الحشاشون

ومن هذه الفرق التي كانت مؤسسة على التشيع والاعتقاد بالمهدية فرقه الحشاشين، ويسمون أحيانًا بالإسماعيلية، وأحيانًا بالديلمية وزعيمهم الحسن بن الصباح المشهور، وسموا بالحشاشين؛ لأنهم كانوا يتعاطون الحشيش، وقد شاع استعمال المكيفات لديهم ولدى الصوفية، كما استعملوا القهوة للتنبه للعبادة كما يقولون وكان الحشيش يخدم أغراض هؤلاء الإسماعيلية؛ لأنه يخدر أعصابهم ويزيد أحلامهم اللذيذة فيكونون أطوع في تنفيذ الأوامر التي تصدر لهم، وقد حكى الرجالة ماركو بولو — الذى رحل إلى بلادهم بعد مائتي سنة تقريبًا — أنهم كانوا يستعملون الحشيش في القلعة، فإذا خدروا خملوا إلى بقعة في فناء القلعة، وكانت مملوءة بالغانيات الحسان ليتمتعوا باللذائذ فيها حتى يتمثلوا في ذلك الجنة ونعيمها، فإذا أمروا أمرًا نفذوه، فإن استطاعوا الهرب فيها، إلا الجنة مأواهم.

وقد كان حصنهم الحصين قلعة «ألموت» الجبلية، ومعناها ملجأ العقبان لحصانتها ووعورة مسلكها، هي قلعة على مسافة ستين فرسخًا إلى الشمال من قزوين، وقد يسمى أصحابها بالفدائيين؛ لأنهم رتبوا أنفسهم على الفداء، وكانوا يعلمون الأطفال الاستهتار بالموت، ومن أغراضهم أن لا يبقوا على وجه الأرض أحدًا من خصومهم، قال صاحب كتاب الفرق: «إن ضرر الإسماعيلية على الإسلام أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس، بل أعظم من ضرر الدهرية ومن ضرر الدجال الذي يظهر في آخر الزمان»، وكان من تعاليمهم على ما يروي خصومهم عدم التمسك بالشرائع والإباحية كالذي يقول:

خذي الدف يا هذه واضربي
وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
وهذا نبي بني يعرب
لكل نبي مضى شرعه
وهذي شريعة هذا النبي
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
وإن صوموا فلكي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
ولا زورة القبر في يثرب …
ولا تمنعي النفس من المعرسين
من الأقربين أو الأجنبي
فلم ذا حللت لهذا القريب
وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لم ربه
وأسقاه في الزمن المجدب؟

•••

وعلى الجملة فقد اشترطوا في داعيهم أن يكون عارفًا بالوجوه التي تدعي بها الأصناف، ثم يدعي كل صنف بما يناسبه، فمن رآه الداعي مائلًا إلى العبادة حمله على الزهد والعبادة، ومن رآه ذا مجون وخلاعة قال له: العبادة بله وحماقة على مثل ذلك. وزعيمهم الحسن بن الصباح هذا يروي بعض الرواة أنه كان صديقًا لعمر الخيام ونظام الملك، وقد أخذ تشيعه عن مصر حين رحل إليها، واعتنق المذهب الفاطمي وخصوصًا الفرع النزاري ثم رحل إلى فارس، وقد وضع لأتباعه خطة لاغتيال العظماء البارزين من السنيين حتى يخلو الجو للتشيع، وقد مهد لذلك بالتشنيع على الخلفاء والحكام السنيين وكبر مظالمهم، وتحدث بقرب ظهور المهدي الذي يملأ الأرض عدلًا، وقد استولى بقوة جيشه على بعض الأماكن بسوريا، وكان يعلم أيضًا تعاليم إباحية تعدو إلى رفع التكاليف عمن تقدم في المذهب اجتذابًا لقلوب العامة، وقد أرهب الملوك والعظماء في البلاد لكثرة ما كانوا يغتالون، وكان أول من اغتالوه الرجل العظيم «نظام الملك» الوزير السلجوقي المشهور، والواقع أنهم لم يكونوا موفقين في قتله؛ لأنه من أحسن الرجال عدلًا وعطفًا على العلماء وتشجيعًا للعلم، وهو الذي أنشأ المدرسة النظامية في نيسابور والمدرسة النظامية في بغداد، وهى التي درس فيها الحويني والغزالي والكيا الهراسي وأمثالهم، واعتنق المذهب الأشعري وساعد على نشره، وهذا الوزير وضع رسالة بالفارسية في نظام الملك تحتوي على آراء كثيرة صائبة مثل تحذيره السلطان من تدخل أصدقائه غير المسئولين في شئون الدولة، ومن تدخل بعض رجال البلاط للنظر في الدعاوى وإصدار الأحكام، واستغلال سلطتهم في ابتزاز أموال الرعية، وأخيرًا حذر نظام الملك السلطان السلجوقي من الحشاشين، ونصحه بقتالهم قبل أن يستفحل أمرهم، ولكنهم تمكنوا من قتل نظام الملك قبل أن يقتلهم، فقد كان قد خرج إلى رحلة فاعترضه شاب من هؤلاء الفدائيين متزييًا بزي الصوفي، وتظاهر بأنه يردي إحسانًا ومد يده إليه، فمد نظام الملك إليه يده، فانتهز هذا الشاب هذه الفرصة وطعنه بخنجر مات منه.

وقد كان أمير هذه القلعة يسمى داعي الدعاة ومن تحته الدعاة، وكان إذا انتدب أحد أتباعه لعمل فدائي قال له: «قم إلى فلان فاقتله ومتى رجعت تحملك ملائكتي إلى جنة النعيم، وإذا مت من دون ذلك أرسل ملائكتي إليك يذهبون بك إلى جنة الخلد». وقد روعت هذه الحادثة نفوس العظماء وخوفتهم منه، وقد أراد هؤلاء الحشاشون مرة أن يقتلوا صلاح الدين الأيوبي؛ لأنه كبير من كبراء السنية؛ ولأنه قضى على الدولة الفاطمية في مصر، وذلك أن قائد حلب أغرى هؤلاء الحشاشين بقتل صلاح الدين حين حصرها لأول مرة، وكان هذا الزعيم يسمى رشيد الدين ويعرف بشيخ الجيل، ولكن صلاح الدين نجا من هذا الفدائي بأعجوبة.

وظلت هذه الفئة تروع البلاد بقتل العظماء، وتصل إلى ذلك بمؤامرات سرية دقيقة وتنظم شئونها في دقة وإحكام، حتى علا شأنها وكثر تخريبها، ولكن كان لهم موقف حميد، وهو محاربتهم الصليبيين وإيقاع الرعب في نفوسهم، وأخيرًا أوقع بهم هولاكو المغولي، فاستولى على قلعة ألموت في سنة ١٢٥٦م، ثم جاء بيبرس فقضى عليهم القضاء الأخير سنة ١٢٧٢م، ومنذ ذلك الحين تفرق شملهم في سوريا وفارس وعمان وزنجبار والهند وكفى الله المؤمنين شرهم. ومن الأسف أن تعاليمهم كانت سرية، وقد دمرت كل آثارهم فلم يبق لنا منها ما نستنتج منه تعاليمهم الصحيحة، ولكنهم على كل حال يدينون بالمهدي وبالتشيع وينظمون أنفسهم تنظيمًا شيعيًّا، ويستقون من نبع التعاليم الفاطمية، وقد أطلق الفرنج هذه الكلمة كلمة حشاشين “Assasins” على المغتالين أخذًا من اسم هذه الفئة، ولم يكتف الأمر عند هذا الحد، فإن هذه الثورات التي ذكرنها وأمثالها كشفت للمسيحيين عن ضعف المسلمين، فشجعت على الحروب الصليبية كما كشفت حملة مصر على العثمانيين، فأطمعت الأوروبيين فيهم.

نعم إن المؤرخين نسبوا الحروب الصليبية لجملة أسباب منها اضطهاد الحجاج المسيحيين للقدس، وسوء معاملتهم، ولكنني لا أنكر أن من أهم الأسباب في الحروب الصليبية التقارير السرية التي كان يكتبها القسس المتزيون بزي الحجاج، والتي تبين ضعف المسلمين وتحث الصليبيين على انتهاز الفرص والهجوم على المسلمين، وأخذ البلاد منهم، ولولا أن قيض الله للإسلام محمود زنكي وصلاح الدين وبيبرس وأمثالهم لضاعت البلاد الإسلامية كلها؛ بسبب هذا الضعف الذي سببته الثورات: ثورة الفاطميين والموحدين والزنج والقرامطة والحشاشين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤