الفصل الخامس

كانت الشمس في بداية شروقها عندما دخل الدكتور روبرت حجرة زوجته بالمستشفى، ووقعت عيناه على وهج برتقالي تقابله ظلال متعرجة للجبال المقابلة، واستحالت الرؤية فجأة إلى وهج على شكل قوس يخطف البصر يقع بين قمتين من قمم الجبال، ثم استكمل القوس شكل نصف الدائرة، واخترقت الحديقة التي تظهر من النافذة الظلال الطويلة الأولى، وأسهُم النور الذهبية الباكرة. وعندما صوَّب نظره مرة أخرى نحو الجبال شهد الشمس المشرقة بكل بهائها الذي لا يُحتمل.

وجلس الدكتور روبرت إلى جوار السرير، وأمسك بيد زوجته وقبَّلها. وابتسمت له ثم التفتت ثانيةً نحو النافذة.

وقالت هامسة: ما أسرع دوران الأرض! وبعد فترة من الصمت أضافت: وذات صباح سيكون شروق الشمس هو الأخير بالنسبة إليَّ.

ومن خلال الغناء الجماعي المضطرب من زقزقة الطيور ونقيق الحشرات، أخذت المَيْنة تُنشد: كارونا، كارونا …

وأعادت لاكشي الكلمة: «كارونا»، ثم قالت: الرأفة …

وألحَّ في الحديقة صوت بوذا المزماري مردِّدًا: كارونا، كارونا.

واستطردت قائلة: ولن أكون بحاجة إليها طويلًا بعد ذلك. ولكن كيف تكون حالك أنت يا عزيزي روبرت؟

قال: إن المرء يجد القوة اللازمة بطريقة ما.

– ولكن هل هي القوة الصحيحة، أم قوة الدروع، وقوة الاعتكاف، والقوة التي تلتمسها في عملك وأفكارك دون أن تُعِير التفاتًا إلى أي أمر آخر؟ اذكر كيف كنت آتيك وأجذبك من شعرك لكي تتنبه؟ من يقوم بهذا بعدما أمضي؟

ثم دخلت إحدى الممرضات ومعها كوب من الماء المحلَّى بالسكر. ودس الدكتور روبرت إحدى يديه تحت كتفَي زوجته ورفعها إلى وضع الجلوس. ولامست الممرضة بالكوب شفتيها، واحتست لاكشمي قليلًا من الماء، وابتلعت الماء بصعوبة، ثم شربت مرة ثانية وثالثة، وأدارت وجهها من الكأس المقدَّمة إليها إلى الدكتور روبرت، وكسا وجهها الذابل نور يضيء بصورة عجيبة لا تتفق مع هذا الموقف الذي يُثير الانزعاج.

وأخذت بصوتها الخافت الأجشِّ تُنشد ترنيماتٍ تذكُرها من عهد الطفولة. ثم صمتت قليلًا وقالت: شيء مضحك هذا الذي يعود إلى ذاكرتي. ولكني كنت دائمًا مضحكة جدًّا. أليس كذلك؟

وحاول الدكتور روبرت أن يبادلها الابتسام وقال موافقًا: نعم لقد كنت مضحكة جدًّا.

– كنت تقول: ما أشبهك بالبرغوث! لحظة هنا ولحظة أخرى بعيدًا هناك. ولا عجب أنك لم تستطع أن تعلمني!

وردَّ عليها مؤكِّدًا: ولكنك علمتني. ولولا أنك كنت تجذبينني من شعري وتدعينني إلى أن أنظر إلى العالم وتساعدينني على فهمه، فكيف كانت تكون حالي اليوم؟ أعشى ضعيف الرؤية؛ على الرغم من كل ما تعلمت. ولكن لحسن حظي أني فكرت في الزواج منك، ولحسن الحظ كنتِ من الغفلة بحيث توافقين. وكانت لديك الحكمة والذكاء اللذين عالجتني بهما. وبعد سبعة وثلاثين عامًا من التعلم على كبرٍ كدت أصير إنسانًا.

وهزت رأسها وقالت: ولكني لا زلت برغوثًا. ومع ذلك حاولت، وبذلت الجهد، ولست أدري إن كنت قد أدركت ذلك يا روبرت. كنت دائمًا أخطو على أطراف أصابع قدمي، أجاهد في سبيل بلوغ المكان الذي كنت تحتله تؤدي فيه عملك وتفكر فيه وتطلع، على أطراف قدمي، أحاول أن ألحق بك، وأحاول أن أرْقَى إلى جانبك. ولقد كان ذلك وربِّي أمرًا شاقًّا على نفسي! ولَكَم بذلت جهدًا إثر جهد! وضاعت كل جهودي هباء؛ لأني لم أكن سوى برغوث أبْكَم أتوثَّب بين الناس والزهور والقطط والكلاب. إن حياتك الثقافية الرفيعة كانت أرقى من أن أصعد إليها، بَلْهَ أن أغوص فيها. وعندما حدث هذا (ورفعت يدها ثانيةً ووضعتها مكان ثديها المقطوع) كففت عن المحاولة؛ فلا مدرسة ولا مذاكرة منزلية. وكان عندي لذلك عذر دائم.

وساد صمت طويل.

وأخيرًا قالت الممرضة: هلا أخذت جرعة أخرى؟

واتفق معها الدكتور روبرت وقال: نعم يجب أن تتناولي المزيد.

وابتسمت له لاكشمي مرة أخرى وقالت: وأخالف التعاليم المقدَّسة؟ ومن خلال قناع الشيخوخة والمرض المُميت شهد الدكتور روبرت بغتةً الوجه الضاحك، الفتاة التي عام بها حبًّا منذ منتصف عمره، وكأنه عشقها بالأمس فقط.

وعاد الدكتور بعد ساعةٍ إلى بيته.

وبعدما غيَّر الضمادة التي كانت تلتف حول ركبة ويل فارنبي قال له: ستبقى اليوم وحيدًا؛ إذ لا بُدَّ لي من أن أذهب في عربتي إلى شيفا بورام لاجتماع مجلس الشورى. وحوالي الثانية عشرة سوف تأتي إليك إحدى ممرضاتنا الطالبات لتعطيك الحقنة وتُناولك الطعام. وبعد الظهر عندما تنتهي سوزيلا من عملها بالمدرسة تمرُّ بك. أما الآن فلا بد لي من أن أنصرف. ونهض الدكتور روبرت ووضع يده لحظةً فوق ذراع ويل وقال: حتى المساء.

وفي طريقه إلى الباب توقَّف وتلفَّت خلفه وقال: لقد كدت أنسى أن أعطيك هذا. وأخرج من أحد الجيبين الجانبيين لسُترته المرتخية كُتيبًا صغيرًا أخضر اللون وقال: هذه مذكرات راجا العجوز عن «حقيقة كل شيء وعن التصرف المعقول إزاء حقائق الأمور».

وقال ويل وهو يتناول الكتاب الذي قُدم إليه: يا له من عنوان عجيب!

وأكد له الدكتور روبرت أنه سوف يحب كذلك محتواه: إنه يقع في بضع صفحات. ولكنك إن أردت أن تعرف حقيقة بالا فلن تجد ما يعرضها عليك خيرًا مما فيه.

وبهذه المناسبة سأل ويل: ومن هو راجا العجوز؟

– بل الأصح أن تقول: من كان هو؛ فلقد مات سنة ٣٨؛ بعدما حكم فترةً أطول مما حكمتها الملكة فيكتوريا بثلاث سنوات. ومات ابنه الأكبر قبل موته، وخلَفَه حفيده، وكان غبيًّا غير أن حياته لم تطُل، وراجا الحالي هو ابن الحفيد.

– وهل لي أن أوجِّه إليك سؤالًا شخصيًّا: كيف جاء في الصورة إنسان اسمه ماك فيل؟

– جاء إلى بالا ماك فيل الأول أيام حكم جد راجا العجوز؛ ونسميه راجا عهد الإصلاح. وفيما بينهما؛ جد راجا العجوز وجدي الأكبر، خلقا بالا الحديثة.

وعزز راجا العجوز عملها المشترك، وسار به شوطًا آخر، ونحن اليوم نبذل الجهد لنحذو حذوه.

ورفع ويل كتاب «مذكرات عن حقيقة كل شيء».

– وهل يعطيني هذا الكتاب تاريخ الإصلاحات؟

وهز الدكتور ماك فيل رأسه وقال: إنه يذكر فقط المبادئ الأساسية. اطَّلِع عليها أولًا. وعندما أعود من شيفا بورام في المساء أحكي لك شيئًا عن التاريخ. وسوف تكون أكثر تفهمًا لما حدث فعلًا إذا بدأت بمعرفة ما يجب عمله؛ ما ينبغي دائمًا وفي كل مكان أن يفعله أي إنسان لديه فكرة واضحة عن حقيقة كل شيء؛ ولذلك أقول لك: اقرأ هذا الكتاب، ولا تنسَ أن تشرب عصير الفاكهة المقرر لك في الحادية عشرة.

وراقبه ويل وهو ينصرف، ثم فتح الكتيب الأخضر وبدأ يقرأ.

أولًا

ليس لأحد حاجة إلى أن يذهب إلى مكانٍ آخر؛ فنحن جميعًا — لو عرفنا — بالفعل هناك.

لو أني عرفت مَن أنا في الحقيقة لكففت عن التصرف وفقًا لما أظن مَن أنا، فإذا كففت عن التصرف وفقًا لما أظن مَن أنا إذن لعرفت مَن أنا.

أنا في الحقيقة — لو سمح لي المانوي١ (الذي أظنني هو) أن أعرف — توفيقٌ بين لا ونعم؛ أعيش حياتي في قبولٍ تام وفي تجربة مباركة باللامثنوية.

كل الألفاظ في الدين مبهمة، ومَن يتشدق باسم بوذا، أو الله، أو المسيح، يجب أن يتطهر أولًا.

إن المانوي المنعزل، الذي أظن أنني هو، يحكم على نفسه بخيبة الأمل التي تتكرر إلى ما لا نهاية، وبالصراعات التي تتكرر إلى ما لا نهاية مع غيره من المانويين الطموحين الخائبين؛ وذلك لأن أمله في ألا يخلد سوى «نعم» في كل أمرَينِ متعارضَين لا يمكن — بحكم طبيعة الأشياء — أن يتحقق.

صراعات وإحباطات؛ ذلك هو موضوع التاريخ كله، بل وتقريبًا موضوع تاريخ الأحياء كلها. قال بوذا كلمة واقعية وهي: إني أريكم الأحزان. ولكنه كذلك أرانا نهاية الأحزان: معرفة الذات، والقبول التام، وتجربة اللامثنوية المباركة.٢

ثانيًا

إذا عرفنا من نحن في الحقيقة أدى بنا ذلك إلى الحياة الطيبة، والحياة الطيبة تؤدي إلى أصح أنواع العمل الطيب. ولكن العمل الطيب لا يؤدي في حد ذاته إلى الحياة الطيبة؛ فقد يكون المرء فاعلًا للخير دون أن يعرف من هو في الحقيقة. والأحياء الذين يتصفون بفعل الخير ليسوا أناسًا طيبين، وما هم إلا أعمدة المجتمع.

وأكثر الأعمدة كأعمدة شمشون؛ فهي قائمة ولكنها إن عاجلًا أو آجلًا تنهار. ولم يظهر مجتمع كان أكثرُ العمل الطيب فيه نتيجةً للحياة الطيبة ولذلك كان صحيحًا دائمًا. وليس معنى ذلك أنه لن يقوم مثل هذا المجتمع أو أننا في بالا مجانين لأننا نحاول أن نوجد هذا المجتمع.

ثالثًا

الرواقي ومن يمارس اليوجا شخصان صالحان ينتهيان إلى نتائجهما الطيبة بدعواهما باطراد أنهما شخصان آخران. ولكنك لست بدعواك أنك شخص آخر — حتى إن كان هذا الشخص غاية في العمل الطيب والحكمة — بمستطيع أن تخرج من عزلتك المانوية إلى كونك إنسانًا طيبًا.

الحياة الطيبة هي أن تعرف من أنت في الحقيقة، ولكي تعرف من أنت في الحقيقة يجب أن تعرف أولًا لحظة بلحظة مَن أنت فيما تظن، وما تدفعنا هذه العادة السيئة من التفكير إليه من إحساس وعمل. إن لحظة واحدة من المعرفة الصافية الكاملة لمَن أنت فيما تظن — ولكنك لست به في الواقع — توقِف لعبة الألفاظ المانوية لحظة من الزمن، فإذا أنت كررت لحظات الإدراك بمن لست به، حتى تصبح هذه اللحظات زمنًا متصلًا وجدت نفسك بغتة عالمًا مَن أنت في الحقيقة.

التركيز، والتفكير المجرد، والتدريب الروحي؛ العزلة المنتظمة في عالم الفكر، الزُّهد ومذهب المتعة، عزلة منتظمة في عالم الحس والشعور والألم. ولكن الحياة الطيبة هي في العلم بمن أنت في الحقيقة بالنسبة لجميع الخبرات. لتكن إذن واعيًا؛ واعيًا في كل موقف، وفي كل وقت، أيًّا كان ما تعمل أو تعاني معقولًا كان أم غير معقول، سارًّا أم غير سار. هذه هي اليوجا الصحيحة، التدريب الروحي الوحيد الذي يستحق الممارسة.

– كلما ازددت معرفة بالمفردات ازددت معرفة بالله. هكذا قال اسبينوزا. وإذا ترجمنا لغته إلى لغتنا يمكن أن نقول: كلما ازددت معرفة بنفسك بالنسبة لكل ضروب التجارب، زادت فرصتك في إدراكك — فجأةً ذات صباح جميل — من أنت في الواقع.

صدق القديس يوحنا؛ فالكلمة في عالم مبارك صامت لم تكن «مع» الله، إنما كانت هي الله، شيئًا يُعتقد فيه. الله رمز لما يدور في الأفئدة، اسم مجسد لكلمة مجردة.

إن الإيمان شيء يختلف كل الاختلاف عن العقيدة. العقيدة هي أن تأخذ باطراد كلمات لم تحلَّل مأخذًا جديًّا للغاية، سواء في ذلك كلمات بولس أو ماركس أو هتلر؛ فإن الناس يأخذونها مأخذًا جديًّا مبالغًا فيه، فماذا يحدث؟ إن ما يحدث هو تكافؤ المتناقضين في التاريخ بشكل غير معقول؛ السادية (حب إيذاء الآخرين) إزاء الواجب، أو (وهو أسوأ بدرجة لا تقارن) السادية باعتبارها واجبًا، الورع يقابله جنون العظمة، الإحسان يواسون به ضحايا قضاة التحقيق المنتمين لكنيستهم والصليبيين المتعصبين لمذهبهم. أما الإيمان، فعلى نقيض ذلك؛ لا يمكن أن يؤخَذ مأخذًا جديًّا مبالغًا فيه؛ لأنَّ الإيمان هو الثقة — التي لها ما يبررها عمليًّا — في قدرتنا على أن نعرف من نحن في الحقيقة، وعلى أن ننسى المانوي الثمل ونستبدل به الحياة الطيبة، اللهم اعطنا اليوم إيمانًا وخلِّصنا يا رب من العقيدة.

ثم سمع ويل طرقًا على الباب، فرفع بصره عن الكتاب ونادى: من هناك؟

وردَّ عليه صوت أعاد إليه ذكريات بغيضة عن الكولونيل ديبا وعن الرحلة الخيالية بعربة المرسيدس البيضاء، وقال الصوت: هو أنا.

وفي صندل أبيض على قدميه، وسروال قصير أبيض، وساعة معصم من البلاتين تقدَّم موروجان نحو سرير ويل.

– ما أجمل الشعور الذي دفعك إلى أن تحضر لرؤيتي!

ولو كان الزائر شخصًا آخر غير موروجان لبادر بسؤاله: كيف أنت الآن؟ ولكن موروجان كان مشغولًا بنفسه كليةً مما يُفقده القدرة حتى على أن يتظاهر بأدنى اهتمام بأي شخص آخر. وقال متبرمًا: أتيت إلى بابك منذ ثلاثة أرباع الساعة. ولكن الرجل العجوز كان ما يزال هنا؛ لذلك عدت إلى البيت، واضطررت إلى مجالسة أمي والرجل المقيم معنا وهما يتناولان الفطور …

وسأله ويل: ولماذا تحرَّجت من الدخول عندي حينما كان الدكتور روبرت معي؟ هل في حديثك معي ما يتنافى وقواعد السلوك؟

فهز الفتى رأسه في قلقٍ وقال: كلا بالتأكيد، إنما أردت ألا يعرف السبب في زيارتي.

وابتسم ويل وقال: السبب؟ إن عيادة المريض من عمل الإحسان، وهي أمرٌ مستحَبٌّ للغاية.

ولم يكن لسخريته أثر على موروجان الذي واصل تفكيره في شئونه الخاصة، وقال: أشكرك لأنك لم تذكر لهم أنك رأيتني من قبلُ. قال ذلك في اقتضاب يكاد يبلغ حد الغضب، وكأنه كان يستنكر الاعتراف بما ناله من فضل، وتميَّز غيظًا من ويل لأنه أسدى إليه معروفًا يستحق العرفان.

وقال ويل: كنت أدرك أنك لم تُرِد أن أقول شيئًا عن ذلك ومن ثَمَّ تحاشيت الكلام.

وتمتم موروجان بين أسنانه قائلًا: أردت أن أشكرك. بنغمة تكاد تنمُّ عن قوله: يا لك من خنزير قذر!

وبأدبٍ زائفٍ قال ويل: عفوًا.

يا له من مخلوق عذب! بهذا كان يفكر وهو يتطلع في شغف وابتهاج إلى جذعه الذهبي الأملس، وإلى وجهه الملتفت ناحية أخرى، متناسقًا كالتمثال لم يعُد أولمبيًّا ولا كلاسيكيًّا؛ وجه هليني، سهل الحركة إنساني إلى أبعد الحدود. إنه كالوعاء الجميل الذي لا نظير له؛ وماذا عسى أن يحتوي هذا الوعاء؟ وتحسَّر ويل على أنه لم يوجِّه هذا السؤال بصورةٍ أكثر جدية قبل أن يتصل ببابز التي لا توصف. ولكن بابز كانت أنثى. ولما كان طبيعيًّا في علاقته الجنسية فإن هذا السؤال العقلي الذي يتساءله الآن لم يكن ذا موضوع، ولكنه سؤال في محله من غير شك بالنسبة إلى هذا المخلوق الصغير الحقود نصف الإله الذي يجلس في طرف السرير، خاصةً إذا كان السائل حساسًا نحو الغلمان.

وسأله: أفلم يعلم الدكتور روبرت أنك ذهبت إلى راندنج؟

– كان بطبيعة الحال على علمٍ بذلك. كما كان كل امرئ على علم به. ولقد ذهبت إلى هناك لأعود بأمي. وكانت هناك مع بعض أقربائها، وذهبت إلى هناك لأعود بها إلى بالا. وكان الأمر رسميًّا مطلقًا.

– إذن لماذا لم تُرِدْني أن أذكر أنني التقيت بك هناك؟

وتردد موروجان لحظة، ثم حدق ببصره في ويل متحديًا، وقال: لأنني لم أُرِدْهم أن يعلموا أنني قابلت الكولونيل ديبا.

تلك إذن هي حقيقة الأمر، وقال ويل بصوت مرتفع: إن الكولونيل ديبا رجل يدعو للإعجاب. وأراد بذلك أن يقول كلمة معسولة يستخلص بها ثقة موروجان.

ولما زالت عن موروجان ريبته ظهر في الحال ما كان يكنُّه في صدره. وتهلَّل بالحماسة وجهه العابس، وبغتةً تجلَّى أنطونيوس بكل ما كان يتصف به من جمال جذاب، هو جمال مراهقته الغامضة. وقال: أي إنه رجل يدعو للإعجاب. ولأول مرة منذ دخل غرفة ويل بدا أنه أدرك وجوده وقدَّم له أكثر بَسماتِه مودة؛ ذلك أن ذكر الكولونيل بالإعجاب حمله على أن ينسى ضغينته، ومكَّنه في ذلك الحين من أن يهَبَ حبه كل مخلوق؛ حتى هذا الرجل الذي كان يدين له بالعرفان المرير، وأردف قائلًا: انظر إلى ما قدم لراندنج!

وقال ويل دون التزام: لا شك أنه يفعل الكثير لراندنج.

ومرت سحابة بوجه موروجان المشرق، وقال مقطِّبًا جبينه: ولكنهم لا يرون ذلك هنا، ويعدُّونه رجلًا فظيعًا.

– من يظن ذلك.

– كل إنسان تقريبًا!

– ولذلك لم يريدوا لك أن تقابله؟

وابتسم موروجان ابتسامة عريضة، وعلى وجهه مسحة التلميذ الشرير الذي انتهز فرصة التفات المعلم الذي ولَّاه ظهره وقال: ظنوا أنني مع أمي كل الوقت.

وانتهز هذه الفرصة ويل توًّا وسأله: وهل كانت أمك تعلم أنك كنت في مقابلة مع الكولونيل؟

– طبعًا.

– ولم تعترض؟

– بل أيَّدتني.

ومع ذلك فإن ويل كان على ثقة تامة من أنه لم يخطئ عندما ظن أن موروجان مع ديبا كان أشبه بأنطونيوس مع هادريان. هل كانت المرأة كفيفة البصر؟ أم هل لم تُرِد أن ترى ما كان يحدث؟

وقال بصوت مسموع: ولكن إذا كان الأمر لا يهمها، لماذا كان الدكتور روبرت وزمرته يعارضون؟ ونظر إليه موروجان مرتابًا. وأدرك ويل أنه غامرَ بالخوض في أمر محظور، فغيَّر مجرى الحديث، وقال مبتسمًا: هل تظن أنه كان يستطيع أن يحوِّلك إلى العقيدة في الدكتاتورية العسكرية؟

وفي هذا الاتجاه الجديد للحديث سار موروجان. وقد انفرجت أسارير وجهه وابتسم قائلًا: لم يكن الأمر كذلك بالضبط. ولكن كان قريبًا من هذا. وهز كتفيه وأردف قائلًا: الموضوع سخيف، ولا يعدو أن يكون بروتوكولًا أحمق.

وتحيَّر ويل حقيقةً وقال: ألم يخبروك بشيء عني؟

– لست أعرف أكثر مما ذكر لي الدكتور روبرت بالأمس.

وألقى موروجان برأسه إلى الخلف وقال ضاحكًا: تقصد كوني طالبًا؟

– وما يُضحكك من كونك طالبًا؟

وصرف الفتى نظره مرة أخرى وقال: لا شيء، لا شيء البتَّة. ثم ساد الصمت، وأخيرًا قال وهو لا يزال منصرف النظر: السبب في أنه من المفروض ألا ألاقي الكولونيل ديبا هو أنه رئيس دولة، وأنا كذلك رئيس دولة. وحينما نلتقي يكون في الموقف سياسة دولية.

– وماذا تعني؟

– أنا راجا بالا.

– أنت راجا بالا؟

– منذ عام ٥٤ حينما مات أبي.

– وأمك إذن هي راني.

– هي كذلك.

وتذكر ويل ما قاله له ألديهايد: اذهب رأسًا إلى القصر. ولكن ها هو ذا القصر يأتيه رأسًا. والعناية السماوية كانت قطعًا إلى جانب جو ألديهايد، وتعمل لمصلحته.

وسأله: وهل أنت أكبر الأبناء؟

وأجابه موروجان: الابن الأوحد. ثم أكد وحدانيته مرة أخرى وقال: الطفل الأوحد.

قال ويل: إذن ليس في الأمر أدنى شك. يا إلهي! لقد كان ينبغي لي أن أناديك بصاحب الجلالة أو بلقب السيد على الأقل. قال ذلك ضاحكًا. غير أن موروجان استجاب للحديث بجدية تامة وبالتظاهر فجأة بالكرامة الملكية.

وقال: بهذا تناديني في نهاية الأسبوع القادم، بعد عيد ميلادي. حينما أبلغ الثامنة عشرة؛ أي عندما يبلغ الراجا في بالا سن الرشد. أما حتى هذا الحين فأنا موروجان ميلندرا، مجرد طالب يتعلم شيئًا عن كل شيء؛ بما في ذلك تربية النبات. واستطرد في شيء من السخرية قائلًا: حتى أكون على علم بما أقوم به حينما يحين الحين.

– وإلى أن يحين الحين ماذا عساك فاعل؟

وقد لمس ويل فيما بين أنطونيوس الوسيم ووظيفته الكبرى تناقضًا يثير الضحك حقًّا، وواصل الحديث بنغمة المزاح، متسائلًا: وكيف تنوي أن تباشر العمل؟ هل تطيح بالرءوس، وتقول: أنا الدولة؟

واشتدت جدية موروجان وكرامته الملكية فقال مؤنِّبًا: لا تكن غبيًّا.

وفي ابتهاج شديد أخذ ويل يسلك مسلك المعتذر وقال: إنما أردت أن أعرف إلى أي حدٍّ سوف يكون حكمك مطلقًا.

وردَّ عليه موروجان في وقار قائلًا: بالا ملكية دستورية.

أو بعبارة أخرى، إنك سوف تكون رأسًا رمزيًّا؛ تسود ولا تحكم؛ كملكة إنجلترا.

ونسي موروجان كرامته الملكية فكاد يصيح بقوله: كلا، كلا. ليس كملكة إنجلترا. إن راجا بالا لا يسود فقط، إنما يحكم كذلك. واشتدت ثورة موروجان حتى لم يستطع يجلس في سكون، فقفز إلى أعلى وبدأ يذرع الغرفة جيئة وذهابًا، وأضاف قائلًا: راجا بالا يحكم حكمًا دستوريًّا، ولكنه — وايم الحق — يحكم، إنه يحكم. وسار نحو النافذة وأطل منها، ثم عاد بعد لحظة سكون وجابه ويل بوجهٍ تحوَّل — من أثر المسحة الجديدة التي انتابته — إلى رمز للقبح النفساني المعروف، في صورةٍ فاتنة ولون رائع. وفي عبارةٍ وبنغمةٍ، استمدَّهما قطعًا من أحد أبطال العصابات الأمريكية التي تظهر في السينما، قال: سوف أريهم من الرئيس هنا. واستطرد وكأنه يتلو من النص الممجوج الشائع على ألسنة أمثال هؤلاء الأبطال: إن القوم هنا يحسبون أني ألعوبة بين أيديهم كما كان أبي ألعوبة بينهم، ولكنهم يخطئون خطأً جسيمًا. وصدرت عنه ضحكة خبيثة تكاد أن تكون مكبوتة وهز رأسه الجميل البغيض وكرر قوله إنهم يخطئون خطأ جسيمًا.

وخرج اللفظ من بين أسنانه المطبقة وشفتيه اللتين كادتا ألا تتحركان. وبرز فكُّه الأسفل وبدا كفكِّ المجرم في مسلسلة هزلية، وأبرقت عيناه في برودٍ بين جفنين شبه مغمضين. وبدا في صورة مضحكة ومريعة في آن واحد. وقد أمسى أنطونيوس كاريكاتيرا لكل الأبطال الذين خلَّدتهم الصور من قديم الأزل.

وسأله ويل: من كان يدير البلاد حينما كنت قاصرًا؟

وأجاب موروجان في ازدراء: ثلاث مجموعات من الرجعيين القدامى؛ مجلس الوزراء، ومجلس النواب، ثم مجلس الشورى الذي يمثِّلني أنا الراجا.

وقال ويل: مساكين هؤلاء الرجعيون القدامى، سوف يُصدمون صدمة كبرى عما قريب.

وبروح الاستهتار التي اصطنعها في مرحٍ شديد، ضحك ضحكة عالية وقال: كل أملي أن أكون هنا لأرى ما سوف يحدث.

وشاركه موروجان ضحكه، لا بوصفه قويًّا مرحًا خبيثًا. ولكن بمزاجٍ مختلفٍ وملامح متغيرة ظهرت فجاةً تجعل من العسير عليه — كما أدرك ويل — أن يلعب دور البطل القوي، وإنما ضحك كالتلميذ الشرير الظافر الذي كان على صورته منذ لحظات، وكرر قوله سعيدًا: ستكون صدمة حياتهم.

– وهل وضعت خططًا معينة؟

قال موروجان: قطعًا. وبحركات وجهه أخلى التلميذ الشرير المنتصر مكانه لرجل السياسة، الرزين الذين يصطنع الدماثة عندما يعقد مؤتمرًا صحافيًّا. ستكون الأولوية لتحديث هذا المكان. انظر إلى ما استطاعت راندنج أن تفعله بسبب نصيبها الذي تحصل عليه من عائد البترول.

وسأله ويل بتلك اللهجة الساذجة التي تنمُّ عن جهلٍ مطبِقٍ والتي علَّمته التجارب الطويلة أنها خير وسيلة لاستخراج المعلومات من السذج وممن يظنون بنفسهم الأهمية الشخصية: وهل لا تحصل بالا على نصيب من عائد البترول؟

قال موروجان: لا تحصل على قرش واحد. مع أن الطرف الجنوبي من الجزيرة يطفح بالبترول. وإذا استثنينا عددًا قليلًا من الآبار التافهة التي يُستهلك بترولها محليًّا فإن الرجعيين القدامى لا يحرِّكون ساكنًا، بل إنهم لا يسمحون لغيرهم أن يفعل شيئًا. وتملك الغضب موروجان السياسي، ونمَّ صوته كما نمَّت ملامحه الآن عن البطل القوي، وأردف قائلًا: لقد تقدمت عروض كثيرة من مختلف الجهات؛ من شركة بترول جنوب شرقي آسيا، ومن شِل، والشركة الهولندية الملكية، وشركة ستاندارد في كلفورنيا. ولكن هؤلاء الغافلين لا يُعيرونها آذانًا مصغية.

– وهل لا تستطيع أن تغريهم بالإصغاء؟

وقال البطل القوي: سأرغمهم على الإصغاء.

وقال ويل: هكذا تكون الهمة. ثم سأل عرَضًا: وأي العروض تفكِّر في قبوله؟

– يتعامل الكولونيل ديبا مع شركة ستاندارد بكلفورنيا، ويرى أن الأفضل أن نتعامل معها نحن كذلك.

– لو كنت مكانك ما فعلت هذا إلا بعد أن يتقدم إليَّ بعض المتنافسين على الأقل.

– ذلك ما أراه أنا أيضًا، وكذلك أمي.

– هذه هي الحكمة.

– أمي متحمسة لشركة جنوب شرقي آسيا للبترول. وهي تعرف رئيس مجلس الإدارة، اللورد ألديهايد.

– هل تعرف اللورد ألديهايد؟ يا للعجب! قال ذلك ويل بدهشة المبتهج التي لها أبلغ الأثر. ثم أضاف: جو ألديهايد صديقي، وأنا أحرر في صحفه، بل أعمل سفيرًا خاصًّا له. وبيني وبينك هذا هو السبب في رحلتنا إلى مناجم النحاس؛ لأن جو يشتغل في النحاس كذلك ولكن بصفة ثانوية. أما ميله الأول فهو نحو البترول.

فقال موروجان وقد حاول أن يبدو داهيةً في السياسة: كم هو مستعدٌّ أن يعرض؟

وانتهز ويل هذه القصة وأجاب كأحسن ما تكون الإجابة في أسلوب ملوك المال كما يظهرون على الشاشة: أكثر قليلًا مما تعرضه شركة ستاندارد.

وقال موروجان وكأنه أيضًا يتحدث على الشاشة: هذا عدل. وأومأ برأسه كالحكيم، ثم سادت فترة طويلة من الصمت. ولما عاد إلى الحديث كان كرجل السياسة الذي يتفضل بمقابلة مع مندوبي الصحف.

قال: سوف أستخدم نصيبنا من عائد البترول بالطريقة الآتية: خمسة وعشرون في المائة من مجموع الأموال التي نحصل عليها تُنفق في إعادة بناء العالم.

وسأله ويل في أدب جمٍّ: قل لي بدقةٍ ما تراه لإعادة بناء العالم؟

– عن طريق الحرب الصليبية للروح؟ هل تعلم عنها شيئًا؟

– بالطبع، ومن ذا الذي لا يعرفها؟!

وقال رجل السياسة جادًّا: إنها حركة عالمية كبرى كالمسيحية في نشأتها. وقد أسستها أمي.

وبدت على ويل الرهبة والدهشة.

وأعاد موروجان قوله: نعم، أسستها أمي. ثم أضاف مؤكِّدًا: أعتقد أنها الأمل الوحيد للإنسان.

وقال ويل فارنبي: تمامًا.

واستطرد رجل السياسة حديثه فقال: هكذا أنفق الخمسة والعشرين في المائة الأولى من نصيبي. أما ما تبقَّى فسوف أُنفقه على برنامج مكثف للتصنيع. وغيَّر من نغمة الحديث مرة أخرى وقال: إن الحمقى الكبار هنا يريدون أن يصنعوا بعض المواقع فقط ويتركوا الباقي كما كان عليه منذ ألف عام. في حين أنك تريد أن تذهب بالتصنيع إلى آخر الشوط؛ تصنع من أجل التصنيع.

– كلا، بل أصنع من أجل البلاد. أصنع لكي أجعل بالا بلدًا قويًّا، ولكي أُجبر غيرنا على احترامنا. انظر إلى راندنج؛ إنهم هناك في غضون خمس سنوات سوف يصنعون كل أنواع البنادق ومدافع الهاون والذخيرة التي هم في حاجة إليها، بَيْد أن الوقت يحتاج إلى وقت طويل لكي يصنعوا الدبابات، ولكنهم حتى آنئذٍ يستطيعون أن يشتروها من سكودا بأموال البترول.

وتساءل ويل متهكمًا: ومتى يرقون إلى صنع القنبلة الهيدروجينية؟

فأجاب موروجان: إنهم لم يحاولوا ذلك. وأردف قائلًا: ومهما يكن من أمرٍ فإن القنبلة الهيدروجينية ليست وحدها السلاح الأساسي. وقد نطق هذه العبارة مستمتعًا بها، وكان من الواضح أن ذكر «السلاح الأساسي» كان محببًا إلى مسامعه. ثم أضاف: أقصد الأسلحة الكيماوية والبيولوجية؛ إن الكولونيل ديبا يسميها القنابل الهيدروجية التي يملكها الإنسان المسكين. إن من أول مشروعاتي بناء مصنع كبير لمبيدات الحشرات. وضحك موروجان وغمز بإحدى عينيه وقال: وإذا استطعت أن تصنع مبيدات الحشرات فأنت تستطيع أن تصنع غاز الأعصاب.

وتذكَّر ويل ذلك المصنع الذي لم يتم بناؤه والذي يقع في إحدى ضواحي راندنج لوبو.

وكان قد سأل عنه الكولونيل ديبا وهما يمرقان قريبًا منه في عربة المرسيدس: ما هذا؟

وأجابه الكولونيل: مبيدات للحشرات. ثم بابتسامة لطيفة كشف بها عن أسنانه الوضَّاءة أضاف: وقريبًا سوف نُصدِّرها لكل أنحاء جنوب شرقي آسيا.

وقد ظن آنئذٍ — بطبيعة الحال — أن الكولونيل يعني ما يقول. أما الآن — وقد سخِر في نفسه — فإنه يرى أن الكولونيلات هم كولونيلات، وأن الصِّبية — حتى من أمثال موروجان — فهم صِبية محبُّون للمدافع. سووف يكون هناك دائمًا كثير من المهام للمراسلين الخاصين خاصة بتجارب الموت.

ورفع ويل صوته سائلًا: إذن فأنت سوف تقوم بتقوية جيش بالا؟

– قوى الجيش؟ لا، أنا سوف أخلقه؛ فإن بالا ليس لها جيش.

– بتاتًا؟

– بتاتًا، فكلهم مسالمون. وخرجت من فيه هذه اللفظة: «مسالمون»، في اشمئزاز وسخرية: وسوف أبدًا من لا شيء.

– تعني أنك سوف تخلق الروح العسكرية وتدخل الصناعة؟

– تمامًا.

وضحك ويل قائلًا: عود إلى الآشوريين، سوف ترجع في ثورتك إلى التاريخ القديم.

قال موروجان: هذا ما أرجوه، وهذه سياستي؛ ثورة مستمرة.

وصفق له ويل وقال: حسنًا.

– سوف أواصل الثورة التي بدأها منذ مائة عام الجد الأكبر للدكتور روبرت عندما قدِم إلى بالا وعاون جدي الأكبر على تنفيذ الإصلاحات الأولى. ولقد قاما بعمل جدير حقًّا بالإعجاب، ولكنهما لم يوفَّقا في كل ما قاما به من أعمال. ثم هز رأسه بشعره المجعَّد جادًّا رافضًا رفضًا قاطعًا لبعض ما قاما به؛ وبرزانةٍ مصطنعة كأنه طالب يؤدي دور بولونيس في مسرحية هاملت في حفل نهاية الفترة الدراسية. ثم أردف قائلًا: ولكنهما على أية حال قاما بعملٍ ما. في حين أننا نحكم اليوم بمجموعة من المحافظين الذين لا يفعلون شيئًا ما. إنهم محافظون بدائيون لا يحركون ساكنًا لإدخال الإصلاحات الحديثة. وهم كذلك محافظون في الصميم؛ فهم يرفضون أن يغيِّروا أية فكرة من الأفكار الثورية السيئة القديمة التي يجب أن تتغير. إنهم لا يصلحون الإصلاحات. والحقَّ أقول لك: إن بعض ما كان يسمى بالإصلاحات يدعو حقًّا للاشمئزاز.

– تقصد الإصلاحات المتعلقة بالجنس؟!

فأومأ موروجان برأسه والتفت ناحيةً أخرى؛ ولشدَّ ما كانت دهشة ويل عندما لاحظ أن موروجان قد احمرَّ خجلًا.

وقال: اضرب لي مثلًا.

ولكن موروجان عجز عن الإفصاح عما بنفسه.

وقال: اسأل الدكتور روبرت، واسأل فيجايا، إنهما يحسبان ذلك أمرًا يدعو للإعجاب. بل الجميع هنا يرى هذا الرأي؛ ومن ثَمَّ فإن أحدًا لا يحب التغيير. إنهم يريدون أن يبقى كل شيء كما كان، وبنفس الطريقة التي تدعو إلى الاشمئزاز، دائمًا وإلى الأبد.

وكرر العبارة بصوت رنان يدعو إلى الضيق قائلًا: دائمًا وإلى الأبد.

ووثب موروجان من مقعده وصاح: أماه!

والتفت ويل فرأى عند الباب امرأةً ضخمة متوردة مدثرة في لفائف من الموصلين الأبيض (وذلك في رأيه ينافي الانسجام الطبيعي؛ لأن مثل هذا الوجه وهذا الجسم يتلاءم معه عادةً اللون البنفسجي الزاهي واللون الأحمر المشوب بالزرقة واللون الأزرق الكهربي). ووقفت مكانها وعلى فمها تلك الابتسامة التي توحي بإدراكها للغموض المحيط، وذراعها السمراء المترهلة مرفوعة وهي تضغط على جانب الباب وكأنها ممثلة عظيمة، أو المغنية الأولى التي يعترف لها الجميع وقد وقفت عند أول ظهورها لتتقبل تصفيق الاستحسان من المعجبين بها في الجانب الآخر من أضواء المسرح. كما ظهر في الخلف ينتظر في قلقٍ إشارة البدء رجلٌ مديد القامة يرتدي بدلة من الداكرون بنِّي اللون. وقد حاول موروجان أن يتعرف إليه من خلال تلك الكتلة التي كادت أن تملأ المدخل — وهي أمه — ثم حيَّاه باسم باهو.

وكان باهو ما يزال عند أحد جوانب المسرح ولكنه انحنى دون أن ينبس ببنت شفة.

ثم التفت موروجان مرة أخرى إلى أمه، وسألها: هل قدِمت على قدميك؟ وكانت نغمته تنمُّ عن عدم التصديق وعن قلقه المشوب بالإعجاب. لم يكن يتصور كيف تمشي إلى هذا المكان، فإن كانت قد فعلت فهي من الأبطال. ثم سألها أخيرًا: وهل مشيت الطريق كله؟

وردَّت مداعِبةً بلطف: نعم كل الطريق يا ولدي. ثم أنزلت ذراعها المرفوعة وطوقت بها جسم الفتى النحيل، وضمَّته — وهي في ثوبها الفضفاض — إلى صدرها الضخم، ثم أخلت سبيله، وقالت: استولت عليَّ إحدى نزواتي. ولاحظ ويل أنها تحملك على الاستماع إلى لفظها «نزوة» بتأكيدها عليها في نطقها بطريقة خاصة. وبنفس طريقة التأكيد هذه قالت: إن صوتي الضعيف قال لي: اذهبي إلى زيارة الرجل الغريب الذي يقيم في بيت الدكتور روبرت. فسألت هذا الصوت الضعيف: هل أذهب الآن على الرغم من حرارة الجو؟ ونفد صبر صوتي الضعيف فرد قائلًا: امسكي لسانك السخيف أيتها المرأة وافعلي كما تؤمرين. وها أنا ذا يا مستر فارنبي. وامتدت يدها يفوح منها شذًى قوي من رائحة خشب الصندل، ثم تقدَّمت نحوه.

وانحنى ويل نحو أصابعها الغليظة المرصَّعة بالجواهر وتمتم بكلمات اختتمها بقوله: يا صاحبة السمو.

ونادت: باهو! باسمه المجرد من غير ألقاب مستغلة في ذلك حقها الملكي.

واستجابة لهذا النداء دخل الغرفة — بعد انتظار طويل لدوره — هذا الممثل الثانوي، وقدَّمته باسم صاحب السعادة عبد الباهو سفير راندنج: عبد البيير باهو (وتحدث بالفرنسية) لأن أمه كما قال كانت فرنسية ولكنه تعلَّم الإنجليزية في نيويورك.

وتصوَّر ويل وهو يصافح يد السفير أنه شبيه بسافونارولا،٣ ولكنه سافونارولا بنظارة على إحدى عينيه وحلةٍ قصَّها خائط في سافيل رو٤ بلندن.

وقالت الراني: باهو مستشار الكولونيل ديبا، أو ذهنه المفكر.

– اسمحي لي يا صاحبة السمو، إنك أكثر رفقًا بي منك بالكولونيل!

وتحدَّث بلفظ وأسلوب رجل البلاط إلى حدٍّ كاد أن يكون تهكميًّا، يدعو إلى السخرية لأنه أراد أن يمثل به الاحترام والمذلة في آنٍ واحد.

فقال: الذهن في مكانه الطبيعي؛ الرأس. أما أنا فلست سوى جزء من الجهاز العصبي المتعاطف في راندنج.

وقالت الراني: وأي تعاطف! باهو يا مستر فارنبي له صفات كثيرة؛ من بينها أنه آخر الأرستقراطيين، ويجب أن تزور بلاده أما أشبهها «بألف ليلة وليلة». إذا صفقت بيديك كان في خدمتك في الحال ستة من الخدم. وهم هناك يحتفلون بأعياد ميلادهم، ويقيمون الحفلات الليلية في الحدائق. الموسيقى والمرطبات والراقصات، ومائتا حارس يحملون المشاعل، إنها حياة هارون الرشيد بعد سبكها في صيغة حديثة.

وقال ويل: هذا وصف بهيج. وقد تذكَّر القرى التي مرَّ بها في عربة الكولونيل ديبا المرسيدس البيضاء؛ تذكَّر الأكواخ المسقوفة بالقش المضفور بالقضبان، والقاذورات، والأطفال المصابين بالرمد، والكلاب الهزيلة، والنساء اللائي تنوء بالأحمال الثقيلة.

واستطردت راني تقول: ذوقه رفيع، وعقله مليء بالمعرفة. ثم أخفضت صوتها وقالت: ويتخلل ذلك كله إحساس عميق قوي بالمقدَّسات.

وأحنى مستر باهو رأسه، ثم ساد الصمت بعد ذلك.

وفي أثناء ذلك اجتذب موروجان مقعدًا، وجلست فوقه بوزنها الذي يبلغ مائة كيلوجرام الذي تؤكد به جلالتها دون أن تلتفت خلفها، وهي على ثقة ملكية بأن طبائع الأشياء تقتضي أن يكون هناك دائمًا شخص قريب المنال يكفل امتناع الأحداث السيئة كما يكفل الاحتفاظ بالكرامة.

ووجهت حديثها إلى ويل قائلة له: أرجو ألا تحس أن زيارتي لك نوع من التطفل. وأكد لها أنه لا يشعر بهذا الإحساس، ولكنها — مع ذلك — استمرت في تقديم الأعذار وقالت: كان ينبغي لي أن أُخطرك مقدمًا وأن أحصل على إذن منك. ولكن صوتي الضعيف قال لي: «لا، يجب أن تذهبي فورًا، لماذا لست أدري. ولكننا سوف نعرف السبب في الوقت المناسب من غير شك.» وحدقت فيه بعينيها الكبيرتين الجاحظتين وابتسمت له ابتسامة مبهمة، وأردفت قائلة: والآن كيف حالك أولًا يا عزيزي مستر فارنبي؟

– كما ترين يا سيدتي، حالتي جيدة للغاية.

وحدقت في وجهه بعينيها الجاحظتين في إمعان ارتبك له، وقالت: حقًّا؟ إنك في نظري الرجل البطل الذي يراعي شعور الآخرين ويطمئن أصدقاءه حتى وهو على سرير الموت.

قال: أنت تمالقينني. ولكن حقًّا أنا في حالة جيدة، حالة جيدة بصورة تدعو إلى الدهشة، بل هي — إذا أخذنا كل شيء في الاعتبار — معجزة.

قالت راني: «معجزة» هي الكلمة التي استخدمتها عندما سمعت نبأ نجاتك. لقد كانت حقًّا معجزة.

وروى ويل مرة أخرى النص الذي وردَ في كتاب «الأرض المجهولة»٥ وهو «من حسن الحظ أن العناية الإلهية كانت إلى جانبي».

وبدأ مستر باهو يضحك. ولما لحظ أن الراني قطعًا لم تُدرك المغزى، غيَّر رأيه. وفي براعة زائدة حوَّل صوت المرح إلى سعالٍ مسموع.

وقالت الراني: ما أصدق هذا القول! في صوتٍ قوي رنان يتذبذب بدرجة تثير الحس، وواصلت حديثها قائلة: إن العناية الإلهية دائمًا في جانبنا. ورفع ويل حاجبه متسائلًا، فأضافت قولها: أقصد في أعين أولئك الذين يفهمون حقًّا. مؤكِّدة لفظتي «يفهمون» و«حقًّا». ويصدق هذا الكلام حتى وإن بدت كل الأمور متآمرة ضدنا، وبالفرنسية قالت: حتى عند الكوارث. واستطردت قائلة: أنت تفهم الفرنسية طبعًا يا مستر فارنبي؟ وأومأ ويل بالإيجاب. وواصلت حديثها: الفرنسية كثيرًا ما تواتيني أيسر من لغتي القومية، أو الإنجليزية، أو لغة أهل بالا. وبعدما قضيت عدة سنوات في سويسرة في المدرسة أولًا ثم بعد ذلك عندما تدهورت صحة ولدي (وهنا ربَّتت على ذراع موروجان العارية) واضطررنا إلى العيش في الجبال؛ ويوضح ذلك ما ذكرت من أن العناية الإلهية كانت دائمًا في جانبنا، قالوا لي إن ولدي الصغير على حافة الإصابة بالسل فنسيت كل ما تعلمت، وطار صوابي خوفًا وذعرًا، وغضبت من ربي لأنه رضي بهذا الذي حدث. ولكن ما كان أشد عماي! فلقد شفي ولدي. وكانت تلك السنوات التي قضيناها وسط الثلوج الدائمة أسعد أيام حياتنا. أليس كذلك يا حبيبي؟

ووافقها الصبي بقوله: نعم، كانت أسعد أيام حياتنا. بنغمة تنمُّ عن الإخلاص التام.

وابتسمت الراني بشعور الانتصار، ولوت شفتيها الحمراوين، وبصوتٍ خافِت فرجتهما لتُرسل عن بُعدٍ قُبلة، وواصلت حديثها قائلة: فأنت ترى يا عزيزي فارنبي — والأمر يُفصح عن نفسه حقًّا — أن شيئًا لا يحدث مصادفة، هناك خطة كبرى، تتفرع منها خطط عديدة صغرى. هناك خطة صغرى لكل واحد منا.

وفي أدب جم قال ويل: هذا صحيح.

وواصلت الراني حديثها قائلة: لقد انقضى زمن كنت أدرك فيه ذلك بعقلي. أما الآن فأنا أدركه بقلبي، أنا حقًّا … وهنا توقفت لحظة لتتأهب لنطق الكلمة الصوفية التالية مؤكِّدة لها، وهي … أفهم.

وعندئذٍ تذكَّر ويل ما قاله عنها جو ألديهايد وهو أنها «متأثرة بالروحانيات إلى أبعد الحدود». ولا شك في معرفة هذا الرجل الذي تردد على جلسات استحضار الأرواح طوال حياته.

فقال: أعتقد يا سيدتي أنك روحانية بالطبيعة.

واعترفت بذلك قائلة: منذ ميلادي. ولكن كذلك وفوق ذلك بالتدريب. ولست بحاجة إلى أن أقول التدريب على شيء آخر. مؤكِّدة هذه العبارة الأخيرة.

– شيء آخر؟

– على حياة الروح، والمرء كلما سار شوطًا على الطريق فإن كل المواهب الروحية وكل القوى المعجزة تتطور تلقائيًّا.

– أصحيح هذا؟

وأكد له موروجان فخورًا: إن أمي تستطيع أن تقوم بما لا يتصور العقل.

وقالت بالفرنسية: لا تبالغ يا حبيبي.

وأصر موروجان على ما ذكر وقال: ولكنها الحقيقة.

وأضاف السفير: إنها حقيقة أستطيع أن أؤكدها. ثم أردف قائلًا وهو يبتسم مُخاطرًا: أؤكدها على مضضٍ مني. ولقد كنت طوال حياتي من المتشككين في هذه الأمور، ولم أكن أحب أن أرى المستحيل يتحقق. ولكني لسوء الحظ أميل إلى الصدق. فإذا حدث المستحيل فعلًا أمام عيني فأنا مضطر على الرغم مني (بالفرنسية) أن أكون شاهدًا على ما وقع. إنَّ سموَّها تقوم فعلًا بأمور لا يتصورها العقل.

وتهللت الراني بالسرور وقالت: حسنًا، ما دمت تريد أن تعبِّر بهذه الصورة. ولكن لا تنسَ شيئًا أبدًا يا باهو. إن المعجزات ليست لها البتَّة أية أهمية، وإنما المهم هو «الشيء الآخر»؛ الشيء الآخر الذي يبلغه المرء في نهاية «الطريق».

وبالتحديد قال موروجان: بعد «المرحلة الرابعة» يا أمي …

ورفعت الراني إصبعًا إلى شفتيها وقالت: هذه أشياء لا يتحدث فيها المرء يا حبيبي.

وقال الصبي: أنا آسف. وأعقب ذلك صمت طويل مشحون بالمعاني.

وأغمضت الراني عينيها، وأسقط مستر باهو نظارته ثم أغمض عينيه وأمسى صورة لسافونارولا وهو يصلي في صمت. ماذا كان يجري خلف هذا القناع، قناع استجماع النفس الصارم والذي يكاد أن يتجرد من المادة؟ تعجَّب ويل لما شاهد وأخيرًا قال: هل يجوز لي يا سيدتي أن أسأل كيف بدأت السير في الطريق؟ مؤكِّدًا لفظة «الطريق».

ولزمت الراني الصمت ثانية أو ثانيتين، واكتفت بجلوسها مغمضة العينين، تنفرج شفتاها عن ابتسامة بوذا التي تنمُّ عن سعادة غامضة، وأخيرًا أجابت بقولها: العناية السماوية كشفت لي عن الطريق.

– صحيح، لكن لا بُدَّ أن تكون هناك مناسبة، ومكان، وأداة بشرية.

قالت: سوف أخبرك. وفتحت جفنيها وألفى نفسه مرة أخرى محطَّ النظر من هاتين العينين الجاحظتين اللتين لمعتا في حملقة لا تحيد يَمنة أو يَسرة.

حدث ذلك في لوزان في السنة الأولى من تعليمها السويسري. وكانت الأداة البشرية المختارة هي مدام بولوز المحبوبة الصغيرة، وهي زوجة الأستاذ بولوز المحبوب الكبير. والأستاذ بولوز هو الرجل الذي عهد إليه رعايتها والدها المرحوم سلطان راندنج. وكان الأستاذ في السابعة والستين من عمره، يعلِّم الجيولوجيا، بروتستانتيًّا ينتمي إلى طائفة متزمتة، ولولا أنه كان يتعاطى كأسًا من النبيذ مع العشاء، ويؤدي صلاته مرتين فقط في اليوم، ويلتزم بالزواج بامرأة واحدة لحسبته من المسلمين. وتحت هذه الرعاية يتفتح ذهن أميرة راندنج، وتبقى بغير تأثُّر من الناحيتين الخلقية والعقائدية. ولكن السلطان لم يحسب لزوجة الأستاذ حسابًا. كانت مدام بولوز في الأربعين فقط من عمرها، بدينة، عاطفية، فوارة في حماستها، اعتنقت أخيرًا مذهب الصوفية وتحمَّست له بشدة، وإن تكن من الناحية الرسمية من مذهب زوجها البروتستانتي. وفي حجرة في أعلى بيت مرتفع قريبًا من ميدان ريبون اتخذت لها مكانًا للتعبد تأوي إليه سرًّا لتقوم بتدريباتها على التنفس، وتمارس التركيز، وتستحضر كنداليني، كلما توافر لها الوقت. كانت تدريباتها عنيفة. ولكن جزاءها كان عظيمًا بدرجة حدود العقل. وعند الفجر ذات ليل من ليالي الصيف بينما كان الأستاذ الطيب مستلقيًا يغطُّ في نومه غطيطًا متواترًا تحت المصلى بطابقين، تجلَّى لها السيد كوت هومي وشعرت بوجوده معها.

وهنا توقفت الراني عن الحديث بشكل مؤثر.

وقال مستر باهو: هذا أمر غير عادي.

وبدافع الواجب ردَّد العبارة وراءه ويل وقال: أمر غير عادي.

واستأنفت الراني روايتها. وكانت مدام بولوز قد أحست بسعادة لم تستطع إخفاءها فأفشت سِرَّها. وصدرت عنها إشارات غامضة، وتدرجت من الإشارات إلى الثقة، ومن الثقة إلى دعوة لزيارة المعبد وتلقِّي التعاليم. وبعد فترة وجيزة من الزمن أخذ كوت هومي يخص الطالبة الجديدة بأفضالٍ تفُوق ما كان يقدِّمه لمعلِّمتها.

واختتمت الراني حديثها قائلة: ومنذ ذلك اليوم ظل السيد يعاونني على المضيِّ قُدمًا. وأكدت على كلمتَي «المضي قُدمًا».

وتساءل ويل بينه وبين نفسه المُضي قُدمًا نحو ماذا؟ كوت هومي وحده يعلم. ولكن أيًّا كان المكان الذي توجَّهت إليه فإنه لم يشعر بمَيل إليه. وظهر على ذلك الوجه الوردي الضخم تعبير كان بغيضًا إلى نفسه بصورة عجيبة؛ تعبير عن هدوءٍ سائد، وعن احترام للذات ثابتٍ لا يتزعزع. وذكَّرته بصورة عجيبة بجو ألديهايد. وكان جو أحد هؤلاء الأثرياء السعداء الذين لا يشعرون بوخز الضمير، وإنما يستمتعون بأموالهم بغير وازع، وبكل ما يمكن أن يشتروه بهذه الأموال من نفوذ أو سلطان، وأمامه الآن فصيلة أخرى من فصائل جو ألديهايد، على الرغم من ارتدائها الموصلين الأبيض، ومما يحيط بها من غموض، ومما تُثيره من عجب؛ أنثى ثرية تحكَّمت في السوق؛ ولا أعني سوق النحاس أو فول الصويا، وإنما أعني الروحانية الخالصة والسادة الذين يصعدون إلى السماء، وهي الآن تفرك يديها سعيدةً بمجال استثمارها.

وواصلت الراني حديثها قائلة: إليكم مثالًا لما قدَّمه لي: منذ ثمانِ سنوات — أو على وجه التحديد في اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر من عام ١٩٥٢م — جاءني «السيد» وأنا في حالة التأمل صباحًا، جاء بشخصه، وبكل أمجاده وقال لي: لا بد من شنِّ حملة دينية، حركة عالمية لإنقاذ البشرية من تدمير نفسها بنفسها، وأنت يا بُنيَّتي الأداة المكلَّفة. فقلت: أنا؟ حركة عالمية؟ هذا عبث، فأنا لم أُلْقِ طوال حياتي خطابًا واحدًا، ولم أسطر كلمةً واحدة للنشر، ولم أكن قط زعيمة ولا داعية نظام. فقال وقد حيَّاني بابتسامةٍ حلوة من ابتساماته التي تفُوق الوصف: وعلى الرغم من ذلك فأنت التي سوف تشنين الحملة؛ الحملة الروحية العالمية، وسوف تقابَلين بالضحك، ويدعونك المجنونة، المتهوِّسة، والمتعصبة. ولكن الكلاب تنبح والقافلة تسير. ولقد قُدِّر للحملة الروحية أن تتحول من دعوات مبدئية تُثير الضحك إلى قوةٍ عظمى، قوة للخير، قوة سوف تنقذ العالم في نهاية الأمر. وبعد هذا تركني، مذهولة، متحيزة، مذعورة لا أعي شيئًا. ولكن ذلك أمر عارض، وعليَّ أن أطيع. ولقد أطعت. فماذا حدث؟ ألقيت الخُطب ووهبني هو الفصاحة، وقبلت عبء الزعامة، ولأنه كان يسير متخفِّيًا إلى جانبي تَبِعني الناس. وطلبت المعونة فتدفق عليَّ المال. وها أنا ذا كما ترون … ولوَّحت بيديها الغليظتين وكأنها تغضُّ من شأن نفسها، وابتسمت ابتسامة غامضة، وكأنها تقول: مسكينة أنا، ولكني لا أملك نفسي، بل أنا مِلك للسيد كوت هومي. وكررت قولها: وها أنا ذا كما ترون.

وقال مستر باهو مخلصًا: ها أنت هنا والحمد لله.

وبعد فترةٍ ما سأل ويل الراني إن كانت قد أصرَّت دائمًا على الشعائر التي تعلمتها بالعناية الإلهية في معبد مدام بولوز.

وأجابت بقولها: دائمًا، ولم أعُد أستغني عن التأمل، وكأنه كالطعام لا غنى عنه.

– أولم يشقَّ عليك ذلك بعد الزواج؟ أعني قبل أن تعودي إلى سويسرة؛ فلقد كانت عليك بالضرورة واجبات رسمية كثيرة مُضنية.

وردَّت الراني في نغمةٍ تغْني عن مجلدات ضخمة من التعليق الذي يسيئ إلى شخصية زوجها الراحل، من حيث فلسفته في السياسة العالمية وعاداته الجنسية وقالت: دع عنك الواجبات غير الرسمية. وفغرت فاها لتفصِّل ما أجملت ثم لاذت بالصمت، ونظرت إلى موروجان ونادته: يا حبيبي.

وكان موروجان مشغولًا بتلميع أظافر يده اليسرى التي وضعها في راحة يمناه، فتطلَّع في دهشة المذنِب وقال: ماذا يا أماه؟

وتجاهلت الراني ما كان يفعل بأظافره وغفلته الواضحة إزاء ما كانت تقول، وابتسمت له ابتسامة ومغرية وقالت له: كن ملاكًا واذهب وأتني بالسيارة. ووجهت حديثها إلى ويل قائلة له: إن «صوتي الضعيف» لا يعترض على أن أعود إلى البيت سيرًا على قدمي؛ فهو على بُعد بضع ياردات من هذا المكان. ولكن في هذا الجو الحار. وفي مثل سني …

وكانت كلماتها تستدعي شيئًا من النفاق في الرد. ولكن ويل شعر بأن الحرارة التي لا تسمح بالسير على الأقدام لا تسمح كذلك ببذل الجهد اللازم للتظاهر بإخلاص زائف يُقنِع. ولحسن الحظ كان على مقربة منهما دبلوماسي محترف، رجل من رجال البلاط المدرَّبين، يستطيع أن يعوِّض أوجُه النقص التي تصدر عن صحافيٍّ أخرق. فضحك باهو بملء شدقيه، ثم اعتذر عما بدر منه من مرح.

وقال: معذرة فالموقف يدعو فعلًا إلى الضحك. وكرر عبارة الراني: في مثل سني … وضحك مرة أخرى، ثم أردف قائلًا: إن موروجان لم يبلغ الثامنة عشرة بعدُ، وأنا أعرف عمر أميرة راندنج، وصغر سنها، عندما اقترنت براجا بالا.

وفي تلك الأثناء نهض موروجان مطيعًا وقبل يد أمه.

ولما انصرف من الغرفة قالت الراني: الآن نستطيع أن نتحدث بحرية أكثر. وانطلقت في الكلام متحررة؛ ونم وجهها، ونغمة حديثها، وعيناها الجاحظتان، وهيكل جسمها المرتعش كله عن استنكارها ولكنها تجاهلت الأمر وقالت: اذكروا محاسن موتاكم. ولذلك لم تذكر عن زوجها إلا أنه كان رجلًا من بالا مثاليًّا، وممثلًا صادقًا لبلاده، والحقيقة المؤلمة هي أن وجه بالا المشرق الناعم كان يُخفي فسادًا مروعًا.

ورفعت يديها مرتاعة وخشخشت أساروها في فزع شديد تقول: عندما أذكر ما حاولوا أن يُلحقوه بوليدي منذ عامين، عندما كنت أقوم برحلتي العالمية في سبيل الحملة الروحية، أذكر كم قاسيت من فراقه طوال هذه المدة. ولكن «السيد» كان قد بعثني لأداء رسالة وذكرني «صوتي الضعيف» أنه من الخطر أن أصحب وليدي معي. ولقد عاش خارج البلاد زمنًا طويلًا وآن له أن يعرف البلد الذي سيئُول إليه حكمه؛ لذلك قررت أن أتركه هنا. وعيَّن مجلس الشورى لجنة للوصاية: واللجنة امرأتان لكلِّ منهما أبناء بلغوا سن الرشد، ورجلان.

يؤسفني أن أقول (وأسفي أشد من غضبي) إن الدكتور روبرت ماك فيل كان أحدهما. وموجز القول، ما كدت أن أخرج آمنة من هذا البلد حتى شرع هؤلاء الأوصياء الأعزاء الذين عهدت إليهم بوليدي، ولدي الوحيد، يعملون لمحو تأثيري، ويعملون بنظام يا مستر فارنبي على أن يحطموا كل القيم الخلقية والروحية التي تعبت في بنائها خلال العديد من السنين.

وفي شيءٍ من الخبث أبدى ويل دهشته (لأنه بطبيعة الحال كان يعرف ما كانت الراني تتحدَّث عنه): القيم الخلقية والروحية كلها؟ ومع ذلك لم يكن بالإمكان لأحد ما أن يكون أكثر شفقة به من الدكتور روبرت والآخرين، ولم يكن بإمكان السامرين الطيبين أنفسهم أن يكونوا أكثر منهم إحسانًا.

وقالت الراني: إنني لا أُنكِر عليهم شفقتهم. ولكن الشفقة ليست هي الفضيلة الوحيدة.

ووافقها ويل وقال: طبعًا. وأخذ يعدد كل الصفات التي كان من الواضح إن الراني تفتقر إليها، وقال: هناك أيضًا الإخلاص، والصدق، والتواضع، والإيثار …

وقالت الراني بحدة: لقد نسيت الطهارة. وأكدت على هذه الكلمة: الطهارة أساسية، الطهارة شيء لا بُدَّ منه.

– ولكني فهمت أنهم هنا في بالا لا يرون هذا الرأي. فقالت الراني: إنهم بالتأكيد لا يرون ذلك. واستطردت تذكر له كيف أن ولديها قد عُرِّض عمدًا للنجاسة، بل لقد شجعوه إيجابيًّا على الاسترسال فيها مع إحدى الفتيات اللائي نضجن قبل الأوان وسلكن سلوكًا فوضويًّا. وفي بالا الكثيرات منهن. ولما عرفوا أنه ليس من طراز الفتيان الذين يُغررون بالبنات (لأنها نشَّأته على أن يعتبر المرأة مقدَّسة بالضرورة) شجعوا الفتاة على أن تبذل جهدها لكي تُغرر به.

وتعجَّب ويل في نفسه متسائلًا: وهل نجحت معه الفتاة؟ أم هل قام أصدقاؤه الذين في مثل سنه بتحصينه ضد الميل إلى البنات، أو قام به بصورة أكثر فعالية واحدٌ ممن يكبرون أنطونيوس أكثر خبرة وأشد فسادًا، سويسري سبق الكولونيل ديبا؟

وأخفضت الراني صوتها وقالت إلى حد الهمس الذي تسمعه على المسرح تعبيرًا عن الفزع: لم يكن ذلك أسوأ ما حدث؛ فإن إحدى الأمهات في لجنة الوصاية — وألفِتُ النظر إلى أنها من الأمهات — نصحته أن يتلقَّى بعض الدروس.

– أي نوع من أنواع الدروس؟

وغضنت أنفها كأنها تشم رائحة المجاري وقالت: دروسٌ فيما يتحشمون ويسمونه الحب. وتحوَّل اشمئزازها إلى سخط وقالت: دروسٌ — اسمح لي أن أقول — من امرأة أكبر سنًّا.

وصاح السفير: رحماك يا رب!

وردد ويل بعده على سبيل الواجب: رحماك يا رب! وكان يدرك أن هؤلاء النسوة المسنات كنَّ في عين الراني منافسات أشد خطورة حتى من أكثر الفتيات الفوضويات ممن نضجن قبل الأوان؛ فمعلمة الحب البالغة تكون أمًّا منافسة، تتمتع بميزة الحرية في تجاوز حدود التحريم، وهذا أمر بشع لا يجوز.

وفي شيء من التردد قالت الراني: إنهن يقمن بتعليم طرق خاصة.

واستفسر ويل: أي طرق تقصدين؟

ولكنها لم تستطع أن تحمل نفسها على الخوض في التفصيلات المنفِّرة. ومع ذلك فإن ذلك لم يكن ضروريًّا؛ لأن موروجان (بارك الله فيه) رفض أن يستمع إلى هذه الدروس. دروس في الفسق من امرأة يصح أن تكون له أمًّا؛ إن مجرد الفكرة أصابته بالتقزز. ولا عجب؛ فلقد نشأ على احترام مبدأ الطهارة. هل تعرف معنى براهما شاريا؟

قال ويل: نعم.

– وهذا سبب آخر جعل مرضه نعمةً غير منظورة، رحمة من الله حقًّا جاءت في حينها، ولا أظن أني كنت أستطيع أن أربيه هكذا في بالا؛ فهنا كثير من المؤثرات السيئة. هنا قوى تعمل ضد الطهارة، وضد الأسرة، بل وضد محبة الأم.

وسدَّد ويل أذنيه ليُحسن الإصغاء وقال: هل أصلحوا حتى الأمهات؟

وأومأت برأسها إيجابًا وقالت: إنك لا تتصور إلى أي حد وصلت الأمور هنا. ولكن كوت هومي كان يعلم الأخطار التي لا بُدَّ أن نلاقيها في بالا. فماذا يحدث؟ يمرض وليدي وينصحنا الأطباء بالعودة إلى سويسرة لكي نبتعد عن الأذى.

وسألها ويل: كيف سمح لك كوت هومي بالقيام بحملتك الروحية؟ ألم يرَ ماذا كان عساه أن يحدث لموروجان بمجرد أن تولِّيه ظهرك؟

وقالت الراني: كان يرى كل شيء، المغريات، والمقاومة، والهجوم المكثف الذي تقوم به قوى الشر مجتمعة، ثم الخلاص في اللحظة الأخيرة. وأضافت لمزيد من الإيضاح: إن موروجان لم يخبرني بما كان يحدث. ولكن بعد ثلاثة أشهر أمست هجمات قوى الشر أقوى مما يحتمل، وصدرت عنه بعض التلميحات غير أني كنت مستغرقة تمامًا فيما كلفني به «سيدي» فلم أُعِرها التفاتًا. وأخيرًا كتب إليَّ خطابًا شرح فيه الأمر كله تفصيلًا. فألغيت محاضراتي الأربع الأخيرة في البرازيل وطرت إلى بلدي بأسرع ما استطاعت طائرات الجت أن تحملني. وبعد مُضي أسبوع عدنا إلى سويسرة، وليدي وأنا وحدنا وكنا مع «السيد».

وأغمضت عينيها، وبدت على وجهها لمحة من نشوة التأمل والتفكير. وصرف ويل نظره مشمئزًا. هذه المرأة التي قدست نفسها لأنها ظنت أنها سوف تخلِّص العالم، هذه الأم التي تتشبث بابنها وتلتهمه التهامًا؛ هلا نظرت إلى نفسها لحظةً كما ينظر إليها الناس؟ هل لديها أدنى فكرة عما فعلت، وعما لا تزال تفعل، بابنها الصغير المسكين التافه؟ أما عن السؤال الأول فالإجابة بالنفي قطعًا. أما عن السؤال الثاني فليس بوسع المرء إلا أن يفكر. ربما كانت تجهل حقًّا ما فعلت بالفتى. ولكن ربما — أيضًا — كانت على علم به. ربما عرفت وآثرت ما كان يحدث مع الكولونيل على ما كان يمكن أن يحدث لو قامت على تربية الصبي امرأة؛ فالمرأة قد تحل محلها. أما الكولونيل فلقد كانت تعرف أنه لن يفعل ذلك.

– وقال لي موروجان إن في نيته أن يُصلح هذه التي يزعمون أنها إصلاحات.

وقالت الراني بنغمة ذكَّرت ويل بجده رئيس الشمامسة: ليس بوسعي إلا أن أدعو الله أن يمنحه القوة والحكمة ليفعل ذلك.

وسألها ويل: وماذا تظنين بمشروعاته الأخرى: البترول، والصناعات، والجيش؟

وضحكت ضحكة خفيفة لتذكِّره بأنه يتحدث إلى شخصٍ مرَّ بالمرحلة الرابعة ثم قالت: أنا لا أكترث كثيرًا بالاقتصاد والسياسة، اسأل باهو عن رأيه.

وقال السفير: لا أملك الحق في أن أبدي رأيًا؛ فأنا غريب أمثِّل دولة أجنبية.

وقالت الراني: ليست أجنبية جدًّا.

– في عينيك يا سيدتي. وفي عينيَّ كما تعلمين جيدًا، ولكنها في عين حكومة بالا أجنبية تمامًا.

وقال ويل: ولكن ذلك لا يمنعك من أن يكون لك رأي، إنه يمنعك فقط من أن تعتنق الآراء المحلية المعتمدة. ثم أضاف: وبهذه المناسبة أنا لست هنا بصفتي المهنية، ولا أنت معي في مقابلة صحافية أيها السفير. كل ذلك بعيد كل البعد عن التسجيل.

– بعيد كل البعد عن التسجيل؛ لذلك وبصفتي الشخصية وحدها وليس بصفتي الرسمية. أقول إني أعتقد أن صديقنا الصغير على أتم صواب.

– ومعنى ذلك طبعًا أنك تعتقد أن سياسة حكومة بالا خطأ تمامًا.

وقال مستر باهو. وقد ضحك ضحكة فولتيرية تلألأ معها قناع سافونارولا العظمي الحاسم: إنها لا تُعدُّ خطأ تمامًا؛ لأنها على أتم صواب.

وقالت الراني محتجةً: صواب!

قال: بل أتم صواب؛ لأنها رُسمت تمامًا بحيث يصبح كل رجل وكل امرأة وكل طفل فوق هذه الجزيرة الساحرة على أتم ما يمكن أن يكون حرًّا وسعيدًا.

وصاحت الراني: ولكنها السعادة الزائفة، وحرية «النفس الدنيا».

وقال السفير وقد انحنى كما يملي عليه الواجب: إنني أنحني لبعد نظرك الثاقب يا صاحبة السمو. ولكن السعادة مع ذلك هي السعادة زائفة أو صحيحة، والحرية ممتعة للغاية علا مستواها أو هبط. وليس من شكٍّ في أن السياسة التي شرعها المصلحون الأولون والتي تطورت مع مرور السنين كانت ملائمة — بصورة تدعو للإعجاب — لتحقيق هذين الهدفين.

وقال ويل: وهل تحس أن هذين الهدفين غير مستحبَّين؟

– بل على العكس من ذلك، كل امرئ يحبهما، ولكنهما لسوء الحظ لم يعودوا مناسبين، وقد باتا غير متلائمين بتاتًا مع الموقف الراهن في العالم بعامة وفي بالا بخاصة.

– وهل هما اليوم أشد تنافرًا مع الظروف مما كانا عليه عندما بدأ المصلحون يعملون على توفير الحرية والسعادة؟

وأومأ السفير برأسه إيجابًا وقال: في تلك الأيام كانت بالا ما تزال مختفية في خريطة العالم، فكانت فكرة تحويلها إلى واحة من الحرية والسعادة أمرًا معقولًا. إن المجتمع المثالي يمكن أن يعيش ما دام منقطع الصلة عن بقية العالم. ولقد كانت بالا قابلة تمامًا للحياة حتى عام ١٩٠٥م. ولكن الدنيا تغيرت تمامًا بعد ذلك في أقل من جيل واحد. الصور المتحركة، والعربات، والطائرات، والراديو، والإنتاج الكبير، والمذابح الكبرى، والاتصال الجماهيري، وفوق هذا كله مجرد الضخامة؛ تزايد السكان في أحياء الفقراء وفي الضواحي التي أخذت تتضخم وتتزايد، وما إن حل عام ١٩٣٠م حتى كان بمستطاع أي مشاهد ثاقب النظر أن يرى الحرية والسعادة أمرين لا يتحققان لثلاثة أرباع الجنس البشري. والآن وبعد مرور ثلاثين سنة أخرى أصبحا أبعد عن إمكان التحقيق. ثم إن العالم الخارجي قد أخذ يقترب من هذه الجزيرة الصغيرة، جزيرة الحرية والسعادة. أخذ يقترب باطراد وفي غير تراخٍ. وما كان مثاليًّا قابلًا للحياة لم يعُد اليوم كذلك.

– ولذلك وجب أن تتغير بالا، هل هذا هو ما توصلت إليه؟

وطأطأ باهو رأسه وقال: تتغير تغيرًا جذريًّا.

وقالت الراني بحماسة المتنبئ السادي: تتغير جذورًا وفروعًا.

وواصل باهو حديثه قائلًا: وذلك لسببين مقنعين، أولهما أنه ليس بالإمكان لبالا أن تبقى مختلفة عن بقية العالم، وثانيهما أنه ليس من حقها أن تختلف.

– ليس من حق الناس أن يكونوا أحرارًا وسعداء؟

ومرة أخرى قالت الراني شيئًا موحيًا عن السعادة الزائفة والحرية الباطلة.

وتقبَّل مستر باهو مقاطعتها باحترام، ثم نظر إلى ويل.

وقال في إصرار: ليس من الصواب أن تزهو بما أنعم عليك في وجه هذه الكثرة من البائسين. هذه مباهاة وقحة، وإهانة مقصودة لبقية البشر، بل إن ذلك كفران بنعمة الله.

وتمتمت الراني في شغف شديد وقالت: الله، الله … ثم فتحت عينيها وقالت: إن القوم هنا في بالا لا يؤمنون بإلهكم، ولا يعتقدون إلا في التنويم المغناطيسي وفي وحدة الوجود وفي الحب الذي لا تقيده حدود. وأكدت على هذه الكلمات في سخط واشمئزاز.

وقال ويل: ولذلك فأنت الآن تقترحين أن تجعليهم أشقياء أملًا في أن يستردوا بذلك إيمانهم بالله. هذه طريقة للهداية، وربما أفلحت، وربما كانت الغاية تبرر الوسيلة. ثم هز كتفيه وأضاف قوله: ولكني أرى أن هذا الأمر سوف يحدث لامحالة، خيرًا كان أم شرًّا، وبغضِّ النظر عما يحسه أهل بالا إزاءه. وليس من الضروري أن يكون المرء من الأنبياء لكي يتكهن بأن موروجان سوف ينجح، فهو يعتلي موجة المستقبل. وموجة المستقبل هي من غير شك موجة البترول الخام. وبمناسبة الحديث عن الخامية وعن البترول (وهنا وجَّه نظره نحو الراني) إنني أعلم أنك على معرفة بصديقي القديم جو ألديهايد.

– هل تعرف اللورد ألديهايد؟

– جيدًا.

ثم أغمضت عينيها ثانيةً وابتسمت لنفسها وهزت رأسها في بطء وقالت: ولذلك كان صوتي الضعيف ملحًّا! لقد فهمت. وبنغمة أخرى سألته: كيف حال هذا الرجل العزيز؟

وأكد لها ويل أنه لا يزال على صفاته.

– ويا لها من صفات نادرة. أنا أسميه الرجل صاحب الطائرة الورقية (قالت ذلك بالفرنسية).

وتحير ويل وقال: صاحب الطائرة الورقية؟

وشرحت ما تعني وقالت: إنه يقوم بعمله هنا، ولكنه يمسك بخيط في يده، وفي طرف الخيط الآخر ترتبط الطائرة الورقية، وهي تحاول دائمًا أن تطير إلى أعلى وأعلى وإلى «الأعلى». وحتى وهو يؤدي عمله يحس الجذب الدائم إلى أعلى، يحس أن الروح في شد وجذب مع البدن. عجبًا! رجل من رجال الأعمال، ومن أقطاب الصناعة؛ ومع ذلك فإن الشيء الوحيد الذي يهمه حقًّا هو خلود الروح.

وبزغ الضياء. لقد كانت هذه المرأة تتحدث عن إدمان ألديهايد للروحانية. فذكر تلك الجلسات الأسبوعية مع السيدة هاربوتل الأوتوماتية (التي تطلق لعقلها الباطن العنان يعبِّر عن نفسه، ومع السيدة بيم التي كان يسيطر عليها هندي كايوي يدعى باوبو) ومع الآنسة تيوك وبوقها المصقول الذي تخرَّج منه في همس له صرير كلمات كهنوتية يدونها بالخط المختزل السكرتير الخاص لجو وتقول: اشترِ الإسمنت الاسترالي، ولا تنزعج لهبوط أسعار أطعمة الإفطار، تخلَّ عن أربعين في المائة من أسهمك في المطاط واستثمر المال في شركة أ. ب. م وفي وستنجهاوس …

وسألها ويل: وهل أخبرك عن ذلك السمسار الراحل الذي كان يعرف دائمًا موقف السوق في الأسبوع التالي؟

وقالت راني منغمسة في أفكارها: هذه مزايا روحية، مجرد مزايا روحية. ماذا كنت تتوقع غير ذلك؟ ومع ذلك فقد كان من المبتدئين فقط. وفي الحياة الراهنة التجارة هي عمله في الدنيا الذي يحاسب عليه «هورما». وقد كتب عليه أن يقوم بما أداه وما يؤديه وما سوف يؤديه. ثم أضافت مؤكِّدة بعدما توقفت قليلًا وكأنها تُصغي، ورفعت إصبعها ومالت برأسها وما سوف يؤديه — كما يحدثني صوتي الضعيف — يتضمن أشياء عظيمة وعجيبة هنا في بالا.

ويا لها من طريقة روحية لقولها هذا ما أريد أن يحدث! لا كما أشاء ولكن كما يشاء الله؛ ولحسن المصادفة مشيئة الله تتفق دائمًا ومشيئتي. وضحك ويل في نفسه ولكنه احتفظ برأسه مستقيمًا كأشد ما تكون الاستقامة.

وسألها: وهل ينبئك صوتك الضعيف بشيء عن شركة جنوب شرقي آسيا للبترول؟

وأصغت الراني مرة أخرى، ثم أومأت برأسها وقالت: بكل وضوح.

قال ويل: ولكني علمت أن الكولونيل ديبا لا يذكر سوى شركة ستاندارد بكلفورنيا. واستطرد سائلًا: وبهذه المناسبة، لماذا تهتم بالا كل هذا الاهتمام بمَيل الكولونيل إلى شركات البترول؟

وقال مستر باهو بصوت رنان: إن حكومتي تفكر في إطار خطة خمسية للتعاون والتنسيق الاقتصادي بين مجموعة الجُزر.

– وهل هذا التعاون والتنسيق بين مجموعة الجُزر يعني أن تمنح شركة ستاندارد حق الاحتكار؟

– إذا ما كانت شروط شركة ستاندارد أفضل من شروط منافسيها.

وقالت الراني: أو بعبارة أخرى إذا لم يتقدم أحد بعرضٍ مالي أفضل.

وقال لها ويل: كنت قبل مجيئك إلى هنا أتحدَّث مع موروجان في هذا الموضوع. قلت له إن شركة جنوب شرقي آسيا للبترول مستعدة لأن تعطي راندنج ما تقدِّمه لها ستاندارد مع زيادة قليلة.

– خمسة عشر في المائة زيادة؟

– لنجعلها عشرة في المائة.

– لتكن اثني عشر ونصفًا في المائة.

ونظر إليها ويل في إعجاب. وكانت — إذا أخذنا في اعتبارنا أنها بلغت المرحلة الرابعة — رائعة حقًّا.

وقال: سوف يصرخ جو ألديهايد من الألم. ولكنك سوف تحصلين على الاثني عشر في المائة التي تخصك، وأنا على يقين من ذلك.

وقال مستر باهو: سوف يكون هذا بالتأكيد اقتراحًا جذابًا.

– العقبة الوحيدة هي أن حكومة بالا لن تقبله.

وقالت الراني: إن حكومة بالا سوف تتغير سياستها عما قريب.

– هل تظنين ذلك؟

وأجابت الراني في نغمة دلَّت تمامًا على أن معلوماتها قد أتتها رأسًا من فم «السيد»؛ إذ قالت: أنا لا أظن، أنا «أعرف».

وسألها ويل: وهل يساعدنا في شيء عندما تتغير السياسة إذا كان الكولونيل ديبا يوصي بشركة جنوب شرقي آسيا للبترول بكلمة منه طيبة؟

– لا شك في ذلك.

واتجه ويل ببصره إلى باهو: وهل أنت مستعد سيدي السفير أن توصي خيرًا لدى الكولونيل ديبا؟

وردَّ المستر باهو ردًّا دبلوماسيًّا مراوغًا صاغه في كلمات مركَّبة كأنه يخاطب جمعية عمومية لإحدى المنظمات الدولية، وذلك حين قال: نعم من ناحية، ولا من ناحية أخرى؛ الأمر من جهة يبدو أبيض، ومن زاوية أخرى يبدو أسود فاحمًا.

وأصغى ويل في صمت وأدب، واستطاع أن يرى وأن يسمع — من وراء قناع سافونارولا، ومن خلف المنظار الأرستقراطي الذي يغطي عينًا واحدة، ومن خلال لغة السفراء — السمسار الشرقي الذي يطلب العمولة، وينتظر النفحة التي يرجوها في ذلة رسمية حقيرة. وكم توعد جلالة الراني التي تنتسب عضوًا في جماعة دينية لقاء حماستها لرعاية شركة جنوب شرقي آسيا للبترول؟ إنه يراهن على أن المبلغ كبير جدًّا، لا لشخصها طبعًا، كلا، كلا! ولكن للحملة الدينية، من أجل مجدٍ أكبر لكوت هومي من غير شك.

وقد بلغ مستر باهو نهاية خطابه أمام المنظمة الدولية وذلك حين قال: ويجب لذلك أن يكون مفهومًا أن أي عمل إيجابي من جانبه لا بُدَّ أن تحكمه الظروف كلما وحينما وإذا تبينت هذه الظروف، وأرجو أن يكون كلامي واضحًا.

وأكد له ويل: إنه غاية في الوضوح. وواصل حديثه بصراحةٍ تعمَّد أن يُجافي بها اللياقة قائلًا: دعوني أشرح موقفي من هذا الموضوع، كل ما يهمني أنا شخصيًّا هو المال، ألفان من الجنيهات دون أن أؤدي نظير ذلك عملًا ما، وعامًا من الحرية لكي أعاون فيه جو ألديهايد في وضع يده على بالا.

وقالت الراني: إن اللورد ألديهايد رجل كريم إلى درجة تلفِت النظر.

ووافقها ويل قائلًا: نعم تلفِت النظر إذا أخذنا في اعتبارنا العمل الضئيل الذي أستطيع أن أقوم به في هذه المسألة. وليست بي حاجة إلى القول إنه يكون أكثر كرمًا لأيِّ امرئ يقدم له معونة أكبر.

وساد صمت طويل. ومن بعيدٍ كان طائر المَيْنة يدعو في رتابة إلى الانتباه، انتباه إلى الجشع، وانتباه إلى النفاق، وانتباه إلى السخرية الرخيصة … ثم سمعوا طرقًا على الباب.

وقال ويل: ادخل. ثم التفت إلى مستر باهو وقال له: لنواصل هذا الحديث في وقت آخر.

وهز باهو رأسه قبولًا.

وأعاد ويل قوله: ادخل.

ودخلت الغرفة فتاة في أواخر العقد الثاني من عمرها تخطو خطًى رشيقة وترتدي في نصفها الأسفل ثوبًا أزرق اللون وفي أعلى سترة من غير إزار تعرِّي وسطها ولا تغطِّي إلا حينًا بعد حينٍ ثديين في استدارة التفاح، وعلى وجهها الأسمر الناعم ابتسامة تحية صداقة شديدة، وعلى جانبَي الابتسامة غمازتان في خديها. وبدأت كلامها بقولها: أنا الممرضة آبو، «رادا آبو» ووقعت عينها على زائري ويل فأسرعت قائلة: عفوًا، لم أكن أعرف …

وأشارت إلى الراني في غير مبالاة.

أما مستر باهو فقد نهض قائمًا مجاملة منه وصاح في حماسة قائلًا: الممرضة آبو. هذا الملاك الصغير المسعف من مستشفى شيفا بورام! يا لها من مفاجأة سارة!

وكان واضحًا لويل أن المفاجأة لم تكن البتَّة سارةً للفتاة.

وقالت دون أن تبتسم: كيف حالك يا مستر باهو؟ وسرعان ما التفتت إلى جهة أخرى وبدأت تشغل نفسها بأحزمة الحقيبة المصنوعة من القِنَّب والتي كانت تحملها.

وقال مستر باهو: ربما نسيت يا صاحبة السمو أنني كان لا بُدَّ لي في الصيف الماضي من عملية جراحية. ثم قال على وجه التحديد: عملية فتق. وقد اعتادت هذه السيدة الشابة أن تأتيني كل صباح وتقوم بغسلي، وكان ذلك بالضبط في الثامنة وخمس وأربعين دقيقة. وبعد اختفائها كل هذه الشهور ها هي ذي الآن مرة أخرى!

وقالت الراني وكأنها تتلقى وحيًا: التزامن جزء من خطة كبرى.

وقالت الممرضة الصغيرة وقد وجهت بصرها إلى أعلى بعيدًا عن حقيبة العمل، وهي لا تزال تبتسم: مفروض عليَّ أن أُعطي حقنة لمستر فارنبي.

وصاحت الراني وقد غالت في أداء دورها الملكي متظاهرةً بالملاطفة والمداعبة قائلة: أوامر الطبيب أوامر لا بُدَّ أن تُطاع. وأضافت قولها: السمع طاعة. ولكن أين سائقي؟

ونادى صوت مألوف قائلًا: سائقك هنا.

وكان موروجان واقفًا بالباب وكأنه في جماله صورة لجانيميد،٦ وبدت على وجه الممرضة الصغيرة لمحة من السرور.

وعبَّرت بمجاملة أخرى، إما يأخذها علامة على الاحترام، وإما يعتبرها استهزاء وسخرية، وذلك حين قالت: أهلًا موروجان؛ أقصد يا صاحب السمو.

وقال الفتى بنغمةٍ قصد بها أن تكون التحية عارضة من بعيد: أهلًا يا رادا. وسار إلى حيث كانت تجلس أمه مارًّا بها، وقال: العربة عند الباب، أو الأحرى أن أقول ما تسمينه عربة. وبضحكة تهكمية قال موجهًا حديثه إلى ويل: إنها من طراز أوستن الصغيرة من إنتاج عام ١٩٥٤م. وهي أحسن ما يمكن أن يقدِّمه هذا البلد المتقدم في الحضارة لأفراد العائلة الملكية. وأضاف في مرارة: أما راندنج فتعطي سفيرها بنتلي.

وقال مستر باهو وقد نظر إلى ساعته: هذه البنتلي سوف تأتينا إلى هنا بعد عشر دقائق، فهل لي أن أستسمحك يا صاحبة السمو في الانصراف؟

ومدت الراني يدها، وانحنى نحوها بكل الورع الذي يبديه كاثوليكي مخلص حينما يقبل خاتم الكاردينال، ثم اعتدل قائمًا والتفت إلى ويل.

– أعتقد — وقد أكون مخطئًا — أن مستر فارنبي يستطيع أن يحتملني لفترة قصيرة أخرى، فهل أبقى؟

وأكد له ويل أنه يُسَر لبقائه.

وقال مستر باهو للممرضة الصغيرة: وأرجو ألا يكون هناك اعتراض من الوجهة الطبية.

وقالت الفتاة بنغمة تدل عن وجود موانع قوية لا تقوم على أساس طبي: ليس من الوجهة الطبية.

وبمساعدة موروجان قامت الراني من فوق كرسيها منتصبة، ومدت يدها المحلَّاة بالجواهر وقالت بالفرنسية: إلى اللقاء يا عزيزي فارنبي. وابتسمت ابتسامة حلوة رأى فيها ويل الخطر الأكيد كل الخطر.

– مع السلامة يا مدام.

واتجهت نحو الممرضة وربَّتت على خدها ومرقت من الغرفة، وتبعها موروجان كالقارب الصغير الذي يسير خلف سفينة كبرى منتفخة الشراع.

١  نسبةً إلى ما في المصلح الإيراني الذي ظهر في القرن الثالث وادعى النبوة وبشَّر بعقيدة مثنوية أساسها «الصراع بين الخير والشر». (المترجم)
٢  في هذه المبادئ كثيرٌ من الغموض، وخلاصتها أن الوجود وحدة لا تتجزأ، والفرد جزء من الكل، وهو أساس من أسس البوذية. (المترجم)
٣  مصلح ديني إيطالي عاش في القرن الخامس عشر. كان يتشدد في مقاومة الانحلال الخلقي. (المترجم)
٤  شارع في لندن مشهور بالخياطين الممتازين. (المترجم)
٥  سبقت الإشارة إليه. (المترجم)
٦  ساقي الآلهة في الميثولوجيا. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤