الفصل العاشر

أخذ ويل يحرِّك ساقه العرجاء في حذر شديد، وأخيرًا خرج من العربة وتلفَّت حواليه. وقد بدَتْ فيما بين التلال المرتفعة الحمراء الواقعة إلى الجنوب، والمنحدرات الرأسية في كل اتجاهٍ، قمةُ التل التي سُوِّيت على مستوى مسطح، ووسط هذا المسطح الضيق المستطيل قام المعبد؛ وهو عبارة عن برج ضخم أحمر مشيد من نفس مادة الجبال، كتلة واحدة، له أربعة جوانب رأسية. وظهر المعبد بالمقارنة مع الصخور شيئًا متماثلًا منتظمًا ليس كما تنتظم أشكال إقليدس المجردة، ولكن كما تنتظم الأشكال الهندسية الواقعية في الحياة. نعم، هو شيء حي؛ لأن جميع أسطح المعابد الفاخرة المستوية، وكل ما يحدها يتقوس إلى الداخل تقوسًا عضويًّا، ويستدق كلما ارتفع نحو حلقة من المرمر، يتضخم في أعلاها حجر أحمر أشبه بغلاف البذرة في شجرة مزهرة، حتى يتسطح ثانيةً في شكل قبة متعددة الأضلاع تتوِّج البناء كله.

قال الدكتور روبرت: شُيِّد قبل الغزو النورماندي بنحو خمسين عامًا.

وعقَّب على ذلك ويل بقوله: ويبدو كأنه ليس من بناء البشر، وكأنه برز تلقائيًّا من بين الصخور. وقد نبت كما ينبت الصبار عندما يتفتح ويرتفع كالصاروخ على شكل ساقٍ نباتية طولها اثنتا عشرة قدمًا تنتهي بالأزهار المتفجرة.

قال فيجايا وقد لمس ذراعه: انظر، هذه جماعة من المبتدئين هابطة.

وشخص ويل ببصره نحو الجبل ووقعت عيناه على شابٍّ في قدميه حذاء بالمسامير يرتدي ملابس التسلق ويجاهد في هبوطه متشبثًا بشق الجبل يواجه التل الذي ينحدر انحدارًا رأسيًّا. وعند البقعة التي تهيئ موطئًا آمنًا توقَّف ورمى رأسه إلى الخلف وصاح بصوت متصاعد في قوَّته. وكان هناك فتًى يعلوه بخمسين قدمًا ظهر من خلف دعامة صخرية، وقد تدلَّى من الإفريز الذي كان يقف فوقه وشرع في هبوطه متشبثًا بالشق الجبلي.

والتفت فيجايا، إلى موروجان وسأله: هل يغريك هذا؟

هز موروجان كتفيه وقد بالَغ في ظهوره بمظهر الرجل الرشيد المتطور الذي يشغل نفسه بشيء أفضل من مشاهدة الأطفال وهم يلعبون، وقال: بتاتًا. وابتعد ثم جلس فوق تمثال سبُع انطمست معالمه من أثر الجو، واستلَّ من جيبه مجلة أمريكية مجلَّدة تجليدًا مزركشًا وشرع يقرأ.

سأله فيجايا: ماذا تقرأ؟

قال: رواية علمية. وفي صوته رنة التحدي.

ضحك الدكتور روبرت وقال: أي شيء يفرُّ به من الواقع.

وزعم موروجان أنه لم يستمع إليه وقلب صفحة من المجلة وواصل القراءة.

وقال فيجايا الذي كان يتابع تقدُّم الصبي الذي كان يهبط من الجبل: إنه في غاية المهارة. ثم أضاف: عند طرفي الجبل رجلان محنكان. ولا يمكنك أن ترى أولهما، فهو خلف هذه الدعامة يتشبث بشقٍّ جبلي آخر على ارتفاع ثلاثين أو أربعين قدمًا. وفي أعلى شوكة حديدية ثابتة يلف حولها الحبل، ويمكن أن تسقط المجموعة كلها وهي في منتهى الأمان.

وعلى جانبَي الشق الضيق أخذ قائد المجموعة يصيح بتعليماته ويشجع المتسلقين وقد بسط ذراعيه ورجليه بين مواقع الأقدام. ولمَّا اقترب الصبي تخلَّى عن مكانه وهبط عشرين قدمًا أخرى ثم توقَّف وصاح مرة أخرى. ومن خلف النتوء الجبلي ظهرت فتاة في حذاء طويل وسروال، فارعة الطول، شعرها مضفور، وقد هبطت إلى شق الجبل.

قال فيجايا مهلِّلًا لها وهو يرقبها: رائع!

وفي أثناء ذلك جاءت مجموعة من الشباب مستطلعةً ما يجري، وقد خرجت من مبنًى منخفض عند سفح التل، وهذا المبنى المنخفض يمثِّل كما بدا أكواخ جبال الألب ولكن بما يتفق ومناخ المناطق الاستوائية. وتنتمي هذه المجموعة — كما قيل لويل — إلى ثلاث فرقٍ أخرى من المتسلقين الذين أدَّوا اختبار المرحلة الثانية بعد المرحلة الابتدائية في باكورة اليوم.

سأل ويل: هل يفوز بالجائزة أحسن الفرق؟

وأجابه فيجايا: إنهم لا يمنحون هنا شيئًا لأي إنسان؛ فهي ليست مسابقة، إنما هي محنة يجتازونها.

وأخذ الدكتور روبرت يشرح قائلًا: وهي محنة تمثِّل المرحلة الأولى من خروجهم من دور الطفولة إلى دور المراهقة. محنة تساعدهم على فهم العالم الذي لا بُدَّ لهم من العيش فيه، وتساعدهم على التحقق من أن الموت يحيط بهم من كل جانب، وأن الوجود كله محفوف بالمخاطر. ولكن الرؤية الصحيحة تأتي بعد الامتحان. وبعد بضع دقائق يتناول هؤلاء الفتية والفتيات عقار الموكشا لأول مرة، يتناولونه معًا، ويقام في المعبد حفل ديني.

– شيء أشبه بصلاة التعميد؟

– غير أن هذا الحفل ليس مجرد حركات دينية لا معنى لها. إنه — بفضل عقار الموكشا — يتضمن ممارسة فعلية للشيء الواقعي.

هز ويل رأسه وقال: الشيء الواقعي؟ هل هناك شيء كهذا؟ وددت لو أنني صدقته.

قال الدكتور روبرت: لا يطلب إليك أن تصدق؛ فالشيء الواقعي ليس افتراضًا، إنما هو حالة من حالات الوجود. إننا لا نعلِّم أطفالنا المذاهب ولا ننشئهم على رموز مشحونة بالانفعالات. عندما يحل الوقت الذي يتعلمون فيه أعمق حقائق الدين، ندفعهم إلى تسلُّق الجروف ثم نناولهم أربعمائة مليجرام من الرؤية. وهاتان تجربتان مباشرتان يستطيع أي فتًى أو فتاة على قدر معقول من الذكاء أن يستمد منهما فكرة طيبة عن حقائق الأشياء.

قال فيجايا: ولا تنسَ المشكلة القديمة الأولى؛ مشكلة التسلط. إن تسلُّق الصخور فرع من فروع علم الأخلاق التطبيقي. وهو بديل آخر عن سلوك المتنمرين.

– إذن كان يلزم أبي أن يكون من متسلقي الجبال كما يلزمه أن يكون من قاطعي الأخشاب.

قال فيجايا وقد ضحك من أعماقه: قد يضحكك ما أقول، ولكن الحقيقة هي أن أمثال هذه التجارب تأتي بنتائج طيبة، وتفلح. ولقد استطعت بالتسلق أولًا وآخرًا أن أنجو من عشرات من أسباب الإغراء الفعلية لكي أُلقي بثقلي على ما حولي. ثم أضاف: ولما كان ثقلي له وزنه فقد كانت أسباب الإغراء شديدة لتتناسب معه.

قال ويل: يبدو أن هناك صعوبة واحدة؛ ذلك أنك وأنت تتسلق لكي تنجو من الإغراء قد تسقط و… وفجأة تذكَّر ما حدث لديوجولد ماك فيل فلم يُتِم الكلام.

وأتم الدكتور روبرت عبارته فقال في أناة: وتقتل نفسك. ولكن ديوجولد كان يتسلق وحده. وبعد فترة قصيرة من الصمت واصل حديثه قائلًا: ولا يعرف أحد ما حدث، ولم نعثر على جثته إلا في اليوم التالي. ثم سادت فترة طويلة من الصمت.

سأل ويل، وقد أشار بعصاه الخيزرانية إلى الأجسام الصغيرة التي تزحف جاهدة فوق سطح تلك البقعة الرأسية من الأرض الجرداء التي لا يكسوها شيء غير الصخور: هل لا زلت تعتقد أنها فكرة حسنة؟

قال الدكتور روبرت: نعم لا زلت أعتقد أنها فكرة حسنة.

– ولكن سوزيلا المسكينة …

وكرر الدكتور روبرت القول بعده: نعم سوزيلا المسكينة، والأطفال المساكين، ولاكشمي المسكينة، وأنا المسكين. ولكن إذا كان ديوجولد لم يعتدِ المخاطرة بحياته فربما صار كل امرئ مسكينًا لأسباب أخرى. ومن الأفضل أن تتعرض لخطر قتل النفس بدلًا من أن تعرض حياة الآخرين للخطر، أو أن تجعلهم من البائسين على الأقل. تؤذيهم لأنك بطبعك عدواني، أشد حذرًا أو أكثر جهلًا من أن تصب عدوانك على الصخور المرتفعة. وواصل حديثه بنغمة أخرى قائلًا: والآن أريد أن أُطلعك على المنظر.

وانطلق فيجايا نحو المجموعة التي كانت عند سفح الصخور الحمراء وقال: أما أنا فسوف أذهب إلى هؤلاء الفتية والفتيات وأتحدث إليهم.

وسار ويل في أثر الدكتور روبرت مخلِّفًا وراءه موروجان يقرأ «الرواية العلمية». وشقَّا طريقهما خلال باب يقوم على أعمدة وعبرا الرصيف الصخري العريض الذي يحيط بالمعبد. وفوق ركن من أركان هذا الرصيف كانت هناك مقصورة ضيقة تعلوها قبة. ودخلاها وسارا نحو نافذة عريضة بغير زجاج ونظرا من خلالها فظهر لهما البحر مرتفعًا عند خط الأفق يُشبه جدارًا صلبًا من اليشم واللازورد، وفي أسفل، وعلى مسقطٍ ارتفاعه ألف قدم بدت خضرة الغابة، وظهرت المنحدرات الواطئة متصلة بوادٍ فسيح تمتد عند حافته البعيدة بين حدائق السوق وساحل البحر الذي تحفُّه أشجار النخيل مدينة كبيرة، وتقع هذه المنحدرات خلف الغابة ملتوية التواءً رأسيًّا في شكل أودية صغيرة ونتوءات صخرية، وتمتد أفقيًّا حتى تصل إلى درج ضخم من صنع الإنسان، درج من حقول لا تُحصى. ومن هذا الموقع المرتفع بدت المدينة كلها مشرقة، تشبه صورة زيتية صغيرة رُسمت بدقة مما يجده المرء في كتب العصور الوسطى.

قال الدكتور روبرت: هذه هي شيفا بورام. ومجمع المباني هذا الذي تراه فوق التل وراء النهر هو معبد بوذا العظيم. بُنِي قبل بوروبودور١ بقليل، وهو في جمال نحته يشبه أي مبنًى في الهند القديمة. وسادت فترة من الصمت استأنف الحديث بعدها قائلًا: وفي هذا البيت الصيفي الصغير اعتدنا أن نتناول وجباتنا الخفيفة كلما أمطرت السماء. لن انسى أبدًا ذلك الوقت الذي كان ديوجولد يلهو فيه بالتسلق فوق إفريز النافذة وهو واقف على ساق واحدة في وضع شيفا وهو يرقص (وكان حينئذٍ في نحو العاشرة من عمره). مسكينة لاكشمي، كاد عندئذٍ يطير صوابها. ولكن ديوجولد كان منذ مولده كأنه أحد المشتغلين بترميم أبراج الكنائس وتسلُّقها؛ مما يجعل الحادث أكثر إبهامًا وغموضًا. وهز رأسه وصمت قليلًا مرة أخرى ثم قال: آخر مرة آتينا فيها إلى هنا كانت منذ ثمانية أو تسعة أشهر. وكان ديوجولد لا يزال على قيد الحياة، ولاكشمي لم تبلغ من الضَّعف بعدُ ما يمنعها من الخروج مع أحفادها يومًا كاملًا. وقد قام بهذا العمل البهلواني يقلِّد به شيفا لمصلحة توم كريشنا وماري ساروجيني. وقف على ساقٍ واحدة، وأخذ يلوِّح بيديه بسرعة عجيبة تجعل الرائي يُقسِم أنه يحرِّك أربع أذرع. وهنا توقف الدكتور روبرت عن الكلام، والتقط من الأرض شريحة من الملاط، وقذف بها من النافذة، وقال: إلى أسفل، وأسفل، وأسفل؛ هنا فضاء وفراغ. أليس من العجب أن يكون هذا أقوى رمز للموت وأقوى رمز في الوقت عينه لأكمل حياة وأغناها! وأشرق وجهه فجأة وقال: هل ترى هذا الصقر؟

– صقر؟

أشار الدكتور روبرت إلى ماكن يقع وسطًا بين وكر الصقور فوق التل والظلام الذي يعلو الغابة حيث شاهد تمثالًا مجسمًا صغيرًا بُنِّي اللون يمثل السرعة والنهب يتحرك وئيدًا بأجنحة لا حراك فيها، وقال: هذا يذكرني بقصيدةٍ نظمها راجا العجوز عن هذا المكان. وصمت لحظة وأخذ يُنشد:

هنا،
هنا فوق هذا المرتفع،
حيث يرقص شيفا محلِّقًا فوق دنيانا،
هنا تسألني،
ماذا بربك تظن أنك فاعل؟
لا جواب على سؤالك يا صاح،
ما خلا الصقر من تحتنا يدور،
وتلك الطيور السوداء تنطلق،
في أثر خيوط فضية تمتد في الهواء،
تصيح صياحًا حادَّ النغم،
تقول: ما أبعدها عن وادينا الحار!
وتقول لائمًا: ما أبعدها عن قومي!
ومع ذلك ما أقربها!
هنا بين السماء ذات الغيوم،
والبحر من تحتنا،
أنفذ إلى سرِّها المضيء،
كما أنفذ إلى سريرتي،
يشرقان بغتةً في نظري.

– وأظن أن السر هو هذا الفضاء الخالي.

– أو على الأصح هو ما يرمز إليه هذا الفضاء الخالي، طبيعة بوذا في فنائنا الأبدي. إن هذا يذكِّرني … ونظر إلى ساعته.

ولما خرجوا إلى وضح النهار سأل ويل: ماذا يأتي بعد ذلك في البرنامج؟

أجابه الدكتور روبرت: الصلاة في المعبد، وسوف يقدِّم المتسلقون الصغار ما أنجزوا إلى شيفا، أو بعبارة أخرى إلى صورتهم المثالية التي يؤلِّهونها. وبعد ذلك يؤدون الجزء الثاني من شعائر العضوية؛ أقصد تجربة تحرُّرهم من أنفسهم.

– وهل يكون ذلك بتعاطيهم عقار الموكشا؟

وأومأ الدكتور روبرت برأسه إيجابًا وقال: إن قادتهم يعطونه لهم قبل أن يتركوا كوخ جمعية المتسلقين، ثم يأتون إلى المعبد، ويفعل العقار فعله أثناء الصلاة. ثم أضاف: وبهذه المناسبة أقول لك إن الصلاة بالسنسيكريتية؛ ولذلك فلن تفهم منها كلمة واحدة. أما فيجايا فسوف يخطب بالإنجليزية؛ وهو يتكلم بوصفه رئيس جمعية المتسلقين، وكذلك سوف أتحدث أنا بالإنجليزية، وبطبيعة الحال سوف يتكلم الشباب كذلك في أغلب الأحيان بالإنجليزية.

المعبد من الداخل رطب مظلم ظلام الكهوف. لا يخفف من عتمته إلا خيط رفيع من ضوء النهار يتسلل من خلال نافذتين مشبكتين، وسبعة مصابيح تتدلى، كأنها هالة من النجوم الصفراء المتلألئة، من فوق رأس التمثال الذي يعتلي المذبح. والتمثال لشيفا، وهو من النحاس ولا يزيد ارتفاعه عن طول الطفل. وحول التمثال هالة مشتعلة من المجد. وهو يشير بأربع أذرع، وشعره المضفور يتطاير بشدة، وقدمه اليمنى تدوس فوق تمثال قزم مقيت أشد ما يكون كآبة، وقدمه اليسرى مرفوعة برشاقة؛ بهذه الصورة يقف التمثال جامدًا منتشيًا. وقد جلس فوق الأرض نحو عشرين فردًا من البنين والبنات ومعهم الشبان الستة الذين كانوا يُرشِدونهم أثناء التسلق ويُصدرون إليهم التعليمات، وكلهم يضع ساقًا فوق ساق. ولم يكن الصغار في ملابس التسلق، بل ينتعلون الصنادل، عراة الصدور، يرتدون سراويل قصيرة زاهية الألوان. ويعلو هذه المجموعة، فوق أعلى درجة من درجات المذبح، شوهد كاهن عجوز، حليق الرأس والوجه، يرتدي عباءة صفراء، ويرتل كلامًا رنانًا غير مفهوم. وقد سار الدكتور روبرت على أطراف أصابع قدميه متجهًا نحو المكان الذي كان يجلس فيه فيجايا وموروجان وجلس القرفصاء إلى جوارهما، تاركًا ويل مستندًا إلى قاعدة مريحة.

كان الكاهن يدمدم دمدمة رائعة بالسنسيكريتية أولًا، ثم أخذ بعد ذلك يُنشد وهو يخنف بأنفه، وراح بعد النشيد يجأر بابتهالات كهنوتية يرددها بعده المصلون.

وأحرق البخور في آنية من النحاس الأصفر، ثم رفع الكاهن العجوز يديه ليصمت الحاضرون، وعندئذٍ صعد خيط من دخان البخور الرمادي في خط مستقيم متجهًا نحو الإله في غضون فترة طويلة حافلة بالتأمل يسودها الصمت المطلق. وعندما التقى الدخان بتيار الهواء المندفع من النافذتين انتشر على شكل سحابة غير مرئية تملأ ظلام المكان بعبق عجيب من عالم آخر، وفتح ويل عينيه ورأى أن موروجان وحده من جميع المصلين يتململ في حالة من القلق، يتحرك حركات عصبية وتبدو على قسمات وجهه علامات الاستنكار وفقدان الصبر. إنه لم يقم قط بالتسلق؛ ولذلك فالتسلق في نظره سخف. وقد رفض أن يتعاطى عقار الموكشا؛ ولذلك فأولئك الذين يتعاطونه يتجاوزون حدود العقل. وكانت أمه تعتقد في الأسياد الصاعدين إلى السماء وتخاطب كوت هومي بانتظام، وإذن فتمثال شيفا وثن مبتذل. وكان الصبي في عين ويل كالممثل الصامت الذي يعبر بالإشارة، ولكن أحدًا لم يُعِر أدنى التفاتة إلى سلوك موروجان لسوء حظه.

وشق الكاهن العجوز السكون الذي طال وقال: شيفاياناما، شيفاياناما. وأشار بيده، فنهضت من مكانها تلك الفتاة الطويلة التي كان ويل قد رآها وهي تهبط من التل المرتفع وصعدت درجات المذبح، ووقفت على أطراف أصابع قدميها وجسدها يلمع وكأنها تمثال نحاسي آخر في ضوء المصابيح، وعلَّقت باقة من زهور فاتحة صفراء في أعلى ذراعَي شيفا اليُسريَين، ثم ضمت راحتيها وتطلَّعت إلى وجه الإله الباسم الهادئ، وبدأت تتكلم بصوت متهدج في أول الأمر، ولكنه أخذ يَثْبُت ويستقيم تدريجيًّا:

أيها الخالق، أيها المدمر،
يا من تطيل العمر كما تنهي الحياة،
يا من ترقص في ضوء الشمس بين الطيور،
ومع الأطفال وهم يلعبون،
ويا من ترقص في ظُلمة الليل،
بين جثث الموتى وفوق الأرض المحترقة،
أي شيفا، أنت بيرافا المريع المظلم،
أنت الصورة المُثلى، وأنت الوهم،
أنت لا شيء، وأنت كل شيء،
أنت رب الحياة،
ولذا جئت إليك بهذه الزهور،
أنت رب الموت،
ولذا جئت إليك بقلبي،
هذا القلب هو الآن أرضك المحترقة،
نارك سوف تلتهم الجهل والنفس،
لكي ترقص أي بيرافا بين الرماد،
ولكي ترقص يا سيدي شيفا،
في مكان تنمو فيه الزهور،
وأرقص معك.

ورفعت الفتاة ذراعيها ولوَّحت بهما بإشارةٍ تذكِّر بالإخلاص القلبي من مائة جيل من المتعبدين الراقصين، ثم ابتعدت وعادت إلى ضوء الشفق. وصاح صائح: شيفاياناما. وشخر موروجان مستهزئًا عندما رددت أصوات شابة أخرى: شيفاياناما، شيفاياناما …. وأخذ الكاهن يرتل مقطوعة أخرى من كتابه المقدَّس. وبينما هو يرتل دخل المعبد من إحدى النافذتين المشبكتين طائر صغير رمادي اللون رأسه قرمزي، ورفرف بجناحيه بعنف حول مصابيح المذبح، ثم صاح صيحة عالية تنمُّ عن السخط والفزع، انطلق بعدها خارج المعبد ثانية. واستمر النشيد حتى بلغ ذروته وانتهى بصلاة هامسة من أجل السلام: شانتي، شانتي، شانتي. واتجه الكاهن العجوز بعد ذلك نحو المذبح، والتقط شمعة طويلة، وأشعلها من أحد المصابيح المعلَّقة فوق رأس شيفا وشرع في إضاءة سبعة مصابيح أخرى معلَّقة في كوة عميقة في أسفل اللوح الذي كانت تقف فوقه الراقصة. وألقت هذه المصابيح ضوءها فوق قطع محدبة من المعدن، وأظهر ضوءها تمثالًا آخر؛ هو تمثال شيفا وبرفاتي، تمثال يوجين جالسًا، يرفع بيدين من أيديه الأربع رمز الطبلة والنار، ويربِّت باليدين الأخريين إلهة الحب، ذات الساقين والذراعين الملتوية، وكانت تمتطيه، متعانقين عناقًا أبديًّا بجسدهما المصنوعين من البرنز. ولوَّح الكاهن العجوز بيده، وظهر هذه المرة صبي ذو بشرة قاتمة قوي العضلات وأخذ يخطو في ضوء المصابيح. وانحنى الصبي وعلَّق باقة الزهر التي كان يحملها حول رقبة بارفاتي، ثم لف سلسلة الزهور الطويلة وأسقط عقدة أخرى من نبات السحلبية البيضاء فوق رأس شيفا.

وقال: كل منهما يمثِّل كليهما.

وكررت جوقة الصغار بعده: كل منهما يمثِّل كليهما.

وهز موروجان رأسه بشدة.

وقال الصبي صاحب البشرة القاتمة: أيها الذاهبون، أنتم أيها الذاهبون إلى الشاطئ الآخر، يا من ألقيتم مراسيكم فوق الشاطئ الآخر، أيتها الاستنارة والاستنارة الأخرى، أيها التحرر الذي اتحد مع التحرر، أيتها الرأفة بين ذراعَي الرأفة اللامتناهية.

– شيفاياناما.

ثم عاد إلى مكانه، وسادت فترة طويلة من الصمت، وبعدئذٍ نهض فيجايا على قدميه وبدأ يتكلم.

قال: الخطر، الخطر، الخطر الذي نتقبله راضين متخففين، الخطر تُقاسِمه صديقًا، أو مجموعة أصدقاء، تقاسمه شعوريًّا، وبأقصى حدود الوعي حتى يصبح الاقتسام والخطر يوجا. صديقان يربطهما حبل في جبهة صخرية، وأحيانًا ثلاثة أصدقاء أو أربعة، كل منهم على وعيٍ تامٍّ بعضلاته المشدودة، وبمهارته، ومخاوفه، وروحه التي يجاوز بها حدود الخوف، وكل منهم — بطبيعة الحال — على وعي في نفس الوقت بالآخرين جميعًا، مهتم بهم، يفعل الصواب لكي يطمئن على سلامتهم. الحياة في قمة توترها البدني والعقلي، الحياة الأوفر، والأعلى بدرجة لا تُقدَّر بسبب خطر الموت الماثل في كلِّ حين. ولكن بعد يوجا الخطر هناك يوجا الذروة، يوجا الراحة والاسترخاء، يوجا التقبل الكامل الشامل، اليوجا التي تكمن في القبول الشعوري لما يُعطى كما يُعطى، دون رقابة من أحكام العقل الخلقية، العقل المشغول بشيءٍ آخر، وبغير إضافة مما جمعه الإنسان من أفكار مبتذلة وما جمعه بصورة أضخم من أوهام التمني، ما عليك إلا أن تجلس بعضلات مرتخية وعقل متفتح لضوء الشمس وللسحب، متفتح للبعيد وللأفق، متفتح في النهاية لذلك الشيء الذي ليس بالفكر والذي لا شكل له ولا يُعبر عنه بالكلمات. هذا الشيء الذي يسمح لك سكون القمة بأن تبلغ به المقدَّس والعميق والدائم في غضون تيار اللغو الذي يسبح فيه التفكير اليومي المعتاد.

– والآن حان الوقت للهبوط، لدورة أخرى من يوجا الخطر، حان الوقت لتجديد التوتر والوعي بالحياة في كمالها المشرق وأنتم تتعلقون بحافة الهاوية مخاطرين بأنفسكم. وعند سفح التل المرتفع تفكُّون الوثاق، وتَخطُون فوق الممرات الصخرية صوب الأشجار الأولى. وبغتةً تجدون أنفسكم في الغابة، حيث ينتظركم نوع آخر من اليوجا، يوجا الغابة، وهي اليوجا التي تتصف بكونكم على وعي تام بالحياة عند حافتها، حياة الغابة بكل ما فيها من ازدهار وعفن، وفساد يزحف، بكل ما فيها من نبات السحلبية وأمهات الأربع والأربعين، وطفيليات وطيور مغردة، وما يشرب الرحيق الإلهي وما يشرب الدماء. الحياة التي تُخرج النظام من الفوضى والقبح، الحياة التي تؤدي معجزة الميلاد والنمو، تؤديهما — فيما يبدو — لغير ما سبب غير أن تدمر نفسها، الجمال والفزع، ومرة أخرى أقول الجمال والفزع. وبغتةً وأنتم قافلون من إحدى رحلاتكم بالجبال، بغتة تعلمون أن هناك توافقًا، بل اندماجًا، وهوية واحدة. الجمال يتحد مع الفزع في يوجا الغابة، والحياة في وفاق مع الموت المستمر القريب في يوجا الخطر، الفراغ يتطابق مع الأنانية في يوجا العطلة الدينية التي فوق الذروة.٢

وساد الصمت، وتثاءب موروجان بصورة تلفِت النظر، وأشعل الكاهن العجوز عودًا آخر من البخور، ولوَّح به — وهو يتمتم — أمام الراقصة، ولوَّح به مرة أخرى حول شيفا وإلهه وهما يمارسان حبًّا كأعمق ما يكون الحب.

قال فيجايا: تنفَّسوا بعمق، والتفتوا وأنتم تتنفسون إلى رائحة هذا البخور، وأعيروها كل انتباهكم، واعرفوها على حقيقتها؛ إنها حقيقة يعجز عنها التعبير بالكلمات، ويعجز عن إدراكها العقل والإيضاح، اعرفوها في خامتها، واعرفوها كلغز من الألغاز. البخور الذي تتنفسونه حقيقةٌ لا تفسَّر، وكذلك تماسُّ بشرة ببشرة، والحب المحسوس، وفوق كل شيء لغز الألغاز، الواحد في تعدده، والفراغ الذي هو كل شيء، وباطن الأشياء الموجود بكلِّيته في كل مظهر. وفي كل نقطة وكل لحظة؛ لذلك أرجو أن تتنفسوا وتتنفسوا. وختم كلامه وهو يجلس قائلًا: تنفسوا.

وتمتم الكاهن العجوز منتشيًا قائلًا: شيفاياناما.

ونهض الدكتور روبرت واتجه نحو المذبح، ثم توقَّف، وعاد إلى مكانه وأشار إلى ويل فارنبي.

قال في همس عندما أدركه ويل: تعالَ واجلس معي، إنني أحب أن أرى وجوههم.

– ربما اعترض رؤيتك.

هز الدكتور روبرت رأسه، وتقدَّما معًا، واعتليا المذبح. ولما بلغا ثلاثة أرباع السُّلَّم الصاعد إليه، جلسا جنبًا إلى جنب في شبه الظل بين الظلام وضوء المصابيح. وفي هدوء شديد بدأ الدكتور روبرت يتحدث عن شيفا ناتاراجا، عن سيد الرقص. قال: انظر إلى هذا التمثال، انظر إليه بالعينين الجديدتين اللتين أعطاكهما عقار الموكشا. انظر إليه كيف يتنفس وكيف ينبض، كيف يخرج من ضياء إلى ضياء أشد توهجًا. إنه يرقص خلال الزمان وبعد الزمان، يرقص إلى الأبد وفي اللحظة الخالدة. إنه يرقص ويرقص في جميع العوالم في وقت واحد. انظر إليه.

وتمعَّن ويل في تلك الأوجه الشامخة إلى أعلى، يحدق مرة في هذا الوجه ومرة أخرى في ذلك الوجه فيرى ضياء البهجة والمعرفة والفهم، ضياءً مشرقًا، يرى علامات التعجب التي يحسها المرء أثناء الصلاة، تلك العلامات التي ترتجف عند حافة النشوة أو حافة الفزع.

وألح عليه الدكتور روبرت أن يزيد من تمعنه. وبعد برهة طويلة من الصمت أعاد قوله: إنه يرقص في جميع العوالم في وقت واحد. إي والله في جميع العوالم؛ أولًا في عالم المادة. انظر إلى الهالة المستديرة الكبرى، التي تحف بها رموز النار، والتي يرقص الرب في داخلها. إنها تمثل الطبيعة، تمثل عالم الكتلة والطاقة. في داخلها يرقص شيفا ناتاراجا رقصة الصيرورة التي لا تنتهي، رقصة الموت. إنها «ليلاه» أو لعبته الكونية. إنه يلعب من أجل اللعب، كالطفل. ولكن هذا الطفل هو ناموس الأشياء، لُعبه هي مجموعات الكواكب، وملعبه هو الفضاء الذي لا نهاية له، وبين الإصبع والإصبع فترة مداها ألف مليون سنة ضوئية. انظر إليه هناك فوق المذبح. التمثال من صنع الإنسان، بدعة صغيرة من النحاس لا يتجاوز ارتفاعها أربع أقدام. ولكن شيفا ناتاراجا يملأ الكون، هو الكون. أغمض عينيك وانظر إليه سامقًا في ظلام الليل، وتابِع تلك الأذرع الممتدة امتدادًا ليس له غاية، وذلك الشعر الحوشي يتطاير إلى ما لا نهاية.

– ناتاراجا وهو يلعب بين النجوم وفي الذرات. ثم أضاف: ولكنه يلعب كذلك داخل كل شيء حي، وكل مخلوق حساس، وكل طفل وكل رجل وكل امرأة. اللعب من أجل اللعب. ولكن الملعب الآن هو الشعور، وصالة الرقص بوسعها أن تحتمل. هذا اللعب بغير هدف يبدو — بالنسبة لنا — نوعًا من الإهانة. وما نريده فعلًا هو «الله» الذي لا يحطم خلقه أبدًا. وإذا كان لا بُدَّ من الألم والموت فليقم على توزيعها إله الحق، الذي يعاقب المسيء ويكافئ الطيب بالسعادة الأبدية. أما في الواقع فالطيب يصيبه الأذى، والبريء يكابد ويعاني. ثم ليكن هناك إلهٌ يعطف علينا ويطمئن قلوبنا. ولكن ناتاراجا لا يفعل شيئًا غير الرقص. لعبه يتنزه عن الموت أو الحياة، ويتنزه عن كل عمل خبيث وكل عمل طيب. بين يديه اليمنيين يرفع الطبلة التي تستدعي الوجود من اللاوجود. دقة للخلق وليقظة الكون. ثم انظر إلى أعلى يديه اليسريين. إنه يلوِّح بهما نارًا يدمر بها كل ما خلق. إنه يرقص في هذه الناحية؛ ويا لها من سعادة! ثم يرقص في ناحية أخرى، فيكون الألم، والخوف الممقوت، والدمار! ثم قفزة، وخطوة ووثبة؛ قفز للصحة الكاملة، وخطوة نحو السرطان والشيخوخة، ووثبة من الحياة الكاملة إلى العدم، ومن العدم إلى الحياة مرة أخرى. وعند ناتاراجا كل ذلك لعب، واللعب غاية في حد ذاته، لا يهدف إلى شيء أبدًا. إنه يرقص لأنه يرقص، والرقص بالنسبة إليه هو «ماهاسوخا»، هو نعيمه الأبدي الذي لا يُحَد. نعم نعيم أبدي. ثم أعاد العبارة الأخيرة بصيغة الاستفهام: نعيم أبدي؟ وهز رأسه وقال: بالنسبة إلينا ليس هناك نعيم، ليس هناك إلا تذبذب بين السعادة والفزع وإحساس بالغضب لأن آلامنا في رقص ناتاراجا جزء منه كما أن مسراتنا كذلك جزء منه. موتنا كحياتنا. دعنا نتدبر ذلك في هدوء لبرهة من الزمن.

ومرَّت الثواني، وازداد السكون عمقًا. وفجأة وفي فزع شديد بدأت إحدى الفتيات في النحيب، فترك فيجايا مكانه، وركع إلى جوارها ووضع إحدى يديه على كتفها، فكفَّت عن النحيب.

وأخيرًا واصل الدكتور روبرت حديثه قائلًا: المعاناة والمرض والشيخوخة والعجز والموت، «سوف أريكم الأحزان». ولكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي أرانا إياه بوذا. لقد أرانا كذلك نهاية الأحزان.

وصاح الكاهن العجوز منتصرًا: شيفاياناما.

– افتح عينيك مرة أخرى وانظر إلى ناتاراجا وهو فوق المذبح، أنعِم النظر. في يمناه العليا — كما رأيت من قبلُ — يمسك طبلة يدعو فيها العالم إلى الوجود. وفي يسراه العليا يحمل النار المدمرة. الحياة والموت، النظام والانحلال، هذا وذاك بالقسطاس المستقيم. وانظر الآن إلى يدَي شيفا الأخريين، تجد أن يمناه السفلى مرتفعة وراحتها مفتوحة إلى أعلى. ما معنى هذه الإشارة؟ معناها: «لا تخف، كل شيء كما يرام». ولكن كيف ينجو من الخوف أي امرئ في قواه العقلية؟ كيف يستطيع أي امرئ أن يزعم أن الشر والألم مما يرام. في حين أنه من الواضح أنهما مما لا يرام؟ الجواب عند ناتاراجا. انظر الآن إلى يسراه السفلى، إنه يشير بها إلى قدميه. ماذا تقوم به قدماه؟ تمعَّن تجد أن قدمه اليمنى تدوس عدلًا وإنصافًا على مخلوق صغير مخيف أدنى صورة من الإنسان؛ ذلك هو الشيطان «ميالاكا». إنه قزم ولكنه في خبثه شديد القوى. مايالاكا تجسيد للجهل، ومظهر لأنانية الجشع وحب التملك. دُسْه بقدميك، واقصم ظهره! هذا بعينه ما يفعله ناتاراجا. يدوس هذا الوحش الصغير بقدمه اليمنى. ولكني أريدك أن تلاحظ أنه لا يشير بإصبعه إلى قدمه اليمنى التي يدوس بها. إنه يشير إلى قدمه اليسرى، إلى القدم التي يرفعها عن الأرض وهو يرقص. لماذا يشير إليها؟ لماذا؟ هذه القدم التي يرفعها. هذا التحدي بالرقص لقوة الجاذبية؛ رمز الفرج، رمز الموكشا، رمز التحرر. إن ناتاراجا يرقص في كل العوام في وقت واحد؛ في عالم الفيزياء والكيمياء، في عالم التجربة العادية الإنسانية البحت، وأخيرًا في عالم المُثل، عالم العقل الأكبر، عالم الضوء الصافي … والآن، وبعد لحظة من الصمت واصل الدكتور روبرت حديثه قائلًا: والآن أريدك أن تنظر إلى التمثال الآخر، تمثال شيفا والآلهة. انظر إليهما وهما في كهفهما الصغير المضيء، ثم أغمض عينيك وانظر إليها مرة أخرى؛ يتلألآن، يمتلئان حياة، يسموان. ما أجملهما! وفي تعاطفها أي معنى عميق! أية حكمة تتجاوز كل الحِكم التي نتفوه بها وهما في تلك التجربة الحسية، تجربة الاندماج الروحي والتكفير عن الذنوب! الخلود يتحابُّ مع الزمان. الواحد يرتبط في الزواج بالمتعدد، والنسبي يصبح مطلقًا باتحاده مع الواحد. نيرفانا يتطابق مع سمسارا، الظاهر من طبيعة بوذا في الزمن والبدن والشعور.

وأشعل الكاهن العجوز عودًا آخر من البخور وقال: شيفاياناما. ثم شرع يشدو بالسنسيكريتية في هدوء وفي فقرات طويلة متتابعة. واستطاع ويل أن يرى علامات السكون والإصغاء، وأن يرى البسمة الخفيفة التي تنمُّ عن النشوة والتي تتهلل للفكر الثاقب المفاجئ، ورؤية الحق والجمال، يرى كل ذلك مرتسمًا على الوجوه الشابة التي تتطلع إليه. وفي الخلف لمح موروجان مستندًا إلى أحد الأعمدة مترهلًا مجهدًا، يعبث بأنفه الإغريقي الدقيق.

وعاد الدكتور روبرت إلى الكلام فقال: التحرر، نهاية الآلام، الانتهاء من كونك من تظن جهلًا أنك هو أن تصبح من في الواقع هو أنت. وبفضل الموكشا سوف تعرف لفترة قصيرة من الزمن كيف يكون إحساسك عندما تكون مَن في الواقع هو أنت، ومن في الواقع كنت دائمًا. إنه نعيم لا يحده زمان! ولكن هذا الزمان اللامحدود — كأي شيء آخر — أمر زائل، وكأي شيء آخر سوف يمضي. وماذا أنت فاعل بهذه التجربة بعد أن يمضي؟ ماذا أنت فاعل بكل الخبرات المشابهة التي يجلبها لك عقار الموكشا في السنوات المقبلة؟ هل تكتفي بأن تستمتع بها كما تستمتع بأمسية تقضيها في مسرح العرائس، ثم تعود إلى عملك المعتاد، وتعود إلى مسلك المنحرفين الحمقى الذين تتصور أنك واحد منهم؟ أم هل — بعد هذه اللمحة — سوف تكرِّس حياتك للعمل لا كما تعودت ولكن كما أنت في الواقع؟ إن كل ما نستطيعه نحن الكبار بتعاليمنا، وكل ما تستطيع بالا أن تفعله بك بنظمها الاجتماعية هو أن تمدك بالوسائل وبالفرص، وكل ما يستطيع فعله عقار الموكشا هو أن يعطيك لمحات متتابعة من الشعور بالبهجة، ساعة أو ساعتين، من حين إلى آخر، من نعمة الاستنارة والتحرر. والأمر متروك لك بعد ذلك لتقرر إن كنت سوف تستجيب لهذه النعمة وتنتهز هذه الفرص. ولكن ذلك من شأن المستقبل. أما الآن، وفي هذا المكان فكل ما يتحتم عليك أن تفعله هو أن تستمع إلى نصيحة طائر المَيْنة: انتباه! انتبهوا تجدوا أنفسكم وقد أصبحتم — شيئًا فشيئًا أو بغتة — على وعي بالحقائق الأساسية التي تختفي خلف هذه الرموز فوق المذبح.

ولوَّح الكاهن العجوز بعود البخور وقال: شيفاياناما! وعند أسفل سُلَّم المذبح جلس الفتية والفتيات بلا حراك كأنهم خُشُب مسنَّدة، ثم صدر عن أحد الأبواب صرير، وسمع الحاضرون وقع أقدام، والتفت ويل فرأى رجلًا قصيرًا بدينًا يشق طريقه بين جماعة المتأملين، وصعد السُّلَّم، ثم انحنى وهمس في أذن الدكتور روبرت، واتجه بعد ذلك صوب الباب.

ووضع الدكتور روبرت إحدى يديه على ركبة ويل، وهمس في أذنه وعلى شفتيه ابتسامة، وهز كتفيه وهو يقول: هذا أمر ملكي، وهذا هو الرجل المسئول عن الكوخ الجبلي. وقد أبلغته الراني تليفونيًّا أنها تريد أن ترى موروجان في أقرب وقت مستطاع، والأمر عاجل. وضحك ضحكة مكتومة ثم نهض وأقام ويل على قدميه.

١  أثر بوذي قديم في إندونيسيا يشبه الهرم شُيد في القرن الثامن أو التاسع. (المترجم)
٢  هذه صلوات بوذية فيها كثير من شطحات الخيال وغموض الفكر. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤