الفصل الحادي عشر

سلطنة الفور

المتواتر في السودان أن سلطنة الفور من أصل عربي من سلالة بني العباس، ومن الروايات المسموعة، أنه كان بين العباسيين الذين تفرَّقوا بعد زوال دولة بني العباس شقيقان: أكبرهما يدعى عليًّا، والأصغر أحمد سفيان، وكانت زوجة «علي» تحب «أحمد سفيان»، وعلم «علي» بهذا السر، فاستلَّ سيفه وضرب أخاه في رجله فعقرها، وتركه، وعولج «أحمد» ونُقِل إلى جبل مرة في دارفور، حيث كان فيها — يومئذٍ — ملك يدعى دورشيت، وكان همجيًّا وكريمًا، فزوَّج ابنته من «أحمد»، ووُلِد لأحمد ابن سماه سليمان خَلَفَ جدَّه، وبدأت سلطنة دارفور بالسلطان سليمان الأول سنة ٨٤٨ﻫ و١٤٤٥م، وكان يتبع الفور ٢٧ ملكًا من المجوس والمسلمين.

وخلف سليمانَ السلاطينُ: عمر، وعبد الرحمن، ومحمود، ومحمد صول، ودليل، وشرف، وأحمد، وإدريس، وصالح، ومنصور، وشوش، وناصر، وتوم، وكورد، وسليمان الثاني، وموسى، وأحمد، ومحمد دورة، وعمر الثاني، وأبو القاسم، وتيراب، وعبد الرحمن أخوه، الذي كان في فترة فتح نابليون مصر، وقد راسله، ومحمد الفضل في عهد محمد علي الذي طلب إليه الخضوع، ومحمد حسين ابنه، وقد عاصر سعيد وإسماعيل، وبادلهما الهدايا، وأهدى سعيد إليه مركبة، وإبراهيم، وهو آخر سلاطين الفور، وانتهت مدته ١٢٩١ﻫ و١٨٧٥م.

وقد قتل الزبير باشا السلطان إبراهيم في بلدة منواشي في ٢٤ أكتوبر سنة ١٨٧٥، وزال سلطان دارفور، وقد قبضت الحكومة المصرية على بقية أمرائهم وأسكنتهم سوق السلاح، وسقطت دارفور في يد المهدي، وحاول بقية الأمراء استرداد الحكم في أثناء المهدية ففشلوا، وقد أصبح الأمير علي دينار بن الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل سلطانًا على دارفور، وكان يدفع جزية إلى أن قُتل في بداية الحرب الكبرى، بعد أن هزمته الحملة المصرية، إثر انتقاضه وانضمامه إلى الأتراك، وأصبحت دارفور مديرية.

•••

وقد جاء في «كتاب السودان» — تأليف العالم الأزهري الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله بن عمران بن عامر، من علماء القرن الحادي عشر — عن بعض ملوك السودان في سنار وغيرها ما يلي عن ملوك سغي:

أما الملك الأول زا الأيمن، أصل اللفظ جاء من اليمن، قيل إنه خرج من اليمن هو وأخوه سائرين في أرض الله تعالى حتى انتهى بهما القدر إلى بلد كوكيا، وهو قديم جدًّا في ساحل البحر في أرض سغي، كان في زمن فرعون، حتى قيل حشر منه السحرة في مناظرته مع الكليم — عليه السلام— وقد بلغاه في بئس الحال، حتى كادت صفة البشرية أن تزول عنهما من التقشب والتوسخ والتعري، إلا خرق الجلود على أجسادهما، فنزلا عند أهل ذلك البلد، فسألوهما عن مخرجهما، فقال الكبير جاء من اليمن، وبقوا لا يقولون إلا زا الأيمن، فغيروا اللفظ لتعسر النطق به على لسانهم لأجل ثقله من العجمة، فسكن معهم، ووجدهم مشركين لا يعبدون إلا وثنًا، فيتمثل لهم الشيطان في صورة الحوت يظهر لهم فوق الماء في البحر والحلقة في أنفه، في أوقات معلومة، فيجمعون إليه ويعبدونه، فيأمرهم وينهاهم، فيتفرقون عن ذلك ويتمثلون بما أمر ويجتنبون ما نهى، وهو يحضر ذلك معهم، فلمَّا علم أنهم على ضلال مبين أضمر في قلبه، وعزَّم عليه، فأعانه الله في ذلك، فرماه بالحديد في يوم الحضور وقتله، فبايعوه وجعلوه ملكًا.

قيل إنه مسلم لأجل هذا الفعل، والارتداد طرأ في عقبه بعده، ولا نعلم من ابتدأ به منهم، ولا تاريخًا لخروجه من اليمن، ولا لوصوله إليهم، ولا ما هو اسمه، وبقي اللفظ علمًا له، وصدره لقبًا لكل من تولى بعده من الملوك، فتناسلوا وتكاثروا حتى لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه، وكانوا ذوي قوة ونجدة وشجاعة وعظم جثة وطول قامة، بحيث لا يخفى ذلك على من كان عنده معرفة بأخبارهم وأحوالهم.

دويلات وممالك

وقد ورد ذكر «الفور» في كتاب مخطوط اسمه «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان»، تأليف الشيخ محمد بن السيد عمر التونسي بن سليمان، وكتابة المؤلف تدلُّ على ظلام التاريخ القديم للسودان، وتخبُّط المؤلِّفين وخرافات الأقدمين وخيالات المؤرخين وقد قام برحلة في بلاد الفور، قال في «الفصل الأول»:

«أما دارفور فهو الإقليم الثالث من ممالك السودان، وذلك أن للقادم من المشرق إلى بلاد السودان أول مملكة وإقليم يعرض هي مملكة سنار، ثم كردفال «كردفان»، ثم دار الفور، فظهر أنها الإقليم الثالث، وبحسب ذلك إقليم ودداي هو الرابع، والباقرمه الخامس، وبرنوا السادس، وأدقز السابع، ونفه الثامن، ودار تنبكتو التاسع، ودار ملا أو ملي العاشر، وهي قاعدة ملك الفلان وهم الفلانة، وأما الذي يأتي من المغرب فإنه يعدُّ ملا الأول، وتنبكتو الثاني، ونفه الثالث، وهكذا.

واعلم أن القدماء يطلقون على بعض أهل السودان اسم التكرور، ويعنون به أهل مملكة برنو، لكن الآن قد عمَّ هذا الاسم على ممالك متعددة؛ أولها: داروداي أو ودداي، المعروفة أيضًا بدار صليح، وآخرها: برنو، فيدخل في ذلك باقرمه وكتكو ومندرة، فيقال لأهل كل منهم تكرمور، حتى إنه صار عرفًا بينهم.»

ثم قال: «وفي خلال دارفور مملكة البرقد، ومملكة برقو، والتنجور، وميمة، إلا أن مملكة البرقد والتنجور في الوسط، ومملكة البرقو والميمة من جهة الشرق، ومملكة الداجو والبيقوا من الجهة الجنوبية، وكذا مملكة فراوجيه، ولكل من هذه الممالك حاكم يسمَّى سلطانًا، لكن يوليه عليهم سلطان الفور، وكلهم على نسق واحد في الهيئة والملبوس، إلا ملك التنجور، فإنه يلبس عمامة سوداء، وسألته عن سبب سواد عمامته فأخبرني أن أصل مملكة دارفور لأجدادي، وتغلَّب عليها سلطان الفور، فلبس العمامة السوداء إشعارًا بحزنه على فقد مملكته.»

ثم قال المؤلف: «إن طول دارفور بملحقاتها لا تبلغ نحو خمسين يومًا، وهذه الملحقات هي البلاد الجنوبية التي بعد دار الفراوجيه؛ لأن الفراوجيه آخره حدود ممالك الفوراوية الحقيقية، وما يسمون أهل الفور بالسعيد المساحة الممتدة من ريل لآخر دارفور من جهة الجنوب، ودار أباديما هو دار تموركه، وأباديما اسم منصب — كما سنذكره — معناه الجناح الأيمن للسلطان، والحاكم المسيحي بهذا الاسم يحكم على دار تموركه، فسمِّي لذلك دار تموركه بدار أباديما، ويقابله التكنياوي، الذي هو أيضًا اسم منصب معناه الجناح الأيسر للسلطان، ويحكم التكنياوي على اثني عشر ملك أيضًا، وهو حاكم الزغاوة وما يليها لجهة الشرق؛ ولذلك أيضًا سمي دار الزغاوة بدار التكنياوي.

ثم اعلم أن دارفور منظَّمة تنظيمًا على وجه محكم؛ لأننا ذكرنا أن جبل مرة يشقها، وأن نصفها من جبل مرة إلى جهة الشرق سهل، وعرض جبل مرة — بقطع النظر عن ارتفاع الجبال — نحو يومين، ووراءه من جهة الغرب سهل أيضًا، لكن من جهة الشمال الزغاوة والبرتي، وهما قبيلتان عظيمتان، فالبرتى من جهة الشرق والزغاوة من جهة الغرب، وفي وسطها من جنوب جديد كريو يسكنها التنجور والبرقد، وهما قبيلتان عظيمتان، وهكذا إلى جديد رأس الفيل وأزيد، بل إلى تبلدية، وإن كان بينهما بلاد وقبائل صغار.

ثم من هناك إلى الخلاء من جهة الجنوب والشرق وجهة دار أباديما، يسكنه الداجو والبيقو من جهة المشرق، وشرقي جديد كريو يسكنه البرقور والميمة، وهما قبيلتان عظيمتان، ثم إن جبل مرة لا يسكنه إلا أعجام الفور، وأعجام الفور ثلاث قبائل؛ أحدها: كفجارة، وهي تسكن من قرلي إلى بعد الجبيل الصغير المسمى مرة بالخصوص وهو مرة حقيقة: وبعده بقليل إلى حد دار أباديما فيسمونه تموركه، وبعد دار أباديما دار روكة ودار فراوجيه، ولكن روكة من جهة المغرب وفراوجيه من جهة المشرق، ودار فنقرو بعد دار فراوجيه، وبعد دار روكة دار سلا، لكن تميل إلى المغرب أكثر؛ ولهذا يحكمها أهل الوادي.

واعلم أن جبل مرة ليس جبلًا واحدًا كله، بل هو عدة جبال كبار وصغار، وقبل الدخول في دار أباديما ينقطع الجبل وتبقى أرض سهلة يسكنها الفلان، حتى إنهم يقربون من المساليط من جهة المغرب، ويليهم بنو حلبة والمسيرية الزرق، وجميع ما ذكرناه غير البدو الحافين فيها من شمالها وشرقها وجنوبها، وغير المولَّدين من القبائل، والفور يسمونهم الداراوية؛ أي: المنسوبين للدار، فإنهم في الوسط لا يعتبرون بقبيلة.»

ثم قال: «ثم اعلم أن أعمر البلاد من جهة الشمال بلاد البرتي والزغاوة؛ لكثرة ما فيهما من العالم، وانظر حكمة الله؛ فإن القبيلتين في خط واحد، لكن البرتي أرق قلوبًا وأحسن وجوهًا وأجمل نساء، والزغاوة بالعكس، كما أن الداجو والبيقو في خط واحد، وبنات البيقو أجمل من بنات الداجو، وأما البرقد والتنجور فيوجد في كل منهما المليح والقبيح، لكن البرقد خائنون سرًّا، وليلًا ونهارًا، لا يخافون الله ولا رسوله، والتنجور معهم بعض دين، وبعض عقل يمنعهم، وأما أهل الجبل فكلهم على حد في الوحاشة والوخاشة، لكن متى جئت في دار أباديما، تجد الرجال والنساء حسانًا؛ فسبحان من هذا صنعه! وأما المساليط فنساؤهم يسبين العقل ويذهبن باللب، وأجمل النساء في دار الفور على الإطلاق نساء العرب، بل رجالهم كذلك.»

عادات الفور ولغتهم

وقال المؤلف: «وليعلم أن الرجال في دارفور لا يستقلون بأمر البتة، إلا الحرب، فليس للنساء دخل فيه، وما سوى ذلك فهم والنساء سواء، بل أكثر الأشغال وأشقها على النساء، وللرجال اختلاط عجيب بهن بالليل والنهار في جميع الأعمال، ومن العجب في أهل جبل مرة أنهم لا يأكلون من القمح الذي يزرعونه، بل يبيعونه ويستبدلون بثمنه دخنًا.»

ثم قال عن لغتهم: «وأما لغتهم فهي لغة فيها حماس، ألفاظها تشبه ألفاظ اللغة التركية؛ لأنهم إذا دعوا إنسانًا يقولون له: كلا، والترك يقولون: كال، وقَوْلي تشبه اللغة التركية ليس معناه أنهما متقاربتا المعنى، بل وجه الشبه في مجرد الألفاظ وإن اختلف موضوع معنى كل منهما، وذلك أن الفور يقولون للفرس: يا مورتا، وعند الترك هو اسم للبيض، والقبيح عند الفور اسمه: لجتي، وعند الترك فعل ماضٍ بمعنى ذهب، ولم أسمع لغة أنقص من لغتهم؛ لأن العدد بلغتهم ينتهي إلى ستة ويكمل بالعربي. فيقولون: ديك واحد، أو اثنان، إيس ثلاثة، أوكل أربعة، أوس خمسة، أو صنانديك ستة، ثم يقولون بالعربي: سبعة، ثمانية، تسعة، ثم يقولون: وأيه، وهو لفظ يدل على عشر الأعداد.»

وقال عن خرافاتهم القديمة: «من أعجب ما سمعته بجبل مرة أن الجن ترعى مواشيهم التي ترعى في الكلأ بدون راعٍ معهم، ولقد أخبرني عدة رجال ممن يُظنُّ صدقها أن الإنسان إذا مرَّ بمواشيهم ورأى أن لا راع لها، ربما طمع فأخذ منها شاة أو بقرة أو غير ذلك، فإن ذبحها تلتصق يده بالسكين على منحرها، ويعجز عن فكاكها، حتى أرباب الماشية، فيقبضون عليه ويغرِّمونه ثمنها بأغلى قيمة، بعد إهانتهم له وضربهم إياه الضرب المؤلم.

ولقد تكرَّر عليَّ سماع ذلك حتى بلغ مبلغ التواتر، مع أني لا أصدقه، وحين كنت في جبل مرة توجَّهت إلى دار رجلٍ منهم في غلية أسأل عنه، فما رأيت في داره أحدًا، لكن سمعت داخل الدار صوتًا غليظًا مرعبًا، اقشعر منه جلدي، يقول لي: أكبا، يعني أنه ليس هنا، وفي ذلك الوقت أردت أن أتقدَّم وأسأل أين ذهب، فمرَّ بي إنسان وجذبني وقال: ارجع، فإن الذي يخاطبك غير آدمي! فقلت: وما هو؟ فقال: هذا الحارس الجني؛ لأن لكل إنسان منَّا حارسًا من الجن، ويسمى بلغة الفور: دمزوقة.

فخفت ورجعت من حيث أتيت، ولمَّا رجعت من هذه السفرة وتوجهت إلى الفاشر واجتمعت مع الشريف أحمد بدوي، الذي أخذني من مصر وذهب بي إلى دارفور، فأخبرته القصة، فقال صدقٌ، وأسمعني أعجب من ذلك، وقال لي: يا ولدي، اعلم أني كنت في أول أمري أسمع أن الدمازيق تباع وتشترى، ومن أراد منها دمزوقًا يذهب إلى من يعلم أن عنده دمازيق فيشتري منه واحدًا بما يرضيه، ثم يأتي بقرعة فيها لبن ويدفعها إلى رب المنزل، فيأخذها ويدخل إلى المحل الذي هن فيه، فيسلم عليهن ويعلق القرعة التي فيها اللبن في علاقة في البيت، ثم يقول لهن إن صاحبي فلانًا عنده مال كثير، وخائف عليه من السرقة، وأراد مني حارسًا، فهل إحدى منكن تذهب إلى داره؛ لأن عنده لبنًا كثيرًا وخيرًا غزيرًا، وقد أتى بهذه القرعة مملوءة لبنًا؟

فيتمنَّعن أولًا ويقولن لا أحد يذهب معه، فيتحنَّن لهن ويتملق حتى يرضين، فيقول من أراد الذهاب منكن فلينزل في القرعة، ويبعد عنهن قليلًا، وحين يسمع بصوت وقوعه في اللبن يغطي القرعة بطبق من سعف، ويأخذها من علَّاقتها مغطاة، ويدفعها لصاحبه المشتري فيأخذها ويذهب بها إلى داره ويعلقها في بيته، ويوكِّل بالقرعة جارية أو امرأة تأتي كل يوم على الصباح وتأخذ القرعة وتريق ما فيها من اللبن، وتغسلها جيدًا ثم تضع فيها لبنًا آخر محلوبًا في ساعته وتعلقها، وحينئذ يأمن الإنسان على ماله من السرقة والضياع.

وكنت أكذِّب ذلك حتى كثر مالي، وصارت العبيد والخدم يسرقونه، فاحتلت على منع السرقة بكل حيلة فلم يمكنني ذلك، وشكوت لبعض أصحابي فأمرني أن أشتري دمزوقة وأني أكفى شر السرقة، فحداني حب المال أن توجهت إلى رجل سمعت أن عنده دمازيق، وقلت له: أعطني دمزوقة تحرس لي مالي، وأعطيته ما طلبه، فقال لي: اذهب واملأ قرعة من لبن حليب وهاتها، ففعلت وأتيت بالقرعة مملوءة لبنًا، فأخذها وذهب، وبعد ساعة جاءني والقرعة مغطاة وقال لي: علِّقها حيث مالك مخزون، وعرَّفني ما ينبغي أن يُفعل كل يوم من غسل الآنية وتجديد اللبن، ففعلت ذلك ووكَّلت جارية بذلك، وأمنت على مالي حتى إني كنت أترك بيت مالي مفتوحًا ولا يقدر أحد على الوصول إليه، وفيه من العين والأمتعة شيء كثير، وكل من رام أخذ شيء بغير إذني تكسر رقبته، فقُتل لي عدة عبيد، وعِشت آمنًا على مالي مدة حتى كبر لي ولد كان اسمه محمد، فلما شبَّ واحتلم تعلَّقت آماله بالبنات، وأراد أن يهاديهن ببعض خرز وحلي، فترقَّب غفلتي يومًا وأخذ المفاتيح وفتح خزينة الأمتعة، وأراد أن يدخل فكسر الدمزوقة رقبته ومات في الحال، وكنت أحبه حبًّا شديدًا، فلما أُخبرت بموته جزعت عليه جزعًا عظيمًا، وسألت عن سبب ذلك، وأُخبِرت أنه أراد أن يأخذ شيئًا من الأمتعة فقتله الدمزوقة، فحلفت يمينًا أن الدمزوقة لا يجلس في بيتي، وأردت إخراجه فأعجزني، وشكوت لبعض أحبابي فأشار عليَّ أن أصنع وليمة وأجمع فيها أناسًا كثيرين، يكون مع كل واحد منهم بندقية وبارود، ويأتون كلهم دفعة واحدة يطلقون البنادق ويصيحون بصوت واحد بكلام الفور دمزوقة أيئيه، ومعناه: أين الشيطان؟ ويكررون الطلق ويرفعون أصواتهم بذلك حتى يدخلوا إلى المحل الذي فيه المال، فربما خاف وهرب منه، ففعلت ذلك ففرَّ ولله الحمد، وخلصت من معاشرة الدمازيق، أي: الشياطين.

ولقد أخبرني عدة رجال أن النقاقير التي في بيت السلطان فيها واحدة تسمَّى منصورة، متملكها الشياطين، وإنها ربما ضُرِبت بغير ضارب، فإذا وقع ذلك يحدث في دارفور أمر عظيم؛ إما حرب عدو لهم، أو حرب بينهم، وسيأتي لهذا مزيد توضيح حين نتكلم على عوائد الملوك، وأما عوائد القبائل الأُخَر، كالبرتي والداجو والبيقو والزغاوة والبرقو والميمة وغيرهم، فإن بعضها يقرب من عوائد أهل الجبل، وبعضها يخالفها، أما المخالِفة، فبعض هذه القبائل فيه كرم ونجدة ورقة طبع؛ وذلك لمخالطتهم للعرب أهل البادية، وللتجار الذين يذهبون من أرض مصر وغيرها، فتراهم إذا رأوا أضيافًا أقسموا عليهم وأحسنوا ضيافتهم، وإن رأوا غريبًا أكرموه، وذلك بخلاف الفور الأعجام، كأهل جبل مرة وتموركه، فإنهم يكرمون الضيف ولا يألفونه، ولا ينزل الضيف عندهم إلا قهرًا عنهم.»

تقاليد ملوك الفور

وقال المؤلف عن عادات ملوك الفور: «عادة ملوك الفور مخالفة لعوايد غيرهم من الملوك، ولملكهم السلطنة التامة عليهم؛ فإذا قتل منهم ألوفًا لا يسئل لماذا، وإن عزل ذا منصب لا يسئل لماذا، فهو تام التصرف في كل أمر يريده، وإذا أمر بأمر لا يُراجع فيه ولو كان منكرًا، إلا من قبيل الشفاعة، ولا تُرد له كلمة، لكنه إذا فعل ما لا يليق من الظلم والعسف يحصل له بغض في قلوبهم، ولا يقدرون له على شيء!
figure
شابة نوبية في السنة الثانية من زواجها.

فأول عوائدهم: أن الملك لا يكون إلا من بيت الملك، أي: من سلالتهم، ولا يمكن تولية أجنبي منهم، ولو شريفًا وتحقَّق نسبُه عندهم. وثانيها: أن الملك إذا تولَّى يجلس في بيته سبعة أيام لا يأمر ولا ينهى، ولا تقوم بين يديه دعوة، وكلهم على ذلك إلا السلطان عبد الرحمن، فإنه خرق عادتهم. وثالثها: أن لهم عجائز تسمى الحبوبات، وهن طائفة عظيمة، ولهن رئيسة تسمَّى ملكة الحبوبات، فعند خروج السلطان يوم الثامن يجتمعن ويأتين إليه، وكل واحدة منهن بيديها أربع قطع من الحديد تسمَّى القطعة منها كرباجًا، وفي كل يد كرباجان يضربنها على بعضها فيحصل منها صوت، وبيد إحداهن قبضة من سعف أبيض ومعها ماء، اختلف أهل دارفور فيما تركب منه، فتبلُّ العجوز السعف من ذلك الماء وترش به على السلطان مع قول كلام لا يعقله إلا هن، ويأخذن السلطان في وسطهن، ويطفن به البيت، ويتوجَّهن إلى دار النحاس، وهو المحل الذي فيه النقاقير، وهي طبول السلطان، فيدخلن البيت ويأتين إلى النقارة المسماة بالمنصورة، فيقفن حلقة ويجعلنها في الوسط والسلطان وحده معهن، ويضربن الكرابيج على بعضها ويقلن من كلامهن، ثم يرجعن بالسلطان إلى كرسي مملكته، وبعد جلوسه ذاك تدخل إليه الدعوى ويتناول الأحكام.

ومن عادتهم أن السلطان لا يسلِّم على غيره إلا بترجمان، صغيرًا كان أو كبيرًا، عظيمًا أو حقيرًا؛ وكنية ذلك أنه إذا دخل عليه أناس يجثون على ركبهم، ثم يتقدَّم الترجمان ويسميهم واحدًا بعد واحد إلى آخرهم، وهو أنه يقول: إنولورا فلان دوكة كنبجي داري، ومعناه: أن هنا برا فلان سلام يعطي طاعة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤