الفاطميون

وظهر عبيد الله الملقب بالمهدي المنتظر، ثم نكل بالداعي وهو أبو عبد الله الشيعي كما نكل المنصور بأبي مسلم الخراساني وكما نكل الرشيد بالبرامكة.

ثم أسس المهدي بلدة تسمى المهدية نسبة إليه، وادعى هو وأبناؤه أنهم الخلفاء الصحيحون دون العباسيين، وقال شاعرهم:

هذا أمير المؤمنين تضعضعت
لقدومه أركان كل أمير
هذا إمام الفاطمي ومن به
أمنت مغاربها من المقدور
يا من تخير من خيار دعاته
أرجاهم للعسر والميسور

•••

ومن نسل المهدي هذا كان المعز لدين الله الذي فتح مصر على يد جوهر الصقلي، وأسس القاهرة وسماها المعزية. وقد أقام هؤلاء الفاطميون في مصر حضارة عظيمة، ونشروا فيها التشيع وظلوا قرونًا حتى أزال ملكهم صلاح الدين الأيوبي.

وانقسم المؤرخون من العرب والمستشرقين من الفرنج إلى قسمين: قسم يصحح نسبتهم إلى فاطمة، وعلى رأسهم ابن خلدون مدعيًا أن الشكاك إنما نفوا صحة نسبتهم تملقًا للعباسيين. وقسم يشك في نسبهم هذا معتمدًا على ما روي من بعض الأقوال.

وكانت الدولة الفاطمية مصطبغة بالصبغة اللاهوتية، نقرأ في ثنايا سيرة خلفائهم ما لا نجد مثله في ثنايا سيرة الأمويين والعباسيين، وربما كان هناك كتابان كبيران يمثلان هذه النزعة الإلهية، الأول ديوان ابن هانئ الأندلسي، فإنه أولًا مملوء بالمصطلحات الإسماعيلية كالدعوة والداعي كقوله:

أنت الورى فاعمر حياة الورى
باسم من الدعوة مشتق

ومثل كلمة العهد والتأويل والوصي ونحو ذلك، وفي الديوان نرى أصول الدعوة الشيعية؛ مثل ضرورة وجود الإمام في كل عصر، سواء كان ظاهرًا أم مختفيًا، وإن هذا الإمام لا بد منه لحفظ الشريعة، وتدبير مصالح الأمة كقوله:

إذا كان أمن يشمل الأرض كلها
فلا بد فيها من دليل مقدم
إذا كان تفريق اللغات لعلة
فلا بد فيها من وسيط مترجم
وآية هذا أن دحا الله أرضه
ولكنها لم ترس من غير معلم
لولاك لم يكن التفكير واعظًا
والعقل رشدًا والقياس دليلا
لو لم تكن سكن البلاد تضعضعت
وتزايلت أركانها تزييلا

ومثل الدعوة إلى الإمام علة وجود الدنيا، كما يقول:

هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلة ما كانت الأشياء

•••

هذا ضمير النشأة الأولى التي
بدأ الإله وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر المقدور في
أم الكتاب وكون التكوين

وهذا الإمام جامع لجميع الفضائل والخيرات، جسده مبرأ من كل عيب وروحه سالم من كل نقصان، كما يقول:

فرغ الإله له بكل فضيلة
أيام آيات الكتاب تفصل

•••

وروح هدى في جسم يمده
شعاع من الأعلى الذي لم يجسم

وهذا الإمام أمين الله وهادي الخلق ووارث الأرض وشفيع الناس، وفي ذلك يقول:

هذا أمين الله بين عباده
وبلاده إن عدت الأمناء
هذا الشفيع لأمه نأتي به
وجدوده لجدودها شفعاء

وهذا الإمام معصوم كالنبي لا يتصور من أذى، ولا تبدو منه زلة؛ لأنه ملهم من الله بأعظم درجات الإلهام:

من كان سيما القدس فوق جبينه
فأنا الضمين بأنه لا يجهل
مؤيد باختيار الله يصحبه
وليس فيما أراه الله من خلل

وتجب معرفة الناس للإمام، فجهله جريمة لا تغتفر ويروون حديثًا: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهليةً». ونفوسهم لا تنجو إلا بمعرفته:

ليعرفك من أنت منجاته
إذا ما اتقى الله حق التقى
فرضان من صوم وشكر خليفة
هذا بهذا عندنا مقرون
لو لم تكن سبب النجاة لأهلها
لم يغن إيمان العباد فتيلا

وقد غلوا في هذا الإمام غلوًّا كبيرًا، فقال ابن هانئ مثلًا:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

ويقول:

لو كان علمك بالإله مقسمًا
في الناس ما بعث الإله رسولا
لو كان لفظك فيهم ما أنزل القر
آن والتوراة والإنجيلا

وأما الكتاب الثاني فرسائل إخوان الصفا فقد بنيت على أساس نظرية الفيض الإلهي، وأن الله يفيض من نوره على من يشاء من عباده وأن فيضه على الأئمة أقوى فيض، وهي النظرية التي قال بها أفلاطون وحورتها الأفلاطونية الحديثة، وقالوا: إن لهذا الفيض مظاهر دورية ظهرت في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، واختتمت بالإمام ولهم في عدد السبعة هيام وأوهام.

وتتجلى الروح الإلهية في درجات مختلفة ومراحل متوالية، وتظهر للإنسانية منذ بدء خلقها متدرجة نحو الكمال، حتى جاءت إلى محمد ، وبهذا المعنى يأتي المهدي برسالة تفوق من قبله حتى رسالة محمد.

ويجب أن يفسر القرآن على أن له باطنًا غير الظاهر، والظاهر إنما يصلح لقوم لم يكتمل نضجهم بعد، إنما الخاصة هم الذين يفهمون المعنى الباطن، حتى إن الإمام إسماعيل كان يشرب الخمر فأنكر عليه ذلك بعض أصحابة وقالوا له: إن القرآن يقول بتحريم الخمر، ففسر آية الخمر تفسيرًا مجازيًّا، وكذلك فعل في الفرائض الأخرى كالصوم والحج، وبذلك تحللوا من الشرائع الإسلامية.

وغلا كذلك إخوان الصفاء في الحروف فزعموا أن للحروف أسرارًا دالة على معان، وأن هذه الحروف يمكن أن يفهم منها ميعاد ظهور المهدي، واستندوا فيها على قوله تعالى: وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ، ومع أن الآية تدل على عدم معرفة أحد للغيب فقالوا: إن الله تجلى بعلمه على من يشاء من عباده، وقد روي عن الكندي الفيلسوف رسالة تتضمن دلالة الحروف وأسرار الأعداد، وذكروا في إخوان الصفاء أن ظهور المهدي المنتظر يتوقف على حركات النجوم وقراناتها، مقلدين في ذلك اليهود في قولهم: إن موعد ظهور المسيح يتبع القيمة العددية لكلمتي «هستير استير». وقد شاع بين الباطنية وغيرهم ارتباط حركات الأرض، وأحداث الكون بحركات النجوم حتى إنه لا يحدث حدث في الأرض إلا بقرانات في نجوم السماء، ووضعوا في ذلك علمًا سموه علم اليازرجة، فما يحدث للإنسان من سعادة وشقاء وغنى وفقر، فإنما مرجعه إلى حركات النجوم والقرانات.

وقال قوم معتدلون: إنه لا يخفى أن للنجوم والكواكب تأثيرات في الأرض وفي الإنسان من طريق غير مباشر، فالشمس مثلًا تؤثر في المواسم من صيف وربيع وخريف وشتاء، والقمر مثلًا يؤثر في حركات المد والجزر، وهذه كلها تؤثر في مزاج الإنسان، ولكن إذا أسندت هذه الأمور وتعقدت إلى قرانات، فقد يحدث أن عمر الإنسان ينتهي من غير أن يحصل قران للنجوم على شكل خاص، فكيف يمكن بناء الأحداث على الاستقراء الناقص، ولا يزال الناس إلى يوم القيامة يتعلقون بهذا النحو من النجوم، وتأثيرها لما ركب في غريزتهم من حب الاستطلاع، وهم يسندون الغنى والفقر أو السعادة والشقاء لولادة الشخص في طالع من طوالع النجوم، مع أنا نجد أشخاصًا كثيرين ولدوا في وقت واحد وطالع واحد، وبعضهم سعيد وبعضهم شقي، وبعضهم فقير وبعضهم غني، ولكن مهما قامت الأدلة فالنفوس البشرية هي هي، تميل دائمًا إلى حب الاستطلاع.

ومن مظاهر هذه النزعة الدينية في الدولة الفاطمية تنظيمهم شأن الدعوة والدعاة، وإعلاء شأن داعي الدعاة، ويقول المقريزي: إن الدعوة كانت مرتبة على منازل، دعوة بعد دعوة، فالدعوة الأولى مبنية على إثارة المشكلات وتأويل الآيات، وتعليمهم أن الدين مكتوم، وأن الأكثر له منكرون وأن لا سبيل للنجاة إلا ما خص الله به الأئمة من العلم، فإذا علم الداعي منه الإقبال والتشوق قرر له أن الآفة التي نزلت بالأمة، وشتت كلمتهم وأورثتهم الأهواء المضلة هي إعراض الناس عن أئمة نصبوا لهم، وأقيموا حفاظًا على الشرائع، ولما نظر الناس في الأمور بعقولهم واتبعوا ما حسن في ناظرهم، وأطاعوا سادتهم وكبراءهم اتباعًا للملوك وطلبًا للدنيا؛ ضلوا السبيل إلى آخر هذه الدرجات. ومما أثاروا من المشكلات سؤالهم مثلًا: ما معنى رمي الجمار والعَدْوِ بين الصفا والمروة، ولِمَ كانت الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، وما بال الجُنُب يغتسل من ماء قليل ولا يغتسل من البول الكثير، وما معنى الصراط والكتبة الحافظين، وما لنا لا نراهم، وما عذاب جهنم، وكيف يصح تبديل جلد مذنب بجلد لم يذنب، وما إبليس والشياطين، وما يأجوج ومأجوج، وما شجرة الزقوم، وما دابة الأرض، وما الخُنَّس الكُنَّس، وما معنى فواتح السور مثل الم، المص إلخ؟ فإذا اطمأن الداعي إلى المدعو قال له: لا تجعل فإن دين الله أعلى وأجل من أن يبذل لغير أهله، وإن من هداه الله من اعتقد بالأئمة واستقى من علمهم، ثم ينقله نقله أخرى بقوله: «إن الله رتَّب الأئمة واحدًا بعد واحد، فأولهم علي ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين الملقب بزين العابدين ثم محمد بن علي ثم جعفر الصادق». ثم ينقله نقله أخرى من ترتيب الأنبياء وترتيب الأئمة ورثة الأنبياء، ثم نقلة إلى تقرير أنه لا بد لكل إمام من جماعة ينصرونه متفرقين في جميع الأرض عددهم اثنا عشر رجلًا، ثم يتدرج بعد ذلك في التعليم إلى الدرجة التاسعة، وهي الأخيرة بأن يأخذ على الأتباع العهد بأداء الأمانة على ألا يظهروا شيئًا، وأن يمنع الأئمة مما يمنع منع نفسه، وإن خالف شيئًا من ذلك فهو بريء من الله. ويظهر أن هذه هي التعاليم الدينية، أما التعاليم السياسية من العمل على قلب الدولة الزمنية، وإقامة الثورات ووسائلها، فقاصرة على خاصة الخاصة من الرؤساء، وبذلك نظموا أنفسهم تنظيمًا سرديًّا دقيقًا أشبه ما يكون بتنظيم الجمعيات السرية الخطيرة اليوم.

على كل حال كان إخوان الصفاء جمعية سرية تعمل لهدم الدولة العباسية في الخلفاء، ولهم ميول شيعية تظهر في ثنايا الكتاب، ولهم في ذك أصول ومعتقدات دينية، واشترطوا شروطًا كثيرة دقيقة للانضمام إلى العضوية، وقد رتبت بشكل موسوعة، وعدد رسائلها اثنتان وخمسون رسالة تعالج أبحاثًا في الرياضيات والفلك والجغرافيا والموسيقى وعلم الأخلاق والفلسفة، وآخر رسالة فيها تعتبر خلاصة هذه الرسائل، وقد كتبت بأسلوب راق مما يدل على رقي اللغة في ذلك العصر، وقد طوعوها للتعبير عن الفكر العربي، وقد تأثر بها بعض التأثر الغزالي في كتابه الإحياء، وذكر أن المعري كان يحضر حلقات هؤلاء العلماء لما حضر بغداد في أيام الجمعة.

وقد ذكر أبو حيان التوحيدي أسماء واضعيها منهم: أبو سليمان البستي والمقدسي وأبو الحسن علي الزنجاني وزيد بن رفاعة والقوفي، وكان التوحيدي هو المصدر الوحيد الذي ذكر أسماءهم في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»؛ ولذلك ظن بعضهم أنه عضو سري معهم وقد تنكر تقية.

وكان لرسائل إخوان الصفاء تأثيرات مختلفة في القوة والضعف في علماء الشرق والغرب على مر الزمان، وكل فلاسفة الإسلام الذين جاءوا بعدهم قد تأثروا بها وبنوا عليها. وربما عد بعضهم أبا حيان التوحيدي والراوندي والمعري من أكبر أتباعهم المتأثرين بعلمهم الناشرين لنظرياتهم، حكى ذلك السبكي في كتابه «طبقات الشافعية».

والدليل على أنها تشرح تعاليم الشيعة وعلى الأخص القرمطية أقوال كثيرة مبثوثة في ثناياها، منها ما جاء في فصول رسائل إخوان الصفاء مثل: الفصل الذي عنوانه فصل في أن كل من أجاب الأنبياء والمرسلين والأئمة الهادين والخلفاء الراشدين، الذين هم قوام الأئمة منهم توابيت الحكمة ومعهم تابوت السكينة الذي تحمله الملائكة الموكلون بحفظه حتى يوم مستحقه، يتوارثه الخلف عن السلف فمن عرفهم واتبع سبيلهم فقد أخلص العبادة، ونجا من الأبالسة … إلخ. ويقولون في فصل آخر: فصل في معرفة الولاية الروحانية التي يكون بها الوصول إلى دار البقاء، وفصل آخر في معرفة الآباء والأمهات في الولادة الروحانية، وفي كل هذه الفصول وأمثالها تنبت تعاليم الدعوة الشيعية وتعاليم الأئمة.

ويرمزون أحيانًا رمزًا فيقولون مثلًا: هذا فصل لم نفصح القول به، ولا أطلقنا الكلام فيه والدلالة عليه بالتصريح الشافي لكن بالتلويح والرمز، وهو فصل عميق في الرمز غامض في الدلالة.

وربما كان أقوى من نزع نزعة لاهوتية من الفاطميين الحاكم بأمر الله، فقد بدأ حياته مصلحًا متواضعًا يشرع للناس تشريعات معقولة، فمثلًا: منع النساء من الخروج لما رأى من الفساد، ونظم مالية البلاد والضرائب تنظيمًا دقيقًا بمساعدة من في بلاطه من اليهود والنصارى، واستقدم من البصرة الحسن بن الهيثم الذي نقض في كتابه «المناظر» نظرية إقليدس القائلة: بأن الإبصار يكون بخروج شيء من البصر إلى المبصر، وقد تعهد ابن الهيثم للحاكم أن يعدل فيضان النيل، ولكنه لما أخرج نظريته إلى العمل تبين عدم إمكان تطبيقها، فاختفى فرارًا من الحاكم، ورأى الناس يكثرون من شرب الخمر، فحرم زرع العنب وحرم الموائد والموسيقى، بل حرم الشطرنج ومجرد المشي على النيل لما رأى إفراط الناس في الملذات، وحرم على الناس من يصنع الأحذية للنساء حتى لا يخرجن، وأحيا الأنظمة القديمة التي توجب على أهل الذمة ألا يتزيوا بزي المسلمين.

ولكن بعد ذلك غلا في لاهوتيته، فزعم أن الله تجسد فيه وأنه هو الإله وأتى في ذلك بأعاجيب، وكان يخرج إلى الصحراء يرصد الكواكب ويسبح في خيالاته اللاهوتية، ولكنه لما اختفى في سنة ١٠٢١م، وربما مات مقتولًا ادعى أتباعه أنه لم يمت ولا قتل، وإنما يعيش مختفيًا عن الناس.

وعلى كل حال فإن الدولة الفاطمية خلفت لنا كثيرًا من مظاهر الحضارة العظيمة، يدل عليها الأزهر الذي لا يزال يدوي علمه إلى اليوم، وفن العمارة، بل صنع التماثيل وإن حرمها الإسلام، والزخارف الكثيرة. وكانت الحقبة الفاطمية التي مرت بها مصر ذات ميول شيعية.

ومع دعوتهم إلى الزهد والورع، فقد ذكروا أن الخليفة المستنصر الفاطمي كان في قصره ثلاثون ألف نفس منهم اثنا عشر ألف خادم وألف فارس وحارس، وقد ذكر الرحالة ناصر خسرو أنه رأى الخليفة على بغلة، وهو فتى وسيم الطلعة حليق الوجه، وقد وقف بجانبه حاجب يحمل مظلة مرصعة بالحجارة الكريمة، وذكر أن الخليفة كان يملك في العاصمة عشرين ألف بيت أكثرها مبني باللبن في كل بيت خمسة طوابق أو ستة، وفي أسفلها حوانيت يؤجر كل حانوت منها بما بين الدينارين والعشرة، وكان من عادته أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى موضع نزهة أنشأه، وربما خرج كما يخرج أغنياء الحجاج في يوم حجهم، وربما خرج ومعه الخمر في الروايا عوضًا عن الماء يسقيه الناس كما يفعل بالماء في طريق مكة، وذكر المقريزي في خططه كشفًا بأسماء كنوز المستنصر تستدعي العجب، وهكذا يفعل الأئمة المعصومون الزاهدون المتورعون الذين خلقت الناس لأجلهم، ولا يهتدي هاد إلا بهداهم!!

وكان من نفحات الفاطميين سيف الدولة الحمداني، فقد كان أيضًا شيعيًّا، وقد اشتهر بنصرته للعلم والأدب وكان في بلاطه الفارابي الفيلسوف الكبير الذي اشتهر بالرياضيات والطب ولكن تآليفه فيهما تدل على أنه وصل فيهما إلى درجة متوسطة، وإنما كان ممتازًا في علمي التنجيم والموسيقى، وقد ألف في الموسيقى هذه كتابين من كتبه، ثم كتب فيها أيضًا ثلاثة كتب أخرى أهمها كتاب الموسيقى الكبير، وقد ذكر عنه أنه حضر مرة مجلس سيف الدولة، فأخرج عيدانًا وقع عليها فضحك كل من كان في المجلس ثم وقع عليها لحنًا آخر، فبكى كل منهم ثم غير ترتيبها ووقع عليها لحنًا ثالثًا، فناموا كلهم حتى البواب، ولا يزال بعض المولوية ينشدون بعض الألحان، المنسوبة إليه ويرى ابن خلكان أنه أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه. والرئيس ابن سينا بكتبه تخرج وبكلامه انتفع وبهديه سار وصنف.

وكان خازن كتب سيف الدولة الخالديين وشاعره المتنبي، ويظهر أن المتنبي أيضًا كان شيعيًّا، بل كان قرمطيًّا كما سيأتي، وكان نفوذ العلويين وتعاليمهم واسعًا كبيرًا ومن أثر هذا النفوذ ما كان من المناقشة والجدل بين داعي الدعاة الفاطمي وأبي العلاء المعري، مما يطول شرحه وقد سمى الغزالي مذهبهم «التعليمي»، وذكرهم عندما اضطر إلى معرفة الحق، هل هو عند الفقهاء أو الفلاسفة أو التعليميين، ويقصد بالتعليميين هؤلاء الشيعة ثم لم يعجبه شيء من ذلك، وأخيرًا تصوف ورد على الشيعة، ومعنى التعليمية الذين يعتمدون اعتمادًا مطلقًا على سلطة الإمام، وأنه مصدر التعليم والإرشاد وهو المهدي.

على كل حال تأسست هذه الدولة اعتمادًا على فكرة المهدية، وكانت بلادهم أقوى مركز للتشيع، وقد كان تشيعهم هذا أمتن رباط بينهم وبين الفرس أيدوهم بحكم تشيعهم أيضًا؛ وأيدوهم لأنهم ينتسبون إلى فاطمة وإلى علي. فأما عطفهم على علي؛ فلأنه فيما يقول المؤرخون زوج ابنة الحسين من ابنة يزدجرد ملك الفرس، فبين أولاده وبينهم نسب مشيج فنصفهم فارسي. وأما رضاهم عن أولاد فاطمة؛ فلأنهم تعودوا من زمن الأكاسرة أن يؤمنوا بنظرية التفويض الإلهي، وأن الخلفاء فيهم قبس من الله ينتقل من أب إلى ابن، وهذا عكس الفكرة العربية التي تؤمن بالشورى وحكم أهل الحل والعقد، فيمن يتولى الخلافة حسب المصالح؛ لأنها فكرة تتفق وديمقراطية العرب.

ولم تقف فكرة المهدي عند هذا الحد، بل لعبت بعد ذلك أدوارًا كثيرة فإن نحن قلنا: أن كل الحضارة الفاطمية والعلم الفاطمي والقاهرة الفاطمية نتاج غير مباشر لفكرة المهدي لم نبعد، وقد كان لنجاح الفاطميين تحقيق مادي لفكرة المهدي المعنوية أطمع غيرهم فيها، وكان أكثر الناس طمعًا هم الشيعة.

وقد انتشرت على مر الزمان الأحاديث التي تؤيد فكرة المهدي، والتي تفيد أنه يملك الدنيا بأجمعها شرقها وغربها كما ملكها سليمان — عليه السلام — وذو القرنين، وأنه ينزل عيسى — عليه السلام — في مدة المهدي، ويقتدي عيسى به في صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح في بيت المقدس.

وقد أنشأ الشيعيون القصائد في مدح هذا المهدي، وسموه صاحب الزمان وكان ممن مدحه بهاء الدين العاملي، فقال فيه قصيدة مطلعها:

سرى البرق من نجد فجدد تذكاري
عهودًا بحُزْوَى والعذيب وذي قار

ويقول فيها:

هو العروة الوثقى الذي من بذيله
تمسك لا يخشى عظائم أوزار
إمام هدى لاذ الزمان بظله
وألقى إليه الدهر مقود خوار
ومقتدر ولو كلف الصم نطقها
بأجذارها فاهت إليه بأجذار
علوم الورى في جنب أبحر علمه
كنقرة كف أو كغمسة منقار
فلو زار أفلاطون أعتاب قدسه
ولم يعشه عنها سواطع أنوار
رأى حكمة قدسية لا يشوبها
شوائب أنظار وأدناس أفكار
بإشراقها كل العوالم أشرقت
لما لاح في الكونين من نورها الساري

… إلخ

وقد شرح القصيدة في آخر كتابه الكشكول. وقد أحاطوا الفكرة بفكرة أخرى وهي فكرة قدرة المهدي على الإخبار والتنبؤ بالأحداث، وهذا باب عظيم من أبواب الشيعة، فهم يزعمون أن الإمام عليًّا ترك كتابًا صغيرًا فيه ما كان وما يكون، وأن الأئمة من بعده اعتمدوا عليه وسموه «الجفر» والجفر «ما بلغ من الإبل أربعة أشهر، الذكر جفر والأنثى جفرة، وهو الذي حرفناه إلى الشفرة ومعناه الجلد الصغير»، وكانت العادة في أيامهم أن يكتبوا على الجلد، فسموا الكتاب جفرًا وأحيانًا يسمونه «جفر المسك» والمسك هو الجلد.

وللشيعة في ذلك أخبار طوال فقد ادعوا أن فيه أسماء من يلي الأمور، وما ينالها من أحداث وأحيانًا يذكرون ملحمة من الملاحم فيها أخبار الدنيا، وأحيانًا أخبار دولة من الدول يذكرون فيه ما يحدث في الماضي، وهو صحيح عادة وما سيحدث في المستقبل، وهو غيب مجهول، وسيأتي بعض أمثلة على استخدامهم هذا الجفر لإيهام الناس بغلبتهم حتى ينضموا إليهم.

فلما نجح الفاطميون في تأسيس دولتهم شجع هذا النجاح غيرهم على أن يقلدوهم، كلما أرادوا ثورة وأحسوا مظلمة، وكان انتشار المهدية في بلاد المغرب أكثر منها في بلاد الشرق لأسباب: منها أن المهرة المكرة أشاعوا حديثًا يومئ إلى المهدي المنتظر مراكشي، ومنها أن المغاربة معروفون من قديم من أيام الكاهنة بالميل إلى الغيبيات والتأثر بها.

ومن فضل الشيعة أنهم كانوا في بعض مواقفهم، وفي اعتقادهم بالأئمة المهتدين يؤيدون الدين، ويردون على الذين يعتقدون بسلطان العقل وحده، ومن الأمثلة على ذلك ما كان من المناظرات بين أبي حاتم الرازي وأبي بكر الرازي، فأبو حاتم الرازي المتوفى سنة ٣٢٢ كان من كبار دعاة الإسماعيلية، واشتهر بدعوته إلى المذهب الفاطمي، ولعب دورًا عظيمًا في الشئون السياسية، وفي أذربيجان وفي الديلم حتى استجاب له جماعة من كبار الدولة، فقد رد على أبي بكر الرازي وكان ملحدًا يؤمن بسلطان العقل وحده وينكر النبوة، فرد عليه أبو حاتم الرازي في جملة مناظرات في نقد كلامه، وإثبات الأدلة على النبوة، فالظاهر أنه كان هناك دعوة إلحادية تنكر النبوة، ومن أتباعها الرازي هذا صاحب كتاب الطب الروحاني وغيره من رسائل، وربما كان من معتنقي هذا المذهب أيضًا ابن الراوندي وغيره، وقامت طائفة تؤلف كثيرًا في دلائل النبوة ردًّا عليه.

فكان الشيعيون من الذين يؤيدون نظرية الدين، وقد يبالغون فيها بدعواهم الأئمة وعصمتهم، وربما كان أيضًا جهر المعري بسلطان العقل في كثير من شعر اللزوميات، تبعًا لأمثال محمد بن زكريا الرازي دعاه إلى ذلك مغالاة الشيعة في دعوة الأئمة، فكان أمامه مناظرات أبي حاتم الرازي مع أبي بكر الرازي، وهذه المناظرات منشورة في الرسائل الفلسفية التي جمعها الأستاذ كراوس، ومما ذكره أبو حاتم الرازي في أول المناظرات قوله: «فما جرى بيني وبين الملحد أنه ناظرني في أمر النبوة، فقال: «من أين أوجبتم أن الله اختص قومًا بالنبوة دون قوم، وفضلهم على الناس وجعلهم أذلة لهم، وأحوج الناس إليهم، ومن أين أجزتم في حكمة الحكيم أن يحتار لهم ذلك، ويؤكد بينهم العداوات ويكبر المحاربات ويهلك بذلك الناس، فرد عليه بأن الحكيم فعل ذلك رحمة بالناس، فالناس مع اختلاف عقولهم لا يمكن أن يستغنوا عمن يرشدهم، ويهديهم من الأنبياء والأئمة والعلماء إلخ …». فنرى من هذا أنه كان هناك حركة عنيفة بين الملحدين الذين ينكرون النبوة، والمؤمنين الذين يعتقدون بها، ومن فضل الشيعة أنهم كانوا مؤمنين يدافعون عن الإسلام في الخارج ضد الصليبيين الذين يهجمون على بلادهم، وفي الداخل يصد من أنكروا الدين وجحدوا النبوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤