تمهيد

يبدأ تاريخ القرن التاسع عشر في أوروبا بقيام الثورة الفرنسية (١٧٨٩)، ويستمر قرنًا وربع قرن من الزمان؛ أي إلى وقت نشوب الحرب العظمى أو العالمية الأُولى سنة ١٩١٤. والسبب في اختيار هذين الحدثين لتعيين بداية ونهاية هذا القرن أنَّ التاريخ الأوروبي أثناء هذه السنوات المائة والخمس والعشرين كان يجري بصورة مُنَسَّقة ومُتَرابطة بسبب خضوعه لتأثير عوامل محددة لا مندوحة عن أن تتشكل بها الحوادث، وبدرجة حكمت تطور النِّظام السياسي الأوروبي؛ لتبرز في نهاية الشوط إلى عالم الوجود الدولةُ القوميةُ المُتحررة في هذا القرن، والتي اختلفت الأسس التي قامت عليها عن تلك التي كانت سببًا في تكوين «الدولة الوطنية» في بداية العصور الحديثة. أي من نحو قرنين من الزَّمان تقريبًا.

فقد اقترن ظهور الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في أوروبا، في بداية العصور الحديثة بتعزيز سلطان الملكية كخير كفيل لصيانة مصالح هذه الطبقة الآخذة في النمو ضدَّ ما يقع عليها من اعتداءات الطبقات ذات الامتيازات في «النِّظام القديم» القائم على الإقطاع. فعرفت أُوروبا خلال القرون الثلاثة السابقة من السادس عشر إلى الثامن عشر الملكياتِ المُطلقةَ بنوعيها: المستبدة والمستبدة المستنيرة، وفي كلا هذين النوعين لم يكن للبورجوازية (الطبقة المتوسطة) حقوق سياسية تخوِّلها المشاركة في ممارسة شئون الحكم، وإن كانت هذه الطبقة بفضل ثرائها وقدرتها على إمداد الحكومات بحاجاتها من المال — أو منع ذلك عنها — للإنفاق على الإدارة وجهاز الحكم الذي كان يزداد تعقدًا تبعًا لنمو الدَّولة المطرد، سواء في بناء حكومتها المركزية الداخلية أو في رسم حدودها وتشكيل علاقاتها الخارجية مع الدول، قد استطاعت في أحايين كثيرة التأثير بطريق غير مباشرة على نشاط هذه «الدولة الوطنية» النَّاشئة.

ولقد كان اكتمال ونمو الدولة الوطنية المتحررة الحدثَ البارز في تاريخ القرن التاسع عشر؛ حيث قد تسنَّى للبورجوازية (الطبقة المتوسطة) أن تُؤَسِّس كيانًا جديدًا «للدولة» على أنقاض الصلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في «النظام القديم»، وذلك حينما نضج شعور الشعوب (وأهل هذه الطبقة البورجوازية) بقوميتهم، فرفضوا الخضوع لأي سلطان أجنبي عنهم، وقامت في كل مكان في أوروبا الحركات القومية التي تُوِّجت بالاستقلال لإنشاء الحكومة الوطنية.

ولا جدال في أنَّ البورجوازية التي ظفرت بإنشاء الدولة القومية (الوطنية) المُتحررة، ما كانت لترضى ببقاء نُظم الحكم على حالها في هذه الدَّولة القومية الجديدة؛ أي بقاء أسباب السلطة في أيدي الأمراء والمُلوك والأباطرة، واستمرار البورجوازية محرومة منها. بل لقد عمدت البورجوازية إلى تغيير أسس الحكم القديمة بصورة تُفسِح المجال لأن يُشارك أهل هذه الطبقة مشاركة فعلية في تدبير شئون الحكم، ولأن يتجرد أصحاب السلطان في العهد أو النِّظام القديم من كل امتيازاتهم وحقوقهم الموروثة.

وسار جنبًا إلى جنب النضال من أجل التحرر القومي والخلاص من السيطرة الأجنبية، ثم من أجل تقييد سلطة الأمراء والملوك، وإزالة الفوارق الطبقية التي حرمت الشعوب (وأهل الطبقة البورجوازية) من كل حقوق سياسية واجتماعية واقتصادية في الماضي، وهي الحقوق التي أرادت البورجوازية عند انتصارها أن تُسَجِّلها في عهود ومواثيق لتُصْبِح «دستورًا» يرسم في حدود واضحة ما يجبُ أن تكون عليه حقوق وواجبات السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة القومية (الوطنية) الحديثة. وأما المبادئ التي كفل انتصارها تحقيق هذه الغاية؛ فقد عرفت باسم المبادئ الحرة أو «المذهب الحر» Liberalism.
وفي القرون الثلاثة الماضية، والتي سبقت قيام الثورة الفرنسية، كان قد أخذ ينمو إلى جانب نمو الطبقة البورجوازية ذاتها نظام الرَّأسمالية Capitalism. وعزز النِّظام الرأسمالي سلطان البورجوازية، حتى إنه لم يلبث أن تألَّف من أثرياء هذه الطبقة أرستقراطية جديدة هي «أرستقراطية المال»، وذلك على أنقاض أرستقراطية النُّبلاء (الأشراف) القديمة.

ومع أنَّ البورجوازية أشركت معها في النضال ضد الملكية المُطلقة أرباب الحرف والصناعات والعُمال الزِّراعيين، فقد عجزت الثورة الفرنسية عن إدخال أي تغيير أو تعديل على النظام الاقتصادي الرأسمالي السائد، والذي كانت تسير عليه أوروبا من بداية العصور الحديثة. وأدى إخفاق الثورة في هذه الناحية إلى أن تظفر البورجوازية بالغُنْم كله في نظام الدولة القومية (الوطنية) الجديدة. ولقد ساعدها على ذلك أن طوائف العمال والصناع لم ينشطوا قط للمطالبة لتحسين أحوالهم أو المساهمة بقسط في أعمال الحكومة. أضف إلى هذا أن حصول الانقلاب الصناعي ثم انتشاره في أوروبا من أواسط القرن التاسع عشر تقريبًا قد عزز سُلطان البورجوازية من جهة كما أدى إلى تطوير الرأسمالية لتُصبح تسلطية (أي إمبريالية) تحطِّم حواجز الدولة الوطنية لتظفر بالسيطرة على العالم.

غير أنَّ ظهور ونمو الطبقة المتوسطة «البورجوازية» في إطار الدولة القومية (الوطنية) الحديثة، مع كل ما اقترن بذلك من مبادئ ومذاهب سياسية واقتصادية واجتماعية و«طبقية»، كان يحمل في طياته بذور مبادئ ومذاهب «مُضَادة» في الوقت نفسه؛ فلم تتأثر أحداث القرن التاسع عشر بالمبادئ القومية والحرة، أو بالنظام الرأسمالي فحسب، بل إنَّ النظام الرأسمالي الذي قام من الناحية الاقتصادية (المؤسسة على مصادر الإنتاج ووسائله) محل نظام رقيق الأرض Serfdom في العهد الإقطاعي، لم يلبث أن ظهرت في كنفه — وبسبب ازدياد قوته ذاتها — الآراء والمبادئ الاشتراكية.
بل إنَّ المذهب الاشتراكي Socialism كان قد بلغ درجة من القوة، في الوقت نفسه الذي بلغت فيه الرأسمالية ذروتها، في نظم «التسلطية» السياسية والتجارية؛ جعلت صراع البورجوازية ضد المبادئ الاشتراكية من حوالي منتصف القرن التاسع عشر لا يقل في صرامته عن صراع هذه البورجوازية ضد الإقطاع (أثناء الثورة الفرنسية) وضد بقايا الإقطاع أو بالأحرى مُحاولات إحياء أنظمة «العهد القديم» خلال السنوات الثلاثين (١٨١٥–١٨٤٨) التي أعقبت حروب الثورة الفرنسية ونابليون.
وكان انتشار الانقلاب الصناعي من العوامل التي تسببت في زيادة حدة هذا الصِّراع؛ لأنَّ هذه الثورة الصناعية التي شدت من أزر الرَّأسْمَالية لدرجة بعيدة، قد أوجدت كذلك الطبقة التي اعتنقت الاشتراكية وناصبت البورجوازية العداء، وكان لا محيص عن وقوع الصدام بين البورجوازية وبينها. ونعني بذلك الطبقة العمالية «البروليتارية» Proletariat، وهي الطبقة التي أحرزت نجاحًا ملحوظًا في نهاية هذا القرن إمَّا بالوسائل «الدستورية» في أكثر الدول الأوروبية، وإما بطريق الثورة، كما حصل في روسيا السوفييتية.

وهكذا خضع تاريخ القرن التاسع عشر (١٧٨٩–١٩١٤) لتأثير عوامل معينة: المبدأ القومي، المذهب الحر، الرأسمالية، الانقلاب الصناعي (والميكانيكي)، الاشتراكية (والشيوعية). ولقد كان لبعض هذه العوامل آثار أبلغ ظهورًا من غيرها في مراحل مُعينة من تاريخ هذا القرن (التاسع عشر)، وإن كان من المُتَعَذر فصل هذه الآثار لارتباطها ببعضها بعضًا، ولأنَّ كل «نظام» سواء كان اقتصاديًّا أو سياسيًّا أو اجتماعيًّا إنما هو في حركة دائبة وتغيير مستمر، وإن تطلب حدوث هذا التغيير زمنًا — يختلف في استطالته أو في قصره — حتى يُصْبِحَ شاملًا، ويتسنى حينئذٍ القول بأنَّ انتقالًا قد حدث من نظامٍ إلى آخر.

وفي بداية القرن التَّاسع عشر (١٧٨٩) كان الحدث الظاهر هو نضال البورجوازية ضدَّ الإقطاع، وهو النِّضال الذي أشعل الثورة الفرنسية وهيأ السبيل لانتشار المبادئ القوية والحرة التي أتت بها هذه الثورة في أوروبا.

ولا جدال في أن عهد السيطرة النابليونية في هذه القارَّة قد أدى إلى تأكيد النَّصر الذي أحرزته البورجوازية ضد الإقطاع، متمثلًا في الحركات القومية التي قامت في وجه السَّيطرة النَّابليونية ذاتها. ثم ما لبثت حتى صارت معولًا هدم عروشها كي تنشئ على أنقاضها «دولًا قوميةً» تقوم فيها حكومات وطنية تستأثر البُورجوازية بكل أسباب السلطة الفعلية فيها. ولقد كان نضال هذه البورجوازية عنيفًا في الفترة التالية عندما أراد الملوك والأمراء الرَّاجعون بعد انتهاء السيطرة النَّابليونية أن يتجاهلوا الحقوق التي صارت للبورجوازية، والتي لم يكن متوقعًا أن تتخلى عنها هذه بحال من الأحوال في أي نظام، يُحَاول هؤلاء الملوك والأمراء الرَّاجعون أن يفرضوه على شعوبهم؛ في حين كان معنى انتصار هؤلاء الملوك والأمراء الرَّاجعين عودة الحكم المُطلق، سواء كان استبداديًّا أو استبداديًّا مُستنيرًا، وإعاقة نمو وظهور الدولة القومية والمتحررة من كل سيطرة أجنبية عليها.

وفي نهاية هذا القرن التاسع عشر (١٩١٤) كانت الدَّولة القومية التي تقوم حكوماتها الوطنية على أكتاف البورجوازية، وفي ظل نظام الرَّأسمالية المُتطرفة، قد صارت «وحدة» النِّظام السياسي في أوروبا، وإن كانت الاشتراكية قد قطعت كذلك شوطًا بعيدًا لتُصبح في أواخر هذا القرن نفسه عاملًا ذا شأن في توجيه النِّضال السياسي والاقتصادي في داخل الدولة القومية ذاتها، ثم بصورة لا تلبث أن تظهر آثارها في بداية القرن العشرين، إمَّا في إطار الدولة الشيوعية؛ أي الاشتراكية الماركسية (نسبة إلى كارل ماركس) تتحقق في وجودها السيطرة العمالية «البروليتارية»، وإمَّا في إطار الدولة الاشتراكية الوطنية التي يكفل نظامها بالفعل دوام سيطرة البورجوازية الرأسمالية.

وفي كل هذه الأحوال كانت «القومية» طراز الدولة، سواء كانت هذه اشتراكية وطنية لا وجود لها من غير هذه القومية أم اشتراكية ماركسية (شيوعية) لا تزال غير قادرة — بالرَّغم من مُحاولاتها الشديدة وبسبب النِّظام البورجوازي الرَّأسمالي القائم — على تخطي حدودها القومية الضيقة لتخرج إلى ميدان الدولية الواسع.

ولذلك؛ فقد كان المبدأ القومي من أهم العوامل التي ذكرناها، وأبعدها أثرًا في توجيه حوادث القرن التاسع عشر. ولا يُضعِف من أثر هذا العامل ظهور «الاشتراكية» كحقيقة حاسمة يخضع لسلطانها تاريخ النصف الثاني من هذا القرن خصوصًا.

ونحن في ضوء الاعتبارات التي ذكرناها سوف نُحاول مُعَالجة تاريخ النصف الأول من القرن التاسع عشر (١٧٨٩–١٨٤٨) بما قد يتضح منه أنَّ قيام «الدولة القومية» الجديدة إنما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالصراع الذي كان لا مفرَّ من أن تخوض غماره البورجوازية ضد الإقطاع. وتلك حقيقة يسهل إدراكها عند تتبع تاريخ المبدأ القومي: نشأته وذيوعه في أوروبا من أواخر القرن الثامن عشر إلى أيام الثورة الفرنسية ونابليون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤