الفصل الرابع عشر

المدة الثانية

الحملة الفرنساوية على الشام

١

ندخل الآن في المدة الثانية من الدور الثالث، وهي عبارة عن الزمن الذي قضاه نابوليون في غارته على الديار الشامية إلى أن عاد إلى القاهرة يائسًا من تحقيق أحلامه في بلاد الشرق، وقد سبق لنا القول إن الدولة العليا اتحدت مع إنكلترا وروسيا على محاربة فرنسا وإخراج جنودها من أرض مصر، فأعلن الباب العالي الحرب على فرنسا رسميًّا في ٢١ ربيع الأول سنة ١٢١٣ الموافق ٢ سبتمبر سنة ١٧٩٨، والحق يقال: إن نابوليون كان أبعد نظرًا من جميع رجال السياسة في فرنسا؛ لأنه فكر في إمكان قيام الدولة العلية عليه، فحسب لذلك ما حسب من سوء العواقب قبل أن يبرح فرنسا بحملته، بدليل أنه كتب من إيطاليا إلى مسيو تالليران (Talleyrand) وزير الأمور الخارجية بتاريخ ١٣ سبتمبر سنة ١٧٩٧ «أي: قبل إعلان الدولة العثمانية الحرب على فرنسا بسنة كاملة» خطابًا محفوظًا الآن بوزارة الخارجية يطلب منه اتخاذ الوسائل اللازمة لإرضاء الباب العالي وحمله على قبول الاحتلال الفرنساوي لمصر، بل وزاد نابوليون في ذلك إذ طلب من تالليران أن يذهب بنفسه إلى الآستانة ليبذل ما أُوتي من حكمة ودهاء للتأثير على رجال الدولة العلية.
إلا أن تالليران لم يكن في الحقيقة صافي النية نحو نابوليون، كما يشهد بذلك تاريخه معه حتى بعد ارتقاء نابوليون إلى عرش فرنسا، وطالما أظهر نابوليون الحقد عليه وطعن في ذمته وإخلاصه في مذكراته وأحاديثه في سانت هيلانة، ولذلك لم يذهب تالليران إلى الآستانة، قال «ميو» في مقدمة كتابه: «ولما كان نابوليون يحب دائمًا أن يشرك الرجال معه فيما يذهب إليه من الأخطار١ طلب من تالليران أن يذهب إلى الآستانة، وبرح نابوليون فرنسا وهو معتقد بصدق وعود تالليران ولكن الأول لم يدرك أن الثاني كان أكثر منه دهاء وخبثًا؛ لأنه تركه يرحل لمصر وهو عارف بما ستؤدي إليه نتائج تلك الحملة، وبقي في باريس و،خدع بذلك أحد أعضاء الديركتوار الذي كان يتطلع إلى منصب وزارة الخارجية.»
ومع ذلك فإن تالليران لم ينس أن يكلف سفير الجمهورية الفرنسية في الآستانة أن يبذل نفوذه للتأثير على الباب العالي لأجل منعه عن الانضمام إلى إنكلترا وروسيا، فقد رأيت في كتاب المرحوم سرهنك باشا «حقائق الأخبار في دول البحار» وهو في هذا ناقل عن المصادر التركية قوله: «إن الدولة العلية أخذت تسعى في استرجاع مصر، وإخراج نابوليون منها بالقوة رغمًا عن المساعي التي أجراها مسيو روفن Ruffin سفير فرنسا لدى الباب العالي لإقناع الدولة وجعلها تعتبر حركات بونابرت حبية لا عدائية؛ لأن الدولة وقتئذ عدت ذلك بمثابة إعلان حرب من فرنسا عليها وسجنت السفير روفن المذكور في «يدي قلله» مع باقي الفرنساويين المقيمين في القسطنطينية كالعادة، ثم أخذت تجهز جيوشها وأساطيلها وعقدت لذلك معاهدات دفاعية مع دولتي الروسيا وإنكلترا على يد مندوبها المسمى عصمت بك أحد الصدور العظام وعاطف أفندي رئيس الكتاب.»

ونحن لا نحتاج إلى تذكير القارئ بأن إنكلترا لما اتفقت مع الدولة العثمانية على محاربة فرنسا في مصر، إنما كانت تنفذ خطتها السياسية، وتقاليدها الأساسية، وهي أن لا توجد على ضفاف النيل دولة قوية؛ تلك السياسة التي ظهرت واضحة جلية في جميع حوادث القرن التاسع عشر الميلادي بمصر، من إخراجها الفرنسيين من هذه الديار، وبمقاومتها محمد علي باشا وإضعاف دولته وخضد شوكته، وفي مقاومة إنشاء قناة السويس، وفي مساعدتها إسماعيل باشا على الإسراف، وباتخاذ ديون مصر وسيلة للتدخل في شئون البلاد، وإلهابها شرارة الثورة العرابية توسلًا لاحتلال مصر.

وأما روسيا التي لم تكن في ذلك الحين قد رسمت سياستها الآسيوية تلك السياسة التي حولت بها وجهها شطر التوسع في آسيا والتطلع إلى الهند، فإنها لعداواتها للجمهورية الفرنساوية، وخشيتها من انتشار أفكار الثورة الفرنسية في البلاد الروسية، رضيت أن تدخل في اتفاق مع عدوتها تركيا وإنكلترا لإخراج فرنسا من أرض مصر، وهكذا السياسة دائمًا تُعادي وتُصافي للمصلحة قبل كل شيء.

بدأت تركيا حربها ضد فرنسا باحتلال الجزر اليونانية الواقعة في بحر الادرياتيك وكان نابوليون، لما قهر جمهورية فينيسيا«البندقية»، احتل تلك الجزر وضمها إلى الجمهورية الفرنساوية، قال سرهنك باشا في كتابه المشار إليه «وصلت الدوننما الروسية من البحر الأسود إلى الآستانة وانضمت إليها الدوننما العثمانية، ثم أقلع الأسطولان سوية من البوغاز وقصدا بحر الادرياتيك، واستوليا على البلاد التي كانت فرنسا واضعة يدها عليها هناك بمساعدة دلنلي علي باشا، وبعد أن تم لها ذلك شكلت الدولة الروسية هناك جمهورية مكونة من عدة جزائر يونانية عرفت بجمهورية الجزائر السبع، وكفت الدولة وقتئذ أحمد باشا الجزار والي عكا أن يبعث جيشًا لاحتلال العريش.»

ويرى القارئ، من الشذرات التي نقلناها واعتمدنا عليها من كتاب سرهنك باشا، التمرق بين ما يكتبه في التاريخ أهل المعرفة والاطلاع وذووالإلمام بلغة أو بلغتين من اللغات الأجنبية، وبين ما يكتبه في هذا الفن من لا يكلف نفسه مشقة الفحص والتمحيص، وينقل من الكتب العربية أغلاطها، ويقع فيما وقع عليه فيه كتابها عن جهل قهري، فالجبرتي مثلًا إنما يعتمد عليه في الأمور المحلية والحوادث الوقتية اليومية، ولكن معرفة الأمور الخارجية والمسائل السياسية تحتاج للرجوع إلى الكتب التركية أو الأوروبية إجمالًا، ولقد وقع سرهنك باشا في كتابته عن هذه الفترة في أغلاط جمة وبما أشرنا إليها في سياق الكلام.

ولنعد إلى تاريخ حملة نابوليون على سورية فنقول: ذكر نابوليون في مذكراته التي أملاها على الجنرال برتران في سانت هيلانة أنه لو بقي الفرنساويون في مصر ينتظرون في الغارة عليها من البحر والبر لعرضوا أنفسهم لأخطار كبيرة لا قبل لهم بها، ولذلك صمم نابوليون على مهاجمة أعدائه قبل أن يهاجموه، وبدأ في تجهيز الحملة على سورية، وكان نابوليون يؤمل أن ينضم إليه مسيحيو سوريا ودروز جبل لبنان لما يقاسيه أولئك من ظلم الجزار وقبائحه، وكان من جهة أخرى يصور لنفسه إمكان تأليف جيش كبير من أهالي سوريا ليسير بهم إما شمالًا إلى الآستانة وإما جنوبًا بشرق إلى بلاد فارس والأقطار الهندية ليعيد ذكرى الإسكندر المقدوني ويتوج قيصرًا على كل هاتيك الممالك والأصقاع، فقد جاء في مذكرات «بوريين» أن نابوليون التفت إليه وهما سائران بالقرب من الشاطئ أمام عكا وقال:
بوريين! إذا نجحت في فتح هذه المدينة، كما أعتقد أنني سأنجح، فإنني سأجد فيها كنوز الجزار، وأجد أسلحة تكفي لثلاثمائة ألف جندي، وعند ذلك أهيج أهالي سورية الذين يبغضون الجزار لظلمه، ويسألون الله صباح مساء أن أنجح في دخول عكا، ثم أسلح منهم جيشًا عرمرما وأقصد دمشق وحلب فينضم إليَّ القوم كمخلص لهم من المظالم، ثم أسير بجيوش لفتح الآستانة وأنشئ في الشرق إمبراطورية عظيمة الشأن تنقش اسمي على أحجار الأبدية، وربما عدت إلى باريس من طريق أدرنة وفينا بعد أن أمحي من صحيفة الوجود بيت هابسبورج.٢

إيه أيتها الأحلام! ما أحلاك ساعة التصور وأمرك عند صحو التحقيق:

تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدرون فتضحك الأقدار!

٢

عاد نابوليون من رحلته إلى السويس في السابع من شهر يناير سنة ١٧٩٩، قال الجبرتي «وفي ليلة الاثنين غاية شهر رجب حضر ساري عسكر بونابرت من ناحية بلبيس إلى مصر ليلًا، وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العبابدة وخلافه رهائن وضربوا أبو زعبل والمنير وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم للقاهرة، وخلفهم أصحابهم رجالًا ونساء وصغارًا.»

وما فعل ذلك نابوليون بعرب الشرقية وأخذ زعماءهم رهائن إلا ليأمن جانبهم في حملته على الشام، أو ليتقي شرهم في حال هجوم الجنود التركية التي كانت في ذلك الوقت قد احتلت العريش وأخذت في الزحف على مصر، وأول ما بدأ الشيخ الجبرتي ينوه بحملة الشام قوله في حوادث يوم ١٢ رجب «وقد ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطية وشرعوا في بناء أبنية هناك، وأشيع سفر ساري عسكر إلى الشام والإغارة عليها.» وذكر في حوادث ١٩ رجب أيضًا «أنه كثر الاهتمام والحركة لسفر الفرنسيس إلى جهة الشام، وأخذوا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط، ثم رسموا على الأهالي عدة كبيرة من الحمير والبغال فخاف الناس على حميرهم وامتنع خروج السقايين والبراسمية، وحصل للناس ضيق بسبب ذلك.»

نقلنا هذه العبارة من الجبرتي ليرى القراء أسلوب الفرنساويين في الاعتداء على المساكين، وأخذهم دوابهم التي يتعيشون منها، وكأنهم استحلوا كل ما في أيدي المصريين واعتبروه ملكًا لهم يأخذونه أنى شاءوا وكيفما شاءوا.

وقبل أن يعلن نابوليون للمصريين بعزمه على غزوة الشام كتب منشورًا على لسان أعضاء الديوان الخصوصي تزلف فيه إلى المصريين، وبالغ في التلطف معهم إلى حد بعيد، وهذا المنشور مكتوب بعبارة عربية مسجعة تشابه أسلوب المعلم نقولا في رسالته، ولعل نابوليون كلفه بتحرير ذلك المنشور بعد أن مدحه بقيصدته المعلومة التي جعلها مسيو مارسل المستشرق موضوع محاضرة له في دار المجمع العلمي، وقد وزع المنشور في يوم ٢١ من شهر شعبان سنة ١٢١٣ / ٢٨ يناير سنة ١٧٩٩ وهذا هو:

الحمد لله وحده، هذا خطاب إلى جميع أهل مصر من خاص وعام، من محفل الديوان الخصوصي من عقلاء الآنام، علماء الإسلام، والوجاقات والتجار الفخام، نعلمكم معاشر أهل مصر أن حضرة ساري عسكر الكبير بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية صفح الصفح الكلي عن كامل الناس والرعية، بسبب ما حصل من أراذل أهل البلد والجعيدية، من الفتنة والشر مع العساكر الفرنساوية، وعفا عفوًا شاملًا، وأعاد الديوان الخصوصي في بيت قائد أغا بالأزبكية، ورتبه من أربعة عشر شخصًا أصحاب معرفة واتقان، خرجوا بالقرعة من ستين رجلًا كان انتخبهم بموجب فرمان، وذلك لأجل قضايا حوائج الرعايا وحصول الراحة لأهل مصر من خاص وعام، وتنظيمها على أكمل نظام وإحكام، كل ذلك من كمال عقله وحسن تدبيره، ومزيد حبه لمصر وشفقته على سكانها من صغير القوم قبل كبيرة، رتبهم بالمنزل المذكور كل يوم لأجل خلاص المظلوم من الظالم، وقد اقتص من عسكره الذين أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري، وقتل اثنين بقراميدان وأنزل طائفة منهم عن مقامهم العالي إلى أدنى مقام؛ لأن الخيانة ليست من عادة الفرنسيس، خصوصًا مع النساء الأرامل فإن ذلك قبيح عندهم لا يفعله الإ كل خسيس، ووضع القبض بالقلعة على رجل نصراني مكاس؛ لأنه بلغة أنه زاد المظالم في الجمرك بمصر القديمة على الناس، ففعل ذلك بحسن تدبيره ليمتنع غيره من الظلم، ومراده يرفع الظلم عن كامل الخلق، ويفتح الخليج الموصل من بحر النيل إلى بحر السويس لتخف أجرة الحمل من مصر إلى قطر الحجاز الأفخم، وتحفظ البضائع من اللصوص وقطاع الطريق، وتكثر عليهم أسباب التجارة من الهند واليمن وكل فج عميق، فاشتغلوا بأمر دينكم وأسباب دنياكم، واتركوا الفتنة والشرور، ولا تطيعوا شيطانكم وهواكم، وعليكم بالرضا بقضاء الله وحسن الاستقامة، لأجل خلاصكم من العطب والوقوع في الندامة، رزقنا الله وإياكم التوفيق والتسليم، ومن كانت له حاجة فليأت إلى الديوان بقلب سليم، إلا من كانت له دعوة شرعية، فليتوجه إلى قاضي العسكر المتولي بمصر المحمية، بخط السكرية، والسلام، على أفضل الرسل على الدوام ا.ﻫ.

وأما حكاية اقتصاص نابوليون من جنوده الذين «أساءوا بمنزل الشيخ محمد الجوهري» ذلك القصاص الذي يتدلل به المصريين، ويوهم به أن الاعتداء على النساء ليس من عادة الفرنسيس؛ فهي إن الشيخ محمد الجوهري الذي سبق الكلام عنه لما رأى تزاحم الفرنساويين على السكنى بحي الأزبكية، هجر داره التي كانت له مطلة على البركة بالقرب من باب الهواء، وترك فيها بعض الخدم من رجال ونسوة فحيل لبعض الفرنسيين في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب — وذلك قبل عودة نابوليون من السويس بثلاثة أيام — التعدي على تلك الدار لأمر ما، فاستيقظ النسوة الخادمات وصرخن فضربوهن وقتلوا منهن امرأة وحاولوا هتك عرض بنت خادمة، ففرت منهن إلى مكان خفي في قعر الدار، قال الجبرتي: «وعاثوا في الدار وأخذوا متاعًا ومصاغًا ونزلوا فاستيقظ البواب واختفى منهم.» وقال: «فلما قدم ساري عسكر من سفره ركب مشايخ الديوان وأخبروه بأمر ذلك الاعتداء على منزل الشيخ الجوهري فاغتم لذلك وأظهر الغيظ.»

ولولا أن الشيخ الجوهري له تلك المنزلة العالية التي يركب لأجلها مشايخ الديوان، لما اغتم ولا اهتم نابوليون بأمر ذلك الاعتداء القبيح على داره وخدمه! ولو كان فيه نساؤه وبناته للحقهن ما لحق خادماتهن! ولكن ألم يكن يقع مثل ذلك مع أسر كثيرة في جميع أحياء القاهرة؟ وهل كنا ننتظر من الشيخ الجبرتي أن يدون لنا كل ما حصل من ذلك في دور محمد وإسماعيل وإبراهيم وسيد أحمد مثلًا …؟

ولولا أن نابوليون في ذلك الوقت كان قادمًا فيه على حرب عوان مع جميع المسلمين شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، لما تزلف إلى المصريين، ولا همة منزل الجوهري وخادماته، مهما عظم مقامه وجل شأنه؛ إذ لا نزاع في أن نابوليون كان أحوج إلى جندي فرنسي من أن يريق دمه فداء لمصرية أو لمصري! ولكنه رضي مكرهًا أن يقتص من اثنين أو ثلاثة من الجنود ليبرهن للمصريين على عدله وليقربهم إليه زلفى، ومع ذلك فنحن لا نعرف كيف اقتص من الجنود، وغاية ما نعرفه هو أن الجبرتي ذكر في حوادث أول شعبان العبارة الآتية: «إنهم قتلوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس وبندقوا عليهم بالرصاص بالميدان تحت القلعة قيل: إنهم من المتسلقين على الدور»! ومن يدرينا، أو يدري الجبرتي، أن أولئك الثلاثة ليسوا من المجرمين الذين ارتبكوا إجرامًا فاحشة ضد القواد أو الضباط أو الجيش مثلا …؟

ولنعد إلى الحملة الشامية فنقول إن نابوليون شرع في الاستعدادات لتلك الحملة، وبدأ في تسييرها من القاهرة في الأيام الأولى من شهر رمضان من تلك السنة الموافق شهر فبراير سنة ١٧٩٩، ولم يجد مناصًا أمام ما ظهر للناس من حركة الجنود، وما أذيع في طول البلاد وعرضها من قرب هجوم الأتراك على مصر، أن يعلن للمصريين بصفة رسمية عزمه على غزو الشام، فجمع لديه أعضاء الديوان، وقال لهم كلامًا طويلًا خلاصته أنه قد قضى على المماليك في الوجهين القبلي والبحري، من أرض مصر، وأنه قد عزم على أن يذهب ليبيد البقية الباقية منهم؛ أي: أولئك الذين فروا مع إبراهيم بك إلى سوريا، وصاروا يهددون الأقطار المصرية، ويبعثون بالمكاتبات والمنشورات المهيجة للأمة، ليقضي عليهم، ويريح العباد من شرورهم، وألقى على المشايخ كلامًا ثقيلًا وهددهم وآلهم بالفناء والعدم إذا حصل في البلاد أثناء غيبته شغب أو فتنة، قال الجبرتي: «وكتبوا أوراقًا مطبوعة في هذا المعنى وألصقوها بالطرق.» ولا ندري لماذا لم ينشر الجبرتي نص هذا المنشور كأثر من الآثار التاريخية لتقف منها الأجيال الخالفة على تمويهات السياسة في ذلك الزمن، ولهذا يحق لنا أن نذكر المعلم نقولا الترك بالخير لوضعه نص ذلك المنشور في رسالته، وقبل أن نأتي على نصه نقول: إن نابوليون قد تحاشى، سواء في خطابه الذي ألقاه على أعضاء الديوان، وسواء في هذا المنشور، ذكر أنه يحارب الدولة العثمانية أو الأتراك، وقصده بذلك ظاهر؛ إذ إنه لا يزال يوهم المصريين بأن الدولة العلية غير غاضبة على احتلاله مصر، وأنه إنما جاء لمحق سلطة المماليك الظالمين.

إلا أنه مع هذا الحرص مهد أذهان القوم لقبول فكرة الانفصال عن تركيا بإعطاء نفسه لقب «السلطان أمير الجيوش» ولعل الجبرتي لم ينشر ذلك المنشور بنوع خاص لوجود ذلك اللقب فيه، نعم إن كتاب الفرنسيين قالوا وكرروا وأكدوا أن المصريون كانوا يلقبون بونابرت «بالسلطان الكبير» من أول يوم وطئت فيه قدماه أرض القاهرة، ولكنا لا نزال نؤكد أن ذلك لم يكن إلا من أفواه المداحين والمنافقين، سواء من بعض المسلمين أو النصارى السوريين أو بعض الأقباط، والجبرتي لم يذكر هذا اللقب قط، وضن أن يكون في مصر لقب سلطان مع وجود سلطان آل عثمان خليفة المسلمين، وكذلك لم يرد في كل منشورات نابوليون، سواء المقولة عن لسانه، وسواء المنسوبة إلى المشايخ وأعضاء الديوان، ذكر لذلك اللقب إلا في هذا المنشور الذي رفض الجبرتي تسطيره ودونه المعلم نقولا الترك، ولم يكن لنابوليون مصلحة في انتحال هذا اللقب لنفسه؛ إذ كانت تقضي عليه السياسة والحكمة بعكس ذلك، فهو ابن الثورة الفرنساوية التي ثلّت عروش الملوك، والتي تُنادي بالحرية والإخاء والمساواة، ولا يخاطب الوزير أو الحقير إلا بلفظ ستواين «مواطن» وهذا نص المنشور نقلًا عن رسالة المعلم نقولا ننقله بنصه وقصه:

من محفل الديوان الخصوصي إلى جميع الأقاليم المصرية نخبركم أن أمس تاريخه خامس شهر رمضان المعظم، توجه حضرة الدستور المكرم سر عسكر الكبير بونابرته، أمير الجيوش الفرنساوية مسافرًا يغيب ثلاثين يومًا لأجل محاربة إبراهيم بك الكبير وبقية المماليك المصرية حتى تحصل الراحة الكلية للأقاليم المصرية، من هؤلاء الأعداء الظالمين، الذين لا راحة فيهم، ولا رحمة في دولتهم على أحد من رعيتهم، وقد وصلت الآن مقدمة الجيوش الفرنساوية إلى العريش، وعن قريب يأتيكم خبر «قطيعة» إبراهيم بك ومن معه من المماليك نظير ما وقع في «قطيعة» أخيه مراد بك ومن معه في إقليم الصعيد، فيقطع دابرهم من بر الشام كما انقطع دابرهم من إقليم الصعيد بالتمام، ويبطل القيل والقال، وتذهب الكاذبة التي تسمعونه من أوباش الرجال، ونخبركم أن حضرة الساري عسكر المشار إليه، يتجدد له كل يوم نية الخير والرحمة، ويحدث في تصميم الشفقة والرأفة، هذه هي نيته لكم في كل الأقطار المصرية، ويحصل لهم النجاح والصلاح، ويكمل في سائر أقطارها السرور والإصلاح، وتفرح أقاليمها على يد سلطانها بونابرته بمشيئة الله الذي مكنه فيها، ونصره على من ظلم فيها من المماليك المفسدين، ولا يتم خلاصها بالكلية وتتطهر من دولة المماليك الردية، إلا ببذل همته ورأيه السديد، في تكميل نظامها بخضوعهم لسيوفه الباترة، وتكمل زروعها الفاخرة، وأنواع تجارتها الباهرة، ويحدث فيها برأيه وحسن تدبيره التحف من أنواع الحرف والصنايع النفيسة، ويجدد فيها ما اندثر من صنائع الحكماء والأولين، ويرتاح في دولته كل الفقراء والمساكين فالتزموا يا أهل سكان الأرياف والفلاحين بحسن المعاملة والأدب، واجتنبوا في غيبته أنواع الكذب والقبائح حتى يراكم حين يعود بعد الشهر قد أحسنتم المعاملة، ومشيتم على الاستقامة، وينشرح صدره منكم، ويرضى عليكم، وإن حصل منكم في غيابه أدنى خلل ومخالفة حل بكم الوبال والدمار، ولا ينفعكم الندم، ولا يقر لكم قرار! واعلموا أن ذهاب دولة المماليك بقضاء الله وقدرته، ونصرة سلطانكم أمير الجيوش عليهم بتقدير الله وأمره، والعاقل يمتثل إلى أحكام الله، ويرضى بمن ولاه والله يؤتي ملكه من يشاء والسلام عليكم ورحمة الله.

٣

واتبع المعلم نقولا هذا المنشور بإمضاءتين فقط وهما على الشكل الآتي: «الداعي لكم الفقير عبد الله الشرقاوي رئيس الديوان الخصوصي عفا الله عنه، والداعي لكم الفقير السيد محمد المهدي الحفناوي كاتم السري؛ وباشكاتب الديوان عفا الله عنه.»

وقد كان هذان الشيخان يمضيان دائمًا على منشورات الفرنساويين وبلاغاتهم عن الحرب في الشام، وكان قد اختار نابوليون جماعة من العلماء لمرافقته لتلك الأقطار ليوهم العالم الإسلامي بأن رجال الدين يسيرون في ركابه ويشهدون بعدله وإحسانه، ولا شك في أن اختيار هذين الشيخين لإمضاء المنشورات راجع في الأكثر إلى الصفة التي لكل واحد منهما في الديوان الخصوصي؛ لأن الشيخ عبد الله الشرقاوي كان رئيس الديوان والشيخ محمد المهدي كاتب سره، ولكن وجودهما في هذه المنزلة له أيضًا سبب آخر، وهو أنهما كانا من صنف المشايخ الذين نعرفهم ويعرفهم كل من له خبرة بأحوال هذه الديار وطبقات أهلها، كانا من ذلك النوع الذي كان أولى به الزهد في الدنيا وزخارفها، من أن يكون شرهًا في حب المال والتعلق بمظاهر الحياة الفانية.

كان الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشافعي من بلدة الدويلة بمديرية الشرقية، لذلك سمي «الشرقاوي» وكان في مبدأ أمره من الفقراء المعوزين يعيش من فضلات الناس الذين يلتصق بهم في أيام طلبه للعلم، ثم أخذ في التردد على الشيخ محمود الكردي من مشايخ الطرق الصوفية، فلما تُوفي هذا أخذ في إلقاء الدروس بالأزهر، وكان يجمع الطلبة والمجاورين للذكر في حلقات في دور الناس ليأخذوا بذلك الدراهم، وليأكلوا من قصع الثريد، ثم ارتقى به الحال حتى عد في طبقة العلماء، وتوصل إلى مشيخة الجامع الأزهر، قال الجبرتي الذي لخصنا منه ما تقدم عن الشيخ الشرقاوي في وفيات سنة ١٢٢٧ «أي: بعد المدة التي نحن بصددها بأربعة عشر عامًا»: «فلما حضرت الفرنساوية جعلوا المترجم رئيس الديوان، فانتفع في أيامهم بما يتحصل إليه من المعلوم والمرتب له عن ذلك، وقضايا وشفاعات ببعض الأجناد المصرية، وجعالات واستيلاء على تركات وودائع خرجت أربابها في زمن الفرنسيس وهلكوا، واتسعت عليه الدنيا وزاد طمعه فيها وكبر عمامته، وزوجته بنت الزعفراني هي التي تدبر أمره، وتحرر كل ما يأتيه ويجمعه، ولا يروح ولا يغدو إلا عن مشورتها، واشترت العقارات والحمامات والحوانيت.» ا.ﻫ.

وكان هذا الشيخ الشرقاوي أول من استقبل الأتراك وألف كتيبًا بناء على طلبهم سماه «تحفة الناظرين فيمن ولي مصر من الولاة والسلاطين» وقد سبق لنا نقل شذرة من هذه الرسالة، وهي الكلمة الوحيدة التي توجد في ذلك الكتيب، وجاء في مقدمته «إنه لما حل ركاب الصدر الأعظم، والوزير الأفخم، والدستور الأكرم، حضرة مولانا الوزير يوسف باشا، بلغة الله من المرادات ما شاء، بمدينة بلبيس في شهر رمضان سنة ١٢١٤ بعد حصول الصلح بينه وبين طائفة الفرنساوية في قلعة العريش، وذهبت مع بعض علماء مصر لملاقاته، طلب مني بعض الإخوان من أتباع ذلك الصدر الأعظم أن أجمع كتابا متضمنًا لواقعة الحال المذكور».

«فأين هذه الألقاب للوزير الأعظم، والدستور الأكرم من «سلطاننا بونابرته أمير الجيوش ذي العدل والإحسان والإصلاح والخير للرعية والملة المحمدية»؟

وكان ينتظر من أكبر علماء زمانه أن يكتب للأعقاب الخالفة تاريخًا ذا قيمة عن الحملة الفرنساوية في مصر، كما طلب منه ذلك من طلب أتباع الصدر الأعظم، ولكن رسالته المذكورة ليس فيها عن الحملة الفرنساوية إلا نحو ثلاث صفحات لا قيمة لها، قال الجبرتي في ترجمة الشيخ الشرقاوي: «وللمترجم طبقات جمعها في تراجم الفقهاء الشافعية المتقدمين والمتأخرين من أهل عصره، ومن قبلهم من أهل القرن الثاني عشر نقل تراجم المتقدمين منهم من طبقات السبكي والإسنوي، وأما المتأخرين فنقلهم من تاريخنا هذا بالحرف الواحد.»

وهذه العبارة تدلنا على أن بعض أجزاء تاريخ الجبرتي هذا كان مكتوبًا ومتداولًا بين الأيدي، والغالب على الظن أن بعض أجزائه الخطية كانت توضع في مثل مكاتب الأزهر، ثم قال الجبرتي: «وعمل تاريخًا مختصرًا في أربعة كرارريس وأهداه للوزير يوسف باشا عدد فيه ملوك مصر، وذكر في آخره خروج الفرنسيس ودخول العثمانية في نحو ورقتين، وهو في غاية البرود وغلط فيها غلطات»! وكانت وفاة الشيخ الشرقاوي في أول حكم محمد علي باشا.

وأما الشيخ محمد المهدي فتُوفي بعد الشرقاوي بثلاث سنوات؛ أي: سنة ١٢٣٠ هجرية، قال عنه الجبرتي: إن والده كان من الأقباط وأسلم الشيخ وهو صغير دون البلوغ على يد الشيخ الحفني الذي احتضنه ورباه، ثم دخل الأزهر وقصد للتدريس في سنة ١١٩٠ وتقرب من إسماعيل بك كتخدا وكيل حسن باشا الجزايرلي، وصاهر الشيخ محمد الحريري الحنفي وأقبلت عليه الدنيا، وزادت ثروته ورغبته وسعيه في أسباب تحصيل الدنيا، واشتغل بالشركات والتجارة في الكتان والقطن والأرز وغير ذلك، والتزم بعدة حصص في البحيرة والمنوفية والجيزة والغربية، وابتنى دارًا بالأزبكية ناحية الرويعي، ولما حضرت الفرنساوية وخافهم الناس لم ينقبض الشيخ المهدي عن المداخلة فيهم، بل اجتمع بهم وواصلهم وانضم إليهم، وسايرهم ولاطفهم وجاراهم في أغراضهم، وأحبوه وأكرموه وقبلوا شفاعاته ووثقوا بقوله، فكان هو المشار إليه في دولتهم مدة إقامتهم بمصر، والواسطة بينهم وبين الناس في قضاياهم وحوائجهم، وأوراقه وأوامره نافذة عند ولاة أعمالهم، وراج أمره في أيامهم وزاد إيراده وجمعه، وأقاموه وكيلًا عنهم في أشياء كثيرة وبلاد وقرى يجيء خراجها إليه، ويأتيه الفلاحون بالهدايا فيفعل بهم ما كان يفعله أرباب الالتزامات من الحبس والضرب وأخذ المصالح، وصار له أعوان وخدم وتبع من وجهاء الناس، ثم قال الشيخ الجبرتي الذي لخصنا ما تقدم عنه ما نصه: «وبالجملة فكان لوجوده وتصدره في تلك الأيام النفع العام، سد بعقله ثقوبًا واسعة وخروقًا، وداوى برأيه جروحًا وفتوقًا، لا سيما أيام اليهازع، والخصومات والتنازع، وما يكدر الفرنساوية من مخارق الرعية، فيتلاقاه بمراهم كلماته، ويسكن حدتهم بملاطفاته، ولما مضت أيامهم وتنكست أعلامهم، وارتحلوا عن الأقطار المصرية، ووردت الدولة العثمانية، كان المترجم أعظم المتصدرين في مقابلاتهم، وأوجه الوجهاء في مخاطبتهم ومكالمتهم، وبهرهم بتحيله واحتياله، واسترهبهم بسحره وخياله» … وبعد كلام طويل عنه وعن أولاده، قال: إنه اشترى دارًا كبيرة بناحية الموسكي «وهي المعروفة الآن بدار الشيخ المهدي» وكانت لبعض عتقى بقايا الأمراء الأقدمين، وتنتهي حدودها من الموسكي إلى حارة المناصرة أو إلى كوم الشيخ سلامة، ولم يدفع من ثمنها إلا العربون وكتب الحجة وسكنها، وماطل في دفع ثمنها كعادته في دفع الحقوق وغاب خمس سنوات متنقلًا في البلاد حتى مات في غيبته بعض أصحاب الدار التي اشتراها منهم، واستمر الحال بالشيخ المهدي حتى زمن محمد علي باشا، فكان ممن أوقع النفرة بين الباشا وبين السيد عمر مكرم، ونال بذلك أغراضه، ومنح النظر على أوقاف كان السيد عمر يحصل منها على أموال جمة، وأكثر المهدي من التردد على محمد علي باشا وأكابر دولته مثلما كان يفعل في زمن الفرنساويين وعين شيخًا للجامع الأزهر أيامًا قلائل، وكان كلما وجد امرأة من نساء البكوات المماليك ذات اليسار بغير زوج يقترن بها ويسقط مالها وتوالها في بئر عميق «هكذا تعبير الشيخ الجبرتي»، وترك المال الكثير والعقارات الواسعة والأطيان الشاسعة لأولاده وأولاد أولاده المعروفين الآن في القاهرة.

هذه خلاصة موجزة اقتطفناها من عدة صحائف من وفيات الجبرتي الطويلة لكي يكون القارئ لنفسه صورة عن زعماء العلماء في ذلك العصر، وما ذكرناها إلا لاختصاص الشيخين الشرقاوي والمهدي بإمضاء منشورات نابوليون وبلاغاته وتمويهاته على المصريين خاصة، والمسلمين في جميع بقاع الأرض عامة، حتى إذا وضعت تراجم أولئك العلماء بجانب ما في تلك المنشورات من العبارات، وجد للقارئ معيار يزن به الحقائق التاريخية ولهذا يهتم المؤرخون المحققون بالبحث عن صفات وأخلاق وظروف الأشخاص الذين يمثلون دورًا من الأدوار في حوادث عصر من العصور.

٤

ليس من غايتنا أن نتبع الحملة الفرنساوية في غارتها على الديار السورية؛ لأن ذلك يعتبر صفحة من تاريخ تلك البلاد، ونحن إنما نكتب تاريخ مصر في هذه الفترة ولكن ذلك لا يمنعنا من أن نلم إلمامًا عامًّا بحركات تلك الحملة في سوريا ونتائجها التي لها بلا شك ارتباط بتاريخ مصر، خصوصًا إذا لاحظنا في ذلك تاريخ محمد علي باشا وحملته على سورية واستيلاء الجيوش المصرية على الجزء الأكبر من سورية والأناضول، وانتصارات جنود مصرية نجحت حيث فشلت الجنود الفرنساوية تحت قيادة أعظم قائد عسكري أوجده الزمان؛ فنقول: إن الحملة الفرنساوية تألقت من نحو ثلاثة عشر ألف جندي تحت قيادة الجنرالات كليبر ورينيه ولأن وبون ومورات ودومرتين وكفريللي، وسارت هذه الحملة من جهات مختلفة من دمياط والصالحية وبلبيس والقاهرة، وكان خروج نابوليون من العاصمة في يوم الأحد ٥ رمضان سنة ١٢١٣ / ١٠ فبراير ١٧٩٩، وأخذ معه من المشايخ سليمان الفيومي ومصطفى الصاوي وعبد الرحمن العريشي ومحمد الدواخلي، واستصحب معه أيضًا قاضي عسكر إبراهيم أدهم أفندي «يجمقشي زاده» ومصطفى بك «الذي كان كتخدا الوالي والذي ولاه أمير الحج» واستصحب أيضًا جماعة من التجار والوجاقلية والأقباط والشوام.

وكان غرض نابوليون من استصحاب أولئك المشايخ والقاضي وأمير الحج التأثير بهم على المسلمين في سوريا لكي يفهمهم أنه على اتفاق تام مع المسلمين في مصر، وأنة إنما قدم سورية ليخلصها من مظالم الجزار، ولكنه لم يوفق في النهاية إلى وجود أولئك المعممين معه؛ لأنهم تخلفوا عنه في الطريق، ولهم حكاية طويلة كادت تحدث منها ثورة كبيرة سنأتي عليها في مكانها.

وقبل أن نتبع نابوليون في غزوته الديار الشامية وتعدد انتصاراته المتوالية — إذ لم يمض على خروجه من القاهرة أكثر من شهر من الزمان حتى كان قد استولى على العريش وغزة وخان يونس والرملة ويافا وحيفا، وابتدأ في حصار عكا — نقول قبل هذا نسأل: ماذا أعدت الدولة العثمانية لذلك المغير على بلادها، بعد أن حالفت إنكلترا واتفقت مع الروسيا على محاربته وإخراجه من أرض مصر منذ ٢ سبتمبر سنة ١٧٩٨؛ أي: قبل تحرك نابوليون للشام بنحو أربعة أشهر ونصف؟

كل ما نعلمه هو أن الدولة أعدت جيشًا في جزيرة رودس لإرساله لمصر، وعهدت إلى أحمد باشا الجزار والي عكا بإرسال الجيوش إلى الديار المصرية عن طريق الصحراء، ولكن الجزار كان رجلًا داهية لا يخفى عليه أن تجريد ولايته، التي استقل بها عن الدولة من جيوشه، يعرضه للوقوع في شراك الدولة، فلذلك لم يحفل بفرمانات الدولة وأوامرها كما يُؤخذ ذلك من خطاب بعث به يوسف باشا ضياء حين عين لقيادة الجيش الزاحف على مصر، وهذا الخطاب، موجود بنصه في الجزء الثاني من «تاريخ الأمير حميدر أحمد الشهابي» واكتفى الجزار بإرسال أربعة آلاف، خليطًا من المماليك المصرية والمغاربة والأرنئوط إلى قلعة العريش لتكون هذه القوة على مقربة منه، حتى إذا رأى من العثمانيين عين الغدر، استدعى تلك القوة إليه ثانية، وكانت هذه السياسة الخرقاء من أسباب ضعف الدولة في ذلك الحين وبعده إلى آخر عهد الإمبراطورية العثمانية.

ولنعد إلى نابوليون فنقول: إن فرقة الجنرال «رينيه» وصلت إلى العريش في ٢٠ فبراير، وحصلت بينه وبين القوة المرابطة فيها بعض وقائع حتى اضطرت تلك القوة إلى الالتجاء إلى القلعة، ولم يكن فيها من المدافع غير ثلاث قطع، فكيف تفعل أمام تلك الحملة المنظمة والمدافع الكثيرة والجنود العديدة؟ وقدم عبد الله آغا٣ من قبل الجزار من جهة غزة بقوة تزيد عن ستة آلاف مقاتل فتلقاها الجنرالان كليبر ورينيه وهجمت عليها الجنود الفرنسية ليلًا فبددت شملها قبل أن تتمكن من الوصول إلى نجدة العريش، وامتنعت القوة المرابطة في قلعة العريش وأبت التسليم إلى النهاية إلا على شريطة أن يسمح لها بالخروج بكامل سلاحها، ولم يرد نابوليون أن يفقد في هجومه على تلك القلعة نحو خمسمائة جندي من رجاله، وهو في أشد الحاجة إليهم بعد أن دام الحصار ثمانية أيام، ولذلك قبل شروط الحامية فسلمت وخرجت بسلاحها، بعد أن عاهد رجالها نابوليون وأقسموا بالشرف العسكري أن لا يرفعوا في وجهه سلاحًا، ما دام يحارب سورية «وعلى رواية أخرى لمدة عام» ولكن هذه القوة بعد أن خرجت قاصدة دمشق تحولت ثانية إلى يافا وانضمت إلى المحاربين، فكان عملها هذا مسوغًا لنابوليون أمام نفسه وضميره لقتل من قتل في تلك المجزرة البشرية التي بقيت وصمة في تاريخه على الرغم من الأسباب الوجيهة التي دافع بها عن نفسه وعمله في مذكراتاه في سنت هيلانة.

ولما استولى الفرنساويون على العريش أرسلوا إلى القاهرة بخبر انتصارهم فأقيمت الزينات وأطلقت المدافع، قال الجبرتي في حوادث ٢٥ رمضان: «وبعد الظهر عملوا الشنك الموعود به وضربوا عدة مدافع بالقلعة والأزبكية، وأظهر النصارى الفرح والسرور بالأسواق والدور، وأولموا في بيوتهم الولائم، وغيروا الملابس والعمائم، وتجمعوا للهو والخلاعة، وزادوا في القبح والشناعة.»

ولما استولى نابوليون على العريش أصدر منشورًا لأهالي سوريا كما فعل في الإسكندرية لأهالي مصر، وقد رأينا من باب المقارنة والفائدة التاريخية أن نأتي على بعض شذرات منه فيما يأتي:

بسم الله الرحمن الرحيم … وبه نستعين

من طرف بونابرته أمير الجيوش الفرنساوية إلى كافة المفتيين والعلماء وكافة أهالي نواحي غزة والرملة ويافا حفظهم الله تعالى! بعد السلام نعرفكم أننا حررنا لكم هذه السطور نعلمكم أننا حضرنا إلى هذا الطرف بقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم، وإلى أي سبب حضور عسكر الجزار وتعديه على بلاد يافا وغزة التي ما كانت من حكمه، وإلى أي سبب أرسل عساكره إلى قلعة العريش، بذلك هجم على أرض مصر فلا شك كان مراده إجراء الحروب معنا ونحن حضرنا لنحاربه.

ومن هذا يرى القارئ أن نابوليون مع أنه يحارب الدولة العثمانية في بلادها، ومع أنها أعلنت الحرب عليه وعلى فرنسا فإنه لا يزال متمسكًا بأنه لا يحارب تركيا، ولا يقصد التعدي إلا على المماليك وأحمد باشا الجزار الذي بادأه العدوان! ثم جاء في هذا المنشور:

وقصدنا أن القضاة يلازمون وظائفهم وأن دين الإسلام لا يزال معتزًّا ومعتبرًا والجوامع عامرة بالصلاة وزيارة المؤمنين … والذي يتظاهر لنا بالحب يفلح والذي يتظاهر بالغدر يهلك … إلخ.

وليلاحظ أن أسلوب هذا المنشور الموجود نصه في الجبرتي يُخالف لهجة المنشورات الأخيرة التي طبعت في القاهرة بعبارة مسجعة فصيحة نوعًا ما، ويظهر أن هذا التركيب الركيك من إنشاء «فنتور» المستشرق الذي صحب نابوليون في حملة سورية ومات أمام عكا بالطاعون، أو من إنشاء بعض كتبة الدواوين الذين أخذهم معه، وكان من الذين سلموا في العريش عدد كبير من المماليك المصريين الذين تبعوا إبراهيم بك، وأولئك اختاروا أن يعودوا لمصر، فأرسلهم نابوليون مع بعض جنده إلى مصر وانضم ثلاثمائة من المغاربة إلى الجيش الفرنسي فسلحوا، وانقلبوا من محاربة الفرنساويين، إلى محاربة الذين كانوا يحاربون معهم غيرة على الدين والملة!!

ولما احتل الفرنساويون العريش كلفوا مشايخ الديوان بنشر بلاغ وضعوه لهم وأمضاه السيد البكر بصفته نقيب الأشراف، والشيخ الشرقاوي بصفته رئيس الديوان، والشيخ المهدي بصفته كاتبه، وعجيب أن الجبرتي لم يكتب نص هذا المنشور أو البلاغ، ولكن المعلم نقولا الترك نشره في رسالته، فرأينا أن نأتي على نصه لعدم وجوده في الكتب المتداولة، ولأنه يشرح كيفية الاستيلاء على العريش، وهذا نصه:٤
لا إله إلا الله الحق المبين، ومحمد رسول الله الصادق الوعد واليقين، نعرف آل مصر وسائر الأقاليم أن توجهت الفرنساوية إلى الديار الشامية وحاصروا قلعة العريش من عشرة رمضان إلى سبعة عشر منه ووقعت مقاتلة عظيمة خارج القلعة، وكان في القلعة نحو ألف وخمسمائة نفر غير من قتل خارجها، فلما طال عليهم الحصار، وتهدمت أسوار القلعة من ضرب الفرنساوية بالمدافع عليها وتيقنوا بالهلاك، وهكذا أصحاب المروءات وهؤلاء اعتقهم وأطلق في سبيلهم، وبعض الكشاف والمماليك الذين كانوا في القلعة نحو ستة وثلاثين جنديًّا طلبوا من حضرة السر عسكر أن ينعم عليهم برجوعهم إلى مصر إلى عيالهم، وبيوتهم فأحسن إليهم وأرسلهم إلينا وإلى وكيله، ودخلوا عليه يوم الأحد في ٢٦ رمضان معزوزين مكرومين،٥ وأرسل السر عسكر أن يؤتى بإكرامهم «لعله يوالي إكرامهم» إن داموا على عهدهم الذي حلفوا به في العريش، وإن خانوا وهانوا فيحصل لهم من يده الانتقام! وأمر في الفرمان أن الجنرال دوكا يأمر التجار بالسفر في القوافل إلى بر الشام لينتفعوا بالمكاسب أصحاب التجارة، وينتفعوا سكان بر الشام ببضائع مصر حسب العادة السابقة ليحصل الأمان بحلوله في تلك الأراضي، وكتب حضرة وزيره الجنرال إسكندر برتبة فرمانا يخبرنا ويخبر حضرة الوكيل بالحالة التي وقعت إلى عساكر إبراهيم بك وبعض من عساكر الجزار والمساعدين له، وأن الفرنساوية وجدوا في قلعة العريش مخازن أرز وبقسماط وشعير وثلاثمائة رأس من الخيل الجياد، وحمير كثيرة وجمال غزيرة اكتسبته جميعه الفرنساوية، ومع ذلك عندهم الصفح عند قدرتهم عليه، وهذا من صفات أصحاب المروءة من الرجال الأبطال، فيا إخواننا لا تعارضوا الملك المتعال، واتركوا أنفسكم من القيل والقال، واشتغلوا في إصلاح دينكم والسعي في معاش دنياكم وارجعوا إلى الله الذي خلقكم وسواكم والسلام عليكم. ا.ﻫ.
figure
figure

وبعد احتلال العريش تقدمت القوة الفرنساوية نحو خان يونس ثم إلى غزة، ودارت في الجهة الواقعة بين هاتين البلدتين موقعة كبيرة بين الفرنساويين والجنود التي يقودها عبد الله باشا انكسر فيها هذا الأخير، وانسحب بمن بقي معه من القوة إلى يافا وسلمت غزة، وتقدم الجيش الفرنساوي في سيره فاحتل الرملة وسار منها قاصدًا يافا، وهو أول ميناء بحري في الديار السورية من جهة القطر المصري، وكان نابوليون قد أصدر أمره للكابتين «بريه» بأن يحمل في بعض سفن بقيت للفرنساويين، المدافع الكبيرة، والآلات العديدة التي كان يريد استعمالها في حصار عكا، ولذلك أسرع في الاستيلاء على يافا ليتلقى تلك الآلات، ويسير بها إلى مكانها غير حاسب للأسطول الإنكليزي الذي يقوده السر سدني سميث حسابًا.

وكانت يافا محصنة تحصينًا حسنًا، وفيها قوة كبيرة من عساكر الجزار والمماليك وجميع من بقي من القوة التي يقودها عبد الله باشا، وفيها عدد كبير من المدافع، وتقدر القوة التي كانت في يافا بنحو اثني عشر ألفًا، ولم تكن القوة الفرنسية كلها أكثر من ذلك، وقد حاول نابوليون أن يؤثر على تلك القوة ويحملها على التسليم فبعث بضابط ودليل من عنده يحمل راية السلام بقصد المفاوضة، فكان جوابها على ذلك، قتل الضابط ومن معه ووضعت رأساهما على المزاريق فوق الأسوار، وطرحت جثتاهما وراءها، فاغتاظ الفرنساويون وسلطوا على المدينة المدافع الكبيرة وهجموا على الأسوار حتى سقطت المدينة، واستباح الجند الفرنساوي حماها يقتل وينهب ويسلب ويهتك الأعراض ويفعل ما يشاء.

وقد نشر الجبرتي صورة الخطاب الذي بعث به نابوليون لحاكم يافا وصورة البلاغ الذي نشر في مصر بالاستيلاء عليها، وكان السيد عمر مكرم نقيب الأشراف الذي فر مع إبراهيم بك، وكان له شأن عظيم في تاريخ مصر في أيام محمد علي باشا، ممن حوصروا في يافا فبعد سقوطها ذهب ومن معه من المصريين إلى نابوليون فأكرمهم، وأرسلهم إلى مصر في السفن إلى دمياط.

وقد وردت الفقرة الآتية في البلاغ الذي نشر في مصر على لسان المشايخ نأتي عليها لأهميتها في البحث التالي قال: «وفي يوم الجمعة غرة شوال وقع الجميل من حضرة ساري عسكر الكبير، ورق قلبه على أهل مصر من غني وفقير الذين كانوا في يافا وأعطاهم الأمان ورجعوا إلى بلدهم مكرمين، وكذلك أمر أهل دمشق وحلب برجوعهم إلى أوطانهم سالمين لأجل أن يعرفوا مقدار شفقته، ومزيد رأفته ورحمته، يعفو عند المقدرة، ويصفح وقت المعذرة، مع تمكينه ومزيد إتقانه وتحصينه. وفي هذا الوقت قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف والبندق لما وقع منهم من الانحراف … إلخ.» وعلق الجبرتي رحمه الله على هذا المنشور الطويل بقوله: «فلما تحقق الناس هذا الخبر تعجبوا، وكانوا يظنون استحالة ذلك خصوصًا في المدة القليلة، ولكن المقضي كائن.»

ولم يعلم الجبرتي، ولم يفهم الشيخ المهدي الذي حرر ذلك البلاغ المسجع، الغرض من العبارة التي روى فيها المنشور قتل أكثر من أربعة آلاف من عسكر الجزار بالسيف وبالبندق، وإلا لو علم الكاتب أو الناقل كيف كان ذلك أو على أية حالة، ولأي سبب قتلوا، لارتجف القلم في يد الأول ولاستعاذ بالله، ولما تركها الثاني تمر دون أن يعلق عليها بكلمة استهجان واستنكار! ويسأل كيف يتفق ذلك العمل الوحشي مع وصفه نابوليون ومقدار شفقته ومزيد رأفته ورحمته!!

٥

ونحن وإن كنا وعدنا أن لا نطيل الكلام في أخبار الحملة السورية لاعتبارها صفحة من تاريخ قطر غير قطرنا، إلا أنه لا يمكن المرور بها دون الوقوف أمام ذلك الحادث العظيم التي امتلأت به صفحات الكتب الأوروبية، وكان موضوع مناقشة ومناظرة، واضطر نابوليون أن يبرر عمله فيه في الأيام الأخيرة من حياته.

وحكاية هذه المسألة أن نابوليون لما فتح يافا أباح لجنده تلك المدينة مدة يومين كاملين يفعلون بها وبأهلها ما يشاءون، وما أدرى لماذا فعل ذلك نابوليون، وهو يريد استجلاب الخواطر واكتساب ميول أهل الشام من مسلمين ونصارى؟ ولعله قد غاظه ما فعل حاكمها برسوله، أو لعله خسر في الواقعة بعضًا من جند جيشه، وهو حريص عليه لقلة عدده، أو لعله أراد أن يعوض على الجنود ما قاسوه من المشقة في قطع فيافي الصحراء والاحتراق بشواظها، لكيلا يدب دبيب التذمر والشكوى من جراء ما يلاقونه من النصب والعناء، ولقد فعل جنده في تلك البلدة البائسة من الشرور والفضائح ما تقشعر له الأبدان حتى إن نابوليون نفسه كتب في تقريره الذي بعث به لحكومة الديركتوار: «إنه لم تتصور له فظائع الحرب مثلما ظهرت له في يافا»! وقد كتب الشيخ الدحداح، فيما عربه عن تاريخ فرنسا، وهو من المحبين للفرنساويين المادحين لهم فقال: «فإن شدة الحر وعتاد المحصورين أضرا بالفرنسيين وحملاهما أثقالًا شديدة؛ ولذلك لما دخلوا المدينة حدث فيها ما تقشعر الأبدان من ذكره، فإن القتال الذي جرى في أسواق يافا كان قتالًا لا يسوغ أن نسميه بشريًّا، فإن الشياطين لا تقدر أن تقوم بشر أعظم منه.»

فلما رأى نابوليون الشرور التي تجري في البلدة وخزه ضميره، وأرسل ضابطين من ضباطه لمنع الجنود عما يفعلون، فوجدوا أن طائفة كبيرة من جند الجزار ومن غيرهم قد تحصنوا في بعض المنازل والخانات وصاروا يدافعون عن أنفسهم دفاع المستميت، فطلب إليهم أولئك الضباط الفرنسيون أن يسلموا فأبوا إلا أن يُؤمنوا على حياتهم، فأمنوا فسلموا سلاحهم وقبض عليهم كأسرى، وهنا اختلفت الروايات في عدد أولئك الأسرى، ففي رواية أنهم كانوا أربعة آلاف، وفي رواية أخرى أنهم كانوا ألفين فقط، والرواية الأولى أقرب إلى الصحيح بدليل ذكر هذا العدد في بلاغ نابوليون للمصريين.٦
وإلى القارئ حكاية ما جرى نقلًا عن مذكرات بوريين: قال:

كنت أتمشى مع الجنرال بونابرته أمام خيمته، وإذ به قد أبصر ذلك الجمع المحتشد من الأسرى يسوقه الجند، فقبل أن يقع نظره على الضابطين اللذين بعث بهما أركان حربه التفت إليَّ بصوت يتهدج من الحزن قائلًا: «ماذا يريدون مني أن أفعل بهؤلاء الرجال؟ هل عندي من الزاد ما يكفيهم؟ ألدي من السفن ما يلزم لنقلهم إلى مصر أو إلى فرنسا؟ لماذا أوقعوني في هذا المشكل.» وبعد أن أصاح بونابرته سمعًا لما قاله الضابطان وهما بوهارنيه وكروازيه وبخهما توبيخًا شديدًا على سلوكهما، ولكن لا ينفع اللوم إذًا لواقع أنه أصبح أمامنا أربعة آلاف أسير ويجب البت في أمرهم، ودافع الضابطان عن نفسهما بأنه أمرهما أن يوقفا تيار القتال، فكان جواب بونابرت «إنما أردت أن تمنعوا التعدي على النسوة والأطفال والعجزة والمستسلمين من الأهالي، ولكن لم أرد بذلك الجنود المسلحة، فلقد كان الأولى بكما أن تقتلاهم بدلًا من أن تأتياني بهذا القدر من الأسرى المنكودي الحظ! فماذا تريدون أن أصنع بهم؟

قال كتاب الفرنساويين: إنه عقد مجلس حربي للبت في أمر أولئك الأسرى، وانقض على أنه لم يقرر رأيًا حاسمًا، وانعقد مجلس آخر ولم يوفق لقرار، وطال الجدال والأخذ والرد، وانتهى الأمر بأن تقرر إعدامهم جميعًا رميًا بالرصاص وهم عزل من السلاح!!

ووصف «ميو» في تنفيذ ذلك القرار في أولئك البؤساء، مما تقشعر له الأبدان ويفتت الأكباد، ويندى له جبين الإنسانية خجلًا، ويبقى ذكره في التاريخ وصمة عار للذين قاموا بذلك الجرم الفظيع والعمل الوحشي، حقًّا إن دفاع نابوليون عن نفسه في سانت هيلانة وجيه ومنطقي، وربما كان فيه شيء من العذر إذا لوحظ مركز الفرنساويين في ذلك الظرف، وإذا لوحظ أيضًا أن بعض أولئك الأسرى، كانوا من الذين أقسموا بشرفهم العسكري أن لا يحاربوا الفرنساويين مدة عام بعد أن سمح لهم بونابرت بالخروج سالمين بسلاحهم من قلعة العريش، وسيرهم إلى داخلية البلاد، وأنه إذا أخلى سبيلهم؛ لأنه لم يكن في استطاعته أن يبعث بهم إلى مصر، ولا إلى غيرها، ولا أن يعطيهم الغذاء اللازم لهم، فإنهم لا يعودون لقتال جيشه وتقوية عدوه، وفي دفاع نابوليون أو تبريره لذلك العمل قوله: «وإني مستعد أن أعيد ذلك العمل إذا وجدت في نفس الظروف التي كنت فيها، وكذلك كان يفعل الدوق ولنجتون الإنكليزي وغيره من القواد اللذين يوجدون في مثل ما وجدت فيه من الظروف.» ولكن على الرغم من كل دفاع وظروف حربية اضطرارية، فإن ذلك العمل إنما ينظر إليه، ويحكم عليه، من الوجهة الإنسانية، وحكمها في ذلك واحد لا يتغير، وهو أن قتل الأسرى العزل من السلاح الذين أمنوا على حياتهم، على لسان ضباط من الجيش، جريمة لا تغتفر وعار لا يُمحى! وغريب دفاع بعض الكُتاب الفرنساويين الذين كانوا مع الحملة مثل فيجوروسويون Vigo-Rousillon في دعواه «إننا لما كنا في الشرق اتبعنا عادات الشرقيين»! فلو سلمنا جدلًا أن الشرقيين كانوا يفعلون بالأسرى مثل ذلك الفعل، فأين الفرق، على دعواكم، بين المدنية والهمجية، يا أبناء الثورة الفرنسية، ورافعي راية الإخاء والمساواة والحرية؟

إن يكن العدل الإلهي قد قضى، ولا راد لقضائه، أن يسلط الفرنساويين على أولئك الجند من رجال الجزار الظالم وغيرهم من الأرنئوط، والمماليك الظالمين، لما ارتكبوه من الشرور وهتك الأعراض، وقتل البريئين من عباد الله، سواء في سورية أو في مصر، فإن ذلك العدل الإلهي قد قضى أيضًا أن يتفشي الطاعون في يافا ويفتك بالجنود الفرنساويين فتكًا ذريعًا حتى مات بسببه، في أيام قلائل، مئات من الجنود، وكاد يفضي الأمر إلى انتقاض الجيش وثورته على ضباطه، وحتى امتنع الأطباء عن العناية بالمرضى خوفًا من العدوى، ولولا جرأة نابوليون «أو اعتقاده في طالع سعده» على الدنو من المطعونين ومحادثتهم، مما شجع قلوب الجند والضباط والأطباء، لقضي على تلك القوة الفرنسية في يافا وضواحيها قضاء مبرمًا.

٦

بقيت الصفحة الأخيرة من تاريخ الحملة الفرنسية في سورية وهي حصار عكا، وفشل نابوليون بونابرت وعوده من آسيا بخفي حنين!

تفصيل الحصار وما أظهره الطرفان من آيات البسالة والإقدام ليس من موضوع كتابنا كما سبق لنا ذكر ذلك، ولكن أمورًا كثيرة لها علاقة بتاريخ مصر، وتاريخ النزاع بين فرنسا وإنكلترا على وادي النيل، بدأت في حصار عكا وكان لها شأن يذكر في حوادث القرن التاسع عشر الميلادي، وهناك رجال كانت لهم اليد الطولى في التأثير على مركز الفرنساويين في مصر، بل وجلائهم عنها، لا نجد بدًّا من النظر في أمرهم، والحديث بشأنهم فنقول:

كان من أغراض نابوليون في حملته على الشام كما ذكر ذلك هو في تقريره لحكومة الديكتوار، بتاريخ ١٠ فبراير سنة ١٧٩٩، «منع تموين الأسطول الإنكليزي من الموانئ السورية» فكان من مقتضى ذلك أن تبذل إنكلترا غاية جهدها في وقف تيار التقدم الفرنساوي في سورية، وكان ذلك من دواعي اتحادها مع الدولة العثمانية؛ ولذلك كلف السر سدني سميث قائد الأسطول الإنكليزي في الشرق أن يذهب إلى عكا ليساعد في الدفاع عنها، ولبذل كل الوسائل للقضاء على نابوليون وحملته، وكان للسر سدني سميث هذا الفضل الأول في فشل الحملة الفرنسية في المشرق باعتراف نابوليون نفسه.

وجدت في كتاب تاريخ الأمير حيدر الشهابي صورة فرمان بعث به سلطان تركيا إلى أهالي طرابلس الشام، وفيه ذكر للاتفاق مع الدولة البريطانية وللمهمة التي عهدت إلى السر سدني سميث هذا، والفرمان مكتوب بعبارة عربية مسجعة، وغريب في بابه، حتى لم أجد بدًّا من الإتيان على نصه، مثلًا للمكاتبات الرسمية في ذلك الزمن وها هو نصه:
أقضى قضاة المسلمين نائب أفندي بطرابلس الشام وأعيانها عمومًا زيد قدرهم فليكن معلومًا كما لا يخفى أن الفرنساويين الأوغاد قد هجموا على أخذ مصر القاهرة، وما يليها من البلاد، والآن قد احتلوا يافا وغزة والرملة وملحقاتها، وعلى زعمهم الفاسد يريدون تدمير أمة الإسلام، وهدم كعبتها وجوامعها فاقتضت صداقة المحب الصادق، والخل الموافق، أجل الأحباب، وكريم الأنساب، سعادة أخينا المحترم سلطان الإنكليز المفخم، المتحد معنا بإخلاص الطوية، على تدمير الأمة الفرنساوية، إنه لغزير مكارمه، ووافر مراحمه سير مع عمارتنا الهمايونية، عمارة إنكليزية، وأقام عليها ساري عسكر افتخار الأمراء الكرام في الطائفة المسيحية، وعظيم الكبراء الفخام في الملة العيسوية، جناب محبنا المحترم السير بلمام٧ سدني سميث الأكرم فوجهناه من لدنا بالتفويض الخاقاني، والتوقيع السلطاني، مشيرًا مطلقًا في تلك الديار، كما يراه بعين الاعتبار، فعليكم أن تحبوه ومهما مر عليكم من مراكبه وحاشيته، فقدموا لهم الإكرام، وحفظ الحرية والمقام، وليعلم الخاص والعام، حسن صداقته مع الإسلام، والإعانة لنا على الدوام، اعلموا ذلك واعتمدوه غاية الاعتماد والسلام. ا.ﻫ بحروفه.

بعد أن احتل الجيش الفرنساوي ثغر حيفا استمر في طريقه حتى وصل عكا في ١٩ مارس سنة ١٧٩٩، وكان الجزار قد تحصن فيها وقد دام الحصار الفرنساوي حولها ستين يومًا كاملة، عجزت فيها الفنون العسكرية، والحيل الحربية، والتدبيرات الهندسية، والشجاعة الفردية والعمومية، عن تدويخ ذلك الحصن وإسقاطه حتى ضرب بذلك الحصار المثل في الشرق والغرب، ولا زال المصريون لهذه الساعة يقولون لمن يباهي بنفسه: «هل فتحت عكا»!

والسبب في فشل نابوليون وقواده وجيشه الباسل راجع إلى البسالة التي حاربت بها جنود الجزار، وإلى الدولة العثمانية بإرشاد إنكلترا وتحريضاتها، لم تتأخر عن إمداد حامية عكا بالقوات الكافية في الوقت المناسب، وفوق كل هذا أن قيادة وإدارة الدفاع عن المدينة كانت في أيد أوروبية لا تقل كفاءة وخبرة وعلمًا عن مثل ما يوجد من هذه الصفات في القوة المحاصرة، بل لقد كان تهور نابوليون، وثقته بنفسه، واعتقاده في طالع سعده، من الأسباب المهمة لفشله في إخضاع ذلك الحصن المنيع، فقد روى الكُتاب الفرنساويون الذين لم تبهرهم أقوال نابوليون أن «كليبر» انتقد خطة الهجوم وأسلوب الحصار حتى لقد رووا عنه أنه قال: «إننا هاجمنا عكا على الطريقة التركية، بينما كان الدفاع عنها على الطريقة الفرنساوية.» والمراد بهذا أن خطة الهجوم كانت عن جهل وطيش، في حين أن الدفاع عن الحصن كان مرتبًا منظمًا على القواعد العلمية.

فمن أين كان للجزار وجنوده ذلك النظام العلمي الذي صد نابوليون وأذاقه طعم أول فشل في حياته العسكرية، والجواب على هذا يقتضي التصريح بأن الدفاع عن عكا كان في يد الإنجليز تحت إرشاد السر سدني سميث، ذلك الرجل الذي قضى على نابوليون وأحلامه في الشرق؛ إذ لو تيسر لنابوليون فتح عكا، لما وقف في تيار فتوحاته في آسيا عائق، ولأدى به الحال إلى الإضرار الصحيح بمركز الدولة العلية، فقد كانت ولايات الشام والعراق والأناضول تابعة بالاسم وكثيرون من أمراء سوريا كانوا ينتظرون سقوط عكا لينضموا إلى نابوليون، كما اعترف بذلك فيما بعد الأمير بشير الشهابي كبير أمراء جبل لبنان.٨
ومن غريب الحوادث في تصاريف الإرادة الإلهية أن السر سدني سميث هذا كان مسجونًا في باريس في الوقت الذي برح فيه نابوليون بحملته فرنسا قاصدًا مصر، قال بوريين في مذكراته: «برحت باريس برفقة نابوليون في ٣ مايو سنة ١٧٩٨ «قاصدين طولون للسفر إلى مصر» وقبل هذا الموعد بعشرة أيام فقط فر أحد المسجونين في سجن التامبل Temple وكان ذلك الرجل هو السر سدني سميث الذي قدر أن تكون له اليد الطولى في إحباط مشروع تلك الحملة، وكان فراره بواسطة أمر مزور باسم مدير البوليس — ورقة مزورة منعت الانقلاب في الشرق.»
وكان السر سدني سميث هذا رجلًا غريب الأطوار، جمع بين البسالة والإقدام والجرأة والصراحة والتهور والغرور والطيش! ولما كان الإنكليز محتلين طولون في سنة ١٧٩٣ أحرق الأسطول الفرنساوي، وصادف في سنة ١٧٩٦ وقوعه في يد الفرنساويين فحبسوه في ذلك السجن، وبقي سجينًا فيه نحو سنتين حتى ساقت له المقادير رجلًا فرنساويًّا اسمه فيلبيو Philippeaux ساعده على الفرار بواسطة ذلك الجواز المزور، وكان فيليبو هذا مهندسًا حربيًّا من كبار المهندسين الذين نقموا على الثورة الفرنساوية وهجر بلاده ثم عاد إليها في الوقت الذي ساعد فيها السر سدني سميث على الفرار فتوطدت بين الرجلين صداقة جمعت بينهما في الخير والشر حتى إنه جاء معه إلى عكا، وكان له الفضل الأول في تدبير الدفاع عن المدينة وإحباط كل الخطط الحربية والهندسية التي كان يديرها نابوليون وكفريللي، ولم يكن فيليبو أقل من كفريللي خصمه كفاءة، ومن غريب المقادير أن الاثنين ماتا في ذلك الحصار، الأول خارج الأسوار، والثاني داخلها! ولم يكن فيليبو غريبًا عن نابوليون أيضًا، فقد كان قرينه في المدرسة الحربية في باريس، وتلقى الاثنان دروسهما الرياضية على «مونج» أحد علماء البعثة العلمية في مصر، وأمضيا الامتحان معًا تحت رياسة لابلاس Laplace واندمج في نفس السنة التي اندمج فيها نابوليون في الطوبجية، والآن جمعت الظروف الغريبة، حول أسوار عكا داخلًا وخارجًا، جميع أولئك الرجال!!

وكان للسر سدني سميث نوادر ومشاغبات مع نابوليون تظهر منها أخلاق الرجلين الذين وقف الشرق بينهما حائرًا في تلك الأيام العصيبة، فمن ذلك أن السر سدني سميث علم أن أمراء جبل لبنان المسيحيين يظهرون الميل للفرنساويين، على فكرة أنهم مسيحيون مثلهم، وأنهم سيخلصونهم من مظالم الجزار وولاة الدولة العثمانية، وكان نابوليون في سوريا أمام المسيحيين يظهر المسيحية، كما كان شأنه مع المسلمين في مصر، فقد روى المؤرخون الثقات أن نابوليون بعد معركة «طابور» التي قهر فيها بأقل من ستة آلاف جندي، جيشًا مؤلفًا من ثلاثين ألفًا من المماليك والإنكشارية والترك، سار إلى الناصرة ونزل في دير الرهبان الفرنسيسكان وطلب من رئيس الدير أن يقيم الصلاة بصفة رسمية شكرًا لله على ذلك الانتصار العظيم، ودخل نابوليون الكنيسة وجثا على ركبتيه وقت الصلاة.

فلما علم السر سدني سميث بمساعدة المسيحيين للفرنساويين واغترارهم بهم، بعث لهم بمجموعة من منشورات نابوليون التي وزعها على المصريين، وخصوصًا منشوره الأول الذي يقول فيه إنه هدم أركان الدين المسيحي وثل عرش البابوية، فاندهش الموريون المسيحيون، وامتنع اللبنانيون عن توريد الخمر والبارود وعن تقديم المساعدات للفرنساويين.

ولم يكتف السر سدني سميث بذلك، بل كتب أوراقًا باللغة الفرنساوية ونثرها بين جنود نابوليون، وقد نشر «ميو» في مذكراته نص تلك المنشورات التي يقول لهم فيها: إنه قد سدت عليهم السبل، ولم تبق لديهم سفينة تعيدهم إلى بلادهم، وإن من أراد منهم أن يعود إلى وطنه فإنه مستعد لنقله في السفن الإنكليزية، وإن حكومة فرنسا نفتهم إلى هذه الديار النائية لتقضي عليهم وعلى قوادهم، إلى غير ذلك من الأقوال التي يقصد بها التحريض على شق عصا الطاعة، فلما وقعت تلك الأوراق في يد نابوليون حنق على السر سدني سميث ونشر منشورًا على الجند قال فيه: «لا شك أن الكومودور الإنكليزي قد أصيب بداء الجنون.» فعد السر سدني هذا القول طعنًا في شخصه وكتب إلى نابوليون يطلبه إلى المبارزة!

فأجابه نابوليون جواب استهزاء واستصغار!

وللسر سدني سميث حكايات غريبة عن بسالته وإخلاصه وجرأته في حوادث هذه الحرب، وهو الذي يقال إنه أنقذ «محمد علي» من الغرق بعد واقعة أبي قير البرية، كما سنذكر ذلك في مكانه، وله رسائل موجودة باللغة العربية في تاريخ الأمير حيدر الشهابي مع الأمير بشير الشهابي يظهر منها أن أحمد باشا الجزار لم يقم للسر سدني بحق الولاء مع أنه لولاه لقضى نابوليون على سلطة الجزار في عكا وسورية، كما قضى على سلطة أخواته وأسياده مراد وإبراهيم في مصر، ولا غرابة فإن من أظهر أخلاق المماليك عدم الوفاء وقلة الإخلاص.

ولنعد إلى حصار عكا وحوادثه الغريبة فنقول: إنه إذا ضم إلى علم «فيليبو» وحسن إدارته في الدفاع، أن الإنكليز بعثوا بجنود وضباط كثيرين لتحصين المدينة، كما يظهر ذلك من أسماء الضباط الإنكليز الذين قتلوا في ذلك الحصار، وإذا ضم إلى ذلك أيضًا أن المدافع التي بعث بها نابوليون من مصر في السفن وقعت في أيدي الإنكليز، واستعملت في الدفاع عن عكا، وأن نابوليون ارتكب غلطات كثيرة بشهادة الفرنساويين، وأن الدولة العثمانية في آخر وقت بعثت بالإمدادات الكثيرة، وأن الطاعون كان يفتك بالجيش الفرنساوي فتكًا ذريعًا، وأن الذخائر اللازمة لموالاة الحصار قد نفدت إلا قليلًا — إذا ضم كل هذا إلى بعضه عرفنا كيف فشل نابوليون أمام حصن صغير كحصن عكا، فتحه بعد ثلاثة وثلاثين سنة، إبراهيم باشا بجيش من الفلاحين المصريين!

٧

وعلى الرغم من الانتصار الباهر الذي ناله الفرنساويون على جيش الدولة عند جبل طابور، وعلى الرغم من تعضيدات بعض أمراء سوريا وبعض المسيحيين والدورز لنابوليون وجيشه، فقد رأى نابوليون للأسباب التي ذكرناها في الفقرة السابقة، ضرورة الانسحاب من حصار عكا والعودة إلى مصر، ولم يذكر التاريخ انسحابًا مقرونًا بالفشل والخسائر والمشاق، مثل انسحاب نابوليون من موسكو في الروسيا في عام ١٨١٢، ولا يزال يُضرب به المثل في عظم الفشل الحربي، وكانت عودة نابوليون من سورية صورة مصغرة لذلك الانسحاب من الروسيا … ناب في هذا العطش والقيظ والشمس المحرقة في الصحراء الفاصلة بين آسيا وإفريقيا، مناب الثلج والبرد القارس والزمهرير في روسيا! وناب الطاعون في فتكه بالجند الفرنساوي، مناب القوزاق في مطاردتهم للمنقطعين من ذلك الجيش الذي دوخ أوروبا في عدة وقائع فاخرة باهرة!

وكان نابوليون مع شديد عزمه، وبالغ صبره وجلده، أسفًا كئيبًا يحرق الأرم على الإنكليز الذين قضوا على آماله، وسدوا الطريق على أحلامه، وقطعوا بينه وبين الوصول إلى بلاده، وكان الجيش لتغيظه وانحطاط قواه المعنوية كلما وصل إلى بلدة أو قرية من قرى الشام يمعن فيها قتلًا ونهبًا وسلبًا، ثم يشعل فيها النار خوفًا من انقضاض القوم على الجند بدعوى أن ذلك خير وسيلة حربية مشروعة لتعطيل العدو عن تعقبه ومطاردته …

وروى المؤرخون من فرنساويين وإنكليز أن نابوليون وجد في يافا عددًا كبيرًا من جنوده المصابين بالطاعون وأمراض أخرى فتحير في أمرهم، ولم يرد أن يتركهم فريسة في يد أعدائهم، اعتقادًا منه بأن جنود الجزار لا يبقون عليهم ولا يرحمون ضعفهم ومرضهم، ولا غرابة أن يعتقد نابوليون ذلك الاعتقاد؛ إذ إنه هو لم يرحم الأسرى العزل من السلاح، ولم تسلم النسوة ولا الشيوخ ولا الأطفال من اعتداء جنوده، وكذلك لم تكن لديه وسائل لنقل أولئك المرضى إلى مصر، فاقترح نابوليون على الأطباء أن يجرعوهم السم ليموتوا موتة هينة بدلًا من تعريضهم، على ظنه لقساوة أعدائهم والتمثيل بهم! فكان جواب الأطباء: «إن صناعتنا تقضي علينا أن نبرئ لا أن نميت»!

وهنا اختلاف كبير في هذه الرواية فكثير من الكتاب يؤكدها، وكثير منهم ينفيها وينكرها، ونابوليون نفسه في سانت هيلانة ينكر أشد الإنكار أنه أصدر أمره بتسميم المرضى، ولكنه من جهة أخرى يقول: إنه لو وجد نفسه في مثل ذلك الحال؛ أي: لو كان كواحد من أولئك المرضى، لفضل أن يتجرع السم ليموت موتة هادئة سريعة، وإنه لو أصدر أمره للتعجيل على حياة المرضى الذين قضى عليهم الموت، لما وبخه ضميره ولكان في عمله محقًّا.

والظاهر من اختلاف الروايات، ومن أقوال بعض قواد نابوليون، ومن دفاعه هو عن نفسه في مذكرات سانت هيلانة، أن نابوليون اقترح على الأطباء تجريع المرضى نوعًا من السم أو الأفيون، وأنه لما رأى شدة معارضتهم له، ترك مع المرضى بعض الجند لحراستهم، ونقل من أمل فيه الشفاء معه، بدليل أنه ورد في أخبار الانسحاب أن نابوليون كان يمشي على قدميه في الصحراء واقتدى به الضباط والخيالة تاركين للمرضى الخيول والدواب.

والخلاصة أن حملة الشام قد فشلت فشلًا ذريعًا، ولم يعد من القوة التي سار بها نابوليون، وهي كما ذكرنا ثلاثة عشر ألفًا، غير سبعة آلاف على تقدير الكُتاب الإنكليز قد انحلت عزائمهم، وانحطت قواهم، ولكن بعض الكُتاب الفرنساويين يؤكدون أن الجيش الفرنساوي عاد من سورية وكان عدده في الصالحية ١١.١٢٣ فيكون القنص ألفين فقط، قتل منهم خمسمائة في ساحات القتال ومات في المستشفيات ٧٠٠ وترك في معسكرات العريش وقطية نحو ستمائة ونحو مائتين تقدموا الجيش إلى مصر، فتكون الخسارة الحقيقية للجيش لا تزيد عن ألف ومائتين إلى ألف وخمسمائة على تقدير أولئك الكُتاب، وفرق كبير بين هذا العدد وسبعة آلاف كما يقول الإنكليز، وفي رأي «بيريه» أن الحملة الفرنسية في سورية فقدت ثلث رجالها؛ أي: نحو أربعة آلاف بين قتيل وجريح ومطعون، وربما كان هذا التقدير أقرب إلى الصواب، وهذا يوافق ما نقله المعلم نقولا الترك في رسالته؛ إذ ذكر أن الفرنساويين «خسروا ثلاثة آلاف وخمسمائة «صلدات» على أسوار عكا ومات بالطاعون نحو ألف وزيادة.»؛ أي: أن الخسارة كانت حوالي أربعة آلاف وكسور.

وكيفما كانت الخسارة فنابوليون مع هذا لم يرد أن يفهم جيشه أنه عاد من سورية بالخيبة والفشل، ولذلك نشر بينهم منشورًا طويلًا قال فيه: أيها الجنود، إنكم قد قطعتم القفار الواقعة بين آسيا وإفريقيا بسرعة تحاكي سرعة مسير جيش من العرب على خيولهم، وبددتم الجيش الذي كان ذاهبًا ليهاجم مصر، وألزمتم الجيش الثاني الذي كان يقصد به الإغارة على وادي النيل، أن يأتي إلى عكا لإمدادها، وقد فتحتم العريش وغزة ويافا، وهدمتم قلعة عكا! فالآن سنذهب إلى مصر؛ لأن العدو مصمم على مهاجمتها … إلى غير ذلك من الأقوال التي قصد بها طبعًا تقوية عزائم الجند على اجتياز تلك الصحاري المحرقة مرة ثانية.

وكذلك لم يرد نابوليون أن يدرك المصريون أنه قد باء بالخيبة والخسران في حملته السورية، فبعث قبل مقدمه إلى مصر بمنشور للديوان الخصوصي قال فيه:

إلى محفل ديوان مصر، نخبركم عن سفري من بر الشام إلى مصر، فإني بغاية العجلة بحضوري لطرفكم بعد ثلاثة أيام تمضي من تاريخه، ونصل عندكم بعد خمسة عشر يومًا وجايب معي جملة محابيس بكثرة ومحقت سراية الجزار وسور عكا، وبالقنبر هدمت البلد، ما أبقيت فيها حجرًا على حجر، وجميع سكانها انهزموا من البلد إلى طريق البحر والجزار مجروح، ودخل بجماعته داخل برج من ناحية البحر وجرحه يبلغ لخطر الموت، ومن جملة ثلاثين مركبًا موسوفة عساكر الذين حضروا يساعدون الجزار ثلاثة غرقت من كثرة مدافع مراكبنا. ا.ﻫ بحروفه.

ومما تجب ملاحظته على هذا الكذب والتضليل أنه لا توجد صورة لهذا المنشور بأية لغة أوروبية، وليس له أصل فرنسي؛ لأنه — مع هذا التضليل — أعقل من أن ينشر هذه السخافات في لغة أوروبية يُحاسب عليها من قوم يفهمون ويعملون!

وختم خطابه هذا بالعبارة الآتية «نقلًا عن الجبرتي»: «وإني مشتاق إلى مشاهدتكم؛ لأنكم عملتم غاية جهدكم من كل قلبكم لكن جملة «فلانية» «كذا» دائرون بالفتنة لأجل ما يحركون الشر في وقت دخولي، كل هذا يزول مثل ما يزول الغيم عند شروق الشمس وقنتورة٩ مات من التشويش، وهذا الرجل صعب علينا جدًّا والسلام.»

ولكن على الرغم من هذا الخطاب، وعلى الرغم من الاحتفال الفخيم العظيم الذي أعده الفرنساويون، ونظمه نابوليون على طريقة التهويل والإرهاب، فإن المصريين لم يخف عليهم أن نابوليون وجيشه قد فشلا في الشام وعادا منها بخفي حنين، وهذا الشيخ الجبرتي يقول: «وأقاموا على حصار عكا أربعة وستين يومًا حربًا مستقيمًا ليلًا ونهارًا، وأبلى أحمد باشا الجزار وعسكره بلاء حسنًا شهد له الخصم.» وكتب الشعراء في سوريا ومصر قصائد الابتهاج بخلاص عكا وفشل الجند الفرنساوي في تدويخها.

هوامش

(١) أخذ نابوليون معه ميرلين Merlin ابن رئيس الدير كتوار.
(٢) لقب الأسرة المالكة في النمسا والمجر، ويريد الله أن تلك الأسرة كانت ممن ساعدوا على هدم نابوليون، بعد أن خضعت له وزوجته بامرأته الثانية «ماري لويز» وقضت على ولده «النسر الصغير» فمات كمدًا في فينيا، ويريد الله أن أسرة هابسبورج تبقى أكثر من مائة سنة أخرى حتى قضت عليها الحرب الكبرى الأخيرة الملك لله! والبقاء لله!
(٣) ذكر الجبرتي وتابعة جورجي زيدان وشارويم بك أن القوة التي كانت في العريش لم تزد على ثمانمائة رجل، وأن المدد الذي كان آتيًا العريش من جهة الجزار كان تحت قيادة قاسم بك المسكوبي، والرواية في العدد خطأ لا نزاع فيه، أما اسم قاسم بك فلا أثر له في المصادر المعتبرة، وربما بدل عبد الله أغا اسمه عبد الله بك قاسم مثلًا.
(٤) نقلًا عن طبعة باريس التي ترجمها ديجرانج وطبعها سنة ١٨٣٩ بالعنوان الآتي:
Histoire de l’Expédition des Français en Egypte, Par Nakonla El-Turk, Publié et Tradiute par M. Deagranges Ainé, Secrétaire Interprétre du Roi, 1839.
(٥) هكذا في الأصل وكنت أتصور أن هذا اللحن في منشورات العلماء مصدره تحريف الناقل أو الفرنسي الذي باشر طبع رسالة المعلم نقولا، ولكن وقد رأيت نص عبارة خطبة عليها إمضاء الشيخ الشرقاوي، وبها اللحن الفاضح ولم أستغرب ذلك، والعبارة المشار إليها وردت في ورقة نقلت بالفوتوغراف في كتاب «شرفيس» المعنون «بونابرت والإسلام» وفيها كما يرى المناظر في الصحيفة المقابلة لهذه العبارة الآتية:

كتامة وفزاره والفيشة وديبي وقف عبد الرحمن كتخداي يقبض ما لها ليصرف منه الميرى المطلوب للسلطنة والباقي يصرف على الأزهر وعلى ثمانية وأربعين مسجدًا، وعلى ضعفاء وفقراء وأولاد أيتام، وعلى جهة المرتبات وعلى نسوان أرامل مقاطيع، وليس عليها كشوفية، فالمقصود من حضرتكم الإفراج عنها لأجل عمار المساجد ومصروف الفقراء ودعاهم لكم، فإنه يلزم على تعطيل ذلك الخراب وموت الفقراء وأنتم لا تحبوا ذلك.

من عند الشيخ عبد الله الشرقاوي وباقي العلماء
ويرى الناظر في تلك الورقة أن عبارة الشيخ ترجمت إلى الفرنسية، وعرضت على بونابرت فأشر عليها بعرضها على بوسيلج وفيها إمضاءه بونابرت بخط يده، وعرضت على بوسيلج «الروزنامجي» وأمضى عليها فكتب الشيخ ورقة أخرى يراها القارئ في الصفحة التالية للأولى وفيها بخطه ما يأتي:

أعرضناه على الروزنامجي فأمرنا بالتوجه إلى ديوان القضاة نصالح على بلاد وقف عبد الرحمن كتخدا فأخبرناه بأن صاري عسكر رشيد من حين ما دخلتم يأخذ منها كاف وفرد نحو أربع مرات مقدار وألفين ريال، وإذا دفعوا الفلاحين مقدار المصالحة زاد القدر ولم يبق من المال إلا قدر يسير قليل لا يكفي المساجد والخيرات، نرجو من فضلكم تجعلوه من إحسانكم للفقراء المستحقين من جملة دفتر الإنعام، والمستحقين ناس نحو ألفين نفس فقراء مقيمين بالمساجد، ولو كان لها صاحب معين كان يدفع المصالحة دام خيركم وعزكم.

(٦) قدر الكولونيل «روبرت ويلسون»، من ضباط الحملة الإنجليزية التي قدمت لمصر لإخراج الفرنسيين في آخر مدتهم، عدد أولئك الأسرى بثلاثة آلاف وثمانمائة، و«دميو» وهو شاهد عيان يقول: إن هذا العدد مبالغ فيه نوعًا ما، وإما بوريين وهو شاهد عيان أيضًا فيؤكد أنهم كانوا أربعة آلاف.
(٧) اسمه الصحيح ويامم لا بلمام وربما كانت في الأصل التركي فليمام.
(٨) راجع رحلة الشاعر لامرتين في الشرق سنة ١٨٣٣.
Voyage en Orient par Lamartine.
(٩) قنتور المستشرقين سبق لنا ذكره ونزيد على ما كتبناه هناك أن الجبرتي ذكره فقال: «وفنتورة هذا كان ترجمان ساري عسكر، وكان ليبيا متبحرًا ويعرف اللغات العربية والتركية والطلياني والرومي والفرنساوي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤