الفصل السابع

الواقعة

واقعة إمبابة

على الرغم من رغبتنا الشديدة في تحاشي الخوض في تفصيل الحركات العسكرية، كما سبقت لنا الإشارة إلى ذلك، فإننا لم نر مناصًا من وصف معركة إمبابة، وصفًا يليق بمنزلتها من التاريخ.

حقيقة إن واقعة إمبابة، على عظيم أهميتها، لا تعد من الوقائع الفاصلة في تاريخ الجنس البشري؛ لأن المعركة التي يسمونها «الفاصلة»، هي معركة يترتب على نتيجتها تغيير كبير في الأمم والدول، وأنه لو تمت على خلاف ما تمت، لكان الفرق هائلًا، وربما غير سطح البسيطة بسبب ذلك.

وللمؤرخين اهتمام بالمواقع الفاصلة في التاريخ، ولهم فيها كتب خاصة، ولا بأس أن نذكر على سبيل الاستئناس أن من الوقائع الفاصلة في تاريخ الجنس البشري واقعة اليرموك، وواقعة القادسية … الأولى قضت على السلطة الرومانية المسيحية، في آسيا الصغرى، والثانية قضت على الدولة الفارسية، والديانة الزردشتية، ومن هذه الوقائع الفاصلة في التاريخ القديم، واقعة ثرمويلي، بين الفرس واليونان، وفي تاريخ القرون الوسطى، واقعة فتح القسطنطينية، وواقعة لزتداد السيل التركي حول فينا، ومن هذه الوقائع أيضًا في تاريخ الإسلام، واقعة عبد الرحمن الثالث مع «شارل مارتيل» في سهول «طورس»، ومنها في تاريخ أوروبا وأترلوا، وسيدان، والمارن.

ولا تعد واقعة إمبابة من الوقائع الفاصلة؛ لأنه لو تغير «الطابق»، وقهر نابوليون فيها، لأمكنه الرجوع إلى الوراء ريثما ينظم نفسه، ويعيد الكرة، وكان في إمكانه على فرض فشله نهائيًّا، أن يعود إلى سفنه في الإسكندرية بعد أن يخسر ربع أو نصف جيشه، ولم يكن نلسون قد حطم العمارة في أبي قير وقتئذ، اللﻫم إلا إذا كان انتصار المماليك في إمبابة حاسمًا بالقضاء المبرم على نابوليون وجيشه، ولم يك ذلك من الأمور التي تدخل في حيز الممكنات، ويضعها المؤرخون المدققون موضع الاهتمام، لما كان ثمت من الفرق العظيم بين كفاءة القواد ونظام الجنود، والفرق بين الأسلحة، ولكن لو حدث ذلك على فرض المستحيل، كما يقولون، إذًا كانت تعد واقعة إمبابة من الوقائع الفاصلة الهائلة، وإذًا لما كانت الإمبراطورية الفرنسوية الأولى، ولا الثانية، ولما كانت مواقع أوسترلينز، وجنا، ومارنجو، وواترلو، ولما كان ثمت من ضرورة للإتيان بجيش عثماني، ولا انتقل محمد علي من بلدته قوله، ولعاش ومات لا يعرفه إلا «أهل بلده» كما يقال في الأمثال.

•••

لم تصل أخبار معركة إمبابة للمؤرخ الجبرتي، وهو صحفي تلك الأيام، إلا متقطعة من أفواه الناجين من الجند والكشاف والمماليك، ولذلك كانت روايته عنها مضطربة، فبينما يقول: إن الحرب والقتال استمر ثلاثة أرباع الساعة، تراه يناقض نفسه فيقول: إن الحرب بدأت من وقت القائلة «حوالي الساعة عشرة أو أحد عشر صباحًا»، ثم يذكر أن الحرب استمرت إلى المساء تقريبًا، فنحن أمام هذا التناقض في المصادر العربية، نعتمد على الروايات الفرنسية، وعلى مذكرات نابوليون ومذكرات بوريين وأشباهه، وخلاصة أقوالهم تظهر فيما يأتي:

كانت قوة المماليك من مشاة وخيالة، ممتدة بين إمبابة ونقطة الأهرام، بحيث كان جناح هذا الجيش الأيمن مؤلفًا من نحو عشرين ألفًا من الإنكشارية والجندرمة، والالداشات والرجالة والعربان، وهذا الجناح قائم وراء خناق أو متاريس أقاموها بسرعة كبيرة في خلال الأيام الأربع منذ عودة مراد بك إلى إمبابة، وكان مع هذا الجناح من المشاة نحو أربعين مدفعًا من طراز قديم، مثبتة على أرصفة أعدت لذلك، بحيث لا يستطاع نقلها من جهة إلى أخرى، ولا تحويل طلقاتها إلى اتجاه مخصوص غير ما أعدت له، بخلاف مدافع الفرنساويين، التي هي من نظام حديث، وتجرها الخيول، وتحملها الجنود، من مكان إلى آخر حيث تقضي به مصلحة الموقعة، وهذا الجناح الأيمن مرتكز على شاطئ النيل شمالي قرية إمبابة، ثم يتألف قلب الجيش من نحو عشرة آلاف مملوك، ونحو ألفين من الأغوات والشوربجية، وبعض الخيالة من المصريين، ومع كل طائفة أتباع وخدم، وكان على الجناح الأيسر بضع آلاف من العربان الخيالة منتشرين إلى نقطة الأهرام.

وكانت السفن المصرية التي كانت في واقعة شبراخيت، وما انضم إليها من الغلايين ممتدة في النيل من إمبابة إلى بولاق، ووراءها سفن وقوارب عديدة واقعة شراعها، حتى كان المنظر في البقعة، الواقعة من إمبابة إلى الجيزة من جهة الغرب، ومن بولاق إلى مصر العتيقة من جهة الشرق، في نهر النيل ذلك اليوم، مما يأخذ بالأبصار حتى وصفه أحد الكتاب الفرنسيين فقال: إن تلك المنطقة بهاتيك الأشرعة كانت كأنها غاية باسقة الأشجار … وعلى الضفة المقابلة لإمبابة؛ أي: على شاطئ بولاق وما وراءه من جهة قصر النيل والقصر العيني إلى مصر العتيقة، خرج سكان القاهرة رجالًا ونساء، وأرباب الطرق والأشاير، بالطبول والزمور كأنهم في مولد من الموالد المشهورة في مصر.

ولم نقف على بيان وافٍ للنظام الذي وضعه إبراهيم بك للجنود التي بقيت لحماية القاهرة؛ ذلك لأن هذه الجنود لم تفد فائدة، ولأن ما وضع من النظام من الجهة الشرقية لم يؤد إلى نتيجة، وكل ما نعرفه في هذا الصدد إن إبراهيم بك أرسل إلى العربان المجاورين لمصر ورسم لهم أن يكونوا في المقدمة بنواحي شبرا وما ولاها.

وعلى هذا النظام في البرين، الغربي والشرقي، كان الجيش المصري — إن صح أن يسمى بالمصري — معسكرًا انتظارًا لقدوم الجيش الفرنساوي.

قلنا في آخر الفصل الخاص بالحملة الفرنساوية من إسكندرية إلى القاهرة، إن جيش نابوليون وصل أم دينار يوم ١٩ يوليو.

وفي اليوم التالي تقدم إلى الأمام قليلًا فوقع بمصر قواده على الجيش الرابض فكان منظره مؤثرًا عليهم؛ لأن كثرة الذاهبين والآتين فيه، وكثرة الأتباع والخدم، أكبرت في عيونهم قوة الجيش المصري وخيل لهم، على روايات بعضهم، أن هذه القوة لا تقل عن خمسين ألف مقاتل، وهم «الفرنسيون» لا يزيدون على عشرين ألفًا، فلذلك أخذ نابوليون يركض بجواده متنقلًا أمام واجهة جيشه، وهو يقول لهم بصوته الرنان، مشيرًا بإصبعه إلى قمم الأهرام:
إن أربعين قرنًا من الزمان تنظر إليكم.

وأخذ الجيش الفرنساوي في التأهب للقتال، وصدرت الأوامر من القائد العام بأن يسير الجنرال «ديزيه» بفرقته في الميمنة ويجاوره الجنرال «رينيه» بفرقته وتتوسط فرقة الجنرال «دوكا» ومعها القائد العام، عند قلب الجيش، ويرتكز الجنرال «بون» على النيل ويجاوره الجنرال «فيال» مكملًا للجناح الأيسر.

فلما أشرق النهار بضوئه التقى الجيش الفرنساوي بفصيلة من المماليك فبددها ببضع طلقات من المدافع، وفي الساعة الثامنة صباحًا التقى الجمعان.

فكان أول ملاحظة بونابرت أن الجناح الأيمن للجيش المصري لا يعبأ به؛ لأنه لا يستطيع الخروج من وراء الحواجز التي أقامها، والتي لا تصد، أو تعطل، إلا الخيالة، ثم إن مدافعه لثبوتها وعدم المقدرة على تحريكها، لا تفيده إلا إذا وقف الجناح الأيسر من الجيش الفرنساوي أمامها، فلذلك أصدر بونابرت أمره بالانحراف عن مواجهة هذه المدافع، وبتوجيه فرقة الجنرال «ديزية» للفصل بين قلب الجيش المصري، حيث توجد حقيقة القوة الفعالة، وهي العشرة آلاف مملوك، وبين جناحه الأيمن، فسار «ديزية» وتبعته فرقة «رينيه».

وسارت الجنود الفرنساوية على هذا الطراز نحو نصف ساعة بسرعة كبيرة وبسكون وهدوء، إلا أن مراد بك، وإن لم يكن بالقائد المدرب، إلا أنه قد وهب بصرًا ثاقبًا وإلهامًا حربيًّا، أدرك الغرض من هذه الحركة، وعرف أنه إذا وصلت القوى الفرنساوية إلى غرضها فقد قضت عليه في الحال، فلذلك أصدر أمره للخيالة التي معه بالهجوم على المشاة الفرنسيين في خلال سيرهم لتعطيلهم في نفاذ خطة فصل قلب الجيش المصري عن ميمنته.

وانقض مراد بك بنحو سبعة آلاف فارس، من أفخر الفرسان الذين امتطوا صهوة جواد في التاريخ القديم والحديث، وبسرعة كالبرق الخاطف، فدخلوا بين فرقتي «ديزيه» و«رينيه»، كالمردود بين الجفن والجفن، وقد عملت هذه الحركة بخفة عجيبة حتى خيل لبونابرت أن «ديزية» أصبح في خطر، وأنه ليس لديه الوقت الكافي للاصطفاف للقتال، ولكن لحسن حظه كانت الفئة الأولى من المماليك الذين هاجموه قليلة، قتل نصفها بطلقات المدافع فمكن في وقت سقوطها، وارتداد الباقي منها، من تكوين مربعه، ورتبت المدافع وطلقات البنادق على الجهات الأربع، ورأى الجنرال «رينيه» الخطر كما رآه «ديزية» فشكل جنوده في مربع أيضًا، وتلقى الخيالة المماليك من الجهات الأربع، وقامت فرقة الجنرال «درجا»، التي يقودها بونابرت فعلًا، بحركة دوران حول ميمنة المصريين، فحالت بينها وبين النيل، واستطاعت أن تطلق المدافع من وراء الخيالة المماليك المواجهين لمربع «ديزية» ومربع «رينيه»، فوقع بذلك المماليك بين نارين من أمام ومن خلف، فصاروا يتساقطون جثثًا هامدة على الأرض، واختل نظام الجيش المصري، ووقع زعماؤه في حيص بيص.

فلم يبق أمام مراد بك إلا الانسحاب للوراء مع ثلاثة آلاف من الخيالة قاصدين الجيزة، وكانت فرقة الجنرال «رامبون» الاحتياطية، قد وجهت إلى الأمام وراء الميمنة المصرية للاستيلاء على نقطة لكي تستطيع قطع المواصلات بين إمبابة والجيزة، وحين رأى من بقي من فرسان المماليك انسحاب مراد بك إلى الجيزة، أرادوا اللحاق به فلقيهم «رامبون» بفرقته التي أشرنا إليها، وأطبقت عليهم فرقة «دوجا» و«وبون» فلم يبق أمام أولئك الفرسان إلا أن يلقوا بأنفسهم في نهر النيل على أمل العبور إلى البر الثاني، وفي ذلك الاضطراب قل من استطاع الوصول منهم سالمًا، قالوا ولهذا السبب غرق منهم بضعة آلاف.

أما جيش المشاة من الإنكشارية وغيرهم، وكانوا نحو عشرين ألفًا متترسين وراء الخنادق، بما معهم من المدافع، فإنهم لما أبصروا هزيمة الخيالة تركوا ميدان القتال فارين لا يلوون على شيء، فمنهم من لقي حتفه، ومنهم من نزل إلى القوارب ووصل إلى البر الشرقي … ولو كانت هذه القوة الكبيرة تحت قيادة حسنة لاستطاعت أن تدور حول الجنود الفرنسية، وتحصرها بين إمبابة والجيزة، حيث الخيالة، ولكن هذه القوة البيادة لم تكن على شيء من النظام، وكلهم من الباشبوزق والخدم والأتباع، ولم يكن في الحقيقة في مصر قوة للقتال غير قوة الخيالة المماليك، التي كانت تحسن القتال مع جنوده من نوعها، لا أمام بطاريات من مدافع متحركة، ولا أمام بنادق سريعة الطلقات، ولا أمام حركات عسكرية فنية، كالتي امتاز بها جيش نابوليون بونابرت، وقهر بها جيوش إيطاليا والنمسا.

وحاول مراد بك القيام بهجمات جديدة ليفتح طريق المواصلات بينه وبين ما تبقى من جيشه ليسهل لهذا الأخير انسحابه، فلم ينجح في هجماته، ودخل الليل لظلمته، فلجأ إلى الجيزة وذهب إلى قصره ليأخذ منه ما لم يستعد لأخذه من قبل.

وبلغت خسارة الفرنساويين في هذه الموقعة، على روايتهم، ثلاثمائة بين قتيل وجريح، أما خسارة المماليك فقد رووا أن لم يبق من مجموع قوة المماليك إلا ثلاثة آلاف، انسحب بهم مراد بك إلى الجيزة، ونحو ألف بقيت مع إبراهيم بك في القاهرة، وقتل وغرق في النيل نحو سبعة آلاف من كبار المماليك وأتباعهم، وقتل نحو ثلاثة آلاف أخرى من العربان والفلاحين وأمثالهم.

ثم ماذا جرى على السفن الفرنساوية والسفن المصرية؟ أما السفن الفرنساوية فإنها لقلة الماء في النيل، لم تقدر على السير في محاذاة الجيش، وليس من البعيد أنها تأخرت خوفًا من السفن المصرية، وقد لاقت من قتالها الأمرين قرب شبراخيت، فكيف وهي الآن أكثر عددًا وعدة؟

كان «بوريين» سكرتير نابوليون ممن سار مع العمارة الفرنسية من الرحمانية إلى القاهرة كما سبق لنا القول، وهو يروي لنا، في مذكراته، «أن تلك العمارة، يوم واقعة إمبابة، كانت راسية على مسافة عشرة فراسخ من القاهرة، «قريبًا من نقطة القناطر الخيرية»، وأن ريح الشمال كانت تهب شديدة، فكانت أصوات المدافع لا تصل إلى من هم في السفن، ولكن لما أقبل المساء، وهدأت الريح، سمعت طلقات المدافع، وأبصرنا جثث القتلى والغرقى من المماليك يسير بها تيار النيل إلى رشيد ودمياط، فعرفنا أن الدائرة دارت عليهم.»

وأما السفن المصرية فإنها لم تستطع القيام بعمل، وخاف مراد بك وقوعها في أيدي الغزاة فأمر بإحراقها، وسنأتي على ذكر هذا الإحراق، وما أحدثه من الجزع في القاهرة، في الفصل الآتي.

والآن نقف عند هذا البيان الذي حاولنا فيه بقدر الإمكان، وصف معركة إمبابة التي دامت من الصباح إلى المساء، وإن تكن ساعات القتال الحقيقية قليلة ومتقطعة، ولكنا قبل أن ننتقل إلى وصف حال القاهرة في ذلك اليوم العصيب، وما جرى عليها في الليلة التالية نصف حال الجيش الفرنسي بعد انتصاره، قال كاتبهم: «وصل نابوليون وأركان حربه إلى الجيزة عند الساعة التاسعة مساء فاحتلوا قصر مراد بك الذي لم يبق فيه إنسان.» ثم وصفوا ما في ذلك البيت من فراش وفير، ودمقس وحرير، وأقمشة من فاخر صناعة كشمير، ونمارق مزركشة من صنع أمهر الصانعين، وما في بستانه من أشجار وأثمار نادرة المثال، وغنمت الفرقة التي عسكرت في إمبابة كميات كثيرة من المؤن والمآكل اللذيذة والحلوى الفاخرة، وجميع أدوات وفراش البكوات والكشاف، من أبسطة فاخرة، وفضيات وصيني، فدب الفرح والسرور في قلوب الجنود، خصوصًا بعدما وجدوا في ملابس البكوات والمماليك القتلى أموالًا طائلة، فقد رووا أنهم كانوا يجدون في ملابس الواحد منهم بين مائتين ومائتين وخمسين قطعة من الذهب، وهذا غير ملابسهم الموشاة بالذهب والفضة، وسلاحهم المفضض والمذهب، فكان ذلك حاملًا للجنود الفرنساوية على انتشال جثث الغرقى من النيل طلبًا للغنيمة، وأكل الجنود وشربوا وطربوا، وأقيم في وسط المعسكر سوق للبيع والشراء، في السروج والخيول والملابس والسلاح! كل ذلك بين جثث الموتى وأنين الجرحى! والخلاصة أن الجنود الفرنسية سكرت بخمرة الظفر، ورقصت على نغمة الغنائم!

وكانت النيران قد شبت في السفن المصرية وما جاورها من القوارب الصغيرة فعلا دخانها وتأججت نارها، فكانت القاهرة تلوح بمآذنها، وقباب مساجدها، ودورها وقصورها، وراء ذلك الدخان واللهيب، في حين كانت الجنود الفرنسية في البر المقابل طروبة لاهية، كأنما تبصر وراء الأفق زينة بحرية، أو ألعاب نارية!!

هكذا كان حال الفاتحين الغزاة في البر الغربي من النيل، فانظر إلى حال المساكين أهل مصر في الضفة المقابلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤