الفصل الثالث

مصر الفرعونية في السودان

بين مصر والسودان علاقات قديمة، وترجع هذه العلاقات إلى أبعد المعروف من التاريخ القديم، ولا غرو في ذلك؛ فإن الأمم القديمة بدأت حياتها وظهرت مدنيتها على ضفاف الأنهار، وتعاقبت ممالكها على الحكم في المسافات الخصبة حوالي الأنهار.

ونهر النيل يجري في أرض السودان ومصر؛ لذلك كان الانتقال بين سكانهما مستمرًّا، والاتصال باديًا والحكم متراوحًا، وكانت القوافل الحاملة للتجارة تسير في الطرق الصحراوية. ولقد تضاربت آراء المؤرخين في أصل المصريين، قال ديودور الصقلي إن الإتيوبيين — وقد عرف القارئ فيما سبق أنه تألفت منهم مملكتان: إيتيوبيا العليا وهي الحبشة وإيتيوبيا السفلى التي كانت تمتد من أسوان حتى حدود الحبشة — «يقولون إن مصر مستعمرة من مستعمراتنا، وأن طين بلادها طمي من بلادنا ساقه النيل إليها، وأن بين عاداتنا وعادات المصريين مشابهة ظاهرة، ومطابقة بين القوانين، وتشابهًا في زي ملوك البلدين؛ خصوصًا أن كلينا يتخذ الصلة زينة فوق التيجان.»

وقال «نافيل»: «إن رواية ديودور المؤيدة لمجيء المصريين من إيتيوبيا كافية وحدها لإثبات أن أصل المصريين القدماء من بلاد العرب الجنوبية؛ لأن في الرواية إشارة إلى أن أولئك الفاتحين بعد أن هجروا مواطنهم نزلوا على شاطئ البحر الأحمر في إيتيوبيا، وأقاموا فيها زمنًا قبل زحفهم على وادي النيل، فلما دخلوه وأظهروا فيه مبادئ الحضارة، انتحل الإيتيوبيون وجهًا لدعواهم قائلين إن هذه الحضارة مأخوذة عنهم، وهو قول يخالف الواقع.»

إن أقدم رواية تاريخية في حكم المصريين للسودان١ هي المقروءة في حجر «بالرمو»؛ ففيه ذكر أن الملك «سنفرو» من الأسرة الثالثة «سنة ٢٩٠٠ قبل الميلاد» قد غزا بلاد النوبة، وأسر سبعة آلاف من الرجال والنساء، وغنم ألفين من الثيران والعجول، فلما جاء إلى مصر استخدم الرجال في أعمال الحكومة، والنساء في القصر الملكي، أما الثيران والعجول، فبعضها ذُبح للطعام، والبعض الآخر احتفظ به لتربية نتاجه لجودة نوعه.

وفي عهد الملك «بيبي الأول» من الأسرة الثالثة «سنة ٢٦٠٠ قبل الميلاد»، جنَّدت مصر من السودان جيشًا لإخضاع بعض القبائل العاصية في شرقي السودان، وكان السودان في عهد الأسرة الثانية عشرة تحت حكم المصريين، وكان الجيش المصري حافظًا النظام فيه، مشيِّدًا القلاع والحصون في جزر النيل وفي جهات كثيرة من ضفافه، واستخرج المصريون الذهب من مناجمه، وكانت تجارته رائجة، وشقوا طريقًا للسفن بين صخور الشلال الأول في عهد الأسرة السادسة تحت إشراف المهندس المصري «أونا» «سنة ٢٦٠٠ قبل الميلاد».

وكانت السفن تجري في النيل بين مصر والسودان بغير مشقة في تلك القناة التي شقَّها المصريون بين صخور الشلال الأول، وقد أعيد ذلك في عهد الملك «أوسرتسن الثالث» من الأسرة الثانية عشرة «سنة ١٨٥٠ قبل الميلاد»؛ لتسهيل نقل الجيش والسفن الحربية والمعدات، لتأديب البلاد التي تحاول الخروج على الحكم المصري.

ومن الأسف أن هذه القناة أُهملت، وقال الأثري «بتري»: «لم يفكر أحد من المصريين حتى الآن في عمل طريق مثل ذلك الطريق المائي الذي كان يبلغ عرضه في عهد الفراعنة أربعة وثلاثين قدمًا، وعمقه أربعة وعشرين قدمًا، تسير فيه السفن النيلية مهما كانت كبيرة، وقد أصبح المصريون الحاليون مكتفين بخط حديدي لنقل البضائع من أحد طرفي الشلال إلى الطرف الآخر.»

كان سكان السودان في عهد الفراعنة هم سكان إفريقيا الأصليين؛ أي: العبيد أو الزنوج، وكان المصريون متفوقين عليهم بالعلم والمدنية والنظام والإدارة والكتابة ووسائل القتال، والتفاني في إطاعة الملوك والرؤساء، وفي عهد الأسرة الثانية عشرة المصرية بثَّ ملوكها المدنية والعلم في السودان، واستخرجوا الذهب من شرقه، وأقاموا القلاع والمعسكرات إلى ما بعد الشلال الرابع، وكان الضباط المصريون يرسلون السودانيين إلى مصر لخدمة الحكومة، وكانوا يشرفون على نقل الذهب منه إلى مصر.

وكان المصريون ينشئون المعابد والهياكل، وكان رجال الإدارة والكهنة من المصريين، وقد جعلت الأسرة الثانية عشرة حدود مصر الجنوبية إلى الشلال الثاني، وبنى «الملك أوسرتسن الثالث» أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، قلعة في جهة «سمنة» على بُعد أربعين ميلًا من وادي حلفا جنوبًا، ونصب هناك لوحًا أثريًّا حذر فيه مرور السودانيين شمالًا؛ برًّا وبحرًا، واستثنى منهم التجار ورسل الحكومة القائمين بأعمال رسمية.

وقد نصب هذا الملك حجرين كبيرين؛ أحدهما في «سمنة»، والآخر في «جزيرة الملك»، وصف فيهما معاملته لأهالي السودان وطرق حربهم، ورماهم بالجبن والفرار أمام العدو، والغباوة، وبتولية ظهورهم وقت صليل السيوف، وزعم أنه قتل كثيرًا من نسائهم، وحرق حصدهم وأتلف آبارهم، واستعمل معهم كل وسائل القوة والجبروت، ويظن الأثري «ماسبيرو» أن النفوذ المصري في عهد الأسرة الثانية عشرة قد وصل إلى جنوب نهر عطبرة.

وكانت القوافل تجلب الذهب من سنار إلى جزيرة مروى، وتستمر في الصحراء إلى مدينة «نبتة»؛ حيث ينقل في سفن نيلية إلى مصر، وكانت القبائل السودانية تدفع الجزية لملك مصر، وكانت المصنوعات المصرية رائجة في السودان.

أما في عهد الأسر الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، والخامسة عشرة، والسابعة عشرة، فتاريخ مصر في السودان غامض، ويقول المؤرخون: إن نفوذ مصر قد ضعف، وأن القبائل السودانية قد امتنعت عن دفع الجزية إلى مصر في ذلك العهد.

أما في عهد الأسرة الثامنة عشرة، فقد وصلت حدود مصر في السودان إلى النيل الأزرق، وذلك في عهد القائد «أحمس» الذي طرد العمالقة من مصر، وأعقب ذلك بتأديب القبائل السودانية التي كانت تعبث بالأمن وتعطل التجارة وتمتنع عن دفع الجزية.
figure
من قبائل العبيد المشهورين بالصيد.

وغزا «أمنمحعت الأول» «سنة١٥٨٠ قبل الميلاد» السودان، ووصلت جيوشه إلى جنوب الخرطوم، وكانت تعرف قديمًا بأرض الأغنام، كما جاء ذلك في لوحة حجرية وُجدت في «مروى».

وقد عين ملك مصر المذكور «أمنمحعت الأول» ابنه «تحتمس الأول» حاكمًا عامًّا على السودان، ثم لقَّبه بأمير كوش؛ و«كوش» هو الإقليم المعروف الآن بإيتيوبيا، وكان محل إقامته في «النوبة»، وكان يجيء إلى مصر أحيانًا، وقسَّم البلاد التي بين الشلال الأول والنيل الأزرق إلى مديريات أو أقاليم، يدير شئون كل منها حاكم مصري تابع لأمير كوش، وأصبحت البلاد السودانية إلى النيل الأزرق جزءًا من مصر، تسود فيه النظم الإدارية والسياسة المصرية.

بعد ذلك صار «تحتمس الأول» ملكًا لمصر «سنة ١٥٥٧ قبل الميلاد»، وأرسل جيشًا كبيرًا وأسطولًا نهريًّا هزم القبائل السودانية المتمردة، وأجبرها على العود لدفع الجزية لمصر، وفي صخر بإحدى جزائر الشلال الثالث نقوش هيروغلوفية تدل على أن «تحتمس الأول» اجتاز الصحاري والجبال، ووصل إلى بلاد لم تطأها أقدام أسلافه.

ولما ولي «تحتمس الثاني» بعد وفاة «تحتمس الأول»، كانت القبائل السودانية قد عادت إلى العصيان، فهزمها الجيش المصري، واضطرها إلى دفع الجزية.

وقد ذكر «تحتمس الثاني» على جدران طيبة «١٤٢» اسمًا لأماكن في كوش والواوات كانت تحت حكم مصر، ودلَّت الآثار على أن بلاد الصومال والواوات كانت تدفع الجزية إلى «تحتمس الثالث»، وأن بلاد الصومال أرسلت في السنة الثانية عشرة من حكمه ١٦٨٥ مكيالًا من البخور، وكمية كبيرة من الذهب، وعددًا كثيرًا من الرجال والنساء والثيران والعجول والبقر والغنم.

واستمر حكم مصر في السودان في عهد الملك «أمنحتب الثاني» «سنة ١٤٤٨ قبل الميلاد» بعد وفاة «تحتمس الثالث»، وشيد «أمنحتب الثاني» معبدًا في «وادي باع النجا» عند النيل الأزرق، وفي هذا الوادي تمثالان، وكانت عاصمة السودان عندئذ مدينة «نبته» غربي «جبل برقل»، بالقرب من الشلال الرابع.

واستمر الحكم المصري في السودان سائدًا، والقبائل السودانية مطيعة هادئة في عهد «تحتمس الرابع» سنة ١٤٢٠ قبل الميلاد، ثم في عهد «أمنحتب الثالث» سنة ١٤١١ قبل الميلاد.

وقد حدثت فتنة صغيرة قمعها بسهولة، وقد أعلن «أمنحتب الثالث» أنه إله للسودان، وشيَّد معبدًا له في جهة «صلب» التي تبعد مائة وخمسين ميلًا من وادي حلفا جنوبًا، وكانت زوجته الملكة «دي» تُعبَد كإلهة في معبد «سدنجة» الذي بُني باسمها، وهو يبعد أميالًا قليلة من «صلب» شمالًا، وفي دنقلة آثار يرجع تاريخها إلى عهد الملك «أمنحتب الثالث».

وقد استتب الأمر للمصريين في السودان مدة مائة وخمسين سنة، وكان السودانيون خلالها يدينون بالدين المصري القديم، ويتكلمون، أو يتكلم الظاهرون فيهم، باللغة المصرية، ودرجوا على الكثير من العادات المصرية.

وقد وُجدت في السودان آثار يرجع تاريخها إلى عهد «إخناتون»، وكان حكمه لمصر «سنة ١٣٧٥ قبل الميلاد»، وتدل الآثار على أن السودان كان يدفع الجزية إلى الملك «آي» «سنة ١٣٤٩ قبل الميلاد»، والملك «حور محب» «١٣٥٠ق.م» الذي زار السودان، وله لوح أثري في جبل «السلسلة» عليه اسمه، جالسًا على عرشه محمولًا فوق أعناق اثني عشر سودانيًّا، وأن الصومال كانت ترسل الخيرات إليه.

ولم ينقطع عصيان القبائل السودانية والمناوشات على الحدود من آنٍ إلى آخر، ولكن الحكام المصريين المعيَّنين من قِبَل مصر، والمسمين «أمراء كوش» كانوا يؤدِّبون العصاة.

وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة كان الحكم المصري في عهد «رمسيس الأول» «١٣١٥ق.م»، مبسوطًا إلى الشلال الثاني فقط، ولكن ابنه «سيتي الأول» الذي خلفه «سنة ١٣١٣ق.م» أعاد الحكم المصري على السودان بصحاريه الشرقية والغربية، وأنشأ القلاع، وأصلح الطرق إلى مناجم الذهب في شرقي السودان، واحتفر الآبار، وأقام معبدًا للآلهة: «أمون رع» و«أزوريس» و«حوريس».

وقد وُجدت خريطة لمناجم الذهب بوادي «شوانب» في ورقة بردية محفوظة بمتحف «تورينو» بإيطاليا.

وكانت سياسة «رمسيس الثاني» «سنة ١٢٩٠ق.م» مسالَمة السودانيين، والاهتمام باستخراج الذهب، وتعبيد الطرق، بعد أن أدَّب العناصر المناوشة.

وظل الحال كذلك في عهد «رمسيس الثالث» «سنة ١١٩٨ق.م»، الذي زاد في تشجيع التجارة مع السودان، بما أنشأ من سفن نيلية وبحرية كانت تمخر في عباب البحر الأحمر إلى ميناء «القصير» الذي ازدهر في ذلك العهد، والذي نأسف الأسف كله على صيرورته مركزًا صغيرًا في مديرية قنا وإهمال مينائه، مع أن في ازدهارها خيرًا كثيرًا لتجارة الصعيد الجنوبي والسودان وبلاد العرب.

وفي عهد الأسرة العشرين ضعف الحكم المصري في السودان، وتمردت القبائل عليه؛ بسبب ضعف تلك الأسرة في حكم مصر نفسها؛ حيث تألَّفت عصابات للسرقة؛ ولا سيما سرقة آثار طيبة، وقد هجر كهنة «أمون رع» «طيبة» عاصمة مصر إلى «نبته» عاصمة السودان، وتدل الآثار على أنهم نشروا فيه عبادة «أمون» والخط الهيروغليفي، وعلى أنه قام في السودان ملوك من بلاد النوبة.

وقد ساء كهنة «أمون» أن يضطرهم المصريون إلى ترك مصر إلى السودان، فحرَّضوا الملك «كشتا»، الملك السوداني النوبي، على فتح الوجه القبلي، وخلفه الملك النوبي «بيعنخي» في «نبته» عاصمة السودان من «سنة ٧٥٠ق.م إلى سنة ٧٤٠ق.م»، وأرسل جيشًا وأسطولًا غزوا مصر بالوجهين القبلي والبحري.

وتاريخ حكم الملك «بيعنخي» مدوَّن في نقوش هيروغليفية على حجر جرانيتي طوله اثنتا عشرة قدمًا، وعرضه أربعة أقدام ونصف قدم.

وتولى «طهراقة» ابن «بيعنخي» عرش مصر «سنة ٦٨٨ق.م».

وقد غزا «آشور أخي الدين» «ملك آشور» مصر «سنة ٦٧٠ق.م»، وهزم «طهراقة» الذي زال حكمه عن الوجه البحري وبقي في الوجه القبلي.

وفي «سنة ٦٦١ق.م» غزت جيوش (آشور) الوجه القبلي، وهدمت معابد «طيبة»، وتقهقر الإيتيوبيون إلى «نبته»، وضعف ملوك السودان في حكمه حتى اضطرت الحكومة السودانية إلى الانتقال من «نبته» إلى أواسط السودان عقب غزوة «بساماتيك الثاني» في أوائل القرن السادس قبل الميلاد، على أن مملكة السودان أخذت تتسع من ناحية الجنوب بدلًا من الشمال، وأصبح معها إقليم النيل الأزرق، وصارت (نبته) بمعزل عن أراضي السودان العامرة، تفصلها عنها شلالات كثيرة، وانتقلت الحكومة السودانية «سنة ٥٦٠ق.م» من «نبته» إلى (مروى) في منتصف المسافة بين نهر عطبرة «أتبرة».

وغزا «قمبيز» السودان «سنة ٥٢٥ق.م» بعد أن فتح مصر، ولكن الشلالات ووعورة الطرق حالت دون وصوله إلى «مروى» التي كان فيها الملك السوداني (نستاش)، فاضطر (قمبيز) إلى الارتداد إلى مصر، على أن المملكة السودانية ضعف شأنها، وأخذ السودان يعود إلى الفوضى والشَّيَع.

•••

لقد خلف أمنحوتب الرابع ابنُ لامنوفيس الثالث، يُدعى توت عنخ أمون، وقد تزوج بأخت أمنحوتب الرابع المسماة «أنخ سن نامن»، وقد غيَّرت اسمها بعد موت أبيها «أنخ سن أمون»، وهذا الملك هو من ملوك الأسرة الثامنة عشرة المصرية.

تولى الملك في وقت كان قد حصل فيه تغيير في الديانة المصرية، أحدثه سلفه أمنحوتب الرابع، ونشأ عن هذا التغيير اضطرابات داخلية في مصر، لم تنتهِ إلا بانتهاء هذه الأسرة، وكان أساس هذا التغيير عبادة الشمس بدلًا من المعبودات الأخرى التي عبدها المصريون من قديم الزمان؛ ولذا وجد الكهنة في هذا التغيير مخالفة للقديم، وفقدانًا لسيطرتهم الدينية، فأثاروا الاضطرابات التي لم تنتهِ بمصر إلا في أيام الملك «حور محب» آخر ملوك هذه العائلة، فرجع لعبادة أجداده.

والسبب في إدخال عبادة الشمس في ذاك العهد راجع إلى نفوذ ملكة «ابن» زوجة الملك أمنحوتب الثالث؛ فإنها كانت من بلاد العرب — أو الشام غالبًا — وكانت ذات دلال وجمال، ولها عيون زرقاء وشعر أسبط وخدود وردية، فلما بنى بها الملك أمنحوتب٢ الثالث أدخلت معها عبادة الشمس، ولجمالها لم يعارضها زوجها في هذا، وصرَّح بإقامة شعائر دينها في عهده وبحضوره؛ إذ كان يُطاف بقرص الشمس محمولًا على زورق يمخر عباب بحيرة صناعية عُملت خصيصًا في عيد كان يقام في السادس عشر من شهر هاتور.

ولما توفي زوجها «أمنحوتب الثالث» خلفه ابنه «أمنحوتب الرابع»، وهو ابنها، فوجدت في جلوسه على عرش مصر أكبر مساعد لها على توطيد دينها، ولهذا صرَّح أمنحوتب الرابع بتغيير دينه وعَبَدَ الشمس (آتن)، وغيَّر اسمه إلى «خون آتن»؛ أي: روح الشمس، وترك طيبة ورحل إلى تل العمارنة، حيث أنشأ معابد جديدة فخمة لعبادة الشمس بها، وظل بها حتى خلفه توت عنخ أمون.

وعلى الرغم من حدوث الاضطرابات الداخلية الناشئة عن هذا التغيير الديني فإن مصر ظلت محافظة على أقاليمها الجنوبية؛ وهي بلاد كوش «السودان»، بدليل أن هذا الملك أصلح معبد جبل البرقل الذي شاده أبوه ببلاد النوبة «مديرية دنقلة»، وأقام بالمكان نفسه معبدًا آخر لأمون الذي كان يُعبد في الهليوبوليس، أو مدينة الشمس، باسم المعبود «توم» أو «تم»، كما دلَّت على ذلك النقوش الأثرية الموجودة على أحد السبعَيْن المصنوعَيْن من الجرانيت، والمحفوظة بدار الآثار البريطانية الآن، وقد نُقلا إليها من جبل برقل بمعرفة اللورد ﭙردهو سنة ١٨٣٥، ويُرى على أحدهما رسم أمنحوتب الثالث، ومن رأي الأستاذ «بدج» المؤرخ الإنجليزي الشهير أنه هو الذي بدأ عمل الأثر الثاني، ثم تمَّمه ابنه «توت عنخ أمون»، وكتب اسمه عليه، وعلى السبع الثاني كتابة تدل على أن هذا الأسد قد اغتصبه أحد ملوك النوبة المدعو «أمون أسرو».

هذا وقد بقي السودان خاضعًا لحكم خليفة الملك المدعو «آي»، الذي لم يجد سببًا لإرسال حملات إلى هذه البلاد بفضل حسن إدارة أمير «كوش» المدعو «باؤور»، وقد أقام هذا الملك ضريحًا بالقرب من أبي سنبل، وقد نقش على جدرانه صورة نفسه مع أحد كبار موظفيه، مقدِّمًا القرابين للمعبود «فتاح» و«رع» و«حور» و«سبك»، ولسلفه الملك «أوزرتسن الثالث».

ووطَّد تلك العلاقات بين مصر والسودان خلفُه الملك «حور محب»، الذي ابتكر إصلاحات إدارية ذات فوائد جزيلة، وأصلح معابد الآلهة، وأقطعها الأراضي والأملاك، ثم صرف همته لزيادة دخل مصر؛ ولهذا أرسل الحملات إلى بلاد الشام والسودان، وإنه وإن تكن نتيجة حملته على بلاد الشام مشكوكًا فيها من حيث زيادة الخراج المضروب على قبائلها، فإن الحملة على بلاد السودان أتت بنتيجة باهرة، وقد ظلت مصر مالكة لبلاد السودان نحو مائتي سنة، حتى إن رجال الشلال والبقارة أدركوا أن الشر كل الشر في تعرُّضهم لقوافل الذهب وغيره النازحةِ من السودان لخزائن الفراعنة، أو تدخلهم في إدارة إقليم «كوش»؛ أي: السودان، وأدركوا أن فرعون مصر طويل الباع إذا عُصي، شديد العقاب إذا غضب.

١  تاريخ السودان المتقدم للدكتور حسن كمال، والعقد الثمين لأحمد كمال باشا.
٢  راجع مقالًا للدكتور محجوب ثابت تحت عنوان «للذكرى والتاريخ» في «الأهرام» الصادرة بتاريخ ١٤ ديسمبر سنة ١٩٢٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤