البابية

أما في العصور الحديثة فليست فكرة المهدي فيها أقل شأنًا مما كان في العهود القديمة، فمن حين إلى آخر كانت تظهر حركات ثورية يدعي القائم بأمرها أنه المهدي المنتظر، وسنذكر أهمها من غير استقصاء.

في نهاية القرن التاسع عشر ظهرت فرقة جديدة متطرفة تدين بالتشيع وبالإسماعيلية وبفكرة المهدية، وهي فرقة البابية.

وهي على النقيض من مذهب الوهابية. فلئن كانت الوهابية لا تعترف بالزمن وأثره، ولا بما ظهر من تقاليد الإسلام الجديدة وأوضاعه، فإن البابية ترمي إلى مسايرة الزمان، والنظر إلى الظروف الحاضرة، ولئن كانت والوهابية أيضًا لا تؤله أحدًا إلا الله ولا تقول: بعصمة أحد إلا الأنبياء، فإن البابية ترى — تأثرًا بالنظريات الأفلاطونية الحديثة — أن للأئمة والدعاة فيضًا إلهيًّا وقبسًا من نور الله، ومكانًا إلهيًّا، وأن المهدي والأئمة من بعده لهم عصمة الأنبياء. وأن الله يتجلى عليهم تجليًا تدريجًا يرتقي إلى أن يصل إلى العقل الكلي.

وعلى هذه العقائد ظهر، في البيئة الفارسية، شاب ورع اسمه «ميرزا علي محمد» الشيرازي، ولد سنة ١٨٢٠م وكان تقيًّا عرفه معاصروه بالزهد والورع والتقوى، وشهد له أصحابه بالمواهب الممتازة والحماسة القوية للعبادة وأجلوه لذلك. فأثر هذا الجلال في عقل الشاب، واعتقد أنه مبعوث من الله لأداء رسالة دينية عالية، وأن العناية الإلهية اصطفته لتحقيقها، وأن رسالته هذه حتمية؛ لأن الزمان والبيئة يحتاجان إلى مبعوث جديد، فأعلن أنه «الباب» الذي يدخل الناس منه إلى الإمام المستور الذي هو مصدر لكل خير في العالم. ثم تطور الأمر عنده فاعتقد أنه فوق أن يكون مدخلًا للإمام المستور، بل هو نفسه الذي يهدي العالم للحق، ويهديهم إلى سبيل الرشاد. وأعلن أنه المهدي الجديد المنتظر، وأن المهدي المنتظر حل فيه حلولًا ماديًّا جسمانيًّا، كما كان من أمر الحلاج في اعتقاده أن الله حل فيه، إذ كان يقول: «ما في الجبة إلا الله»، وكما كان يقول:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن جسمان حللنا بدنا

وكان «الباب» هذا يقول: إن قبسًا من الله حل في الأنبياء كموسى وعيسى ومحمد، وأنه حل فيه أيضًا، وكان يناهض فقهاء فارس — وكل فقيه منهم مجتهد يسمى الملا — فيذمهم، ويرميهم النفاق والملق والجشع وحب الدنيا والبعد عن الآخرة، وكان يفسر القرآن على عقيدة باطنية تفسيرًا رمزيًّا، ويتأول نصوصه. ولم يكن يؤمن بشعائر الإسلام كلها وتفاصيلها ويرى أنها مرهقة، وأنها فوق طاقة البشير في الوقت الحاضر، وأنه ليس معنى البعث الحياة بعد الموت، وإنما البعث يحصل مرارًا بالتجدد الدوري، وهي هي التي تسمى في القرآن بالحياة الأخرى. ولم يكتف بهذا الجانب الديني بل دعا إلى أخلاق تعتمد على العقل والذوق، فطالب مثلًا بالمؤاخاة لا على أن المسلم أخو المسلم فقط، بل على أن الإنسان أخو الإنسان من غير تفريق بين غني وفقير ولا بين مسلم ونصراني ويهودي ووثني، ودعا إلى المساواة بين الرجل والمرأة؛ لأنها شريكة له في الإنسانية، نعم إن الرجل بحسب تكوينه له وظائف يستطيع أن يقوم بها. ولا تستطيع أن تقوم بها المرأة والعكس، ولكن فيما عدا ذلك فالكل سواء في الميراث وفي رفع الحجاب، وأنكر الطريقة العرفية المتبعة في الزواج، فوضع تعاليم أخرى تتعلق والطلاق وبناء الأسرة وطرق التربية، وبذلك أضاف إلى تعاليمه الدينية تعاليم اجتماعية أخرى، وأضاف إلى ذلك أيضًا تعاليم تتعلق بالحروف وبالأعداد، وجعل للحروف جملًا لها دلالتها الرمزية، وكان مما قدسه العدد (١٩)، واستند في ذلك على ما جاء في القرآن عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، واستند على هذا العدد في تنبؤاته وفي أفكاره، وقال: إنه في دعوته هذه يقوم مقام الأنبياء الأئمة، وأنه موضوع للتجلي الروحي الإلهي، وقد خلف كتابًا سماه «البيان» أودع فيه كل تعاليمه وآرائه، وكان من أسباب نجاحه فتاة جميلة فصيحة اسمها «قرة العين» كانت تؤثر في الناس بجمالها وفصاحتها، وتطبق على نفسها تعاليم «الباب»، ولكن تعاليمه هذه مست السياسة، ولو من طريق غير مباشر، فلئن كان «الباب» معصومًا متمتعًا بالتجلي الإلهي وحده، فمعناه إذًا أن «الشاه» لم يتمتع بهذه الميزات وأنه أقل منه درجة؛ ولذلك حاربه الشاه وحارب أتباعه. وقبل أن يموت الباب اختار اثنين عدهما خير أتباعه هما «صبح أزل» و«بهاء الله» غير أنه كما رأينا دائمًا لا يتسع العالم لزعيمين على شيء واحد، كما حدث للأمين والمأمون وكما حدث لخلفاء الإسكندر، وكما حدث للسنيين والشيعيين أنفسهم، فتفرق أتباع الباب بعد موته إلى فريقين فريق يتبع «صبح أزل»، وفريق يتبع «بهاء الله» وكل فريق يرى الفريق الآخر خارجًا عن المذهب ويتبادلون المطاعن، وكان التابعون لصبح أزل أقل من التابعين لبهاء الدين، ولكن الشاه على العموم طاردهم ففر أتباع صبح أزل إلى العراق، ثم ذهبوا إلى جزيرة قبرص، وأما «بهاء الله» فقد نفي إلى «أدرنه»، وكان طابع «صبح أزل» طابع المحافظين يرى التمسك بتعاليم الباب، وطابع «بهاء الله» طابع الأحرار إذ يرى أن تعاليم الباب تتطور بتطور الزمان والمكان، وأن الباب ليس إلا ممهدًا لبهاء الله، وأن بهاء الله هو الذي حل فيه النور الإلهي والقبس الإلهي. واعتمد البهاء على نص جاء في كلام الباب، وهو قوله: «سيظهر في يوم من الأيام من هو أعظم مني»، وتلقَّب بهاء الله «منظر الله»، وقال: إنه هو الذي تتجلى في طلعته ذات الله كما تتجلى طلعة الإنسان في المرآة، واعتقد فيه أصحابه أنه فوق البشر، ووُضع باللغة الفارسية كثير من الأناشيد في مدحه، وقد وضع بهاء الله كتبًا باللغة العربية وباللغة الفارسية، منها كتاب فارسي اسمه «الكتاب الأقدس»، وهو يشير بهذا الاسم إلى أن كتابه أقدس من التوراة والإنجيل اللذين أطلق عليهما الكتاب المقدس، ومن القرآن الذي يقدسه المسلمون، وزعم أنه قد بشر به الأنبياء من قبل كما بشر المسيح بمحمد، وأنه له تعاليم خاصة لا يبوح بها إلا لمن قدر عليها من الخاصة كما كان للنبي محمد تعاليم خاصة لم يبح بها إلا لعلي، وباح علي بها لخاصته حتى وصلت إلى الأئمة، وأن رسالته نسخت رسالة «الباب»، ولكنه اتفق معه على معنى الإنسانية والدعوة إليها، وقال أيضًا: إن خير الناس من جعل العالم كله وطنًا له، ورمى العقائد القديمة بالضيق والجمود وبث فكرته في العالم كله، وأرسل الدعوة إلى الملوك والأمراء ورؤساء الجمهوريات، وإلى الشعوب من طرق مختلفة، وكان له تنبؤات صح بعضها، من ذلك ما تنبَّأ به من سقوط نابليون الثالث قبل سقوطه بأربع سنوات، وكان يرمي إلى أن تكون ديانته كتعاليمه إنسانية عامة، كما كان يرمي أيضًا إلى أن تكون للعالم كله لغة واحدة تكون أمًّا من لغة عالمية موجودة، أو من لغة كالإسبرنتو، وكان أيضًا يرى المساواة وأنه نزلت عليه سورة تسمى الملوك، أنب فيها سلطان تركيا؛ لأنه فرق بين حقوق شعبه، وجعل لبعضهم على بعض امتيازات.

وكان يرى المثل الأعلى في الزواجِ الزواجَ بزوجة واحدة، ولكنه أباح في حالات خاصة الزواج باثنتين، وأباح الطلاق للضرورة، وكان يرى أيضًا أن الشريعة الإسلامية إنما كانت صالحة لزمانها، ولكن لا تصلح لزمانها؛ ولذلك غير من شعائرها فلم يحتفظ بصلاة الجماعة إلا في صلاة الجنائز، واستنجس الحمامات الفارسية وحبذ الطهارة الجسمانية وأباح لأتباعه أن يعملوا كل شيء ما لم يخالف العقل البشري، وشنع علماء وقته ووصفهم بالملق والنفاق، وبتعويق الإرادة ونسخها ولم يؤمن بالحرية السياسية، وقال: إن الفرق بين الإنسان المتمدن والحيوان أن الإنسان المتمدن كبح جماح الحريات الحيوانية، وليس للحريات نتيجة إلا الفوضى وخير للناس أن يعيشوا عيشة محكومة بالقيود المعقودة. ولما مات بهاء الله انتقلت زعامته سنة ١٨٩٢ إلى ابنه عباس أفندي، وتسمى «بعبد البهاء» أو «غصن أعظم»، وقد لقيته أثناء سفره إلى أمريكا في فندق بالزيتون «ضاحية من ضواحي القاهرة»، وكنت إذ ذاك طالبًا في مدرسة القضاء الشرعي حوالي سنة ١٩١٠، وسمعت حديثه وكان مما لفت نظري خضوع أتباعه له خضوع الصالحين لله، ودلني حديثه على اطلاع واسع وعلم بالفلسفة الإسلامية القديمة كفلسفة ابن سينا وابن رشد وعلم بالفلك والطبيعيات، ولكن كنت كلما سألته عن مذهبه وأركانه حول الحديث إلى مسائل عامة، وكره أن يتكلم في هذا الموضوع، وقد زاد في تعاليم أبيه ونزع إلى التوفيق بينها وبين العقليات الغربية والأمريكية، وكان يستشهد بالكتاب المقدس على بعض أشياء تؤيد ديانته، وقام البهائيون في العالم بحركة واسعة كبيرة، حتى دخل كثير من الناس فيها، ودخل فيها عدد كبير من النساء الأمريكيات اللائي ناصرها، وكان بعضهم وبعضهن يذهبون إلى جبل الكرمل في فلسطين لرؤية الإله الجديد، ومن أشهر الذاهبات الآنسة لورا التي كانت تصحب عبد البهاء، وتكتب اختزال ما ينطق به وتنشره في العالم، ورأينا في القاهرة عددًا غير قليل يتبعون مذهبه حتى إن اسم البابية اختفى وحل محله اسم البهائية. وقد أنشئوا على حدود روسيا بناءً عامًّا يعقدون فيه اجتماعاتهم، كما اتخذوا مكانًا فسيحًا في بغداد يجتمعون فيه.

ولما استولت الحكومة عليه رفعوا عليها دعوة. وكانوا يؤثرون التقية كسائر الفرق الشيعية، ويخفون دينهم عن غير أتباعهم، ولهم أتباع كثيرون في فارس يقدرون بثلاثة ملايين. وأتباع كثيرون في أوروبا وأمريكا، ولهم مجلة في أمريكا تصدر منذ سنة ١٩١٠، وهي تصدر تسعة عشر عددًا في السنة طبقًا لتصديق الباب دائمًا لهذا العدد، ومصدرها الرئيسي شيكاغو. وهم يبنون بناءً يريدون أن يكون بناءهم المعتمد وسموه «مشرق الأذكار». ومن اعتنق البهائية من اليهود استخرج من التوراة ما يؤيدها كالآية التي وردت في سفر أشيعاء، وهي «يولد لنا ولد ونعطى ابنًا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبًا مشيرًا إلهًا قديرًا أبدًا أبديًّا».

وقد كتب الأستاذ براون في كتاب دائرة المعارف في الدين والأخلاق يالإنجليزية مقالًا بديعًا في البابية، يدل على بعد النظر وسعة الاطلاع وعمق التفكير، ومن أحسن ما فيه إظهار الأثر الاجتماعي للفرقة البابية والبهائية.

وإذ كان البابية والبهائية تدعوان إلى السلام، وتبطلان الجهاد الذي جاء به الإسلام، وتعدان الناس إخوانًا لا فرق بين فارسي وإنجليزي ولا شرقي وأوروبي، كان من مصلحة الإنجليز أن يحتضنوهما؛ لأنهما تمكنانهم من الاستعمار من غير مقاومة ولا جهاد، والدعوة إلى السلام إنما تكون صالحة يوم يتفق عليها الناس جميعًا، أما إذا دعا إليها الضعفاء وبقي الأقوياء يتسلحون كانت صحبة كصحبة الحمل للذئب والأعزل للمسلح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤