عبد الله حسين كما عرفته

بقلم العالم الفاضل والأديب الكبير الأستاذ محمد عبد الرحمن الجديلي المفتش بوزارة الأوقاف

في ليلة من ليالي شهر يونية سنة ١٩٢٤، كان عليَّ أن أكون بحجرة السكرتارية للزعيم الخالد «سعد» ذي الرياستين، وهو — ليلتئذ — بحجرة الوزراء يتروَّح أثناء انعقاد جلسة مجلس النواب، وكان قد طلب إليَّ الزعيمُ أن أرقب سير المناقشة في استجوابٍ طرحه على هيئة المجلس أحد ممثلي الحزب الوطني من النواب، وموضوعه: «مناقشة دارت في مجلس العموم الإنجليزي بشأن نهر الجاش، والأعمال التي تقوم بها دولة إيطاليا على ذلك النهر»، فكنت أحرَص ما أكون على ما أسمع؛ لأنقله إلى الزعيم، حتى إذا ما حقَّت كلمة الحكومة تحوَّل «سعد» إلى القاعة الكبرى فقالها حكيمة مبينة قاطعة …

في تلك اللحظات عرض لي شاب بدين، طلق المحيَّا واضح البسمات، وسألني أن يلقَى «سعدًا»، فاستمهلته حتى تنتهي الجلسة، فلما عاد «سعد» رئيس الحكومة إلى حجرة الوزراء ظافرًا على عادته في مسألة الاستجواب، وجدت في نفسي نوازع إلى رؤية «الشاب»، ووددت أن أسهِّل له لقاء «سعد»، وهو في ساعة من ساعات رضاه.

دخلت حجرة السكرتارية، فإذا الشاب لا تفارقه بسماته، ولا تَدَعْكَ نظراتُه، متوثب معتزم، يشغلك عن الفكر في سواه، فوجَّهت إليه خطابي في تودُّد وتلطُّف: سأحاول أن تقابل الآن الرئيس، وأرجو أن يسعدك الحظ فألقاه وأستأذنه وهو لا يزال بهجًا كما غادر الجلسة. طرقت الباب ومثُلتُ بين يدي سعد، فقال: ماذا عندك يا جديلي؟ قلت: أمَّا (ما) عندي فإعجاب الزائرين الذين شهدوا جلسة الليلة، حتى لقد تجمَّعوا في فناء المجلس لتحية الزعامة في موقفها الوطني المشهود تلك الليلة، وأما (من) عندي، فعبد الله حسين!! هنا أغرق «سعد» في الضحك، وقال: هكذا تمتاز الطريقة الأزهرية، وهكذا يحق لنا الفخار بها.

لم يشأ (رحمه الله) أن يردَّ زائري، فأمر بإدخاله. دخل الشاب يدلف في نشاط حتى حيَّا الزعيم، فأمره بالجلوس، وجرت أحاديث وتشعبت موضوعاتها حتى جاء ذكر الزعيم الصحفي العظيم «الشيخ علي يوسف»، فعلَّمنا سعد عنه ما لم نكن نعلم؛ من شغفه بصحيفته، وهيامه بعمله، وضرب لنا الأمثال في ذلك، ثم نظر إلى الشاب يستطلع ما لديه في ذلك، فإذا هو من ذوي القربى لصاحب المؤيد، بل هو قد درج ونشأ ويفع في حضانة المؤيد.

استدناه «سعد» وقرَّبه، ثم قال: من عجبٍ ألا يوجد قلم يردُّ طغيان الجرائد الأجنبية عمَّا تخوض فيه الآن في أسلوب منطقي هادئ مقنع، وأخذ سعد يعالج الموضوع معالجة صحفية، ثم انتهى المجلس وودَّع سعد الحاضرين، والجمهور في الطريق يضجُّ هتافًا ودعاءً، حتى بلغ بيت الأمة …

في الأمسية الرابعة لتلك الليلة، حضر «الشاب» يحمل حزمة من الصحف الأجنبية، وطلب لقاء «سعد»، فسرَّني أن أبلغ مقدمه للزعيم، فأذن له ودخل، وإذا هو قد دبَّج مقالًا في بعض الصحف الأجنبية، ما خرم حرفًا، ولا تجاوز فكرة مما أراده «سعد» قبل ثلاث ليال. عجب سعد لهذا الشاب، وأطراه، ورجا له غاية بعيدة.

•••

منذ ذلك الحين عرفت «عبد الله حسين»، وتوثَّقت بيننا الصلات؛ فكان من خلصائي، وذوي ودي، وعرفت في غضون صداقتنا أنه شخص ممتاز موهوب، وإن شئت فقل إنه أعجوبة من الأعاجيب.

نشأ في دار المؤيد؛ إذ يتزعَّم الشيخ علي يوسف أسرته، فكانت عين المؤلف لا تقع إلا على التحرير والتحبير، وهو إذ ذاك غلام مراهق، فعلق بنفسه ما كان يراه ويسمعه، وشهد ما كان يطوِّق دار المؤيد كل يوم من رتل السيارات تحمل عظماء الأمة وكبار رجالاتها، وكلهم حريصٌ على لقاء شيخ المؤيد، فعرف «عبد الله حسين» الصبيُّ ما للصحافة ولرجالها من مكانة في المجتمع المصري، ولعل أحبَّ شيء إلى نفسه لم يكن غير أن يصبح صحفيًّا، ولم يجد ميدانًا يبرز فيه ميله النفسي غير صفحات كراساته المدرسية؛ فكان مدرس العربية يلقي إليه بموضوع الإنشاء، فلا يلبث أن يحوِّله إلى مقال ضافي الذيول، محبوك النسيج، حتى عُرِفتْ موضوعاته بين أقرانه في المدارس الابتدائية والثانوية بأنها مقالات.

وكان إعجاب أساتذته بكتاباته مغريًا له بأن يلتهم القواميس ويحاول حفظها، ولعل محاولاته هذه وهو في تلك السن، ثم لعل إرشاد أساتيذه له من ذلك الحين، قد خرَّج منه على طول السنين كاتبًا ألمعيًّا متفوقًا، عُني بالمعاني، وأعرض عن المقدمات، بل كرهها كرهًا. وإننا لنعرف مبلغ اهتمام أساتذة الإنشاء بمحو المقدمات في كراسات تلاميذهم، فلست رائيًا في كتابة عبد الله حسين الشاب المكتمل إلا الموضوعات محوطة بالحجج، يتمشَّى فيها المنطق الصحيح، ثم لا يزال بالقارئ يستهويه ويتنقَّل به إلى حيث يؤمن بصدق نتائجه، وصحة رأيه وحكمه.

•••

ما رأيت عزمًا يعمل في الصعاب، ولا دأبًا يبدِّد العقبات، ولا أدركت إلى أي شأوٍ تبلغ الهمة بصاحبها، مثلما عرفت ذلك كله في «عبد الله حسين».

مات الشيخ «علي يوسف»، وأخذت «المؤيد» الأحداث، وتقلقلت حياة المرحوم السيد عبد الله حسين أبو صغير عميد آل صغير ببني عديات — منفلوط — مديرية أسيوط، مدير إدارة «المؤيد»، والد «عبد الله»، وقد كان أثرًا لدى الشيخ علي، بل كان صفوة أقربائه، وأخلصهم، وأعرفهم بشئونه، ترك له الشيخ علي تدبير خاصته، وكان يستشيره، ويصدر عن رأيه، وكانت الحياة نضيرة الجنبات ترفُّ عليه بخيرها، فلما تبدَّد تراث «المؤيد» كان من آثار ذلك أن شرع «والد المؤلف» يهيِّئ حياته مستقلة، ويوجِّه كل جهوده لإعداد ابنه الوحيد «عبد الله».

عانى الوالد شدائد؛ ولقي «عبد الله» ما كان حريًّا بأن يثنيه عن تمام دراسته، بل أن يقنعه بالدخول في تلك الوظائف، لكنه ما انثنى ولا قنع، فما زال يرتقي من دراسة إلى دراسة حتى ضاقت به دور العلم في مصر، ورأى مطامحه أفسح من هذا الأفق، فارتحل إلى بلاد الفرنجة وهو مسلَّح بهذا العزم القاطع، وذلك الخلق القوي، وعاد وهو يجيد الفرنسية والإنجليزية والإيطالية والألمانية، هذا إلى لغته العربية التي حذقها حذقًا، وجعل لنفسه فيها أسلوبًا فذًّا يعرفه كل من قرأه، حتى لقد شاهدت الكثيرين يطالعون صدور «الأهرام» ولا يجدون توقيعًا لهذا الصدر، فيقسمون جهد أيمانهم أن الكاتب «عبد الله حسين»، وهم بررة في أيمانهم.

عاد وقد اجتمعت له إجازات دراسات كثيرة، ومنها إجازة الحقوق، فغامر في ميدان المحاماة على عادته من حب المغامرات، فما كاد يجري الشوط الأول حتى كان من أعلامها، جاءه مال كثير، واجتمعت له صفات المحامي الناجح من صدق ونزاهة ودأب، لو استراحت الكواكب ما استراح «عبد الله»؛ فهو دائمًا ينتقل في البلاد، ويغشى دور المحاكم، ويقدِّم المذكرات، ومن أبهر ما عرف له أن وقف في قضايا الاغتيالات السياسية إلى جانب المحامين المقاول مصطفى النحاس ومكرم عبيد ومرقص حنا وأحمد لطفي، ثم شاء الله، وشاءت عنايته بموكله (…) أن صدر الحكم ببرائته، فكان لهذا دوي عظيم في الدوائر المختلفة.

وله في ميادين الاجتماع والخير آثار؛ إذ كان أحد واضعي قانون التعاون عندما كان عضوًا باللجنة التعاونية العليا، وقد سمعتُ من المرحوم فتح الله بركات باشا — إذ كان وزيرًا للزراعة سنة ١٩٢٦–١٩٢٧ — ثناءً على المؤلف في هذا الضرب من العمل، وهو من مؤسسي جمعية التقوى، التي حقَّقت تعليم ألوف الأميِّين القرويِّين، وهو أمين صندوقها.

لو أن هذا المِدْرَه القدير قد بقي في هذا الميدان لأشرف على الغاية القصوى؛ فهو من ناحية القانون ثَبْتٌ عميق، ومن ناحية البحث هادئ منطيق، وله هيام بالمطالعة؛ حتى لينسى أنه إنسان يأكل وينام، فهو يواصل الليالي ذوات العد حتى ليكاد أخصاؤه يشفقون عليه، فيطفئون السراج وهو يغالبهم، ويقول إن نشاطي لا يتجدد، وذهني لا يحتدُّ إلا وأنا على هذا النهج من الحياة!

نعم، ليته بقي محاميًا بحاثًا، وليته جمع أبحاثه القانونية، ومذكِّراته القضائية؛ إذن لكان فيها غناء وأي غناء. ومن عجبٍ أنه يترفَّع عن إخراج الكتب على كثرة ماله؛ من دراسات وأبحاث ومذكرات؛ لأنه يضنُّ بمجهوده أن يخرج في غير إهابه اللائق، أو على صورة تجارية؛ لهذا، عندما أراد إخراج كتابه هذا … احتفل له، ورصد كل جهوده، ولم يسمع بمصدر من المصادر؛ فرنجيًّا أو عربيًّا، إلا وقد استشفَّه، وأوغل فيه، ثم ما زال يرتِّب الأبواب، ويفصِّل الفصول، ويُحكِم المقدمات، ولا يستكثر شيئًا من جهوده على هذا الكتاب، حتى خرج كما يرى القراء دائرةَ معارف لم تدع شاردة ولا واردة عن السودان إلا أحصتها في أسلوب من النسق العالي.

•••

كلما تخصَّص للمحاماة جذبته الصحافة إليها، فحنَّ لها، لكنه ما فتئ يرى في الأفق الصحافي والسياسي أشياء ينبو عنها طبعه، وتنفر منها نحيزته «الصريحة»؛ فهو صريح جدًّا، حتى خلقته خرجت صريحة هي أيضًا، فكأنما تقرأ في قسمات وجهه مطويَّ نفسه؛ فهو لا يحب المواربة، وأفق السياسة وجو الصحافة مليء بالدسائس والأنانية والاستغلال والمصانعة. فكثيرًا ما شاهدت «عبد الله» برمًا متضجرًا ضائق الصدر، ينتوي أن يحيا في أفقٍ وجوٍّ يستطيع التنفُّس فيه بملء رئتيه هواء صالحًا نقيًّا، وقد شاهدتُه يجمع رأيه على أن يدع الصحافة، وإن كان حنانه إليها يعاوده فيجيئه أصدقاؤه يثنون عزمه، ويقفون في سبيله؛ استزادة واستكثارًا من نفثاته الوطنية البريئة.

•••

وجملة القول، فلقد عرفت «عبد الله حسين» صحفيًّا أمينًا ماهرًا نشيطًا ظريفًا واعيًا، يستمع لكل ما يقال، ولا يكتب مذكرة ولا مفكرة، ثم يصبُّ الحديث ما يخرم منه حرفًا، وعرفته معتزمًا مريدًا، ومحاميًا قديرًا، واجتماعيًا مستبحرًا، وصديقًا وفيًّا يتحرق على الأصدقاء، ويقدِّس الوفاء، ووطنيًّا لم تختلط وطنيته بدنس ولا عاب، وهل في استطاعتي أن أرضى الحق، قبل أن أقول: «إن عبد الله حسين أمة وحده»؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤