خدمات عامة في ظل تزايُد قصورها (تشاندهوك ٢٠٠٢: ٤٣)، بل وقد تبسط الحكومات سيطرتها ببراعة على بعض الخبراء بهدف الاستعانة بهم فيما بعد في إضفاء الشرعية على الحلول الملائمة لتلك الحكومات وتمريرها باعتبارها «لائقة علميًّا». بالنسبة إلى استطلاعات الرأي، فيعيبها تناولها لقضايا محدودة وتعبئتها للرأي العام لفترات زمنية قصيرة للغاية، كما أنها تَنطوي على خطر اتخاذ القرارات من قبل «الأغلبية الصامتة» غير المهتمَّة (وغير الملمَّة) بالقضايا والمشكلات التي تُثيرها الحركات الاجتماعية، ومن ثم يسهل وقوعها تحت تأثير من يَمتلكون أغلب الموارد اللازمة للتلاعُب بالتوافُق. خلصت بعض الدراسات إلى أن مشاركة المواطنين في وضع السياسات من شأنها أن تزيد الكفاءة، غير أن آخَرين قد أعربوا عن شكوكهم حيال قُدرة تلك الآلية على حلِّ مُشكلات المُستفيدين بلا مقابل وإصدار أفضل القرارات أو تيسير تحقيق الصالح العام (رين وآخرون ١٩٩٦؛ بيتس ١٩٩٧؛ هاير وكيسلرينج ١٩٩٩؛ جرانت وبيرل ونوبفيل ١٩٩٩).

إضافة إلى ذلك، لا يخلو تنفيذ النماذج التشاركية البديلة للديمقراطية من الصعوبات؛ فمجالات صنع القرار الجديدة مُتفاوتة في مستويات المشاركة الفعالة والتعدُّدية والفاعلية وأبعد ما تكون عن المستوى المرجو. فيما يخصُّ تعدُّدية المجالات التشاركية الجديدة، نلحظ أن المناطق والمجموعات الأفقر عرضة للإقصاء من جانب مؤسَّسات صنع السياسات الجديدة نظرًا للتوزيع غير المُتكافئ للموارد اللازمة للتعبئة الجمعية بين المجموعات الاجتماعية، كما أن القُدرة الفعلية لتلك المؤسسات الجديدة على صنع القرار غالبًا ما تكون مُتدنية إلى أقصى حد؛ فقنوات المشاركة الجديدة عادةً ما كانت قاصرة، لأسباب شتى، على «استشارة» المواطنين. وهكذا ففي حين تُتيح المشاركة المتنامية مزيدًا من الشفافية — والمساءلة — في وضع السياسات، يبدو أن عملية صنع القرار الموازية (والأكثر فاعلية) تتخطى المجالات العامة وتتجاهلها.

على الجانب الآخر، كثيرًا ما نجحت الحركات الاجتماعية في الاستفادة (جزئيًّا عن طريق التحالفات مع الخبراء وصناع السياسات) من انتقال عملية صنع القرار إلى اللجان المتخصِّصة، الأكثر انفتاحًا بلا شك على الرقابة العامة مقارنةً بالمجالات المُعتادة لتنفيذ السياسات. كذلك أسهم نشاط هذه اللجان في إدراج قضايا جديدة على الأجندة العامة: «كانت اللجان نفسها جزءًا من العملية التي حُدِّدَت في إطارها المشكلات ووُضِعَت الأجندة … إن إيجاد هذه اللجان في ذاته دليل على أن أداء المنظومة السياسية المعتاد في اتخاذ القرارات دون المستوى، ومِن ثم كان من الضروري اللجوء إلى الخبراء المُنتمين إلى المؤسسات العلمية» (فيليمس وآخرون ١٩٩٣). وفيما يخصُّ الاستفتاءات، فبالرغم من أن الحركات الاجتماعية لم تكن دائمًا طرفًا رابحًا فيها، فإن هذه الاستفتاءات قد أسهمت في ضمِّ قضايا جديدة إلى الأجندة العامة وخلق شعور عام بالتعاطُف مع الأطراف الفاعلة الناشئة. يتَّضح إذن من هذا النقاش أن القدرة على تغيير قواعد اللعبة السياسية تعد شرطًا مسبقًا للتأثير على السياسة العامة؛ بعبارة أخرى، الانتصارات الإجرائية تأتي سابقة (ولو جزئيًّا على الأقل) على النجاح على مستوى أكثر محورية وتُعدُّ شرطًا لا غِنى عنه لإحرازه (روتشن ومازمينين ١٩٩٣). فضلًا عن ذلك، فإن توسيع نطاق صنع السياسات لِيَستوعِب مشاركة المواطنين — على هيئة مراجعة وتدقيق أو هيئات المواطنين المحلَّفين … إلخ — كثيرًا ما ساعد في حل المشكلات الناتجة عن المعارضة المحلية للاستخدامات غير المرغوب فيها محليًّا للأراضي (بوبيو وزيبتيلا ١٩٩٩؛ سينتوميه ٢٠٠٥). على نحو ما ذكرنا آنفًا، يبدو أن التركيز التشاركي على الحوكَمَة الرشيدة والثِّقَة في التعليم العام (بايوكي ٢٠٠١) قد أسفرا عن نتائج إيجابية من حيث تمكين المواطنين وأيضًا تحسين جودة حياتهم.

(٤) الحركات الاجتماعية والنظرية الديمقراطية

بخلاف النتائج الُمحرَزة بشأن مطالب محدَّدة، ينبغي في هذا السياق أن نضيف أن انتشار المجالات الجديدة للسياسات قد أسهم في تحقيق ما اعتُبِر واحدًا من الأهداف الرئيسية، إن لم يكن أهمها، لكثير من الحركات الاجتماعية (إن لم يكن كلها: انظر ما يلي)؛ ألا وهو: بلوَرة مفهوم جديد للديمقراطية. هناك مَن زعم، في الواقع، أن الحركات الاجتماعية لا تَقتصِر على إنشاء قنواتِ وصولٍ خاصة لنفسها، بل تُوجِّه، على نحو صريح إلى حدٍّ ما، نقدًا جوهريًّا لممارسات السياسة التقليدية، محوِّلةً بذلك جهودها من السياسة ذاتها إلى ما بعد السياسة (أوفِ ١٩٨٥). وانطلاقًا من هذه الرؤية، تُشدِّد الحركات الاجتماعية على مشروعية البدائل (إن لم يكن أفضليتها) المطروحة للديمقراطية البرلمانية، منتقدةً كلًّا من الديمقراطية الليبرالية و«الديمقراطية المنظمة» المرتبطتين بالأحزاب السياسية: «تستدعي محاور نشاط الحركات الاجتماعية اليسارية والتحرُّرية وكفاحها، إذن، أحد العناصر القديمة في النظرية الديمقراطية الداعية إلى تنظيم عمليةِ صنعِ القرار الجمعي، الذي يُشار إليه بطرقٍ شتَّى باسم الديمقراطية الكلاسيكية، أو الشعبوية، أو الجماعاتية، أو القومية، أو الشعبية، أو المباشرة في مقابل ممارسة ديمقراطية مُنتشرة في الديمقراطيات المعاصرة تُوصَف بأنها ديمقراطية واقعية، أو ليبرالية، أو نخبوية، أو جمهورية، أو تمثيلية» (كيتشيلت ١٩٩٣: ١٥).

تؤكد الحركات الاجتماعية، استنادًا إلى هذا التفسير، على أن منظومة الديمقراطية المباشرة هي أقرب إلى مصالح الجماهير من منظومة الديمقراطية الليبرالية القائمة على تفويض ممثِّلين أو نواب لا يمكن السيطرة عليهم إلا لحظة الانتخاب، ويتمتَّعون بسلطة كاملة للبتِّ بين اختيارٍ وآخر. فضلًا عن ذلك، فإن الحركات الاجتماعية، باعتبارها رعاة لمفهومٍ جَماعاتيٍّ جديدٍ للديمقراطية، تَنتقد نموذجَ الديمقراطية «المنظمة» القائم على وساطة الأحزاب السياسية الجماهيرية وتَنظيم بِنْية المصالح «القوية»، ساعيةً إلى نقل عملية صنع القرار إلى مواقعَ أكثرَ شفافيةً وقابليةً للرقابة؛ ففي مفهوم الحركات الاجتماعية عن الديمقراطية، يتعيَّن على أفراد الشعب أنفسهم (المعنِيِّين بطبيعة الحال بالسياسة) أن يَضطَلِعوا بالمسئولية المباشرة عن التدخُّل في عملية صنع القرار السياسي.

لا شكَّ أن فكرة الديمقراطية التي بلورَتْها الحركات الاجتماعي منذ عقد الستينيات تأسَّست على ركائزَ تَختلِف، جزئيًّا على الأقل، عن الديمقراطية التمثيلية. فوفقًا لنموذج الديمقراطية التمثيلية، يُقدِم المواطنون على انتخاب ممثِّليهم وممارسة الرقابة عبر تهديدهم بعدم انتخابهم مرةً أخرى في الانتخابات اللاحقة، بينما الديمقراطية المباشرة التي تُؤيِّدها الحركاتُ الاجتماعية ترفض مبدأ التفويض؛ إذ تراه أداةً تؤسِّس لسلطة الأقلية، مؤكدةً على ضرورة إخضاع مُمثِّلي الشعب لمبدأ العزل طوال الوقت. إلى جانب ذلك، يتَّسم التفويض في الديمقراطيات التمثيلية بالشمول؛ حيث يبتُّ المُمثلون في طائفة كاملة من القضايا نيابةً عن المُواطنين؛ أما في منظومة الديمقراطية المباشِرة، في المقابل، تُفَوَّض السلطة في كل قضية على حِدَة. وفي حين تعتزم الديمقراطية التمثيلية خلق كيان متخصِّص من المُمثِّلين، تُؤثِر الديمقراطيةُ المباشِرةُ التبديلَ المُستمِر للأشخاص. تقوم الديمقراطية التمثيلية على المساواة الرسمية (شخص واحد، صوت واحد)، لكن الديمقراطية المباشرة تشارُكية، ولا يُعترَف بالحق في اتخاذ القرار إلا لمَن يُظهِرون التزامًا حيال القضية العامة. وأخيرًا، غالبًا ما تتَّصف الديمقراطية التمثيلية بالبيروقراطية، مع تركز صنع القرار في قمة المنظومة؛ أما الديمقراطية المباشرة فتعتنق اللامركزية وتُشدِّد على ضرورة اتخاذ القرارات على مَقْربةٍ قدر الإمكان من حياة المواطنين العاديِّين.

تتَّخذ حركةُ العدالة العالَمية موقفًا ناقدًا من أداء الديمقراطيات المتقدِّمة، متناوِلةً على وجه الخصوص أداءَ الأحزاب السياسية الذي يَنتهج أسلوبَ حكم الأقلية، والتبعات الإقصائية لحُكْم الأغلبية، واحتكار دوائر التواصُل العامة، وإقصاء المجموعات والقضايا الهامشية من مُمارستهم للديمقراطية. كذلك تنتقد ما تتَّسم به عملياتُ صنع القرار العام من ضعف الشفافية والاختزال المُفرط للرسائل السياسية من جانب أشكال الإعلام الجماهيري. بالرغم من كل هذه الانتقادات، لا تستهدف تنظيماتُ الحركات عادةً إلغاءَ الأحزاب السياسية القائمة، ولا تسعى إلى إنشاء أحزاب جديدة، إنما تُطالب بدمقرطة ما هو قائمٌ بالفعل من سياسةٍ ومؤسساتٍ وأحزابٍ ونقاباتٍ عمالية، وتَقترِح إنشاءَ مجالات عامة بديلة ومُنفتحة؛ حيث يُمكن تشكيل مواقف مختلفة وتحليلها ومقارنتها على أساس أخلاقي مُعلَن (ومثالُ ذلك العدالةُ الاجتماعية في حالة الموازَنة التشاركية في بورتو أليجري). ويُعَدُّ خلقُ سباق إعلامي فعَّال وتعدُّدي واحدًا من أدنى المتطلبات لبلوَرة هذا النوع من المجالات العامة. وهكذا تُعَدُّ الحركات الاجتماعية، في هذا الإطار، أيضًا استجابةً لمشكلاتٍ برزَتْ في منظومةِ تمثيلِ المصالح، «تعويضًا» عن ميل الأحزاب السياسية إلى تأييد المصالح التي تُجدِي نفعًا من ناحية الانتخابات، وميل مجموعات المصالح إلى تأييد الطبقات الاجتماعية الأوفر حظًّا من ناحية الموارد مع تهميش باقي الطبقات (انظر الفصل الثامن من هذا الكتاب).

إن مبدأ الديمقراطية التشاركية التمكينية، المشار إليه سلفًا، يربط المفهوم التقليدي للديمقراطية التشاركية والمباشرة باهتمامٍ ناشئ لدى المُنظِّرين السياسيين بالديمقراطية التداولية، لا سيما جودة التواصل.٣ انبثقت النظريات التداولية من مخاوفَ بشأن أداء المؤسسات التمثيلية؛ غير أن ثمَّة خلافًا بين الباحثين المُتخصِّصين في الديمقراطية التداولية بشأن محور النقاش التداولي؛ إذ أولى البعض اهتمامًا بنشأة المؤسسات الليبرالية، بينما عُنِي البعض الآخر بالمجالات العامة البديلة المُتحرِّرة من تدخُّل الدولة (ديلا بورتا ٢٠٠٥ب). يُمثِّل تحليلُ جودة التواصُل داخل منظومة الديمقراطية محورَ أبحاث يورجين هابرماس (١٩٩٦)، الذي يفترض وجودَ عمليةٍ مزدوَجةِ المسار؛ حيث تجري فعاليات التداول «غير الرسمي» خارجَ إطار المؤسسات، ثم ما تلبث أن تُؤثِّر على التداول المؤسسي مع تحوُّل تلك المداولات إلى رأي عام. لكنَّ ثمَّة باحثين آخَرين يَرون أن المداولات تجري داخل مجموعات تطوُّعية بوجه خاص (كوين ١٩٨٩). ويُؤيد الرأيَ الأخير بقوةٍ جون درايزيك (٢٠٠٠)، الخبيرُ في سياسة الحركات، الذي ذهب إلى أنَّ الحركات الاجتماعية هي الأقدر على بناء مساحات تداولية قادرة على مراقبة المؤسسات العامة بعينٍ ناقدة، كما رأت جين مانزبريدج (١٩٩٦) ضرورةَ إجراءِ التداول في عددٍ من المَواقع المُنعزلة المُتحرِّرة من السلطة المؤسسية، بما فيها السلطة المؤسسية للحركات الاجتماعية ذاتها. إذا كانت الحركات الاجتماعية تُغذِّي مواقفَ ملتزمةً ناقدة حيالَ المؤسسات العامة، فإن الديمقراطية التداولية تَقتضي قدرةَ المواطنين «المدمجين» داخل شبكات الروابط قادرين على بناء مهارات ديمقراطية بين أنصارهم (أوفِ ١٩٩٧: ١٠٢-١٠٣). وقد نجحت الممارسات التداولية بالفعل في اجتذاب قدرٍ ما من الاهتمام الصريح داخل الحركات المنادية بالعولمة انطلاقًا من القاعدة، وهو ما أثبتَتْه تجربة بورتو أليجري.

في محاولة لإجمال تعريفات متنوعة، غير مُترابطة أحيانًا، نرى أن الديمقراطية التشاركية تُمَكَّن حين تصير عملياتُ التواصُل القائمة على المنطق (وهو قوة الحجة الوجيهة) قادرةً، في ظلِّ تحقُّقِ المساواة والإدماج والشفافية، على تغيير التفضيلات الفردية والوصول إلى قراراتٍ موجَّهة نحو الصالح العام (ديلا بورتا ٢٠٠٥د). من الجدير بالملاحظة أن بعض أبعاد هذا التعريف (كالاستيعاب، والمساواة، والشفافية) إنما تُحاكي تلك الأبعاد التي تتضمَّنها النماذج التشاركية التي أشرنا إلى أنها مُميزة للحركات الاجتماعية الجديدة، في حين تبرز أبعاد أخرى (على رأسها الاهتمام بجودة التواصُل) كشواغلَ جديدة.

بادئ ذي بدء، وكما جرت تقاليد الحركات، تتميَّز الديمقراطية التشاركية التمكينية بطابعها الاستيعابي؛ فهي تقتضي دمجَ جميع المواطنين المعنيِّين بالقرارات المُزمَع اتخاذها في العملية، وتمكينهم من التعبير عن آرائهم، وهو ما يعني أن العملية التداولية تجري في ظل مناخٍ من تعدُّدية القيم؛ حيث تختلف رُؤى الأفراد بشأن مشكلاتهم المشتركة. لنتَّخذ الموازنة التشاركية نموذجًا، حيث تُعقَد اجتماعاتٌ في جميع الأحياء وتُتاح لجميع المواطنين، ويهدف اختيارُ زمن ومكان انعقاد الاجتماعات إلى تيسيرِ المشاركة على جميع المعنيِّين (حتى إنَّ دُورَ الحضانة تُنظَّم بما يُمكِّن أولياءَ الأمور من المشاركة).

علاوة على ذلك، يُعتبَر جميع المشاركين سواسية؛ فالتداول يَجري بين مواطنين أحرار ومُتساوين (أو «تداول حرٍّ بين نظراء مُتكافئين» كما ورد في كوين ١٩٨٩: ٢٠). في الواقع «يجب أن يَتمكَّن جميع المواطنين من تنمية تلك القدرات التي تَمنحهم مشاركةً فعالة في المجال العام»، وأن «يُمنَحوا الاحترامَ والتقديرَ الكافيَين، بمجرد وجودهم على الملأ، بحيث يتمكَّنون من التأثير إيجابيًّا في القرارات التي تمسُّهم» (بومان ١٩٩٧: ٥٢٣-٥٢٤). لا بد للتداول من استبعاد السلطة المُستمدَّة من القهر، ومن تفاوت المشاركين في المكانة والأهمية باعتبارهم مُمثلين عن منظمات متفاوتة الحجم أو التأثير. وفي هذا الإطار، تُعارِض الديمقراطيةُ التداولية التدرُّجاتِ الهرميةَ وتُشدِّد على المشاركة المباشِرة لعامة المواطنين. ففي الموازنة التشاركية، تُوضَع قواعد — كتحديد الوقت المخصَّص لكل مُداخَلة أو وجود ميسِّرين — تهدف إلى منح جميع المواطنين فُرصًا متساوية للمشاركة.

إلى جانب ما سبق، يَنسجِم مفهوم الشفافية مع مفهوم الديمقراطية التشاركية المباشرة؛ ففي التعريف الذي صاغَه جوشوا كوين، تُعتبر الديمقراطية التداولية «رابطة تُدار شئونها من خلال التداول «العام» بين أعضائها» (١٩٨٩: ١٧، التأكيد أضافه المؤلفان). يسعى النقاش العام جاهدًا، في إطار نظرية الديمقراطية التداولية، إلى «استبدال لغة المنطق بلغة المصلحة» (إلستر ١٩٩٨: ١١١)؛ فالمرء إذا أراد تبرير موقف ما أمام حشد، فإنه يضطر إلى البحث عن مُبرِّرات لها صِلَة بالقيم والمبادئ المشتركة.

الجديد في مفهوم الديمقراطية التداولية، وفي ممارسات بعض الحركات المعاصرة، هو التأكيد على تكوُّن (وتحوُّل) التفضيلات، مع توجه نحو تعريف الصالح العام. في واقع الأمر، «تتطلب الديمقراطية التداولية تحوُّل التفضيلات التي ينطوي عليها التفاعل» (درايزيك ٢٠٠٠: ٧٩)، وهي «عملية تتغيَّر خلالها التفضيلات المبدئية بُغية أخذ وجهات نظر الآخرين في الاعتبار» (ميلر ١٩٩٣: ٧٥). إذن تَختلِف الديمقراطية التداولية، بهذا المعنى، عن مفاهيم الديمقراطية باعتبارها تجميعًا لتفضيلات (خارجية النشأة). ثمة تأمُّلات أخرى أيضًا بشأن الديمقراطية التشاركية شملت ممارسات توافُقية: يجب أن تكون القرارات قابلة لإقرار المشاركين جميعًا (الإجماع)، خلافًا للديمقراطية القائمة على حكم الأغلبية، حيث تستمدُّ القرارات شرعيتها من عدد الأصوات. تقوم فكرة التداول (أو حتى التواصُل)، في الواقع، على الإيمان بأنني قد أتعلَّم إذا ما أنصتُّ إلى غيري، دون حاجة إلى التخلِّي عن وجهة نظري (يانج ١٩٩٦).

غير أن التوافُق لا يتسنَّى تحقيقه إلا في وجود قيم مشتركة والتزام مشترك بخَلقِ منفعَة عامة (مثل العدالة الاجتماعية التي تُعدُّ قيمة مشتركة في المخطَّط التشاركي). بالنظر إلى نموذج تداولي للديمقراطية، سنجد أن «النقاش السياسي يدور حول مفاهيم بديلة للمَنفعة العامة»، وفوق ذلك كله، «يستند إلى الهُويات ومصالح المواطنين بطرق تسهم في البناء العام للمنفعة العامة» (كوين ١٩٨٩: ١٨-١٩). فالسياق التداولي يسهل البحث عن غاية أو منفعة مشتركة (إلستر ١٩٩٨).

تُؤكِّد الديمقراطية التداولية، في المقام الأول، على مفهوم المَنطق؛ فالناس يَقتنعون بقوة الحجة الأكثر وجاهة. يقوم التداول، بوجه خاص، على تدفُّقات أفقية من التواصل، وعدة مُنتجين للمحتوى، وفُرَص تفاعل واسعة، ومواجهات على أساس من الجدل العقلاني، وتوجُّه نحو الإنصات المتبادَل (هابرماس ١٩٨١، ١٩٩٦)، وهو ما يجعل الديمقراطية التداولية، في هذا الإطار، خطابية. غير أن يانج ترى أن الخطاب لا يستبعد الاحتجاج: «إن عمليات المشاركة الديمقراطية المُفعَمة التزامًا ومسئوليَّةً تتضمن تظاهرات شوارع واعتصامات وأعمال موسيقية وكاريكاتورية بقدر ما تشمل خطبًا برلمانية ورسائل إلى المحرِّرين» (٢٠٠٣: ١١٩).

طُرِحَت الديمقراطية التشاركية التمكينية، في الحقيقة، للنقاش باعتبارها بديلًا لفرض القرارات العامة من القمة على القاعدة، وهي الظاهِرة التي يَتزايد النظر إليها كآلية فاقدة للشرعية لم يَعُد من السهل إدارتها في ضوء التعقُّد المتنامي للمشكلات وتزايد قدرة الفاعلين غير المؤسسيين على التعبير عن آرائهم وإيصالها إلى المسئولين. بل إن العمليات التداولية يَنبغي أن تسمح بالحصول على نوعية أفضل من المعلومات وإفراز قرارات أكثر كفاءة، هذا إلى جانب تعزيز المشاركة والثِّقة في المؤسسات، والتي يتزايد عجز النماذج التمثيلية عن توفيرهما. وقد أبرز الباحِثون بالفعل «تأثيرًا أخلاقيًّا إصلاحيًّا يحدثه النقاش العام» (ميلر ١٩٩٣: ٨٣)؛ إذ «يُشجِّع الأفراد ليس فقط على التعبير عن آرائهم السياسية (عبر الدراسات الاستقصائية أو الاستفتاءات)، بل أيضًا تكوين تلك الآراء أيضًا من خلال مناقشات عامة» (المصدر السابق: ٨٩). إن التداول باعتباره نمطًا «محايدًا وعقلانيًّا ومنطقيًّا» من التواصُل يعد بزيادة ثقة المواطنين في المؤسسات السياسية (درايزيك ٢٠٠٠: ٦٤).

حسبما تُوضِّح نماذج بورتو أليجري في المنتديات الاجتماعية العالَمية وإعداد الموازنات التشاركية، تعمد الحركات إلى تجربة النماذج التشاركية والخطابية من الديمقراطية في كلٍّ من عملياتها الداخلية لصنع القرارات وفي تفاعُلاتها مع المؤسسات السياسية على السواء. لقد حاولت الحركات الاجتماعية، داخليًّا، وبدرجات نجاح متفاوتة، وضْع بنية تنظيمية قائمة على المشاركة (بديلًا عن التفويض)، وبناء توافُق الآراء (بديلًا عن تصويت الأغلبية)، والشبكات الأفقية (بديلًا عن التدرُّجات الهرمية المركزية). إن البحث عن نموذج تشاركي لمُمارسة الديمقراطية الداخلية إنما يفترض دورًا أكثر محورية تؤدِّيه «الحركة العالَمية»، التي عبرت بتعبئتها الحدود والقوميات، فيما يتعلق بحوكمة عملية تحرير الأسواق، مع تبنِّي المطالب الداعية إلى «عولَمةٍ انطلاقًا من القاعدة».

تُمثل الديمقراطية الداخلية أيضًا تحديًا بالنسبة إلى الحركات الاجتماعية؛ إذ تطرح المعضلة التي لا تنفكُّ حاضرة بقوة، ألا وهي تحقيق التوازن بين المشاركة والتمثيل، بما يعزز من التزامات الناشطين ويضم أعضاءً جددًا، ويشمل بناء الهوية وتحقيق الفاعلية. تضطر تنظيمات الحركات الاجتماعية، المُفتقِرة عادةً إلى الموارد المادية، إلى الاعتماد على جهد أعضائها التطوعي، وهو ما من شأنه أن يُؤدِّي إلى إيجاد «منطق العضوية». تتجه تلك التنظيمات إلى تبنِّي النماذج التشاركية من أجل تحسين عملية توزيع حوافز الهوية؛ فلو التفَتْنا، بصفة خاصة، إلى الجمعيات فسنجد أنها تُمثِّل الفرصة المثالية لخلق مساحة متاحة للجميع وقائمة (من حيث المبدأ) على المساواة، في حين أن المجموعات «المتجانسة» الصغيرة تُحفِّز نمو التضامُن بين النظراء المتكافئين. بيد أن الأداء العملي لتلك البِنى التنظيمية، كغيرها من أشكال الديمقراطية «التطبيقية»، أبعد ما يكون عن المثالية. فالجمعيات غير ذات التنظيم البِنيوي عادةً ما تخضع لهيمنة الأقليات الصغيرة التي غالبًا ما تستغل مَواطن الضعف في الديمقراطية المباشرة استغلالًا استراتيجيًّا عن طريق التلاعُب الصريح، وتُوزِّع إمكانيات وفرص «الحديث» بأسلوب بعيد كل البُعد عن المساواة، حيث يسيطر على المشهد الأشد التزامًا أو الأفضل تنظيمًا، وتميل روابط التضامن إلى إقصاء الأعضاء الجُدُد. في المقابل، لا تخلو النماذج التوافُقية التي وضِعَت للتصدِّي «لطغيان» الأقليات المنظمة من المشكلات، والتي تتعلَّق في المقام الأول بعمليات اتخاذ القرار المطوَّلة بصورة مُفرطة (و«المُعرْقَلة» أحيانًا).

حين تَخفتُ حدَّة الاحتِجاج (وتتراجع معها الموارد المتاحة للنِّضال)، عادةً ما تصمد تنظيمات الحركات عن طريق إضفاء الطابع المؤسسي على بِنيتها، فتشرع باحثةً عن المال، إما بإنشاء عضوية جماهيرية في جريدة، أو بَيع منتجات لجمهور متعاطف، أو بالبحث عن مصدر للمال العام، لا سيما في اقتصاد القطاع التطوعي؛ ومن ثم عادةً ما تُصبح تنظيمات الحركات — حسبما أشار بحثٌ أُجري حديثًا — أشبه بمجموعات الضغط، فتستعين بموظفين مهنيِّين يتقاضون رواتب وتُمارس نشاطًا تجاريًّا مع توجيه تركيزها إلى تحقيق الفاعلية في السوق، إلى جانب إنشاء جمعيات تطوعية مقدمة للخدمات غالبًا ما تتعاقد معها المؤسسات العامة (ديلا بورتا ٢٠٠٣ب). عادةً ما كانت هذه التغيرات تُفسر بأنها إضفاء للطابع المؤسسي على تنظيمات الحركات، يُصاحبه اعتدال أيديولوجي وهُويات مُتخصِّصة، وتلاشي الاحتجاجات المخلَّة بالنظام. ويتمخَّض هذا التطور عن تأثيرات محورية؛ ففي حين تؤدِّي غلبة السمت البيروقراطي إلى زيادة الكفاءة، إلا إنها تَثني القاعدة عن المشاركة؛ علاوةً على أن تفاعلات تلك التنظيمات مع الدولة والمؤسَّسات العامة من شأنها أن تُثير مسألة «القدرة التمثيلية» لمجموعات الضغط الجديدة من هذه الشاكلة.

أما بالنسبة إلى الرؤية الناقِدة التي تتبنَّاها الحركات الاجتماعية في تناولها للديمقراطية القائمة، فلا يُمكننا القول إن الحركات قد فرغت مِن البحث عن بديل لها؛ إذ لم يُجمِع جميع دارسي تنظيمات الحركات الاجتماعية على نجاحها في تخطِّي مخاطر خلق نماذج لحكم الأقلية والزعامات الكاريزمية، وهي المشكلات ذاتها التي تُمثِّل محور نقدهم للمُمارسات السياسية التقليدية. فرغم تحقيقها أقصى قدر مُمكن من التجاوب، فإن لنموذج الديمقراطية المباشرة مثالبه المُتعلِّقة بالتمثيل والكفاءة (كيتشيلت ١٩٩٣). أما بالنسبة إلى مُشكلات الكفاءة، فمِن شأنها أن تُؤثِّر على نجاح تنظيمات الحركات ذاتها، وأما فيما يخص مشكلات التمثيل، فهي تُؤثِّر على مشروعية الأنماط الجديدة للديمقراطية. ورغم كل ما للديمقراطية التمثيلية من مثالب، فإن امتناع الحركات الاجتماعية عن قبول مبادئها قد يُقوِّض صورتها كأطراف فاعلة ديمقراطية، لا سيما حين تبدأ الحركات في الاضطلاع بوظائف رسمية وشبه رسمية داخل المؤسسات التمثيلية، مُتخذَة هيئة أحزاب أو مجموعات للمَصلحة العامة. يجدر بنا أن نُشير إلى دور المنتديات الاجتماعية، التي تجمع فاعلَين غير متجانسَين، في إيلاء عناية كبرى بجودة التواصُل الداخلي، وإن كان ذلك يؤتي نتائج مُتفاوتة.

على الرغم من تلك المَثالب، يَنبغي أن نعترف بإسهام الحركات الاجتماعية في فتح قنوات جديدة للمُشاركة في المنظومة السياسية، وفي تعْيين، إن لم يكن حل، عدد من مشكلات الديمقراطية التمثيلية. كما أكَّدت أبحاث حديثة، بصورة أعم، الدور الذي يُمكِن أن تَلعبه الحركات الاجتماعية في التعامل مع تحديَين مُرتبط كلٌّ منهما بالآخر يعترضان مسار الحوكمة الديمقراطية. بالنظر إلى جانب المدخلات، تواجه الديمقراطية المعاصرة مشكلةَ تَراجُع المشاركة السياسية، في صورها التقليدية على الأقل، وما يزيد تلك المشكلة سوءًا تدنِّي قدرة الأحزاب السياسية على جسر الهوة بين المجتمع والدولة، في حين أدى إضفاء الطابع التجاري على وسائل الإعلام إلى الحدِّ من قدرتها على أداء دورها كساحة لمناقَشة القرارات العامة. في المقابل، فإن فاعلية الديمقراطيات في تقديم نتائج عادلة وفعَّالة معرضة للخطر، وهو ما يُعزى جزئيًّا إلى تنامي المخاطر في المجتمعات المعقَّدة (والعالمية). تُعدُّ هاتان المشكلتان مرتبطتَين، كما أشرنا سلفًا؛ نظرًا لأن ضعف قدرة الفاعلين المؤسِّسيين على التدخُّل في تكوين الهويات الجمعية من شأنه أن يحدَّ من قدرتهم على تلبية المطالب (التي تزداد تشرذُمًا أكثر فأكثر). ولذلك، وكما أكَّد كلٌّ من فانج ورايت (٢٠٠١)، فإننا في حاجة إلى «استراتيجيات ديمقراطية تحويلية» لمواجَهة القصور المتزايد للديمقراطية الليبرالية عن بلوغ ما تَرمي إليه من إشراك الجمهور سياسيًّا، وتحقيق التوافُق عن طريق الحوار، ووضع سياسات عامة تَستهدف خلق مجتمع يستفيد جميع مواطنيه من ثروات أمتهم.

(٥) الحركات الاجتماعية والدمقرطة

أيُمكن القول، إذن، إن الحركات الاجتماعية قد أسهمت في تطور الديمقراطية؟ يُشدد تشارلز تيلي (٢٠٠٤أ: ١٢٥) على وجود:

تناظُر واسع بين الدمقرطة والحركات الاجتماعية؛ فقد وُلِدَت الحركات الاجتماعية من رحم الدمقرطة الجزئية التي وضعت الرعايا البريطانيِّين ومُستعمري أمريكا الشمالية في مواجهة ضد حكامهم خلال القرن الثامن عشر. وعلى مدار القرن التاسع عشر، كانت الحركات الاجتماعية في عمومها تَزدهر وتَنتشِر حيثما تَتنامى الدمقرطة، وتذوي وتَنحسِر أينما ألجمت الأنظمة السلطوية المد الديمقراطي. استمر هذا النمط خلال القرنَين العشرين والحادي والعشرين: تداخُل هائل بين خريطتي المؤسسات المتكاملة الأركان والحركات الاجتماعية.

إذا كانت الدمقرطة تعزز الديمقراطية عبر توسيع نطاق حقوق المواطنين والمحاسبة العامة للنُّخَب الحاكمة، فإن أغلب الحركات الاجتماعية، ولكن ليس جميعها، تدعم الديمقراطية. إن الحركات الاجتماعية، في الواقع، بدفعها في اتجاه توسيع حق الاقتراع أو الاعتراف بحقوق إنشاء الروابط والانضمام إليها، إنما تُسهم في عملية الدمقرطة: «لعل المكاسب التي تتحقَّق من دمقرطة عمليات الدولة هو أهم الميادين التي يُمكن أن تؤثر فيها الحركات الاجتماعية وتحقِّق أعظم الآثار الشاملة» (أمينتا وكارين ٢٠٠٤: ٢٦٥). لكن لم يكن الأمر دائمًا على هذا المنوال، فبعض الحركات — كالحركات الفاشية والفاشية الجديدة — أنكرت الديمقراطية جملةً وتفصيلًا، بينما تسبَّبت حركات أخرى — كبعض حركات اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية — في تأثير غير مرغوب فيه، تَمثَّل في إنتاج أثر عكسي في الحقوق الديمقراطية (تيلي ٢٠٠٤ب). غالبًا ما انتهى الحال بسياسة الهوية، كتلكَ السياسات المؤجِّجة للصراعات العرقية، إلى إضرام الحروب الدينية وإشعال فتيل العنف العنصري (إيدر ٢٠٠٣).

سلَّط الباحثون الضوء على مفهومَين مُختلفَين للدور الذي تلعبه الحركات الاجتماعية في عملية الدمقرطة (تيلي ١٩٩٣-١٩٩٤: ١). فبحسب «منهج شعبوي في تناول الديمقراطية» يُؤكِّد على المشاركة من القاعدة، «تُسهم الحركات الاجتماعية في خلق مساحة عامة — متمثلةً في سياقات اجتماعية مستقلة عن المؤسسات الحاكمة وعن التنظيمات المكرَّسة للإنتاج أو إعادة الإنتاج؛ حيث يَجري تداول حيوي يتناول الشئون العامة — إلى جانب إسهامها أحيانًا في عمليات انتقال السلطة عبر الدول.» يفترض أن تعمل هذه المساحة العامة وعمليات انتقال السلطة بعد ذلك على تعزيز الديمقراطية، في ظلِّ توافُر بعض الظروف على الأقل. يقابل هذا المنهج «الشعبوي» منهجٌ «نخبوي» يرى وجوب إجراء عملية الدمقرطة من القمة هبوطًا إلى القاعدة، بينما يؤدِّي الإفراط في جهود التعبئة إلى خلق أشكال جديدة من السلطوية؛ إذ تخشى النُّخَب التغيُّرات التي تفوق في كثرتها وسرعتها الحد اللازم.

بوسعنا الاتفاق على أن الحركات الاجتماعية لا تُسهم في عملية الدمقرطة إلا في ظل ظروف معينة؛ فوحدها الحركات التي تجأر مطالبةً بمزيد من المساواة وحماية الأقليات هي التي تدعم النمو الديمقراطي. في الواقع، يمكن للناظر إلى عملية الدمقرطة أن يلحظ أن التعبئة الجمعية كثيرًا ما أوجدت الظروف المواتية لزعزعة استقرار الأنظمة السلطوية، لكنها قد تؤدِّي أيضًا إلى اشتداد حدة القمع أو تهاوي الأنظمة الديمقراطية الهشة، لا سيما حين لا تلتزم الحركات الاجتماعية بالمفاهيم الديمقراطية. ففي حين تسبَّبت الحركات العُمالية والطلابية والعرقية في أزمة لنظام فرانكو الحاكم في إسبانيا خلال عقدَي الستينيات والسبعينيات، أسهمت كلٌّ من حركة العمال وحركة الفلاحين إلى جانب الحركات الفاشية المضادة في إجهاض عملية الدمقرطة في إيطاليا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي (تارو ١٩٩٥).

بيد أن كثيرًا ما أجرت الحركات الاجتماعية حملات تعبئة علنية من أجل الديمقراطية، مكونةً تحالُفات متعدِّدة الجنسيات تهدف إلى إسقاط الأنظمة السلطوية؛ ففي أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، طالبت الحركات الاجتماعية، وإن كان ذلك بأشكال مُختلفة، بالدمقرطة، وهو ما أسفر عن انهيار نهائي للفاشية الجديدة فضلًا عن سقوط الحكومات الاشتراكية السلطوية. ثمَّةَ أبحاث أجريت في مناطق شتى شدَّدت على أن من بين الخطوات الأولى نحو الدمقرطة إنهاء تعبئة المجتمع المدني وإيجاد أطراف فاعلة ذات طابع أكثر مؤسَّسية، وذلك عقب تهيُّؤ الفرص المؤسسية. أما في عمليات الدمقرطة الحديثة، فقد أسهم توافر الموارد المالية العامة والخاصة في القطاع التطوعي في التحول المؤسسي المبكِّر لتنظيمات الحركات (فلام ٢٠٠١). لكن لا يبدو لنا هذا مصيرًا حتميًّا لجميع الحركات خلال مراحل توطيد دعائم الديمقراطية (هيبشر ١٩٩٨). فحضور تجربة التعبئة كتقليد راسخ، علاوةً على وجود حركات مستقلة عن الأحزاب السياسية، من المُمكن أن ييسر الحفاظ على مستوى مرتفع من النشاط الاحتجاجي، وهو ما أوضحَتْه حركة قاطني مدن الصفيح في تشيلي (هيبشر ١٩٩٨)، أو الحركة الحضرية في البرازيل (ساندوفال ١٩٩٨)، أو الحركات البيئية في أوروبا الشرقية (فلام ٢٠٠١).

لقد نجَحَت مساعي الديمقراطية، بالرغم مما تخلَّلَها من انقطاعات وعدم انتظام، في الحد من مَظاهر انعدام المساواة وفي توفير الحماية من التدخُّلات الحكومية التعسُّفية (تيلي ٢٠٠٤أ: ١٢٧). لكن أيسعنا الزعم بأن الحركات الاجتماعية، في خضمِّ كفاحها من أجل الديمقراطية، قد نجحت في إحداث تغيير جذري في توزيع السلطة داخل المجتمعات؟ ثمة الكثير من المؤشِّرات التي من شأنها أن تثنينا عن التمادي في التفاؤل المُفرِط؛ فالاحتجاجات تمضي في دورات، وما تظفر به الحركات من مكاسب في أوج التعبئة قد تتعرَّض لفقدانه مرة أخرى أثناء فترات الكُمون؛ فقد أسهمت الحركة العمالية في خلق الكثير من الحقوق الاجتماعية والسياسية، غير أن ما شهده القرن العشرين في نهايته من تحوُّل ليبرالي جديد قد أثار الشكوك حول دولة الرفاه التي بدَت إنجازًا مؤسسيًّا يعود إلى حقبة السبعينيات. وهكذا نلحظ تصاعُدًا في مظاهر انعدام المساواة من جديد، وبينما يَتزايد تقبُّل الرأي العام للاحتجاج باعتباره «نشاطًا سياسيًّا عاديًّا»، يَتزايد في المقابل وصمه لبعض أنماط سياسة النزاع بعدم التحضُّر إلى جانب تعرُّضها للقمع الأمني.

لكن ذلك لا يَمنعنا من التأكيد، بلهجة أكثر تفاؤلًا، على أن الظرف الذي يُعدُّ عائقًا يحدُّ من إمكانيات الحركات الاجتماعية، فيما يتعلَّق بالفعل الأداتي على الأقل، قيد التغيير؛ ألا وهو: ضعف البِنى التنظيمية. تبدو التعبئة، في واقع الأمر، مَوردًا يتجدَّد بالاستخدام. فقد خلصَت التحليلات المعنية بتطور حركات التحرُّر اليساري إلى تطور مُختلف الحركات في اتجاه مشابه، بدءًا من تشكيل هوية جمعية وانتهاءً باستخدامها في المنظومة السياسية (انظر، مثلًا، ديلا بورتا ١٩٩٦أ). وقد نشأت في غضون تلك العملية تنظيمات جديدة للحركات تمكَّنت أحيانًا من البقاء والصمود وقت تراجع جهود التعبئة. وفي الوقت الذي استغلت فيه مجموعات المصلحة العامة الفرصة التي هيَّأها تشكُّل قنوات وصول جديدة، استطاعت مراكز صغيرة للثقافة المضادَّة من إبقاء قيم الحركات على قيد الحياة وإعادة تشكيلها؛ وذلك في إطار من بِنية الشبكات، وهي عملية لها تأثيرات حيوية على الحركات الاجتماعية.

تصمد أغلب الحركات الاجتماعية أمام تراجع جهود التعبئة، متأرجحةً بين الحضور والكمون (ميلوتشي ١٩٨٩: ٧٠–٧٣) وباقيةً داخل عائلة أكبر من الحركات، بحيث تسهم تلك الحركات الاجتماعية في تنمية البِنى التحتية التنظيمية لتلك الحركات الأكبر، وكذلك تقوية إمكانياتها التعبوية. قد تتفاوت «قوة» الهُويات الجمعية؛ فبعضها أشد قوةً (كالحركة النسائية)، وبعضها أشد ضعفًا (كالحركة الشبابية)، وبعضها له حضور نِسبي (كالحركة البيئية)، بينما بعضها أقل حضورًا (كالحركة الداعية إلى السلام)؛ ويسجِّل بعضها حضورًا أقوى على الصعيد القومي (كالحركة المناهضة للطاقة النووية)، في حين يقوى حضور بعضها على المستوى المحلي (كالحركات الحضرية)؛ وأخيرًا يغلب على بعضها الطابع السياسي (كالحركات الفيدرالية)، أما البعض الآخر فثَقافي في الأساس (كحركتي البانكس وحليقي الرءوس). نادرًا ما تَختفي حركة ما دون أن تُخلِّف أي أثر ثقافي أو تنظيمي أيما كان. بل تَعمد الحركات إلى إعادة إنتاج ذاتها فيما يُشبه حلقات مفرغة؛ فحسبما أشرنا، تصير الحركات السباقة إلى الاحتجاج خلال الدورات الاحتجاجية قدوةً تُحفز الحركات الأخرى إما لدعمها، أو تقليدها، أو معارضتها، وقد تنفصل بعض الحركات عن غيرها سعيًا وراء أهداف أكثر تحديدًا أو أهداف ذات صلة، مخلفة تأثيرًا عكسيًّا، في حين قد تنشأ حركات أخرى على هيئة كيانات مُنبثِقَة جرَّاء الانقسامات الداخلية (ويتير ٢٠٠٤: ٥٣٤).

تتنامى، إذن، موارد الحركات الاجتماعية بمرور الزمن، وتكتسب تلك الحركات طابعًا مؤسسيًّا، فتُنشئ شبكات للثقافة الفرعية وقنوات للوصول إلى واضعي السياسات، وتُكوِّن تحالفات، وهذه الاستمرارية التنظيمية إنما تعني أن تجارب الحركات «السباقة» تُشكِّل موارد للحركات اللاحقة وقيودًا عليها في آنٍ واحد (تارو ١٩٩٤؛ ماكادم ١٩٩٥). فتجري عمليات التقليد والتمايز، وكذا عمليات التكرار والتعلم التي لا مفر منها، كل ذلك يَجري في ذات الوقت؛ فناشطو الحركات يَرِثون من سابقيهم بِنًى ونماذج، لكنهم يتعلَّمون، في الوقت نفسه، من أخطاء الحركات الأقدم عهدًا ساعِين إلى التفوق عليها والذهاب أبعد مما ذهبَت. وكلما عَظُم نجاح الحركات السباقة وازدادت مشاركة الناشطين السابقين في عمليات التعبئة اللاحقة، تعاظَمَت الاستمرارية مع الماضي.

إنَّ ذلك الميل إلى إضفاء الطابع المؤسسي على الحركات الاجتماعية وانتشارها كشكل من أشكال تنظيم المصالح والتوسط لتحقيقها يمكن تفسيره في ضوء انتشار القدرات المطلوبة لإطلاق الفعل الجمعي تزامُنًا مع كل موجة مِن موجات التعبئة. فالواقع أنه مما يُيسر التعبئة هو وجود شبكات من الناشطين المُستعدِّين للالتفاف حول قضايا جديدة والاحتشاد من أجلها، طالَما كانت تلك القضايا «متسقة» بطبيعة الحال مع هوياتهم الأصلية. فضلًا عن ذلك، فإن ما تُحقِّقه حركة ما من مكاسب معتبرة يُمكن أن يعود بالنفع على مطالب غيرها من الحركات، كما أن ما تُحرِزه الحركات من نجاحات من شأنه أن يشجع المزيد من جهود التعبئة. لذلك يُمكن أن نَخلُص من هذا النقاش إلى أن الحركات الاجتماعية تزداد أهميةً طالما توافَرَ قدرٌ مُتزايد على نحو مطَّرد من الموارد (الفنية والبِنيوية على حد سواء) للفعل الجمعي، وهو الأمر الذي أسهم بالتأكيد في انتشار المفاهيم التشاركية للديمقراطية.

(٦) خلاصة القول

إن ما أنجزَتْه الحركات الاجتماعية من عمليات تعبئة تَبعَهُ تغيُّر في مناحٍ شتَّى؛ فعلى صعيد السياسة العامة، صدرت جملة من التشريعات المتعلِّقة بقضايا أثيرت إبان الحملات الاحتجاجية. إذا أردنا أن نُقيِّم أهمية تلك التغيُّرات التي أحدثتها هذه القوانين، فعلينا أن نشرع في تحليل عملية تنفيذها إلى جانب تحليل التحولات التي شهدتها المنظومة القيمية والتي اعترَت سلوك كلٍّ من المواطنين العاديين والنُّخَب. من اللافت للاهتمام أن التغيُّرات التي طرأت على السياسة العامة والرأي العام جاءت مصحوبةً بتغيرات إجرائية، تزامنًا مع إيجاد مجالات جديدة لصنع القرار لم تَعُد تحظى بالشرعية في نظر نموذج الديمقراطية التمثيلية. تُمثِّل اللجان الخاصة، والوزارات الحكومية الجديدة، واللجان الحكومية المحلية، جميعها قنوات مشاركة في عملية صنع القرار يَكثر استخدامها من قِبَل تنظيمات الحركات الاجتماعية. وقد انبثق عدد من التجارب التشاركية التمكينية من الأجندة التشاركية التي طُرِحَت في بورتو أليجري، والتي تميَّزت بالعناية بالمشاركة، وحسن التواصل، وصلاحية اتخاذ القرارات. وهكذا فإن التأكيد على تقديم المشاركة على التمثيل من شأنه أن يُثري مفهوم الديمقراطية. وقد أولت الحركات الاجتماعية في الآونة الأخيرة، وبدرجات متفاوتة من النجاح، اهتمامًا بالمشاركة الاستيعابية المتساوية، إلى جانب الاهتمام ببناء التوافُق والتواصُل الجيد.

إن تنوع الأهداف والاستراتيجيات والأطراف الفاعلة المنخرطة في هذه العملية يجعل من الصعب تحديد الاستراتيجيات الناجحة للفاعلين الجمعيِّين الجُدُد، لكن لن يَمنعنا ذلك من الإشارة إلى التحول الذي شهدَتْه بِنية السلطة في الديمقراطيات الليبرالية خلال العقود الأخيرة في اتجاه المزيد من الاعتراف بالفاعلين الجُدد. إن الحركات الاجتماعية لم تساعد فحسب في دمقرطة الأنظمة السلطوية، بل أسهمت كذلك في خلق مناهج أكثر تشاركية داخل الديمقراطيات التمثيلية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤