شِعْر الدِّيوَانِ

الصبا المبعوث

يا زهرةً لحبيبتي قد مَثَّلَتْ
أعوامَ فُرقَتِنا إليكِ أحنُّ١
لم ألقَ غيرَكِ مَنْ تُجسِّمُ ما مَضى
مِنْ لوعةٍ في روعةٍ تفتنُّ
مَضَتِ السنُون فكيف كيف أُعيدُها
إلَّا بحبكِ أنتِ حين أُجَنُّ؟
لِمَ لا أُجَنُّ وذاك عُمري ذاهبٌ
كالنَّبْعِ قد خانَتْ جَدَاهُ المُزْنُ؟
عُمري مضى إلَّا الأقلُّ، وإنه
عمرٌ على الحالينِ فيه الحُزْنُ
وأَحَبُّهُ ذاك الشبابُ المنطوي
ولديكِ أنت خيالُه المفتنُّ
فإذا عشقتُكِ أنتِ عشقَ حَبيبتي
فالبِرُّ يوحي بالهوى والفَنُّ!
قد صِرْتُمَا لي صورتيْ حُبِّي الذي
منه نُفيتُ، ومنه منه الغَبْنُ
وله حَييتُ وما أزال أعيش في
حُلْمي، فلولا الحُبُّ مات الكونُ!
مَنْ ذا يلوم تَوَدُّدِي لكِ بَعْدَما
عانيتُ مما قد جناه البَيْنُ؟
مَنْ مُرْجِعٌ أمسي الذي كفَّنْتُهُ
فيعودَ عطفٌ منه ليس يُمَنُّ؟
أنتِ التي هي صُورةٌ من أمِّها
فلها الرشاقةُ والصبا والحُسْنُ
وبها زمانُ تَلَهُّفي وتَحَرُّقي
يرنو إليَّ، كما شجاني الأَنُّ
ما أنتِ إلَّا فَلذةٌ مِنْ مُهجتي
بُعِثَتْ فكيف تَرُدُّ شوقي السِّنُّ؟
وإذا انتسبتِ فإنَّني أَوْلَى بما
مَثَّلْتِ مِنْ رُوحٍ إليهِ أَحِنُّ

الألحان الصامتة

لغةُ الحواجبِ والعُيُونْ
لغةٌ من الشِّعرِ الحَنونْ
أغْنَتْ عن اللحنِ الشجيِّ
وفَسَّرتْ معنى الفنونْ
وكأنَّما الألحانُ إنْ
حُرِمَتْ صداقتَها تَهُونْ
وقفتْ تغنِّي والغنَا
ءُ يذوبُ مِنْ فمِها فُتونْ
ورشاقةُ الصوتِ الحَبِيـ
ـبِ كأنَّها عَذْبُ الجنونْ
قد رنَّحتْ منها القوا
مَ وأسبلتْ منها الجفونْ
واستنطقتْ شَغَفَ العيو
نِ فلحَّنتْ لغةَ العُيُونْ
فلبثتُ مَأسُورًا بصو
تٍ كم يبينُ ولا يبينْ
أهواه مِنْ نَظرَاتِها
فجميعُها شدوٌ مَصُونْ
حاكتْ تَبسُّمَها الرقيـ
ـقَ فما تشذُّ وما تخونْ
بل تغمرُ الروحَ الوفيَّ
مِنَ الصبابةِ والمجونْ

يومٌ مروعٌ

(في جيرة البحر)

يلوح الأفقُ أغبرَ في دُخانٍ
وهذي الشمسُ تُحْرَقُ إذْ تَغيبُ
كأنَّ السُّحْبَ جَمَّعَها بَخُورٌ
بمجمرةٍ لها سِحْرٌ عجيبُ!
يَضيقُ الأفقُ في قلبي ونفسي
وما يُغنِي المنى الأفُقُ الفسيحُ
إذا اكتأبَ الوجودُ فإنَّ نفسي
تئِنُّ وكلُّ محمودٍ قبيحُ
أهاتيك الصخورُ لها شخوصٌ
سوى البادي على تلك الصخورِ؟
أفيها مِنْ قديمِ العهدِ روحٌ
تراثٌ للشعورِ وللضَّميرِ؟
لقد مضتِ القرونُ وتلك سكرَى
على مَوْجِ الحوادثِ والقُرونِ
وهذا البَحْرُ أهونُ ما تلاقي
فما موجٌ سوى موجِ السنينِ!
أهذا اليومُ من أهلِ الشتاء
وقد أوْفَى دخيلًا في الربيعِ؟
وما جَدْوَى السؤالِ وذاك يومي
يصدُّ عن الإجابةِ كالمروعِ؟!

بحر السماء

هَتَفتْ بيَ الأضواءُ فاستيقظتُ مِن
نومي على فَلَقٍ من الأضواءِ
ونَظرتُ في أفُقِ السماءِ فلم أَجدْ
إلَّا حديثَ الموج والدَّأمَاءِ
السُّحْبُ تجرِي في اصطخَابِ الموجِ لا
تَرضَى بهدأةِ لحظةٍ لندائي
ناديتُها فتلفَّتَتْ، لكنَّه
كتلفُّتِ الأطيافِ للشُّعَرَاءِ
لا تستقرُّ هُنيهةً، وتسير في
لهَفٍ، كوثبِ الموج فوقَ الماءِ
وكأنما الزمنُ العجيبُ يسوقها
كالخيلِ في ركضٍ وطُولِ عناءِ
تخْشَى سِياطَ الدهرِ تجْرِي خلفَها
فالدهرُ قاسٍ دائمًا ومُرَائِي
وتغيبُ في بحرِ السماءِ كما مَضى
حُلُمِي وأنفَاسي ووحيُ رَجَائي!

البحر الصغير

(من مشاهد المنصورة البديعة)

هنيئًا أيها البحرُ الصغيرُ
تُنير بك السفينُ وتستنيرُ٢
وتجري فيك أمواجٌ خِفافٌ
وكلٌّ روحُها طفلٌ صغيرُ
تطوفُ على الحقول وأنتَ تُسدي
حياةً ليس يُشبهها النظيرُ
أيا ابنَ النيل أنتَ أبوكَ لونًا
وخُلقًا تستعزُّ ولا تَضيرُ
تَبَنَّتْكَ المدينةُ وهي أهلٌ
فسرتَ وأنتَ مَزْهُوٌّ قريرُ
تُضيفُ الوزَّ ألوانًا وتجري
بكَ الأَحمالُ يُزجيها الخريرُ
وتختلطُ الحياةُ لديكَ شتَّى
فينظمُها لكَ الحسنُ القديرُ
ويحيا فيكَ نوتيٌّ وطيرٌ
كما يحيا بك النورُ الأسيرُ!

رعشة الحور

الشمسُ تضحَكُ للأصيلِ، وماؤُه
في النيلِ مُصطفقٌ يحنُّ إليْهَا
والحورُ غازلها النسيمُ معانقًا
وكأنَّما ارتعشَ النسيمُ لديْهَا
فترفُّ أوراقُ الغصونِ بلا وَنًى
في رعشةٍ والسحرُ رفَّ عليْهَا
هذي الطبيعةُ في احتضانٍ دائمٍ
فعلامَ نُهزَمُ نحنُ بين يديْهَا؟

عيون المنصورة

عُيونٌ كلُّها فِتَنٌ
وأصداءٌ من الفِتَنِ
أحنُّ لسمرةٍ فيها
كسمرةِ مائِها الفنِّي
فكمْ فيهِ تحياتٌ
من الأجيالِ والزمنِ
وكمْ فيهِ عباداتٌ
لنهرٍ روحُه وطنِي
نظرتُ إلى معَانِيهَا
كأنِّي لستُ أدرِيهَا
فكم مِن سَبحةٍ فيها
لرُوحِي إذْ تُناجِيهَا
تُناجِي ظِلَّهَا الحَانِي
ونُورًا حَائرًا فيهَا
وكمْ في الظلِّ والأنوَا
رِ أحلامٌ أُنادِيهَا!

اللهفة الخالدة

في القُرْبِ أم في البُعْدِ يغمر مُهجتي
مِنْ لهفتي قلَقٌ يدوم وجُوعُ؟
ما لي أراكِ كأننا لم نجتمعْ
قبلًا وقلبي هائمٌ ومَرُوعُ؟!
أرنو إليكِ كأنَّما الدنيا أبَتْ
هذا اللقاءَ وإنني المخدوعُ
أرنو إليكِ كأنَّني أرنُو إلى
كونٍ يحار به النُّهَى وَيضيعُ
أَرنُو وأَرنُو ثم أَرنُو مثلمَا
يرنُو إلى الأمِّ الحنونِ رضيعُ
أرنُو وهذا الصَّمْتُ يشملُنِي كما
شملَ الوجودَ أشعةٌ ودُموعُ
ويحارُ حُسْنُك مِنْ سكوتي بينما
أنا وحديَ المتكلِّمُ المسموعُ!
أوَّاه مِنْ لهفي ومِنْ حَرَقي الذي
لا ينتَهِي وكأنَّه المَطبوعُ
عالجتُ كلَّ وسيلةٍ أُشْفَى بها
فإذا الشِّفاءُ محرَّمٌ ممنوعُ
وإذَا نعيمِي أن أرَاكِ وحُرقتي
تتسَاويانِ وقلبيَ المصدوعُ
وإذا بيَ الصَّادي الذي لا يرتَوِي
وإذا جَمالُكِ وَحْدَهُ الينبوعُ
إنَّا رُبينا في الشَّقاءِ وفي الهوى
فهوايَ — مهما يَنعَمِ — المفجوعُ
وكأنَّما نصفُو بمأتمِ حُبِّنا
والذكرياتُ تحُوطُنا وتروعُ!

الأم الحنون

ضَمَمْتِ الكمنجةَ مثلَ ابنةٍ
وأدَّبْتِهَا ثم لاعبتِهَا
وهذي الأناملُ تَجرِي عليهَا
حَنانًا يُنوِّع مِنْ صَوتِها
فمنها السُّرورُ ومنها البكاءُ
كأنكِ بالعزفِ عاقبتِهَا
ومِن قوسِها المستحَبِّ العزيزِ
تُثارُ البلابلُ من صَمْتِهَا
فيا عجبًا بين أُمٍّ حنونٍ
وبين التدلُّلِ مِنْ بِنتِهَا
نذوقُ الحياةَ بألوانِهَا
أغانيَ تُعْبَدُ في ذاتِهَا!

إلى مودعتي

وَدَّعْتِني وكأنما ودَّعْتِ بي
أمَلًا جريحًا قد طَوَاهُ الهَمُّ
يَمَّمْتِ شَاطِئَ «أفرديتَ»٣ وطالما
جذبَ الجمالَ إليهِ ذاك اليمُّ
بلدٌ تنَفَّسَ بالملاحةِ روحُه
والحسنُ منه يعودُ وهو أتمُّ
فلمن تُرِكْتُ وقد نَأَيْتِ وهذه
دُنيايَ يَمشي في جَنَاها السُّمُّ؟
ولمن أزفُّ عواطفي وتهافُتي
ولديكِ لطفٌ عن هوايَ ينمُّ؟
صُوَرُ الجمالِ حياةُ نفسي بينما
لا أشتهي إلَّا سَناكِ يُضَمُّ
إنْ غبتِ حِرْتُ بكلِّ ما أنا عاشقٌ
وجميعُ ما أنا أرتضيه يُذَمُّ
شِعرُ المعابدِ٤ أينَ أينَ رُواؤُهُ
إلَّاكِ؟ أينَ سِواكِ سِحْرٌ جَمُّ؟
أنتِ الَّتِي مهمَا لثَمْتُ جَمَالَها
فالقلبُ لا يَروِيه هذا اللثمُ
أنتِ التِي هِيَ تَوأَمِي٥ فبمَنْ سوى
هَذَا الحنانِ مَوَاهبي تأتمُّ؟
هل لي سوَى هذا الجَمالِ مَثابةٌ
تُختارُ أو حسنٌ سواكِ يُشَمُّ؟

العيون المتكلمة

شاهدتُ نَهْدَيْهَا وقد خفقَ الهَوَى
بهما كما قد رَفَّ مِنْ خدَّيْهَا
ونظرتُ هذا الجسمَ أجملَ ما اشتهى
رَبٌّ وأفتنَ ما ادَّعاهُ لَدَيْهَا
فعرفتُها مَعنَى الأُلوهةِ قُدِّسَتْ
فوقَ الحياةِ وقد حَوَتْ رُوحيْهَا٦
وأَطَلْتُ مِنْ نَظَرِي إليها حائرًا
في وَحْيِ هذا الظِّلِّ من نَهْدَيْهَا
فتكلَّمتْ لغةُ العيونِ بما حَكتْ
مِنْ قبْلُ حينَ رَنَا الإلهُ إليْهَا

رثاء الجمال

(عند شاطئ البحر)

أنْشِدْ رثاءَ الأَماني أيُّها الفَانِي
واندُبْ مآلَ الجمالِ الضَّاحكِ الهَانِي
دُنيا حواليْهِ يَبْنيها ويهدمُها
كالموجِ يَهدمُ ما يبنيهِ في آنِ
اترُكْ تفاؤلَكَ المعهودَ آونةً
وانظرْ مَصارعَ أطيافٍ وألوانِ
انظرْ إلى الحُسْنِ في إعجازهِ صُوَرًا
لا تَنتَهِي، وعجيبٌ كلُّها فانِي!
كأنَّما هي أنفاسٌ نُردِّدها
مِلءَ الحياةِ فتدعُو موتَنا الدَّانِي
مَنْ هذه الغادةُ الهيفاءُ ساحرةً
بناظرٍ ذاهلٍ كالفجرِ وسنانِ
تَمشِي وفِي لونِها الخمريِّ ما سمَحَتْ
دُنيا الحياةِ بإغراءٍ وإيذانِ
تَرى الحياةَ تناهتْ في تَطلُّعِها
منها بفرحةِ أضواءٍ وألحانِ
لا يستقرُّ قرارٌ مِنْ تخطرها
كأنَّما هي مِنْ أطيافِ نيسانِ
مَنْ هذه غير رمزٍ للحياة حَوَتْ
أَشْهى البيانِ وأحلَاهُ لوجدَانِي
أنا الذي أتفانَى في مَوَاهبِها
تفانيَ اللَّحنِ في أوتارِ عيدانِ
كأنَّما الخالقُ الرسَّامُ صوَّرها
في جُرأة ونمتْها رُوح لهفانِ
فصار يَعبدُها الخلَّاقُ في لهَفٍ
وبات تصويرُها إيمانَ إنسانِ
أَهذِهِ سوفَ يطوِيهَا الفَنَاءُ كَمَا
يَطوِي جَمالَ أمانِينَا الجَديدَانِ؟

•••

وذلكَ الموجُ مَنْ أبقَاهُ مضطَربًا
يَدعُو إليه حنينَ الناس وثَّابَا
أحيا صُخورًا بأصداءٍ يُردِّدها
وأطلعَ العُشْبَ بالإِيحَاءِ جذَّابَا
يجرِي ويمرَحُ في لهوٍ وفي قَلَقٍ
ويَشربُ النُّورَ أطيافًا وأكوابَا
تَرنُو الحَياةُ بإحساسٍ يفيضُ بِهِ
إِلَى الأَنَامِ فيُمسِي الناسُ أحبَابَا
والموجُ مهما تنَاهى في تلاطُمهِ
يأبى التَّخاذلَ في مَجراهُ غلَّابَا
مَشاهدُ الحبِّ في لونٍ وفي صُوَرٍ
مِنَ التهافتِ تُحيي الناسَ ألبابَا
لقد وقفتُ قليلًا في مباءَتها
فكنتُ أشهدُ أكوانًا وأربابَا
عوالمُ الفطرةِ الأولى بمَا جَمَعَتْ
مِنَ الجمالِ الذي قد زَادَ أنسابَا
كم يأسرُ الموجُ في أصباغِهِ مُهَجًا
وكم يُعذِّبُ هذا الموجُ مَنْ تابَا
زُرْقُ العيونِ حَوَتْ مِنْ رُوحِه فِتنًا
كما حَوتْ رَوْعَهُ المحبوبَ إرهابَا
وقفتُ في الشَّاطِئِ المأهولِ في شَغَفِي
والقلبُ مِلءُ خُشوعٍ بالغٍ طابَا
والشمسُ في الأفُقِ المهجورِ رانيةٌ
مثلِي إلى البحرِ تَرثِي النورَ إذْ غابَا
تَبْكي بَنيها وإنْ خِلْنَا أشعَّتَها
مَتاعنَا، فإذا المبكيُّ ما آبَا
حتى تذوبَ بهذا البحرِ في غسَقٍ
كمَا رأيتُ جَمالَ اليومِ قد ذابَا

•••

وذلكَ الرَّمْلُ كم حُسْنٍ أطافَ به
وكم غَرَامٍ، وكم وَجْدٍ، وكم صُوَرِ!
كم جلسةٍ ليَ في أفيائِهِ جَمَعَتْ
ما طَافَ في خَلَدي الوهَّابِ للنَّظرِ
وكم نعمتُ قريرًا بالظلامِ كَمَا
نعمتُ في الأفْقِ بالمبثوثِ من شرَرِ٧
مُلكٌ يسُود به الصوفيُّ ما مَلكتْ
حَواسَّهُ لذةُ الإيمانِ والعِبَرِ
وأيُّ دينٍ وإيمانٍ يُقَاسُ بمَا
في ظُلمةِ الليلِ من حُبٍّ ومن خطَرِ؟
والبحرُ يزخَرُ بالأشواقِ ضائعةً
كمَنْ يُنادِي حبيبًا لجَّ في سَفَرِ!
أمَّا أنا فأميرٌ عندَ ساحتهِ
أعانقُ الحسنَ في طَوْعٍ وفي خَفَرِ
ولا أَفوتُ عزيزًا مِنْ مَناهلهِ
ولا صغيرًا، فمَا في الحُسْنِ من صِغَرِ
ولا أملُّ مَذَاقًا مِنْ حَلَاوَتِهِ
ولا شَميمًا من الأندَاءِ والزَّهَرِ
وصدرَها الخافقَ المهتزَّ في جَذلٍ
وجيدَها النَّاعمَ الموحِي إلى صُوَرِي
لكلِّ جُزْءٍ عباداتٌ أُوَزِّعُها
مِنْ لهفةِ الحبِّ لا تَفنَى على السَّهَرِ
والرَّملُ يعجبُ مِنْ نارِي ومِنْ ظمئِي
والنجمُ يضحكُ مني ضحكةَ القدَرِ!
وأحسبُ الحُسْنَ مَعْنًى خالدًا أبدًا
كالحبِّ في الكونِ لا يَفْنَى على العُصُرِ
فيقتلُ الليلُ أحلامِي ويَطْرُدُنَا
ويغتَدِي الشِّعْرُ مَأوًى لي من الذِّكرِ!

غليون الشاعر

(إلى صديقي الشاعر الفنان الدكتور إبراهيم ناجي.)

يا حَبيبِي! إنَّ ما نُهديه أسمَى مِن هديَّهْ
كلُّه لي ذكرياتٌ وأناشيدٌ شجيَّهْ
حبَّذا الغليونُ مِنْ رَمْزٍ إلى الرُّوحِ النديَّهْ
دائمُ النَّفْحِ بأحلامٍ إلى نفسي الشقيَّهْ
رُوحُكَ السمحةُ عندي مِنْ معاني الأبديَّهْ
كلُّ ما تُهدي وما تُنشدُ نجوى قدسيَّهْ!

•••

أُشْعِلُ الغليونَ مِنْ ناري وحيدًا في الظَّلامِ
ناظرًا نحو سماءٍ في ضرامٍ كضرامِي
خَبَّأتْها غيرَ لمْعٍ في نُجومٍ كابتسامِي
حُرقةُ الدُّنيا أَطلَّتْ مِنْ ثُقوبٍ في الغمامِ
كلُّ ما فيها جميلٌ هو قلبٌ في اضطرامِ
وكأنَّ الخالقَ الفنَّانَ يَشْقَى بالتَّسامي!

•••

يا حبيبِي! إنَّ ذاكراكَ بقلبِي في شجُوني
أنا والليلُ غريقانِ بأصداءِ الأنينِ
كلُّ ما في الليلِ يستهوي إلى دُنيا الجنونِ
فإذا لي مَلْجَأ في حبِّكَ الباقي الأمينِ
مُنشدًا مِنْ شعرِكَ العذبِ أفانينَ الفنونِ
شاربًا أنفاسَ غليوني كأنفاسِ الفتُونِ

•••

يا حبيبِي! هذه أمواجُ نفسِي في الهواءْ
كلُّ ما يبدُو دخانٌ حينما يخفَى الرجاءْ
كلُّ أنفاسِي مناجاةٌ، وكم ضاعَ الدُّعَاءْ
هي دُنيا كلُّ ما فيها غبَاءٌ في غباءْ
آهِ لو تُدركُ ما يَعني بنوها الشعراءْ!
آهِ لو تفهمُ مِنْ دقاتِ قلبي ما أشاءْ!

•••

حبذا الغليونُ مِنْ خِلٍّ إذا غابَ الخليلْ
ساهرًا مثلي زميلًا حينما مَلَّ الزميلْ
كأسُه السمُّ كترياقٍ، وكم سُمٍّ جميلْ
هَذِهِ دنيَا بَنُوهَا قد أباحُوا المستحيلْ
جعلوا الحقَّ ضلالًا فإذا الكونُ عليلْ
وإذا بي أشربُ السُّمَّ كسقراط النبيلْ!

•••

أنتَ يا مَنْ كلُّه عَطْفٌ على وَجْدِي الأليمْ
أنتَ يا مَنْ يخلقُ الرحمةَ إنْ مَلَّ الرَّحيمْ
يا صَفِيِّ ومُنَاديني لأجتازَ الجحيمْ
أنا في نَارِي كما قدَّرتَ أمضِي وأهيمْ
وهي لم تخبُ ولن ألقَى سوى وهمِ النَّعِيمْ
مُحْرِقًا نفسِي كهذا النجمِ في الليلِ البهيمْ!

نفرتيتي الجديدة

(إلى الممثلة الفنانة الآنسة أمينة رزق.)

في ذلكَ الأَمْسِ العزيزِ النَّائي
في جيرةِ الأمواهِ والأضواءِ٨
جلستْ مَليكةُ مصر يجبلُ رسمَها
للفنِّ في تمثَالِهَا الوضَّاءِ
مَثَّالُ مصر «تُحتمسُ» الفَنَّانُ في
إبداعهِ، والفَذُّ في الإيحاءِ
ومَضَى الزَّمانُ وما تَكامَلَ صُنْعُهُ
فالفَنُّ عند الحبِّ جِدُّ مُرَائِي
جلسَا وكم جلسَا، فما شبعَ الهوى
منها، وما كمُلَ المِثَالُ لرائِي
وجلستِ أنتِ تُحدِّثين حَديثَها
وتحبِّذين روايتي٩ ورجَائِي
فخشيتُ أنِّي لن أتمَّ نظيمَها
حتى يدومَ لكِ الحديثُ إزائِي!
روحٌ كروحِكِ كلُّها نُبْلٌ فما
خُلِقَتْ لغيرِ الشعرِ والشعراءِ
جُبِلَتْ مِنَ الطُّهرِ الصَّميمِ كأنمَا
جُبِلَتْ مِنَ الأضواءِ والأنداءِ
وتَشَبَّعَتْ برشاقةٍ عُلويَّةٍ
كرشاقةِ النجمِ الحنون النَّائي
وتجمَّلتْ بملاحةٍ مِنْ لونِها
في سُمْرَةٍ كجمالِ هذا الماءِ
ما أنتِ إلَّا رمزُ مصر ونيلها
وجَنَى الفنونِ الحُلوةِ الزهراءِ
فإذا رأيتُكِ تُحفةً قدسيةً
فالفنُّ أولُ مؤمنٍ بندائي!

ديمقراطية الجمال

(في خليج إستانلي)

زعموا الجمالَ تَمنُّعًا وَتحجُّبًا
حين الجمالُ رشاقةُ التَّعبيرِ
لم يَدْرِهِ المتنطِّعون، وإنما
يدريه كلُّ مُغَرِّدٍ بشعوري
يا بنتَ أفروديتَ حُسْنُك ماثلٌ
في جسمكِ المتموِّجِ المسحور
سَحَرَتْهُ أمواجُ الهواءِ وكلُّ ما
حملَ الهواءُ مِنَ النَّدَى والنُّورِ
تمشين عاريةً كأنك شُعْلةٌ
للربِّ تُسْتَوْحَى كوحيِ الطُّورِ
مِنْ كلِّ جُزءٍ نفحةٌ علويةٌ
مشبوبةٌ في قلبِ كلِّ بصيرِ
هي خيرُ ما تَهَبُ الحياةُ لشاعرٍ
إنْ فاتها الموتى ولَحْظُ ضريرِ
يا بنتَ أفروديتَ لا تتهَيَّبي
وخُذِي الحياة مَجَالَ كلِّ حُبورِ
وتَخَطَّري ظِلًّا لنا وأشِعَّةً
ما كنَّ غير عواطفٍ وشُعُورِ
نَهْداكِ أم ساقاكِ ما نطَقَا سوى
بالشعرِ في لُغَةٍ من التصويرِ
مَنْ ذا يحجِّبُ نَبْعَكِ الحُرَّ الذي
وَهَبَتْهُ أفروديتُ للتقديرِ؟
وَهَبَتْهُ كي يَحْيَا ويُعْبَدَ بيننا
جسمًا وروحًا في مِثالِ الحُورِ
أيذُوقُكِ البحرُ الطروبُ مُقبِّلًا
ومُعانقًا في وصلهِ المبرورِ
ونظلُّ نحنُ العابديكِ على أَسًى
ما بين حِرْمَانٍ ويأسِ صخورِ؟!

في حمى الموج

(عند شاطئ إسبورتنج)

تَدَفَّقْ أيُّها الْمَوْجُ الطَّرُوبُ
فلي قَلْبٌ على أَلَمِي يَذوبُ
يَذوبُ من الأسَى الدفَّاقِ حتى
كأنَّ أسَاهُ ما شَكَتِ القلوبُ!
أَعِنِّي مِنْ خريرِكَ فهو طِبٌّ
إذا ما خابَ في الناسِ الطبيبُ
تَحجَّرَ كلُّ مَنْ أرجُو رضَاهُ
فأينَ للوعتي أينَ الحبيبُ؟
تَدَفَّقْ أيها الموجُ المُغَنِّي
فلي مِنْ رُوحِكَ العالي نصيبُ!
أعيشُ ببيئةٍ كالصَّخْرِ موتًا
وكم في الصَّخرِ تحنانٌ عجيبٌ!
أنِسْتُ إلى الجمادِ ففيهِ عطفٌ
ومزَّقني المصاحبُ والقريبُ
وأصبح لي القريبُ قريبَ موجٍ
يداعِبُني، وصادَقَنِي الغَرِيبُ!

•••

ويا هذي الرمالُ وَعَيْتِ نَفْسي
فنفسي شُعْلَةٌ ولها لهيبُ١٠
تكاد النارُ تُلْفَظُ منكِ لفظًا
وتُطْفئُها المياهُ ولا تَغيبُ
أحنُّ إليكِ تَحنانِي لأصلِي
وأَصْلِي فيكِ جذَّابٌ مَهِيبُ
فخلِّيني إذنْ أفنَى وهمِّي
ففيكِ يُبَدَّدُ الرُّوحُ الكئيبُ
وعندكِ يُنْشِدُ المَوْجُ الأَمَانِي
ويَلْتَجِئُ المعذَّبُ والأديبُ

وداع الشاطئ

(في الإسكندرية)

فرغَ التمثيلُ يا قلبِي وقد حَانَ وداعِي
ما مَجَالي الحُسْنِ إلَّا مِنْ تهاويلِ الخداعِ
حظُّها للجهلِ بالحسنِ وللوهمِ المطاعِ
حينما أنتَ غبينٌ في لهيبٍ والتياعِ
أنتَ يا قلبي الذي ما زلتَ في حُبٍّ مُضَاعِ
أنتَ يا مَنْ خفقُه كالوحيِ في هذا الشعاعِ
أنت يا مَنْ يعرفُ الحُسْنَ كحرمانِ الطباعِ
يُحْرَمُ الحسنَ ويُعْطَى كالضَّحايا للسباعِ١١

•••

إيهِ يا قلبي! تأمَّلْ!
هذه دُنيا الصِّراعِ
يُبدعُ الفنَّانُ لكِنْ
هو كالنُّور المُشَاعِ
خاسرٌ مهما تفانَى
في وفاءٍ وابتداعِ
هذه دنيا جُنونٍ
في نزاعٍ وامتناعِ
كلُّ ما فيها غريبٌ
لابسٌ ألفَ قناعِ
وكأن البحرَ لو فتـْ
ـتَشتَ مِنْ وهمِ المَتَاعِ
وكأنَّ الحسنَ لم يُخـ
ـلقْ ولم يجذبْهَ داعِي!

في قطار البحر

(في عودة من الإسكندرية)

ورجعتُ محرومًا كأنِّي لم أزُرْ
وطنَ المفاتنِ والفنونِ الأولى
حكمتْ عليه كِلْيُبَطْرَةُ مثلما
سَحَرتْهُ فتنةُ أفرديت طويلَا
فجلستُ محزونًا كأني راحلٌ
جزَعًا أيمِّمُ عالَمًا مجهولَا
فإذا بأفرديت تَبعثُ سلوةً
لمنايَ مِن وطنِ الجمالِ رسولَا
مَلَكٌ بصورَتِهَا، فأقبَلَ مثلمَا
جاءَ الربيعُ مِن الشتَاءِ بديلَا
جلستْ أمامي في تَوَهُّجِ مَلبسٍ
وبسُمرةٍ تذَرُ المساءَ أصيلَا
جلستْ وفي بَسَمَاتها لغةُ الهوى
والحُسْنِ تأبَى أن تُتَرْجَمَ قِيلَا
جلستْ وقد عرضَتْ نماذجَ حُسْنِها
نورًا وظلًّا بالحنوِّ ظليلَا
وتتابعتْ نظراتُها، وكأنَّما
أوحتْ بها المأمولَ والمجهولَا
حتى إذا طَابَ النُّعاسُ أطاعَها
سَمْحًا وإن كان النعاسُ بخيلَا
نامتْ بأوضاعٍ منوَّعةٍ وقد
تَخذتْ من النومِ الغريبِ زميلَا
فسهرتُ أحرسُها كأنيَ لا أرى
إلَّايَ أوْلى أن يصون جميلَا
فإذا الأنيسُ هو الفقيرُ لسلوتي
وإذا الخيالُ يُذيبهُ تقبيلَا
وإذَا أَنَا أقضِي سعَادةَ رحلَتِي
في الوهمِ لا خلوًا ولا مشغولَا!

في حفلة ذكر

سمعتُ صَدًى كنهيقِ الحميرِ
ولكنَّه آدميُّ المِثالِ
فرُحتُ لأبحثَ عن سرِّه
إلى مَسْجدٍ مُفعَمٍ بالضلالِ
إلى حيثُ ينتفضُ الرَّاقصُون
بملءِ الصفوفِ انتفاضَ الخبالِ
وكلٌّ يدورُ على لولبٍ
وكلٌّ بوصمتهِ لا يُبالي
يَسيل اللعابُ ويَدْوي الصياحُ
وتُلوَى الرقابُ بأيِّ اختيالِ
جُنونٌ وكم في جنونٍ فنونٌ
وكم من وجودٍ شبيهُ المحالِ
فقلتُ: وما ذاكَ؟ قالوا: جَلالٌ
من الذكرِ لله ربِّ الجلالِ
فسبحان ربِّي يُعَدُّ الجنونُ
دُعَاءً له بل أجلَّ ابتهالِ!

الجمال النبيل

ولمْ أرَ في الجمالِ العَذْبِ مَرْأًى
كمَرأَى النُّبْلِ في الجسمِ الجميلِ
رأيتُكِ والحياةُ لديكِ حُلْمٌ
وكمْ في الحُلْمِ مِنْ مَعْنًى نبيلِ
وجسمُكِ شَفَّ لي مَبنًى ومَعنًى
ورُوحًا في تَبسُّمهِ البَليلِ
يلوحُ ندَاهُ بالإشراقِ لُطفًا
كرُوحِ الفَجْرِ في جسمِ الأَصيلِ
ذَرِينِي أرشفُ السَّاعاتِ منهُ
مَعاني الضَّوءِ والظلِّ الظليلِ
فما الدُّنيا سوى نُورٍ وظِلٍّ
وقد خُلِقَا كخلْقِ المستحيلِ
وقَدْ جُمِعَا لديكِ على انسجامٍ
كوقعِ النُّورِ في اللحظِ الكحيلِ
ذَرينِي ناظرًا في غيرِ رُشْدٍ
إليكِ بنظرةِ الرَّاجِي العَليلِ
فكمْ مِنْ نظرةٍ فيها شفاءٌ
وكم سَقَمٍ مِن الحُسْنِ البخيلِ
ذَرينِي فالحياةُ تفيضُ حَولِي
بأصداءِ الجنونِ وبالعويلِ
وتنشدُ غايةَ الثاراتِ عندِي
كأنَّ الثأرَ ردٌّ للجميلِ!
أيسأمُ حسنُكِ الوهَّابُ شَوقِي
ويَنْسَى لهفةَ العمرِ الطويلِ؟
نشأتُ على هَوَاكِ كأنَّ رُوحِي
هَوَاكِ، فيا مُنى رُوحِي أنِيلِي!
أَقِيلِي عثرةَ الظَّامِي، فإنِّي
عَييتُ من الظِّماءِ، ولا تَميلِي
ولا تمضِي جَفاءً أو دلالًا
كَمَا يمضِي العزيزُ عن الذَّليلِ
فأنْتِ أنا بأنفَاسِي ورُوحِي
ولن ينأَى الأصيلُ عنِ الأصيلِ
ولَوْ قَاطعْتِ تقبِيلِي ووَصْلِي
لمَا حُجِّبتِ عن حُلمِي المَثِيلِ!

الينبوع

يا جمالَ النُّورِ في الظلِّ الحَبيبِ
يا جَمَالَ الرُّوحِ في الجسمِ الرطيبِ
هَذِهِ الدُّنيا لأحلامِ الأديبِ
هذِهِ غاياتُ آمالِ الأريبِ!
أيُّهَا الينبوعُ كم ساعٍ إليكَ
يَدَّعي بُغْضًا لما أهوَى لديكَ
كلُّ ما يَرجُوهُ موقوفٌ عليكَ
فَإِذَا الإنعامُ منكَ وإليكَ
أنتَ سِحْرٌ غامضٌ للعالَمِ
أنتَ ينبوعُ الرجاءِ الدائمِ
أنتَ مُوسِيقَى الخُلودِ الباسمِ
أنتَ وَمْضٌ للشَّريدِ الهائمِ!
أيُّها الينبُوعُ يا رمزَ الأبَدْ
يا شُعاعَ اللهِ في طيفِ الجَسَدْ
كَمْ مَعَانٍ فيكَ كادَتْ لا تُحَدّْ
وعَزاءٍ عَنْ حَيَاةٍ تُفْتَقَدْ!
إنَّما أَرنُو إليكَ في خُشُوعِي
مَا ابتسَامِي غيرَ لونٍ مِنْ دُموعِي
أنا لَحْنٌ بين أطيافِ الرَّبيعِ
مِنْ طُيورٍ وغديرٍ وزُرُوعِ!
أَنَا أَحيَا حينَمَا أَجْني رضاكِ
حِينَمَا جسمِي ورُوحِي عَانقَاكْ
حِينمَا لبَّيتُ مَسْحُورًا نِدَاكَ
فَإِذَا بِي لا أرَى العيشَ سِوَاكْ!
كلُّ هَمِّي في حَيَاتِي يَستَحِيلْ
حِينَمَا أَخْشَعُ للفَنِّ الأصِيلْ
حينَمَا أُرْوَى منَ النَّبْعِ النَبِيلْ
ذَاكَ نَبْعُ الحبِّ في الجسمِ الجَمِيلْ!

قبلة الابتسام

وأَتَى الوَدَاعُ فرحتُ ألثمُ راحةً
أَشبَعْتُهَا مِنْ مُهجَتِي تَقبِيلَا
وَتبسَّمتْ فَجَذَبْتُهَا وَوَهبتُهَا
في ثَغرِهَا شغَفًا يَعيشُ طَوِيلَا
فكأنَّمَا قَبَّلْتُ إذْ قَبَّلْتُهَا
مَعْنَى التَّبَسُّمِ حَاليًا ونَبِيلَا
وكَأنَّ رُوحي قد حَكَتْها بسمةً
لمَّا رشَفتُ حُبورَها المبذولَا

التجدُّد

مَنْ كانَ يَشْعُرُ دائمًا بشُعُورِي
في اللَّيْلِ أو في الفَجْرِ أو في النُّورِ
ويُصاحبُ الأجرامَ في حَركَاتِهَا
ويجوزُ عَيشَ الناسِ كالمسحورِ
وَجَدَ التَّجَدُّدَ دائمًا إلْفًا لهُ
في النَّفسِ أو في العالَمِ المعمورِ
ورَأَى الحَياةَ بما تُجدِّدُ دائمًا
أسمَى مِنَ الإفصاحِ والتعبيرِ
تُوحِي وتُوحِي دائمًا، فإذا الذِي
أَوْحَتْهُ بعضُ جديدِها المقدورِ
لو أنصَفَ الشعراءُ ما قَنِعُوا بما
خَلَقُوهُ مِنْ شِعْرٍ ومِنْ تصويرِ
كَمْ في الحَياةِ مُجَدَّدٌ لا يَنتَهِي
ولكمْ حَقِيرٍ وهو غيرُ حَقيرِ
لامُوا شُبوبَ عَواطِفِي وتَخَيُّلي
وتَدَفُّقي بالشِّعر مِلْءَ شُعورِي
وأَنَا الخَجُولُ أمامَ ما أنا ناظرٌ
مِنْ كلِّ مُوحٍ بالغِ التأثيرِ
فيهُزُّنِي هزًّا، ولكنِّي الذِي
مَهمَا أَجَدْتُ أُحِسُّ بالتقصيرِ
وأكَادَ أُوقنُ أنَّ مَنْ هو لائِمِي
إمَّا ضريرٌ أو شبيهُ ضريرِ
إنَّا بكونٍ كلُّه شِعرٌ بلا
حَصْرٍ، وكم مِن عاجزٍ مغرورِ
قد أُفْحِمَ الإنسانُ حين تجاوبَتْ
أمواجُ هذا الماءِ ملءَ خريرِ
وأبيتُ صَمْتي، فالمماتُ متى وَفَى
سَيَفِي ديونَ حديثيَ المَنشورِ
ما أعجبَ البُكمَ الذين استعذَبوا
خَرَسَ القديرِ كهيكلٍ مقبورِ!

زهر الحب

(للفنان الفرنسي هنري مانويل.)

قِفي للحبِّ أنتِ وحَدِّثينَا
حديثَ الزَّهرِ يُشبعنا فُنونَا
حديثٌ كله شَرَكٌ حبيبٌ
نطاوعُه فيقهرُنا فُتونَا
كأنَّ جمالَكِ المعبودَ صَفْوٌ
مِنَ الجنَّاتِ وهَّابًا ضنينَا
تَملَّينا المفاتِنَ منه شتَّى
فأطمعَنا وإنْ كُنَّا كُفِينَا!

•••

عَرَضْتِ لنا تقاسيمَ الجمَالِ
وإشعاعَ الحقيقةِ والخيالِ
تلَأْلَأْ بالهوى القدسيِّ بَيْنَا
تدفَّقَ بالتجاوُبِ لابتهالي
فأبصرتُ النَّجاةَ لكلِّ عانٍ
وذُوِّقْتُ الحنانَ لكلِّ سالِ
وإزهارَ الفنونِ بعصرِ جَدْبٍ
بلا عِوَضٍ، وأحلامَ الأوالي!

•••

تغلغلَ في دمِي وصميمِ نفسي
شُعَاعُ الحُسْنِ ممتزجًا بحسِّي
سواءٌ كنتِ جسمًا أم خيالًا
أثيريًّا تباعَدَ دون لَمْسِي
فإنكِ كالنجومِ تُرَامُ ضُوءًا
وسِرًّا حائرًا وغريبَ هَمْسِ
وما ظَمئِي وما نَظَري إليها
سوى شَغفِ التبتُّلِ والتحسِّي!

•••

وَقَفْتِ وشَعْرُكِ الذهَبيُّ زاهِ
كتاجِ الشمسِ أو كَيَدِ الإلهِ
وجِسْمُكِ كالرسالةِ مِنْ نَبيٍّ
وقد بَلغَتْ قداستُها التناهي
فتحفزُنا إلى أسمَى الأمَانِي
إذا حفزتْ إلى أشهَى التَّلاهي
فواكهُهَا قُطوفٌ دانياتٌ
لإِمتاعِ العواطفِ والشفاهِ

•••

نَعَمْ، مَرْآكِ عنوانُ الحياةِ
يَبُثُّ حنانَها في النَّيراتِ
سواءٌ في نفوسٍ أو نُجومٍ
وفي زَهرِ الرياضِ العاطراتِ
وهل غيرُ الجمالِ حديثُ ربٍّ
ونشوةُ نِعْمةٍ وسُمُوُّ ذاتِ؟
نُقِشْتِ فكنتِ زهرَ الحُبِّ جسمًا
ولكنْ أنتِ رُوحُ الكائناتِ!

من نافذة القطار

هذي الحقولُ تلوحُ لوحةَ راسمٍ
كالصَّحْبِ كلٌّ باسمٌ جذلانَا
فالقطنُ يضحكُ حينما الأُرزُ ازدَهي
نَضِرًا، وداعبَ ثالثٌ إخوانَا
أمَمٌ مِنْ الغرسِ العجيبِ عرضتُها
بَيْنَا القطارُ مسافرٌ لَهْفَانَا
جُمِعَتْ على جدِّ اختلافٍ بينها
والمرءُ يبغض خِلَّه الإنسانَا
وافتْ لتلبيةِ الحياة وقد دعَتْ
إنَّ الحياة تؤلِّفُ الخلانَا
طغَتِ الحضارةُ، والحضارةُ إنْ طَغَتْ
أضْحَى الملَاكُ بروحِها شيطانَا
فالناسُ بين تنابذٍ وتخاذلٍ
يتسابقون إساءةً وطعانَا
في حينِ هذا النبتُ يضحكُ في غنًى
متجاورًا متآلفًا فرحانَا
وبدَا الصغيرُ الجدولُ الجاري كما
تجري الطفولةُ فرحةً وحَنانَا
فغبطتُهُ والحورُ قامتْ حوله
كالأهلِ تحرسُ جسمَه العريانَا
والشمسُ تلثمُه فتحسَبُ أنه
يجري بنورٍ ماؤُه جرَيانَا
وَترى السوائمَ في تحرُّر سرحِها
بين الحقولِ تفوقُنَا إيمانَا
تَمضِي منعَّمةً وتنسَى عيشَها
نسيانَها الإنسانَ والديَّانَا
والناسُ تحرمُها الخلودَ كأنَّما
وُجِدَ الخلودُ لجنسِنا إحسانَا!

•••

ما أعجبَ الخطراتِ تجري حُرَّةً
مثلَ القطارِ تسابقًا ورِهانَا
ولو انَّني سجَّلتُ جُلَّ خواطري
شملتْ بوثبِ جُموحِها الأكوانَا!

طالب القوت

(مهداة إلى زعيم من جبابرة التصنع.)

حييتُ حتى رأيتُ مَجْدًا
يُذالُ، والضَّيْمَ عُدَّ مَجْدَا!
كم بائعٍ رأيَهُ رخيصًا
وأيُّ رَأيٍ يُباعُ نقدَا؟
ومُسْرِفٍ في اكتسَابِ مدحٍ
وعنديَ الألعبانُ أَجْدَى
يُملِّقُ الشَّعْبَ كي يُعَلَّى
ولو هَوَى الشَّعْبُ أو تَردَّى
يهابُ نقدًا لذي أناةٍ
وأيُّ حُرٍّ يهابُ نقدَا؟
ويَزْدَهي في شموخِ وَهْمٍ
وكبرياءٍ لمنْ تَصَدَّى
ويُرْسِلُ الصُّحْفَ لاعناتٍ
مَنْ عَدَّهُ صاحبًا ونِدَّا
أحسنتَ يا طاعني ويا مَنْ
ظننتُه نابغًا وفردَا!
نبغتَ حقدًا أضعافَ ما قد
نبغتَ بين الأنام حَمْدَا!
صنعتَ ما كنتَ تزدريهِ
فبِئسَ ما قد صنعتَ عمدَا
أتشتري الذَّمَّ: ذمَّ مثلي
أنا الذي لا أُسِيءُ وغدَا؟!
أنا الَّذِي أشتَهِي حيَاتِي
تسامُحًا شاملًا ورِفْدَا؟!
أأنتَ في الحقِّ مَنْ يراني
في السِّلمِ مُستَسلِمًا وعبدَا؟!
أأصبح الفضلُ رهنَ حربٍ
وبات صابًا ما كان شهدَا؟!
صدقتَ! ما أنتَ أهلُ لوْمٍ
فطالبُ القوتِ ما تَعَدَّى!

جناية الأجيال

مهما سخطتَ فلا تَجْبُنْ إذا نَظَرَتْ
لك الحياةُ بروح الناقدِ الدَّاري
دُنياكَ هذي كمَلْهًى أنتَ تجهلُهُ
وما خُصِصْتَ به ما بين أدوارِ
قد خُبِّئتْ عَدَسَاتُ الدَّهرِ١٢ في حُجُبٍ
وأنتَ بين خيالاتٍ وأقدارِ
طورًا تمثِّلُ في أمنِ وفي دَعةٍ
وتارةً أنتَ ذاك الماخطُ الزَّارِي
فِلْمُ الحياةِ لكلٍّ فَصلُهُ، وله
نصيبُه بين إكبارٍ وإصغارِ
والخالقُ المُخْرِجُ الرسَّامُ في فَرَحٍ
بما تُمثِّل وهو الناظرُ القارِي!
كأنَّما نحنُ أوهامٌ وَتسليةٌ
تشوقُه بين أطيافٍ وأنوارِ
لا ينتهي ذلك التمثيلُ في صُوَرٍ
وكم يُجَدَّدُ أدهارًا بأدهارِ!

أرفيوس ويورديس

(كان أرفيوس ابن الملك إيجرس — ملك تراقيا — ذا مواهب خارقة في عزفه الموسيقيِّ كأنَّ في لَوْرِهِ صوتَ الأُلوهة، ولا غروَ فقد كان ذلك اللوْرُ منحةً من أبولو — إله الفنون والشعر خاصةً — فاستطاع بقوته الخارقة أن يجتذب معشوقته يورديس الفاتنة من معتصمها الجبلي. ولكنه — ككل فنَّانٍ أصيل — لم يكن راضيًا عن نجاحه الفني، وتطلع إلى أقصى غايات الكمال، فكان يلجأ إلى الغاب يستوحي الطبيعة كلَّ جديدٍ جميلٍ معتمدًا على سمع زوجته يورديس، وعلى ذوقها الفني في نقده، وكانت هي ترى الخطرَ عليها في غيابه، ولكنها لم تشأ تثبيط همته حتى يبلغ مشتهاه الفنيَّ البعيد، إلى أن أحست أخيرًا بالخطر الداهم من شغف الأمير أرستييوس بها فهربت إلى الغاب، وما أحسَّ هذا هروبها حتى أخذ يطاردها، ولكن أفعى عضتها في قدمها أثناء جريها فوقعت ميتة. ورآها أرستييورس على هذه الحالة، فعاد يعضُّ أصابعَ الندم … ثم وُفِّقَ أرفيوس إلى لحن رائع فعاد فرحًا ليعزفه أمام زوجته، فإذا به يجدها شبهَ نائمة في طريقه، فحاول إيقاظها بلحنه الجديد الساحر، ولكنها لم تستيقظ، وحينئذ أدرك أنها ميتة، فهوى يقبِّل جسمها القدسي في جنون من الحزن … ثم شعر أنه لا ملاذ له سوى الالتجاء إلى بلوتو وبرسفون، مليكَيْ مملكة الموت؛ ليرُدَّا إليه حبيبته. فذهب في جنونه، وكلُّ عدَّتهِ لوره وألحانه الساحرة التي تأَثَّر منها الصخر فتفتح لها، كما تأثر منها سربروس حارس مملكة الموت فلم يعترض سلوكه إلى داخلها، وتأثر منها بلوتو وبرسفون — ولكلٍّ منهما صلات سابقة بالأرض وغرامها — واستمعا إلى سؤله، وهو الرجوع بمحبوبته يورديس إلى حياته الأرضية، فأجاباه بشرط ألَّا يحدِّثها، ولا يلتفت إليها حتى يجتاز ظلال مملكة الموت، ولكنه في شغفه نسي هذه النصيحة، فكانت العقبى استحالة محبوبته يورديس إلى خيال أسيف عاتب النظرات وما لبث أن افتقدها … وعاد يحاول مرة أخرى أن ينالها، ولكن على غير جدوى، فخسرها إلى الأبد، وعاش ليذيبَ في الألحان نجوى روحه الحزين.)

•••

عَرَفَ الحياةَ صَبَابَةً ونشيدَا
فمضَى يَبثُّ جمالَها تغريدَا
واستصحبَ اللَّوْرَا١٣ كأنَّ خُيوطَها
تَسْتَنْطِقُ الدنيا هوًى ونشيدَا
لِمَ لا وقد أهْدَى «أبولو» وَحْيَها؟
لِمَ لا وقد جعل الفُتُونَ فريدَا؟
سحرَ الأنامَ بعزفهِ، ولطالما
بالعَزْفِ قد جعلَ الأنامَ عَبيدَا
وأبى الغُرورَ بفَنِّهِ وفُنُونهِ
مُسْتَوْحِيًا فنًّا أجلَّ بعيدَا
فمضَى إلى الغاباتِ يخطفُ وحيَها
نُورًا وظلًّا شائقًا ممدودَا
ويَصوغُه لُغةَ الحنانِ عجيبةً
فينالُ مِنْ إعجَازِهِ التوحيدَا
وتُطيعُهُ المُهَجُ العصيَّةُ بعدما
كانت تعافُ الطوعَ والتقييدَا

•••

ما «أرفيوسُ» سوى الألوهةِ في لُغَى
لِلَّحنِ، واللحنُ الوجودُ الباقي
تمضِي النجومُ به على دَوَرانِهَا
وكأنَّ منه طبيعةَ الخلَّاقِ!
يأبى القناعةَ، فالقناعةُ مَيتةٌ
للفنِّ، بل يَعتزُّ بالإغراقِ
كلُّ الوجودِ مُوَقَّعٌ بجمالِهِ
حتى الهواءُ وخافقُ الأوراقِ
ما في الحَيَاةِ إذا وعيتَ كبيرةٌ
وصغيرةٌ إلَّا بلحنٍ راقِ
اللَّحْنُ أبدَعها وسوف يُميتُها
كتجدُّدِ الأَحلامِ والأشواقِ
مَنْ فاتَه استيعابُها أو فهْمُهَا
بشعُورِهِ المتوثِّب الدَّفَّاقِ
فهو البعيدُ عن الحياةِ وسِرِّهَا
وهو الجديرُ لذاكَ بالإشفاقِ!

•••

نال العزيزةَ «يُورديسَ» بفنِّه
قَبْلًا وكانتْ في مَلَاذِ جِبالِ
أصْغَتْ إلى اللحنِ الشَّهيِّ فصادَها
والفنُّ لا يَرْعَى إباءَ جمالِ
جاءَتْ مِن الجبلِ الأشمِّ مُطيعةً
وهي المِثالُ بحُسنِها المتعالِي
لكنَّه لم يَرْضَ حَتَّى نَصْرَهُ
ولو أنَّهُ قد عُدَّ شبهَ مُحالِ
واشتاقَ أبْعَدَ مِنْ تَخَيُّلِ فنِّهِ
ورَأَى خيالًا فوقَ كُلِّ خيالِ
سحرتْهُ أحلامُ العباقرةِ الأُلَى
خلقوا مثالًا بزَّ كلَّ مثالِ
نشَدَ التَّنَاهِيَ في الجمالِ بفنِّهِ
وأحسَّ نقصًا عند كلِّ كمالِ
ومَضَى يجوب الغابَ يَستَوحِي بهِ
آيَ الفنونِ بروحهِ الجوَّالِ

•••

لم يَدْرِ حين مَضَى مَخَاطِرَ حظِّهِ
وغدَتْ تُحاذِرُ «يورديسُ» هُمُومَهُ
لم تَرْضَ إلَّا أن يُحقِّقَ حُلْمَهُ
في الغابِ حيث رَأَى النَّشيدَ نعيمَهُ
رشفَ النَّدَى والضوءَ والظلَّ الذي
يحنُو عليهِ كأنَّ منْهُ نسيمَهُ
وأحالَ ما يَهوَاه لحنًا معجزًا
والليلُ مُصْغٍ لا يفكُّ نجومَهُ
لكنْ «أرسْتِييُويسُ» لم يرحمْ هَوًى
لهُمَا، وكم فقدَ الغرامُ رحيمَهُ
ورأتْه يُزْمِعُ خطفَها عَمْدًا كَمَا
خَطَفَ الجَرِيحُ المستثَارُ غريمَهُ
رِيعَتْ فلم تَرَ مَلْجَأً لنجاتِهَا
إلَّا الهُرُوبَ وما رأتْ تسلِيمَهُ
ومَضَى يُتابعُهَا فأنقذَهَا الرَّدَى
والموتُ يُنقذ خِلَّه وخصِيمَهُ

•••

سقَطتْ بعضَّةِ أفعوانٍ خاتلِ
في حينِ تهربُ مِنْ مُحِبٍّ خَاتلِ
وأَتَى «أرِسْتِييُوسُ» يَحسبُها هَوتْ
أثرَ العناءِ فذاقَ همَّ القاتلِ
ومَضَى بلَوْعتهِ يَعضُّ بنانَهُ
ويئِنُّ في ألمِ المحبِّ الغافلِ
وكأنَّما قد عادَ عودَ مُقَاتلٍ
ليَرَى الحياةَ بروحِ ألفِ مُقاتلِ
مَهمَا يُكفِّرْ عن ذُنُوبِ عُقُوقِه
مَنْ ذا يردُّ سَنا الجمالِ الزائلِ
ماتتْ فأيتَمتِ النشيدَ فرُوحُها
كانت مَلاذَ مُلحِّنٍ متفائلِ
كانت حبيبةَ «أرفيوسَ» وسمعَهُ
لنشيدِهِ المتطلِّعِ المتسائلِ
واللَّحْنُ إن لم يَلقَ سَمْعًا واعيًا
لغِناهُ ضاع ومات ميتةَ عاطلِ!

•••

سَختِ الطبيعةُ والسخاءُ بذاتِها
لكنَّنا قد لا نرى كلماتِها
فإذا تَفنُّنُ «أرفيوس» مِثالُها
إذْ ضمَّن اللحنَ الجديدَ صفاتِها
بَلغَ الكمالَ به وعاد كأنَّه
غازٍ تُحدِّثُ نارهُ عن ذاتِها
وكأنَّ إكسيرَ الحياةِ بلحنهِ
وضياعُ هذا اللحنِ أصلُ مماتِها
فإذا بجثَّةِ «يُورديس» أمامَه
في الغابِ شبه غريقةٍ بسُباتِها
فأطلَّ من فرحٍ عليها عازفًا
نغماتهِ بل عازفًا نغماتِها
لكنَّها لم تُستَثرْ بنشيدِه
وهوَ الذِي أعطاهُ سحرَ حياتِها
فرأَى المماتَ مُروِّعًا مُتكبِّرًا
فهَوى يودِّع رُوحَه برفاتِها

•••

غلبتْ مَشاعِرَ «أرفيوسَ» شُجونُه
ورأى الحياةَ تُضِلُّه وَتخُونُهُ
فاختارَ مملكةَ الرَّدى لتصونه
ما دامَ مُلْكُ العيشِ ليس يصونُهُ
لمَ لا وفيها «يورديسُ» مقيمةٌ
رهنَ المماتِ كما أقامَ يقينُهُ؟
فمضَى وكلُّ قواهُ حيلةُ عَزْفِهِ
ولعلَّ ما أذكَى قُواه جنونُهُ
فانشقَّ صخرٌ من فتونِ نشيدِهِ
ولكلِّ صخرٍ روحُه وفتونُهُ
وتدفَّقَ النغمُ الحنونُ إلى مَدًى
فأثَارَ رحمةَ «برسفون» فنونُهُ
وإذا «سِرِبْرُوسُ» الرَّقيبُ مخدَّرٌ
وإذا «بلوتو» قد عَداهُ١٤ سكونُهُ
وأهابَ يَنْشُدُ «يُورديسَ» لعيشهِ
والفنُّ كافلُ سُؤلهِ وضمينُهُ

•••

جارَى «بلوتو» «برسفونَ» بمَنحِهِ
أمنيَّةً هي كلُّ غايةِ رُوحِهِ
أمنيةٌ هي بنتُ حُبٍّ رائعٍ
ولطالما عَرَفا الغرامَ بجُرْحِهِ
لكنَّما اشترطَا الصُّمُوتَ بعودهِ
حتى يعودَ من الظلامِ لصُبْحِهِ
فمضَى يُحَاذِرُ مِنْ حَديثِ فؤادهِ
وفؤادُهُ يأبى موانعَ نُصْحِهِ
فأعاد نظرةَ والهٍ متهالِكٍ
متحدِّثٍ بغرامهِ وبلَفْحِهِ
فأضاع منحةَ «يورديس» لعيشِهِ
وغدا خيالًا ما أُنِيلَ بفتحهِ
نظرتْ إليه بكلِّ ما يعني الهوى
مِن عَتْبهِ أو لومهِ أو قدحهِ
واحتالَ ثانيةً بلا جدوَى له
فأذاب في الألحانِ نَجْوَى رُوحهِ!

عاهل العرب

(رثاء الملك العظيم فيصل الأول.)

هكذا هكذا شعوبٌ تُيَتَّمْ!
أيُّها الموتُ ساء غُنْمُكَ مَغْنَمْ!
رُزْؤنا بالعظيمِ «فيصلِ» لا يُحـ
ـصَرُ في الخَطْبِ، إنما الرُّزْءُ أعظمْ
عَلَمٌ كان للعُروبةِ إيما
نًا وذُخْرًا وعِزَّةً تَتجسَّمْ
قد نَمَتْهُ الحروبُ والفتحُ والبأ
سُ كما قد نماه مَجْدٌ تَقَدَّمْ
والصَّريحُ الصَّريحُ مِنْ رُوحِه الحُرَّ
ةِ في بيئةٍ بها الحُرُّ يَنْعَمْ
الزعيمُ الجريءُ، الفاتحُ الغازي
أبو «غازٍ»، المليكُ المكرَّمْ
بَطَلُ الثَّورةِ التي لم تَزَلْ تُحـ
ـكى أعاجيبُها وتُرْوَى بدَمْ
بطَلُ السِّلمِ والمعاركِ، سيَّا
ن بتدبيرهِ الحصيفِ المُقَدَّمْ
جدَّدَ المُلْكَ مِنْ عُلَى آلِ عبَّا
سٍ، وكمْ عاهلٍ ومُلْكٍ تَهَدَّمْ
كم تَرَامَتْ عليه أحداثُ أعدا
ءٍ شِدادٍ وحَزْمُهُ يَتَبَسَّمْ
وتجَنَّى عليه أقصى عَدُوٍّ
فإذا الموتُ — بعدما ماتَ — يُهْزَمْ
وإذا بابنهِ المُرَجَّى المُفَدَّى
يحمل التاجَ في إباءٍ تَجَهَّمْ
وإذا عالَمُ العروبةِ وثَّا
بٌ وَفِيٌّ، وباسمهِ اليومَ أقْسَمْ!

•••

أيُّها الشعبُ يا سليلَ الألى سا
دُوا، وما زال مَجْدُهُمْ يُتَنَسَّمْ
نحن في مصر نَسْمَعُ اللوعةَ الكُبـ
ـرَى لبغدادَ والنُّواحَ المُنَغَّمْ
ذاك شِعْرُ الحياةِ مِنْ رُوحِكَ الحَيِّ
وإنْ كان في رثاءٍ ومَأتَمْ
نَفخَ الرُّوحَ في فؤادِكَ مِنْ قلـ
ـبٍ كبيرٍ على رضاكَ تحَطَّمْ
ماتَ في قمةِ الجبالِ، كما عا
شَ مِثالًا مِن التسامي وَمعْلَمْ
كالشهيدِ الذي تكفَّلَ بالرا
يةِ في الغَزْوِ فوقَ حِصْنٍ مُيمَّمْ
يخطفُ النَّصْرَ بالدهاءِ ويَمْضِي
طائرًا جارحًا إذا النَّسْرُ هَوَّمْ
إنْ بَكَاهُ العِراقُ، أو أجفل النهـ
ـرُ، وسيفٌ بغمدهِ يَتضرَّمْ
فالأنينُ الأنينُ أصداؤه شَتـ
ـى عميمٌ، وقَلَّ خطبٌ يُعَمَّمْ
وقليلٌ مَنْ سادَ في الناسِ للنا
سِ، ومَنْ عَلَّمَ الورى وتعلَّمْ
وقليلٌ مَنْ عاشَ في الشعبِ للشعـ
ـبِ زعيمًا بعِبئهِ وتألَّمْ

•••

ذاك شِعري مِنْ نارِ نفسي التي ثا
رتْ ونامتْ فكدتُ لا أتكلَّمْ
هو نفسي، تسيرُ في موكبِ الغا
زي وقد عادَ كالكميِّ الملثَّمْ!

من القلب

عابوا تَفَنُّنَ ريشتي، وكأنَّما
نطقتْ بأصباغِ الخيالِ الكاذبِ
ولو انَّهم وهبوا «الطبيعةَ» نظرةً
صدَقَتْ لما عابوا فُنونَ عجائبي!
الخالقُ الرسَّامُ لم يحفِلْ بهم
في ألفِ لَونٍ مِنْ غريبِ خيالهِ
يرنو إليها الملهمون فينْتَشِي
كلٌّ بروحِ جمالهِ وجَلالهِ
هذي «الطبيعةُ» مُوْئلي ومُعلِّمي
وأنا الأَبَرُّ برُوحِهَا الفنَّان
أنطقتُ لَوْحاتي بروح حنانِها
ومَزَجْتُ مِن ألوانِها ألواني
والآنَ قد مَضَتِ السنُونَ وأثقلتْ
عبئي وناءَ به فؤادِي الباكي
وأنا أحارَبُ في صميم تَفَوُّقي
حتى أطيعَ الببَّغاءَ الحاكي
مَضَتِ السنُونَ وقد شَقيتُ وهدَّمَتْ
تلك السنونَ مِنَ الكفاحِ قُوايَا
فإذا نُصِفْتُ١٥ فكم جُهودٍ ضُيِّعَتْ
وكأنَّ إنصافي يقول رِثايَا
إني أسيرُ كأنما مِنْ مَلبسي
كفني، وإنْ أكُ في إباءِ حَيَاتي
هذا هو الموتُ الأليمُ، ومَنْ يَعِشْ
بين القبورِ يُعَدُّ في الأمواتِ

•••

وطني! إلامَ النابغون على الأذى
يفنون حين تنام أنتَ هينئَا؟!
حتى إذا شربوا العذابَ وكُفِّنوا
أرسلتَ دمعكَ راثيًا وبريئَا؟!
يا هولَ ما تجني، فكم مِنْ ثروةٍ
ضَيَّعتَها، ولكم قتلتَ حبيبَا
العبقريةُ رأسُ مالِكَ وحدَها
فعلامَ تَلْقَى الذُّلَّ والتخريبَا؟

الحج الأخير

(أهداها الشاعر إلى صديقيه الأديبين علي محمد البحراوي، وأحمد علي عوض عضوي «جماعة الأدب المصري» بالإسكندرية.)

إلى العَلِيَّيْنِ مِنْ نُبلٍ ومِنْ أدَبِ
إلى الحبيبَيْنِ في جدٍّ وفي طربِ
أهدي تحياتِ مشتاقٍ ومغتربِ
عن مَنْبَعِ الحسنِ أو عن منبعِ الأدبِ

•••

أهدي تحياتِ رُوحي فهْيَ ما برِحتْ
رهنَ المحبةِ إنْ ناحتْ وإنْ فرِحتْ
وأنتما في أمانٍ طالما مَرحتْ
يا للأماني التي تلهُو وقد جرحتْ!

•••

الصيفُ وَلَّى وكم للصيفِ مِنْ نِعَمِ
في هَدأةِ البحرِ أو في ثورةِ النَّغَمِ
وكم عبدنا معاني الحسنِ عن أَمَمِ
فجدَّدَ الحسنُ ألوانًا من الألَمِ

•••

والآن تفرضُ حَجِّي فرضَ توديعي
هذي الحياةُ وتَحنَانِي وترجِيعِي
كم عشتُ ما بين تشويقٍ وترويعِ
رهنَ الجمالِ، فهل يُعنى بتوديعي؟!

•••

يا صاحبيَّ وفُودي موشِكٌ دانِ
فهيِّئا لي رجاءً عند ديَّاني
وَهبتُ رُوحي وأطيَافِي وألحَانِي
إلى الجمالِ، فهل ما زال يَنسَانِي؟

•••

إنْ لم يَزَلْ بفنونِ اللهوِ مسحورَا
ولم يزل بغرورِ الحظِّ مغمورَا
فالبحرُ يزخرُ بالسلوانِ موفورَا
وسوف أرجعُ مدحورًا ومسرورَا!

العودة

(نُظِمت في قطار البحر في صحبة الدكتور زكي مبارك مساء ١٧ سبتمبر سنة ١٩٣٣.)

وداعًا للرمالِ وللمغَاني
وداعًا للمِلاحةِ يا صديقي!
أتذكرُ كيف كان الموجُ يجري
كما يجري الشقيقُ إلى الشقيقِ؟
وقفنا في جوارِ اليمِّ سَكرَى
كسكر الناظرينَ إلى الرحيقِ
نرى في البرِّ ألوانَ التناجي
وفي البحرِ المُشارفِ والعميقِ
كأنَّ الحُسْنَ ذاب بكلِّ لونٍ
نراه وفي المياهِ وفي الطريقِ
سكرنا سكرةَ الحرمانِ حتى
كلانا كالأسيرِ وكالطليقِ
وهذا الجوُّ يملؤُه حنانٌ
ولو أن الغروبَ مِن الحريقِ
وأُبنا أوبةَ المهزومِ لكنْ
بنا طربٌ من الأدبِ الحقيقي!

•••

وحين مضى القطارُ يقلُّ وجدي
ووجدَكَ كالرفيقِ من الرفيقِ
رأينا الحسنَ وثَّابًا جريئًا
يحاصرُنا كأحلامِ العشيقِ
فعوَّضنا مِن التبريحِ صفوًا
ومِن صُوَرِ الخشونةِ بالرقيقِ
وأضحكنا مِن السَّفْرِ الموافي
بألوانِ الأثاثِ وبالزعيقِ
رَمَوْه خنادقًا وقلاعَ حَرْبٍ
فصار مَدَى الطريقِ من المضيقِ
وذا طَسْتُ الغسيلِ يُدَاسُ حتى
يزمجرَ بالرعودِ وبالبريقِ
وتمضي الغانياتُ على تَثنٍّ
تَثنِّي النُّورِ في الجوِّ الصفيقِ
فسبحانَ المكافئ والمعزِّي
وما أدنى الرجاءَ بكلِّ ضيقِ!
لقد عُدنا بقهقهةٍ وأنسٍ
وأحلامِ الرَّشاقةِ والرشيقِ!
أبو شادي

(رد الدكتور زكي مبارك بعد شهر من ذلك التاريخ.)

أبا شادي، وأنت فتًى طَروبٌ
أسيرُ العينِ في قلبٍ طليقِ
تُذكِّرنِي؟ وهل أُنْسِيتُ يومًا
جَمالَ اسكندريةَ يا صديقي؟
وكيف؟ وفوقَ شاطئِها المفدَّى
يحومُ القلبُ مَوصولَ الخُفوقِ

•••

رعاه الحبُّ مِن شطٍّ جميلٍ
خفيفِ الروحِ مصقولٍ أنيقِ
بهيِّ الرملِ تحسبُهُ سُجُوفَا
مُطرَّزَةً بحبَّاتِ العقيقِ
أطوفُ به فيغلبُني خشُوعِي
كأني طُفتُ بالبيتِ العتيقِ

•••

أيا حَرَمَ الظباءِ أَنرتَ رُوحي
بمشكاةٍ من الحسنِ الرفيقِ
يراكَ الأكمهون حِمًى مُبَاحًا
يذكِّرهم بأسواقِ الرقيقِ
ولو كُشِفَتْ غِشاوتُهم لقالوا
صبايا الخُلْدِ تَسبح في الرحيقِ!

•••

رَجَعْتُ إلى الشواطئِ بعد شهرٍ
أَشُقُّ إلى الملاحِ بها طريقي
فألفيتُ الخريفَ جنى عليها
جِنايتَهُ على الدَّوحِ الوريقِ
وعُدْتُ مروَّعَ الأحلامِ أشكو
— ولمَّا أصْحُ — صَرْعَاتِ المُفيقِ
زكي مبارك

في سفر

غلبَ السُّرورُ على السرورِ تجاوُبًا
كتمازجِ البسماتِ بالبسماتِ
دنيا الوصالِ ولا وصالَ سوى المنى
وتعانقِ الخطَراتِ والنظراتِ
سَفرٌ يطول، وإنما في طولهِ
قِصَرٌ من الإيناسِ والحسناتِ
لو أنَّ عيشي مِثلُ هذي سَفْرةً
لعددتُ مِن صُوَرِ النعيمِ حياتي

عيدان

(رُفعت إلى صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول لمناسبة عيد جلوسه في ٩ أكتوبر سنة ١٩٣٣.)

مولايَ عيدُك عيدُ مصرَ الباني
صَرْحًا مِن الإيمانِ ليس بفانِ
عِيدٌ تجيشُ به الخوطرُ في مَدًى
كالبحرِ: بين تَوَثُّبٍ وتَفانِ
حاولتُ أُخفي ما ارتضتْهُ خواطري
لكنْ تغلَّبَ باليقينِ بياني
وتَدَفَّقَ الشِّعرُ الذي هو مُهْجَتي
فانسابَ مِنْ رُوحي ومِنْ إنساني!

•••

مولايَ! ما مَدْحُ المُلوكِ سجيَّتي
لكنَّ مَدْحِيَ للعظيمِ الباني
ورأيتُ مِصرَ تلفتتْ لكَ بعدما
عانتْ من الأخصامِ والأخدانِ
مُنِيَتْ بأحزابٍ تُعَدُّ، وكلُّها
يومَ البطولةِ ليس في الحُسْبانِ
لا تستفيد مِن الصُّروفِ كأنما
تحيا على كرةٍ بلا دوَران
وطنُ الخلودِ بكل ما يحوِي الثرى
تَركتْهُ في حُكمِ الجريحِ الفاني
يا ليتَ صائمةَ السيوفِ تذوَّقتْ
مِن هذه الأحزابِ دونَ توانِ
أودتْ بحقِّ الجيلِ بين تناطُحٍ
وتحاكمتْ للهوِ والبهتانِ
والنيلُ محمرٌّ بخجلةِ مُحْسِنٍ
في الوالدينَ أُسِيءَ للإحسانِ
وإذا الزعامةُ في البلادِ مَهازلٌ
مِنْ بَعْدِ ما كانتْ رُموزَ أماني!

•••

مولايَ! رأيُكَ ثم حُكمكَ للحِمَى
في هذه الأزماتِ يلتقيانِ
ما شئتَ مُرْ مِنْ تضحياتٍ جَمَّةٍ
لجلالِ مصرَ يُضَحِّ كلُّ جبانِ
إنَّ الشجاعةَ في النُّفوسِ، وإنما
خذلَ الشجاعةَ خاذلو الأوطانِ
الشَّعْبُ أنَّ بما يعاني ريفُه
وكأنه قفرٌ بلا سكانِ
والعابثون الصَّائحون تنعَّمُوا
وكأنَّ هذا الريفَ ليس يُعاني
والزارعون المحسنون تمرَّغُوا
في التربِ كالموتى بلا أكفانِ
حتى أتى العيدُ الجليلُ فأمَّلوا
وإذا حنانُك أنتَ عُمْرٌ ثانِ!١٦

•••

مولايَ! نَصْرُ الشَّعْب غضْبةُ عاهلٍ
يُسميه فوقَ مراتبِ الإمكانِ
يُحيي المواتَ بحذقهِ وبحزمهِ
وبروحهِ المتأجِّجِ المتفاني
يأبى سبيلَ الظلم، لكنْ لا يني
في سحقِ كلِّ مغرَّرٍ أو جانِ
ولقد رفعتُ إليكَ وحيَ عقيدتي
فإذا بعيدِكَ للمنى عيدانِ!

لهو القدر

كم يَعبثُ القَدَرُ العَتِيُّ، وكم لَهُ
لَهْوٌ مِنَ «الأبطال» و«الأَبْدَالِ»١٧
يَدَعُ الحقيرَ يَلُوحُ أعظمَ فاتحٍ
وسِوَاهُ قامَ بدورهِ المُتَعَالِي
فترَى البُطولةَ أُرخِصَتْ أو ضُيِّعَتْ
ما أشبهَ الأبدالَ بالأَبطالِ!
يَمْضي المخاطرُ للفنَاءِ وغيرهُ
تُعزَى إليه عجائبُ الأَجيالِ
يا أرضُ! أَنْبَتِّ المماتَ خديعةً
فإذا الحياةُ تُعَدُّ شبهَ مُحَالِ
أين الجريءُ الأَلمَعيُّ؟ وأينَ مَنْ
يُحْيي مواتَ الناسِ دونَ ضلالِ؟
يمضي الضحية حين يحيا غيرُهُ
في ذروةِ الإسعادِ والإقبالِ
ويُصفِّقُ المتفرِّجون وكلهم
مَيْتٌ كتصفيقِ المكانِ الخالي
فإذا المواهبُ كالعثيرِ كريهةٌ
وإذا العليمُ مطيَّةُ الجهالِ

في العواصف

(إلى الحبيب الغائب في الإسكندرية.)

قد طال بُعْدُكَ يا حبيبي! لم يَعُدْ للصَّيفِ صائفْ!
أنا في بعادِكَ كالمُسخَّرِ للوساوسِ والمخاوفْ
لم يَبْقَ إلَّا أن تُطِلَّ على المياهِ وأن تُشارِفْ
تتلو صحائفَها، وكم حَوَتِ الأَسَى تلك الصحائفْ
كم في اصطخابِ الموجِ مِنْ صَخبِ المشاعرِ والعواطفْ
كم فيه غَرْقَى للأَماني أو ضحايا للعَوَارِفْ
انْظُرْ! تأمَّلْ يا حبيبي! إنَّ رُوحي ثَمَّ طائفْ
يهفو إليكَ وليس يَعرف أين أنتَ ولستَ عارفْ!
أنا في بعادِكَ لستُ أدري مَنْ أُحِبُّ ومَنْ أُخالفْ
حتى الطبيعة خاصمتْني وهي مَلجأ كلِّ خائفْ!
حتَّامَ تنأى يا حبيبي والحنينُ لديكَ هاتفْ؟
أنا كاليتيمِ: يتيم روحي بعد حُسنِكَ في العواصفْ!

الحزن الوديع

تأمَّلتُها بفؤادي الحزينْ
فألفيتُها مثلَ حظِّي الغبينْ
تطوف عليها أماني السنينْ
ولكنها في سُرورِ الحزينْ
سرورِ الوداعةِ للمستهينْ
إذا ابتسمتْ فابتسامُ الرَّبيعْ
بكى في سُرورٍ وحُزنٍ وديعْ
بكى والشتاءُ قتيلٌ صريعْ
وقد مُزِجَتْ بالأغاني الدُّمُوعْ
فصار المشوِّقُ مثلَ المَروعْ
تأمَّلْتُها وهي بنتُ النعيمْ
كأنَّ النعيمَ قرينُ الجحيمْ
كأنَّ المتاعَ بقايا الهشيمْ
فتنظر عن لوعةٍ تستقيمْ
وهذا الوجود الوَدُود اللئيمْ
أللحُكمِ نظرتُكِ الشاعرهْ؟
أللشعرِ بسمتُك الآسِرَهْ؟
أللحزنِ هذي المُنى القاهرهْ؟
لقد زدتِ همِّيَ يا ساحرَهْ
وحَبَّبْتِ لي الحسرةَ الناضرَهْ!

اللحود

بَنِي مصر أينَ النُّبْلُ فيكم وأنتمو
سلالةُ شَعْبٍ أَمْسُهُ النُّبْلُ والمجدُ
لقد علَّمَ الدنيا الحضارةَ حينما
تَمشَّى بها ليلٌ من الجهلِ مُنْأدُّ١٨
أأصبحتُمو حتى تراث جُدودكم
تعافون؟! بئسَ المجدُ هذا أو السعدُ!
أروني أروني مِنْ مَتانةِ خُلقكم
بروقًا إذا ما جلجلَ القاصفُ الرَّعْدُ
أروني جمالًا للتسامحِ رائعًا
يَرُدُّ حقوقَ الشعب إن عثر الجدُّ
يقضقض أحداثَ الزَّمانِ ويعتلي
بكم كلما همَّ التنابذُ والحقدُ
بَني مصر كونوا السيفَ للمجد مُصْلَتًا
فأنتم بهذا الموتِ موتكمو الغِمْدُ
حرامٌ حرامٌ أن تُوارَى عظائمٌ
بغفلتكم قبلًا وسقطتكم بَعْدُ
سئمنا الوصوليين في كل مَضربٍ
وكلٌّ بخذلانِ المكارمِ يعتدُّ
كنوزٌ بوادي النيل أَوْلى بملكها
مِن الناس شعبٌ لا ينام ويرتدُّ
غيورٌ على أن يرفع الجمعُ فردَهُ
وأن يرفعَ الجمعَ العزيزَ به الفردُ
حريصٌ على دينِ الأخوَّةِ، جَوُّهُ
تنفَّسَ فيهِ الصدقُ جذلانَ والودُّ
وإلَّا فخلوا مصرَ تحيا بأهلها
فلستم لها أهلًا وإنْ عظمَ العَدُّ
ولكنَّ أهليها لُحودٌ عزيزةٌ
ومِن كلِّ لحدٍ يشرقُ النبلُ والمجدُ!

المهزلة

وَيْلي من الدَّهْرِ! يُبكيني ويَبتسمُ
ولا يَردُّ عوادي جَوْرِهِ السَّقَمُ
قد عَدَّ شرَّ ذُنوبي ما يَفيضُ به
قلبي إلى النَّاسِ مِنْ حُبٍّ ويزدحمُ
وَيْلي من الدَّهرِ! وَيْلي! مَنْ أقرَّ له
هذا العُتُوَّ؟ وهل في الحُبِّ مُتَّهَمُ؟
أطلَّ دمعي وماءُ العينِ مضطرمٌ
وهاجَ وجدِي وسُخطُ القلبِ محتدمُ
أنا الذي في شكَاتي يزأَرُ الشَّمَمُ
وفي بُكائِي ونَارِي يُهْزَمُ الأَلمُ!
سَخرتُ مِنْ بيئتي لمَّا برمتُ بها
ونُحْتُ لكنْ نواحي كلُّه كَرَمُ!
لستُ الذي إنْ تَغَالى في محبَّتهِ
فساءَهُ الدَّهرُ عُمْرًا ناله النَّدَمُ
لن يُنْصَرَ الحقُّ إلَّا في مصارحَةٍ
ولن تعيشَ على علَّاتها الأُمَمُ
أنا ابنُ مصر، فما لي لا أقرِّعها؟
هي الطفولةُ حاكى حالَها الهَرَمُ!
هرمتِ يا مصرُ لا عن أعصرٍ درجتْ
لكنَّ قَفْرَكِ فيهِ يسكن العَدَمُ
الخصبُ وارتْه أخْلاقٌ مُدَنَّسَةٌ
والشَّيْبُ أدناه ما دانتْ له الهِمَمُ
دانتْ وضاعتْ فلا المغبونُ مُنتصَفٌ
له بغبْنٍ، ولا المأفونُ مُتَّهَمُ
إذا استوَى النَّاسُ في فضلٍ ومَنقصةٍ
فقد تساوى البيانُ العَذْبُ والبَكمُ!
وهازلٍ جعلَ الأحلامَ مَهزلةً
يَلْهُو فتَعْنُو له الأخلاقُ والذِّمَمُ
أراد جُرحي وكم أسلفتُه مِنَني
وكلُّ جُرْحٍ لمثلي سوف يلتئمُ!
فلم أذُدْ عن فؤادي طعنَ ضربتهِ
حتى يُطهَّرَ مِنْ ودٍّ حَوَاهُ دَمُ!
إنَّا لفي زَمَنٍ فازَ اللئيمُ به
وما لغيرِ رضاهُ مِسْمَعٌ وفمُ!
لولا ضآلةُ مَنْ ضجُّوا ومَنْ صخبُوا
ما عاث فينا سفيهٌ أو هَوَى عَلَمُ
أَعْزِزْ عليَّ بأن ألقى كرامَتَهم
وَهْمًا، وقد صغروا شأنًا كما وَهَمُوا
مَنْ لم يصونوا بأيديهم كرامتَهمْ
فليسَ يُجدِيهمُو سَمْعٌ ولا صَمَمُ
هانَ الرجالُ، وسادَ الساخرون بهم
لولا التَهيُّبُ ما هانوا ولا انهزَمُوا
وعشتُ في عُزلتي الموفورَ في شَرَفي
أبكي وأضحكُ والأحداثُ تلتطمُ!

هرقل وديانيرة

figure
هرقل وديانيرة.

(كان هرقلُ مَضربَ المثلِ في البأس، وكان كثيرَ العشق كثيرَ التقلُّب، وكانت مليكة حبه أخيرًا الفاتنة ديانيرة التي عشقها قبله أَخِلوس أحد آلهة الأنهار، وكان أخلوس إلهًا قويًّا واسع الحيلة، فحاول التغلُّب على منافسه هرقل إذ كان أخلوس يتشكل بصور شتَّى ليفاجئ هرقل منافسه ويصرعه وهو بعيدٌ عن الحيطة والحذر. فكان هرقلُ يتغلَّب عليه دائمًا بالرغم من مفاجآته، وكانت آخر صورة له ظهوره في مظهر ثور قوي غلَّاب، ولكن هرقل تمكن من مغالبته، وإحراز نصره الأخير عليه إذْ انتزع أحدَ قرنيه، فقدمه قربانًا إلى ديانيرة، وأقيمت بمناسبة ذلك حفلةُ عرسهما. وكثيرًا ما كان هرقل ينسى بأسه وقوته، فحدث في حفلة العُرس أن غضب على أحد الخدم لسوء تصرُّفه فضربه ضربةً أفضت إلى موته، بينما لم يكن يعني سوى نهره … وجاءت الآلهة تحاكم هرقل فحكمت بنفيه، ولكن عزَّاه أنه سيصطحب معه ديانيرة.)

سار هرقل وديانيرة إلى منفاهما، وفي الطريق اعترضهما نهرٌ عظيمٌ، وقد بحثا عند شاطئه عن وسيلة لعبوره فلم يوفَّقا، وأخيرًا وَجَدَا إفينس، ذلك الجواد العجيب الإنسي الصورة الممتلئ حكمةً وعاطفةً، وقد أحبَّ العزلة، فواجهاه وسألاه المعاونة لاجتياز النهر، فلبَّى عن طيب خاطر وبدأ بنقل ديانيرة. ولكنْ هرقل لحظ تباطُؤَه فقدَّر سرَّ ذلك وهو شغف إفينس بديانيرة، وعزَّز ذلك صياحُها حينما اقتربا من الشاطئ الآخر، فأسرع هرقل وسدَّد إلى إفينس سهمًا أصماه، ولكن قبل وفاته أدرك بها الشاطئ، وحينئذ صرَّح لها بأنه يموت شهيدَ حُبِّها، ثم خضب رداءَها بدمه، وقال لها إن هرقل كثيرَ الملال والتقلب، وسيأتي يومٌ قريبٌ يعطي فؤادَه إلى غيرها، وحينئذ عليها أن تهدي إليه هذا الرداء الخضيب فتجتذب قلبه ثانية، ثم مات …

وأدركها هرقلُ أخيرًا فإذا به يجد إفينس ميتًا، ورأى في سلامتها حياةً جديدة له، ولكنهما لم ينعما طويلًا بحياتهما الغرامية إذ قَضَى تقلُّب هرقل بأن يهجر ديانيرة، ويحبَّ بدلها أيول الجميلة، فأحزن ذلك ديانيرة حزنًا عظيمًا، ولكنها تذكرت الرداء الخضيب فأرسلته إلى هرقل، وكان مع أيول حينئذ، فضحكا من هذه الهدية التي أرسلتها ديانيرة الغبية في عُرفهما، وألقى هرقل بالرداء على كتفه فسقط ميتًا …!

ولما أتى ديانيرة النعي الأليم بكت بدموع البريئة الأثيمة وهي في أشدِّ الندم والحيرة لا تدري كيف مات هرقل، وما مبلغ نصيبها ونصيب الرداء الخضيب في موته، وأي سرٍّ في ذلك، ولبثت تشتهي الموت منقذًا لها من حزنها العظيم، ولبثتْ تسأل الآلهة، ولكن الآلهة أبتْ أن تجيب …

•••

«هرقلُ» وكمْ لهرقل العظيمْ
وقَائِعُ تُنْسِي فخارَ القديمْ
وقائعُ في بأسِهِ لا تُحَدُّ
وفي عِشْقِهِ دائمًا لا تُعَدُّ
«هرقلُ» على بأسهِ صار يَنْسَى
مَدَى بأسهِ، وكذا البأسُ يَنْسَى
ففي ساعةِ الحَظِّ مِنْ عُرْسهِ
وقد جُمِعَ الصَّفْوُ في أُنْسِهِ
أصاب بضربتهِ خادمَهْ
جزاءَ تصاريفهِ الغاشمهْ
وما كان يَعْنِي سوى نَهْرهِ
فراحَ الشهيدَ إلى قبرهِ

•••

وجاءتْ تحاكمهُ الآلهَهْ
ولكنْ على أسَفٍ والههْ
فكان له النَّفْيُ منها الجزاءْ
وفي النفي مَعْنًى كمعنى الفناءْ
ولكنْ أباحتْ له زوجتَهْ
رفيقًا، فألْفى بها رحمتَهْ

•••

وكانتْ «ديانيرةُ» الغاليهْ
جَمَالًا تجَسَّمَ في غانيهْ
تشوق مَفَاتِنُهَا الآلههْ
بروعتها الحلوةِ النابههْ
فَجُنَّ بها «أخِلوسُ» الجليلْ
وكان إلهًا لنهرٍ جميلْ
وحاولَ في ألفِ لونِ وحيلَهْ
يخادعُها لتكونَ الخليلهْ
وكم مرةٍ راحَ يَسْعَى ليُرْدِي
«هرقلَ» فلم يزدجرْ عند حَدِّ
«هرقلُ» العزيزُ القويُّ الحبيبْ
«هرقلُ» المذلُّ القُوَى والقلوبْ
إلى أن بدا مثلَ ثوْرٍ عنيدْ
يروِّع حتى «هرقل» الشَّدِيدْ
ولكن «هِرَقْلُ» الجريء القوي
تغلَّبَ مثلَ الأَتِيِّ العَتِي
تَغَلَّبَ مُنْتَزِعًا قرنَهُ
فأفقده أبدًا فنَّهُ
وكان له تحفةً يومَ عُرْسِهْ
ولكنما العُرْسُ أفضَى لبؤسِه
وإنْ كانَ قد غنمَ الفاتنهْ
وصارتْ بها نفسُه آمنَهْ

•••

إلى النَّفيِ قد أزمعَ العاشقانْ
فسارَا بروحِ الشجاعِ الجبانْ
وللحبِّ معنى يبزُّ المعَاني
وهل يشملُ الحبُّ إلَّا التفاني؟
فكلُّ عسيرٍ لديهِ يسيرْ
وساوَى الخطيرُ لديهِ الحقيرْ
وجاءَا بسيرِهِما عند نهرِ
كثيرِ المخاطرِ بالموتِ يَجْرِي
ولم يجِدَا قاربًا للعبورْ
وقد سخط الموجُ سخطَ الدُّهورْ
وبينا هُما في هُمومٍ ويأسِ
تراءَى جوادٌ شبيهٌ بإنسِي
وما هو إلَّا الشريدُ الحكيمْ
على عُزلةٍ هي سِرُّ النعيمْ
تَخَلَّى عن الناسِ مستوعبَا
حياةَ التأمُّلِ مستعذِبَا
وكم فيهِ مِنْ حكمةٍ للألوهَهْ
ومِن ضعف دُنْيَا الأنامِ السفيهَهْ
فجاءَا إليه لكيْ يَسألاهْ
مُعاونةً في عُبورِ المياهْ
فرحَّبَ بالعونِ في مقدرَهْ
وأظهرَ نخوتَه الخَيِّرَهْ
وأعطى «ديانيرةً» أوَّلَا
عنايتَه لامحًا مَأمَلا
ولكنْ «هرقلُ» رأى عَبْرَهُ
بطيئًا، فألهمَه سِرَّهُ
وعزَّزَ هذا صياحُ الفتاهْ
وقد أوشكتْ أن تجوزَ المياهْ
فأصْمَى «هِرَقلُ» بسهمٍ مصيبْ
«إفينسَ» ذاك الجوادَ العجيبْ
ولكنْ «إفينسُ» رغمَ الإصابَهْ
تمكن مِنْ أن يؤدِّي حسابَهْ
وقبلَ المماتِ هوى في وفاءْ
وخضَّبَ بالدم طرفَ الرداءْ
وقال لها: أنا رمزُ الغرامْ
أموتُ شهيدًا أُحيِّي الحِمامْ
أموتُ وأعطيكِ سِرِّي العظيمْ
بروحِ المحبِّ البخيلِ الكريمْ
إذا حانَ يومٌ وأَعْطَى «هرقلُ»
سواكِ فؤادًا له كم يملُّ
فأعطِيه أنتِ الرداءَ الخضيبْ
يعودُ إليكِ الوفيَّ الحبيبْ
فإنَّ دمي مِنْ صميمِ الغرامْ
يعيشُ ولو ذاقَ جسمي الحِمَامْ!
وماتَ ضحيةَ هذَا الهَوَى
ومَنْ ذا الذي خَافَهُ وارعوَى؟
ولمَّا استطاع عُبورَ المياهْ
«هرقلُ» رآها جديدَ الحيَاه!

•••

وما مَرَّ عهدٌ سعيدٌ طويلْ
على نَشْوَةٍ في الغرامِ الظليلْ
فإنَّ جُموحَ «هرقل» الغريرْ
مَضَى بالنعيمِ العزيزِ القصيرْ
وخلَّفَها في أسًى واغترابْ
تنوحُ على قلبِهَا والشَّبابْ
وحينئذٍ ذكرتْ كنزَها
وقد لمحتْ إثْرَهُ عِزَّهَا
فأهدتْ إليه الرداءَ الخضيبْ
هديةَ قلبٍ يُناجي الحبيبْ
وكان «هرقلُ» طرُوبًا يغنِّي
«أيولَ» الهَوَى وأحبَّ التَّغنِّي
وقد هَزِئَا بالرداءِ الهديَّهْ
لعُرسهما مِن فتاةٍ غبيَّهْ
فألقى «هرقلُ» به فوق كتْفِهْ
فكان الرداءُ كسهمٍ لحتفِهْ!

•••

ولمَّا أتاهَا النَّعِيُّ الأليمْ
بَكتْ بدموعِ البريءِ الأثيمْ
بكتْه «ديانيرةُ» النادمهْ
وناحتْ لآلهةٍ ظالمهْ
وحارتْ وثارتْ تودُّ المماتْ
فليسَ سواهُ كريمُ الصفاتْ
وليس سواه طبيبٌ يُرَامْ
إذا خذلَ الدهرُ أهلَ الغرامْ
ولم تدرِ هل خُدِعَتْ أم أُصيبْ
«هرقلُ» بموتٍ خفيٍّ غريبْ
وكم سألتْ في الأسى والهَهْ
فصَمَّتْ ولم تَنْبِسِ الآلهَهْ!

خذ يا فؤادي!

خُذْ يا فُؤادي قبل أن يستيقظَ الدَّهرُ العنيدْ
خُذْ ما تيسَّر مِنْ نعيمٍ لا يُحلَّلُ للعبيدْ!
أنا لا أعيشُ بغير صفوِكَ يا فؤادِي في الحياهْ
لولاكَ ما ساوَى الحجَى شيئًا ولا مَجْدٌ وجاهْ!
ما أظلمَ الدنيا إذا حُرِمَتْ مناجاةَ القُلوبْ!
ما للحياةِ من المعاني غيرُ ما يَهبُ الحبيبْ!
بادرْ إلى عَطْفِ الحبيبِ ولا تَقُلْ عَطْفٌ ضئيلْ
هو عند مَأْسَاةِ الحياةِ من انتهابِ المستحيلْ!
بادرْ وبادرْ سوف يفنَى العمرُ في الألمِ الدفينْ
إن لم تشأ بعض السُّلُوِّ فعشْ إذنْ عيشَ الحزين!

الجراح المفتعلة

هذِي جراحُكَ يا فتى
بيديْكَ تُفْتَعَلُ افتعالا!
فيمَ النواحُ ولست تَمـ
ـلكُ أن تحمِّلنا المحَالا؟
نطقتْ جِراحُكَ بالهوا
نِ وأعلنتْ عنكَ الخبالا
أسفِي على هَذا الذكا
ء يحولُ أكثرهُ ضَلالا
أسفِي عليه وكم أَرَا
هُ ينوء محمومًا مُذالا
عانيتَ بالتهريجِ والتـ
ـدجيلِ أعباءً ثقالا!

النجوم الهاوية

يا للجهودِ تضيعُ بين عَداءِ
بتحالُفِ الأحبابِ والأعداءِ
وطني! بنوكَ النابهون هُمو العُلى
لكَ حين نسحقُهم بروحِ عداء
لو كنتَ تعرف قدرَهم لذخرتَهم
كنزًا ونلتَ ولاءَهم بولاءِ
لا قدرَ للأوطانِ إنْ لم تنتفعْ
برجالها العلماءِ والأدباءِ
هِمَمٌ تَضيعُ ولا رجاءَ لها، وكم
أفنى حُماةُ الشرقِ كلَّ رجاءِ
كم يتركون مَدَى النُّبوغِ مبدَّدًا
كتبدُّدِ الإشعاعِ في الصحراءِ!
ويُحَارِبُونَ المنشِئين كأنَّما
المجدُ بالإتلافِ لا الإنشاءِ!
وطني! إذا لم تستغلَّ موفَّقًا
أهلَ الحياةِ فلستَ في الأحياءِ
فَوْضَى حياتُكَ، ما أرى معنى لها
إلا معاني الجهلِ والجهلاءِ
دَجَلٌ، وتضليلٌ، وإفكٌ شائعٌ
ورخاءُ أوهامٍ لغير رخاءِ
وحُروبُ أحزابٍ تصيح وتنتهي
كتناوحِ الأطيافِ بالأصداءِ
بَينا الأباةُ المبدعون تراجَعُوا
لم يُجدِهمْ فضْلٌ وصدقُ إباءِ
ولو احتفلتَ بهم وسُستَ نُبوغَهم
كانوا جواهرَ تاجِكَ الوضَّاءِ
لم أَلقَ مثلك في غِناهُ وفَقْرِهِ
يأبى غِناهُ بروحهِ العمياءِ!

حياة الضجر

علامَ السُّرورُ وفيمَ النشيدُ
ومِلْءُ الحياةِ بمصر الضَّجَرْ؟!
حياةٌ تغَلْغَلَ فيها الهَوَانُ
فما لامرئٍ مِنْ أَذاهَا مَفَرّْ
وشَعْبٌ يُذَلَّلُ دونَ السَّوَا
ئمِ حتى جهلناهُ بين البَشَرْ
حليفُ الترابِ، ولكنه
يَرى حظَّه في التُّرَابِ اندثرْ
أجيرٌ يُسخِّرهُ الأجنبيُّ
بلا عوضٍ، وبه كم سَخِرْ
يُحارَبُ مِنْ كلِّ ما حفَّهُ
كأنَّ بما حفَّه قد عثرْ!
لمنْ هو يَسْعَى وما حَظُّه
بغير الرَّغامِ وغيرِ الحُفَرْ؟
ولم يُغْنَ إلَّا بشَتَّى الهمومِ
وشتَّى السِّقامِ وشَتَّى العِبَرْ
مَآسيهِ لا تنتهِي، بينَمَا
أمانيهِ أقسى له أو أَمَرّْ!
حبا غيرَه بالنعيمِ الجزيلِ
وأبْقى له ما اشتكى مِنْ ضَرَرْ
ومِنْ عَجَبٍ ينتمِي قدرُهُ
إلى كلِّ مَجْدٍ جليلِ الخَطَرْ
فمن علَّمَ الشَّعْبَ هذا الهوانَ
ومَنْ أصغرَ المجدَ حتى صَغُرْ؟
أليس التناطُحُ بين الرءوسِ؟
أليس التطاحنُ بين الزُّمَرْ؟
دعونا إذنْ مِنْ مَدِيدِ الصَّغَارِ
وخَلُّوا إذنْ كلَّ هذا الهَذَرْ!
دعوا كلَّ هذا الهتافِ الطويلِ
فكمْ فيه مَهْزَلَةٌ للقدَرْ
أليس لكم عبرةٌ في الشِّقاقِ؟
فما الظفرُ إلَّا لمن يَعتبرْ
فَهبُّوا إلى وحدةٍ لا تُضَامُ
وهمُّوا إلى عزةٍ تُنتظَرْ
ولو أنكم مِنْ عَنيدِ الصُّخُورِ
لأذكى المُصَابُ دفينَ الشَّرَرْ!

ثمن الحرية

سوف أُعطِي فوق ما يُعطِي الذي
يَتناهَى بِمَسَاعٍ ومِنَنْ
سوف أرضَى شظفَ العيشِ كما
سوف أرضَى مَن تجنَّى وغَبَنْ
سوف أرضَى ما أعاني إنْ يكنْ
فيه مِنْ حُرِيَّةِ الشعبِ ثمنْ
لن ينالَ الشعبُ آمالًا له
في حِمَى التغريرِ أو قَيْد الرَّسَنْ
إنما الشَّعْبُ حِمَى أفرادهِ
فإذا أفرادُهُ هانوا وهَنْ

•••

أيُّها الأحزابُ أنتم دَاؤُنا
قد تفرَّقتم حيارَى في الزَّمَنْ
فتركتُم مِصْرَ لا تعرفُ مَنْ
مِنْ بنيها يُرتَجى أو يُؤتمنْ
لو وقفتُمْ مثل سدٍّ رائعٍ
ثابتِ البنيانِ مرفوعِ القننْ
خشعَ الدهرُ لكم مِنْ نُبلكم
وتخلَّى عن غُرورٍ وضَغنْ!

الذهول

كم بي حنينٌ للتقشُّفِ بينما
يلهو ويعبثُ بالفؤادِ غرَامُ
وأحنُّ للتربِ الذي هو غايتي
وكأنَّما هو منزلي البسَّامُ!
وأنوحُ لكنْ لا لنفسي نوحُها
مهما شَقِيتُ وخانتِ الأيامُ
بل كلُّ نوحي للأنامِ، فهمُّهم
همي، وإنْ جحدُوا هوايَ وهامُوا
وأئنُّ في قلبي المصدَّعِ مثلما
تَتَصدَّعُ الأطيافُ والأحلامُ
ما كان لي جُرْمٌ سوى جُرْمِ العلى
لمواطنٍ فيها العزيزُ يُضَامُ
حتى حسبتُ من الذنوبِ تقشُّفي
وكأنما حربُ الحياةِ سلامُ
وذكرتُ قولَ أبي عليٍّ١٩ ذاهلًا
تنتابُنِي الأحلامُ والآلامُ:
ولقد نهزتُ مع الغُوَاة بدلوهمْ
وأسمتُ سرحَ اللهوِ حيث أسامُوا
وبلغتُ ما بلغَ امرؤٌ بشبابهِ
فإذا عصارةُ كلِّ ذاك أثامُ!

سجن الشرف

إني أشمُّ وفاءَ الناسِ مُدَّخِرًا
لهم من الحُبِّ أضعافَ الذي عَرفُوا
وليس تُقنعني دَعْوَى وإنْ لطفتْ
وليس يقهرُني بأسٌ ولا صَلفُ
ولا أُجرِّب إلَّا مرةً، فإذا
خُذِلْتُ صُنْتُ فؤادًا حُبُّه تَلَفُ
فراسةُ الحبِّ تَجْرِي في صميمِ دمي
وقد أُعاندُها حينًا وأعترفُ
لكنْ أعود ألومُ القلبَ في شَغفي
بالناسِ حين عَذَابِي ذلك الشَّغَفُ

•••

يا مَنْ بكى أو تَبَاكى بعدما صَدَفَتْ
نفسي، رويدَكَ! حسبي الصَّمْتُ والشَّرفُ!
دَعْني بربِّكَ في سجنٍ ألوذُ به
وارْتَعْ كما شِئْتَ، ولينعمْ بك الخَرَفُ!

آلام الريف

زَغْرَدْنَ بين تَدَافُعِ الآمالِ
وضَحِكنَ بين تضاحُكِ الآصالِ
أتُرَى نسَيْنَ مَدَى الشقاءِ وقد سَرَى
مَسْرَى اللهيبِ على الهشيمِ البالي؟
أم أنَّ أحلامَ الشَّبَابِ كفيلةٌ
فتعيدُ للأضواءِ همَّ ليالِ؟!
ما بالهُنَّ لدى الغديرِ حوانيًا
يُنشدن للماءِ النشيدَ الغالي؟
والماءُ يَضربُ في حنانٍ دافقٍ
أقدامَهُنَّ فما تراه يُبَالي
يغسلنَ عابسةَ الملابسِ تارةً
والشطُّ مَزْهُوٌّ بهنَّ مُبَالِ
ويَعدن يرشفنَ المياهَ كأنها
صفوُ الحياةِ ونشوةُ الأجيالِ
ويَسِرْنَ بينَ تهَلُّلٍ وتأمُّلٍ
وكأنهنَّ من النباتِ غوالِ
فَتَياتُ مصرَ المُنْجَبَاتُ بطِينِها
وبمائها المتبرِّجِ المتلالي
حاكينَ أرضَ النيلِ ملءَ وداعةٍ
وسماءَها في نُورِها المتوالي
وجعلنَ مَلْبَسَهُنَّ فضفاضًا كما
أَوْحَتْ طبيعةُ مصرَ بالآمالِ
وَطَنُ السماحةِ والجمالِ فَجَوُّهُ
متشبِّعٌ بالسِّلمِ والإقبالِ
ما بالُه أضحَى مَجَالَ تنابُذٍ؟!
أكذا السَّلامُ يحولُ شبهَ قتالِ؟!
ما بالُ هذا الكنز يُصْبحُ خصبهُ
جَدْبًا، وهذا التبرُ مِثْلَ رمالِ؟!
أين الرجالُ المصلحون؟ أأقفرتْ
مصرٌ وأضحوا في عدادِ خيالِ؟!
ما للزعامةِ ليس تَعرفُ مرةً
صدقَ الزعامةِ أو فُرُوضَ رجالِ؟
يتناحرونَ وما التناحرُ حكمةٌ
إنَّ التناحرَ أصلُ كلِّ ضلالِ
أين التَّجَرُّدُ؟ أين أين تَخَلُّقٌ
بالنُّبْلِ؟ أين شجاعةُ الأبطالِ؟
صاد الغريبُ وما دَرَوْا أو قد دَرَوْا
لكنَّهم حُرِمُوا شُعورَ جَلالِ
ومَشَوا على أشلائِهم في حُمقهم
كالفاتحِينَ مَشَوا على الأوصالِ
والدهرُ يضحك والمجاعةُ مثله
تبكي وتضحك في أسًى وخبَالِ
وفُتوحُ ذاك المجدِ تخجَلُ مثلما
خجلتْ رءوسٌ للزروع حيالي
وكأنَّ زغردةَ الحسانِ من الأَذَى
صوتُ الجنونِ وصرخةُ الآجالِ
وكأنَّ هذا الريفَ مقبرةُ المنى
والموتُ بين مُخاصمٍ ومُوَالِ
وكأنَّما اختلط الوجودُ مع الرَّدَى
وتزاحُمِ الآمالِ والأهوالِ!

النعاج

قلْ للنعاجِ إذا لجَّ الثُّغاءُ بهم
أنتنَّ والله أعدَى الناسِ للناسِ
يا مَنْ أخصُّ بتأنيثٍ مُذكَّرَهم
قد حار فيكنَّ تفكيرِي وإحساسي!
يا آيةَ الضعفِ في حُمقٍ وفي هذَرٍ
ما في المذلةِ بعدَ الضعفِ من باسِ
مَنْ كان يقبلُ هذا الضيمَ من شَبَحٍ
فإنما هو معنى الضيمِ والياسِ
عارٌ على أمةٍ أمثالكنَّ لها
أو أن تكنَّ بها معدودَ أنفاسِ
دعوا المقاعدَ رعيًا في مناكبها
بين الحشائشِ لا ساداتِ جُلَّاسِ
هذي المجالسُ للأخلاقِ عاليةً
ليست مَعارضَ أوشابٍ وأنجاسِ

أنشودة الأناشيد THE SONG OF SONGS

«مارلينُ»!٢٠ تلك مَنَاحَةُ الفَنَّانِ
ذَلَّ البريءُ بها وعَزَّ الجاني
لا تُرجعي الأحداثَ عن ثورانِها
لن ترجعَ الأحداثُ عن ثورانِ!
هيهات نَنعمُ بالخديعةِ بينما
الغبنُ كلُّ الغَبنِ للفنَّانِ
لا تُوهِمِينَا بالحياةِ جديدةً
في جَنَّةٍ خُلِقَتْ مِن النيرانِ
إنَّ الزمانَ لساخرٌ وَمُعَانِدٌ
وأنا الخبيرُ بما يكنُّ زماني!

•••

«مارلينُ»! أشبعتِ الطبيعة نضرةً
بالفنِّ في فَرَحٍ وفي أشجانِ
يرنو إليكِ الملهمونَ كأنما
يرنون فيكِ إلى نُهَى الديَّانِ
هذي المعَانِي الدَّافقاتُ عواطفًا
ليستْ منالَ عواطفٍ ومَعانِ
هي فوقَ ما تهَبُ الحياةُ لأهلها
مِنْ قوةِ الإلهامِ والإيمانِ
بحرُ الألوهةِ فيه نَسْبَحُ عن هُدًى
وبلا هُدًى بأشعةٍ وأغانِ
فيُصيبُ حظَّ الشطِّ غِرٌّ ماكرٌ
ويَغيبُ في اليمِّ الفتى المُتفاني
ويُظَنُّ في هذا الفناءِ نعيمهُ
وهو الشريدُ وإنْ يُظن الهاني!
(وكأنَّه سيفٌ هناكَ مُشطَّبٌ
ألقتْه يومَ الرَّوْعِ كفُّ جبانِ)٢١

•••

«مارلينُ»! مَنْ قال الحياةُ رحيمةٌ
بالحبِّ، حين نعيشُ كالعبدانِ؟!
نهَبُ الحياةَ أعزَّ ما خلدتْ به
ونُغَصُّ نحن بكلِّ ما هو فانِ
مَثَّلْتِ مَعنى الرِّيفِ حلوًا ساذجًا
كالزَّهْرِ فوق العُشْبِ في نيسانِ
ثم الحياةَ بخيرِهَا وبشرِّهَا
مِنْ حيثُ بين الناسِ يلتقيانِ
فإذا الغِنَى وإذا الثقافةُ والمنى
لا شيء حين يُفَرَّقُ الإلفانِ

•••

«مارلينُ»! مَنْ هو بالجمالِ أحقُّ مِن
واعيهِ في نحتٍ وفي ألوانِ؟
أهلُ الخلود، وكلُّهم متشرِّدٌ
كالحقِّ بين مَعالمِ البهتانِ
لا كانتِ الأيدي التي لَمَستْه إنْ
لم تصطبغْ بعواطفٍ وبيانِ
حملتْ قرابينَ الجمالِ شُعورها
فبكلِّ كفٍّ شُعلةٌ وأماني!
والدَّهرُ يَقطعُها فترجعُ في أسًى
لا كالأسى، وتنوءُ بالأحزانِ!

•••

«مارلينُ»! يَفْنى الكونُ قَبلَ قطيعةٍ
بين الجمالِ ومُبْدِعِ الإتقانِ
ولئن تَخَيَّلَ للفنونِ حياتَها
في عُزلَةٍ، فبروحِها روحانِ
إنَّ الجمالَ هو الفنونُ توحَّدَتْ
وتدفَّقتْ بشُعَاعِهِ الفتَّان
فإذا البَصيرُ يُصَدُّ عنه مُوَلَّهًا
وإذا الضَّريرُ يُخَصُّ بالإحسانِ!

•••

«مارلينُ»! غيرُ العدلِ في الدنيا لنا
عُقْبَى فليس العَدْلُ للإنسانِ
مهما أضاءَتْ لن يكونَ مَصيرُها
غيرَ الظلامِ لأنفُسٍ ومَغَانِ
ولقد أثرتِ مَدامعي ومَباهجي
فإذا السُّرورُ مع الدموعِ رثاني!

بعد الكفاح

هذي بقايا القُطْنِ ترقدُ في الثَّرى
كجنودِ حربٍ بعدَ طُول كفاحِ
صَرْعَى مجندَلةٌ ولكنْ بعدَمَا
ضَحَّتْ بأجملِ نُورها الوضَّاحِ
حتى النَّباتُ يرى الضحيةَ واجبًا
ومُنًى فليس يَضنُّ بالأرواحِ
ويَعيشُ بالبذلِ السخيِّ، وموتُه
عيشٌ، وكم في الموتِ مِنْ إفصاحِ
ويَنالُ منه الناسُ ثروةَ عيشهم
وكأنما هي ثروةُ الأشباحِ!
جهلوا التجاربَ للسموِّ فما سموْا
وغدا مُتَاحُ الحظِّ غيرَ مُتَاحِ
وتطلَّبوا مَجْدَ الحياةِ، وإنما
مَجْدُ الحياةِ لمنقذٍ مَنَّاحِ
يَفْنى ويُعطي غيرَه مِن رُوحهِ
فتُبَثُّ في الأرواحِ والأوضاحِ

الشهوات

عُظِّمْتِ! … أنتِ وأنتِ وَحْدَكِ مَنْ لها
دَيْنُ الهزيمةِ في بلادِ النيلِ!
مَنْ ذا سِوَاكِ يفتُّ في أعضادِنا
ويخصُّ بالإصغارِ كلَّ جليلِ؟
كمْ مِنْ جُهودٍ ثم كم مالٍ وكمْ
فَضْلٍ أضيعَ ضَياعَ مالِ بخيلِ٢٢
ضاعتْ وضاعتْ كالهباءِ، وكلُّنا
ذاك الذليلُ مُحَاربًا لذليلِ
لو أنَّ ما قد ضاعَ طوعَ خصومةٍ
صُنَّاهُ كان تراثَ هذا الجيلِ

عدلي يكن

(رثاء الزعيم المصري الكبير وقد مات في باريس.)

عُدْ يا ابنَ مِصْرَ إلى التُّرْبِ الذي قدَرَكْ
إلى المَغاَنِي التي أوْدَعْتَها زهرَكْ
إلى الأمانِي التي لقَّنتَها سَهَرَكْ
إلى المعَالِي التي أكسبتَها أثرَكْ
عُدْ يا زَعيمًا جَحَدْنا فضلَهُ زَمَنًا
حتى غَدَوْنا حيارَى في إسارِ شَرَكْ
يا رُبَّ مَيْتٍ كأنَّ الرشدَ مؤتلقٌ
مِنْ قبرهِ، فكأنَّ الرُّشْدَ قد قَبرَكْ!
ما في الحياةِ حياةٌ بين أخيلةٍ
حِراكُهَا كسكونٍ والسكونُ حَرَكْ
في مَوْطِن ما ترَى للواجباتِ به
إلَّا عُقوقَ لئيمٍ يَشتهي ضررَكْ
أبكيكَ لكنْ بُكائي كله حَرَقٌ
على بلادٍ أضاعتْ ضلَّةً خطرَكْ
تَمشِي الحزازاتُ فيها جِدَّ ثائرةٍ
وأنتَ تقنعُ بالحبِّ الذي غمرَكْ
مَناهلُ اللطفِ والإيمانِ رائعة
وعيتَها فإذا للخُسْرِ مَنْ خَسرَكْ
«عَدْلِي» وما اسْمُكَ إلَّا رمزُ مَنقبةٍ
كأنما هِيَ للوحيِ الذي عَمرَكْ
عُدْ يا ابنَ مصر إلى حِضْنٍ أحق به
وفاؤُكَ السمحُ لا تهريجُ مَنْ غدرَكْ
كم مِنْ حَيَارَى ادَّعُوا إنصافَها، ولها
مِنْهُمْ وبالٌ عليها طالما قَهَرَكْ
رُوحٌ كروحِكَ لم تُخْلَقْ لمعركةٍ
لكنْ على كلِّ سلمٍ ربُّها فَطرَكْ
بذلتها بذلَ منَّاحٍ لأمَّته
فعُدْ تَنَظَّرْ مَدَى الحزن الذي انتظرَكْ
هذي روايةُ مصر كلُّها شَجنٌ
الحيُّ يَشْقَى ويَلقَى ميتُها كدرَكْ

فلسطين الثائرة

تَقصَّفْ يراعي! واصمُتِ الآنَ يا فمي!
قد آنَ عهدُ الحرِّ يُكتَبُ بالدَّمِ!
عَلامَ صياحُ الناسِ حين كلامُهمْ
هَبَاءٌ إذا الأَسيافُ لم تتكلَّمِ؟
وإنْ لم يُدَوِّ الحَقُّ مِنْ كلِّ مِدفعٍ
وإن لم يُغَنِّ الموتُ في كلِّ مَأتمِ؟
حَرامٌ علينا أن نُنَادي بيقظةٍ
إذا كانتِ الأرواحُ أرواحَ نُوَّمِ!

•••

وثائرةٍ في نخوةِ العُرْبِ آمنتْ
بعزَّتها بالرغمِ مِنْ كلِّ أعجمي
مَشَتْ للردى في جَحفلٍ مِنْ شُيوخِهَا
وشُبَّانِهَا في وَحدةٍ لم تُقَسَّمِ
تَهزُّ حُصونَ الظُّلْمِ في صيحةٍ دَوَتْ
وتكتسحُ العَسْفَ الذي راحَ يَحْتَمي
وَترجعُ كلْمَى في شُمُوخٍ وكَسْرَةٍ
فإنَّ انكسارَ الحُرِّ للنَّصرِ ينتمي
وتَضمنُ للأجيالِ بالدَّمِ حَقَّهَا
فمنهُ سطورُ الحقِّ يقرؤها العَمِي
تهَشُّ لممطورِ الرَّصاصِ كأنَّه
سَخِيٌّ من الوسميِّ للرائدِ الظَّمِي
وهيهات تحيا أمَّةٌ ما تَعرَّضَتْ
لوابلهِ، فالموتُ في جُبْنِ مُنْعَمِ!

•••

«فلسطينُ»! يا دارَ النبوَّة! هكذا
تصيرُ جِنانُ الخُلدِ دارَ جهنمِ!
تخذتِ مِن النارِ المطهِّرةِ الحِمَى
حليفَكِ في يومِ البلاءِ المحتَّمِ
فعلمتِنا مَعْنَى الكرامةِ والعُلَى
وكيف العُلَى رغمَ الشقاءِ المخيِّمِ؟
وكيف يُعَدُّ الموتُ أكرمَ مُنقذٍ
إذا المرءُ بالأحداثِ لم يَتعلمِ؟!
وكيف العذارَى كالشبابِ وأهلهم
بناءٌ لهذا الهيكلِ المتهدِّمِ؟
بأشلائهم صانُوه مِنْ صَدمةِ العِدَى
وقد ثَمِلوا لكنْ بغيرَ مُحَرَّمِ
وما ندموا إلَّا على أنَّ مَنْ هَوَوْا
قليلٌ، كأنَّ الحيَّ يحيا لمندَمِ!
تَهاوَوْا أمامَ الموتِ نَشْوَى بفرحةٍ
كأنَّ لهم في الموتِ فرحةَ موسمِ
جُسومٌ وأرواحٌ تُضَحَّى رخيصةً
ولكنَّها كالشُّهْبِ بالنُّورِ ترتمي
فتُوحِي وَتفْنَى، والفناءُ بقاؤها
وتُشْعِرُنا بالنُّبلِ والرُّوحِ والدَّمِ!

دنيال في جُبِّ الأسود

figure
دنيال في جب الأسود.
مَثَلُ المكيدةِ مِنْ حَسُودْ
«دَنْيَالُ» في جُبِّ الأُسُودْ
عَبَدَ الإلهَ مُوَحِّدًا
لا عَنْ ثوابٍ أو وَعيدْ
بل عن عقيدةِ مُؤمنٍ
يَكفيهِ إيمانٌ يَذُودْ٢٣
وأبَى له حُسَّادُهُ
إلَّا النكايةَ والجُحُودْ
جَعَلُوا المليكَ مُحَرِّمًا
لِسَوَى المَلِيكِ دُعَا المَسُودْ
لكنَّ «دنيالَ» النبيـ
ـلَ أَبى التَّحَوُّلَ بالعُهُودْ
ما كان عَهْدُ الرَّبِّ إلَّا
عَهْدَهُ، فَلَهُ السُّجُودْ
ومَضَى على إخلاصِهِ
للربِّ لا يَخْشَى الشُّهُودْ!

•••

وإذا الوُشَاةُ تَعلَّقُوا
بعقابهِ عند المَلِكْ
لم يَلْقَ عُذْرًا أو مَفرًّا
وهو يَشْعُرُ بالشَّرَكْ
فمضَوْا به للجُبِّ والـ
ـمَلِكُ الأسيفُ كمنْ هَلَكْ
يَشْجَى «لدنيالَ» الحبيـ
ـب ِكما شجا٢٤ داجي الحلَكْ
ودنا الصَّباحُ فراحَ نَحـ
ـوَ الجُبِّ في جَزَعِ الفلَكْ
ودَعَا وفيه مِنَ التَّوَجُّسِ
والتَّخوُّفِ ما امتلَكْ
فأجابَهُ «دنيالُ» في اطـ
ـمئنانِ مَنْ لم يَرْتَبِكْ
أنا في أمانٍ يا «مَليـ
ـكُ» بفضلِ ربِّي مَنْ مَلَكْ!

•••

في الجُبِّ رُوِّعَتِ الأسُو
دُ وقد بدَا مَلَكٌ لهَا
زأرتْ وكلٌّ فاغِرٌ
فاهًا، تَخافُ مآلهَا
رُدَّتْ عن الملَكِ العزيـ
ـزِ كما رعَتْ «دَنيالهَا»
حَرَسَتْهُ في الليْلِ البَهيـ
ـمِ تخالُهُ آجالَهَا
حتى تَلَقَّاهُ الملِيـ
ـكُ وقد رأى إجلالهَا
في فَرْحَةٍ، وكأنَّما
أعطى البلادَ نوالهَا
ولقد غدا إيمانُه
إيمانَها وَجمالهَا

•••

ورأَى المليكُ جزاءَ مَنْ
خَدَعوهُ نفسَ جَزَائِهمْ
فَلَدَى قَرارِ الجُبِّ عَدْ
لُ مَآلِهمْ وَثَوائِهمْ
بُعِثوا إليه فما حَمى٢٥
مَكرٌ وُثوبَ فَنائِهمْ
كم مُفسدينَ تَورَّطُوا
بغُرورهِمْ وذكائهمْ
نالَ التَّمادِي منهُمُو
ما نال مِنْ أشلائِهِمْ
بذلُوا الذي بذَلُوا لشرِّ
النَّاسِ في غلوائِهمْ
فإذا الأذَى لحظوظِهمْ
وإذا الرَّدَى لرجائهمْ!

نُبل الخصومة

وما النبلُ ما تلقاه مِنْ ودِّ صاحبٍ
ولكنَّه نُبلٌ رعاه خصيمُ
إذا طغَتِ الأحداثُ جازَ امتحانَها
كريمٌ، ولم يَصْمُدْ وزلَّ لئيمُ
فلا نُبْلَ في ودٍّ إذا حالَ لم يكنْ
عزيزًا نبيلًا، فالكريمُ كريمُ

عائدة

(أهديت إلى «عائدة الجديدة» الآنسة الفنانة فتحية شريف لمناسبة تمثيلها البارع لدور عائدة.)

«رداميسُ» قد عاد يا «عائدَهْ»
فعُودِي إلى رُوحهِ البَائِدَهْ
إلى أمَلِ الحُبِّ ملءَ الحياةِ
فما غيرُهُ نعمةٌ سائدَهْ
أفِيقي مِن السِّنَةِ المنتَهِي
إليها هوَى مُهجتي الشاردَهْ
أفِيقي وحَيِّي غرامَ الفُنونِ
بطلعتكِ الحلوةِ الماجِدَهْ
لِسُمْرَتِهَا نَشْوَةٌ في العُيونِ
وأخْرَى بأفئدةٍ عابدَهْ
أفِيقي وعُودِي كعودِ الحيا
إلى التُّربةِ الرثَّةِ الهامدَهْ
تَطَلَّعُ بَعدَ الحَيَا للحياةِ
وتنشقُ مِنْ رُوحِكِ الخالدَهْ

•••

تَعالَيْ إلى مَسْرَحٍ للحياةِ
برقصتِكِ السَّمْحَةِ الآمنَهْ
لقد نسخَ الدَّهرُ آيَ المماتِ
وعُدنا إلى غيرِها فاتنَهْ
لئنْ لم تَنالي أمانيَّ أمسِ
فلليومِ أخرى لها دائنَهْ
تعالَيْ! تعالَيْ! فدُنيَا الفُنونِ
تحيِّي مَفاتنَكِ الكامنَهْ
تعالَيْ إلى عارفي قَدْرِهَا
أُولي الشِّعْرِ في اللهفةِ الصائنَهْ
يصونون رقصَكِ أشعارَهمْ
ولو نظروا نظرةً ماجنَهْ
وما الفَنُّ إلَّا حياةُ التَّجَا
وُبِ بين عوارفِكِ الهاتنَهْ!

ديوني

لقد زادَ عِبئي مِنْ دُيونٍ كثيرةٍ
عليَّ فخلِّيني أردُّ ديوني
ولستُ وإنْ حاولتُ أرضَى سدادَها
وهيهاتَ مهمَا قد أطعتُ جنونِي!
وكيف لمثلِي أن يردَّ مَفاتنًا
تناولتُها مِن ساحراتِ عُيونِ؟!
دعيني إذنْ كالطفلِ ألهو محاولًا
سدادَ ديونٍ فوقَ كلِّ ديونِ
أقبِّلُ هذا الحسنَ مِن كلِّ مَشرَعٍ
على نَهمٍ مِن روعةٍ وفنونِ
لعلِّي وإنْ قصَّرتُ أبلغ مُحسنًا
رِضاكِ بتقبيلي ووحيِ فُتوني!

شيخ الصحافة

(رثاء الصديق الكاتب الطائر الصيت الأستاذ داود بركات رئيس تحرير «الأهرام».)

ودَّعتَ يومَ رحلتَ أحزنَ دارِ
وتركتَ ذكركَ لوعةَ الأشعارِ
وَحْيُ البيانِ السَّمْحِ أين مُجاجُهُ؟
لأفيضَ عن ألَمِي ولذعةِ ناري
ذهبَتْ بشاشتُكَ الحبيبةُ مثلما
ذهبَ الأصيلُ بنورهِ المتوارِي
وهبَ الغُروبَ حنانَهُ وجمالَهُ
ومضَى يطوفُ بكلِّ طيفٍ سارِي
حتى غُمِرْنَا مِنْ تَجَاوُبِ رُوحهِ
في النُّورِ والأَطيافِ والآثارِ
فإذا الصَّدَى مِلءُ الصَّدَى وإذا الشَّجَا
يُزْجِي الشَّجَا في الضوء والأوتارِ
وإذا المسَامعُ والعيونُ كليلةٌ
فالحزنُ في الأسماعِ والأبصارِ!

•••

«شيخَ الصِّحافة»! تلك أكرَمُ رُتبةٍ
قد زدتَها قَدْرًا على أقدارِ
لو أنَّ لي النعتَ الأبرَّ بربِّها
آثرتُ أن تُدْعَى «أبا الأحرارِ»
هيهاتَ أنسَى ما وهبتَ تَأَلُّقًا
وتَحَرُّرًا كالنُّورِ في النُّوَّار
سكنَ الأباةُ إليكَ في إعيائهمْ
وأتَى الهُداةُ إليكَ في الأخطارِ
ولكم وَصَفْتَ مؤرِّخًا ومُحَدِّثًا
كالدَّهر بين بنيه غيرَ مُجَارِي
تُلْقِي العظاتِ كأنَّما في وزنِها
وجَلالِها هي لفظةُ المقدارِ
ومِن القلُوبِ النَّابضاتِ عوالِمٌ
ومِن القلوبِ البالياتِ عَوَارِي!

•••

أدبَ الروائعِ أين أينَ زعيمهُ
في مجلسِ الأَعْلامِ والأخيارِ؟
جُذِبوا إليه، كأنجمٍ وضَّاءةٍ
جُذِبتْ حيالَ الكوكبِ السَّيارِ
شاخَ الزمانُ وعشتَ أنتَ فتيَّهُ
وكبا الشبابُ وأنتَ في المضمارِ
فتؤلِّفُ الشَّمْلَ الذي آثرتَهُ
لحياةِ مِصرَ بعقلكَ الجبَّارِ
فكأنَّما الأهرامُ قد أوْحَتْ بما
أوحيتَ من رُوحٍ ومن أسرارِ
وكأنَّ آلافَ السنين استودَعتْ
أنهارَكَ المعبودَ مِن أنهارِ
فجرَتْ بروحِ الشرقِ في فيضانِها
جَرْيَ الحياةِ على مديدِ صَحارِ
حتى انتبهنَا عندَ فقدِكَ في أسًى
فوقَ الأسى مِن صدمةِ الأقدارِ
وكأننا غَرْقَى المُصَابِ، فكلُّنا
متَخبِّطٌ في صاخبِ التَّيَّارِ!

•••

«داودُ» لن أَنْسَى محبتكَ التي
عمرتْ وسوف تَجلُّ في الأعمارِ
وحديثَكَ العذبَ الذي نفحاتُهُ
صلواتُ «داودٍ» على المزمارِ
أَحيَتْ وقد حفلَتْ بمصرَ وأهلِهَا
حَفْلَ الأصيلِ بأهلِهِ الأبرارِ
مِنَنٌ عليَّ ولستُ واحدَهَا فكم
أسديتَ مِنْ مِنَنٍ ومِنْ إيثارِ
حتى ثأرتَ مِن الزمانِ وأهلهِ
بالنُّبلِ واستعذبتَ أخذَ الثارِ
وحَيِيتَ كعبةَ كلِّ حُرٍّ مُصلحٍ
وبقيتَ ملجَأَهم مِنْ الفُجُّارِ
فاليومَ تدمعُ للمروءةِ عينُها
واليومَ نمشِي في فِجاجِ النارِ!

•••

لا كُنتَ يا يومَ المُصَابِ تَجَنِّيًا
وشَجًى على الآمالِ والأوطارِ
أدَرَيتَ أنكَ قد نَكبتَ مروِّعًا
أُمَمَ العروبةِ في الزعيمِ الدارِي؟
تَرْبَدُّ آفاقٌ على حسراتِها
والشُّهبُ تَلمعُ خلفَها بشرارِ
وتكاد تلمحُ للمماتِ وإنْ جَنَى
قِبَلَ الحياةِ شُعورَه بالعارِ
أعلمتَ أنَّ البِرَّ يُفجَعُ بَعده
في المُحْسنِ المتنكِّرِ المتوارِي؟
صَلوا عليه ومِثلُه يَغنَى غِنىً
بالنُّبلِ عن صلواتِ هذي الدَّارِ
ومَشَوْا مئاتٍ في الخشوعِ، ونعشُه
كالفاتحِ المحفوفِ بالأنصارِ
أغناه إكليلُ المآثرِ وحدَها
عن أن يُكلَّلَ نعشُه بالغارِ
سادَ السُّكونُ كأنما ساروا به
متحدِّثين إليهِ في الإضمارِ
وتأمَّلوا دُنيا الغرورِ بحسرةٍ
عَزَّتْ، ووحشةِ أدمُع أبكارِ
وكأنَّما الدنيا خيالٌ مُزْعِجٌ
يتجلَّدون إزاءَه بوقارِ
فإذا المودَّع في الخُلودِ موسَّدٌ
وإذا المودِّعُ في أسىً وصَغارِ
نحيا بعصرٍ للمناحةِ وحدَها
فكأنما هو مدفنُ الأعصارِ!

فندق الحياة

جئنا إلى الدُّنيا ضُيوفَ خِدَاعِها
فإذا الضيافةُ كلُّها إرهاقُ
ونَرى بفُندقها الحياةَ تناقُضًا
في طيِّها الإثراءُ والإملاقُ
تَجرِي الحوادثُ بيننا بتناسُقٍ
وجميعُها متنافرٌ أفَّاقُ
نَدرِي وما نَدرِي علاقةَ بعضِهَا
بالبعض بل قد يُطرق الخلَّاقُ!
حتى كأنَّا في تَخيُّلِ حالمٍ
بالصفوِ والدَّمُ في يَدَيْهِ يُرَاقُ
دُنيا الخداعِ فلا حقيقةَ عندها
وقوامُها الأوهامُ لا الأرزاقُ!

الشارع الخلفي

«أيرينُ»٢٦ فيكِ عواطِفِي وحيَاتِي
فيكِ الحياةُ تفوقُ كلَّ حياةِ
مَثَّلْتِ دنيا الحبِّ خانَ حُظوظهَا
قَدَرٌ مُؤاتٍ وهو غيرُ مؤاتِي
قَدَرٌ يَعُدُّ مِن الخطيئةِ كلَّ ما
أوحاه بالأحكامِ والعاداتِ
كم نحن نَصفحُ عن مَدَى إجرَامهِ
ولديهِ نشْقَى نحن بالهفواتِ
يُشْقِي الأنامَ إذا أضاعوا لحظةً
وهو المضيِّعُ أَنفَسَ اللحظاتِ
قَدَرٌ أبَى لكِ ما اشتهيتِ من المُنى
وهو الغباءُ أو الجنونُ العاتي
فحييتِ أشرفَ ما حييتِ على الضَّنى
والوهمِ والحسراتِ والعثراتِ
أَعْطيْتِ عُمْرَكِ للغرامِ وفيَّةً
وقضيتِ عُمرَكِ في جحيمِ عُدَاةِ
وحَييتِ عنوانَ الضحيةِ عُذِّبَتْ
واستعذَبتْ أشجانها النضراتِ
ترعين مَنْ أحببتهِ وحَبَوتِه
بالحُسنِ والأحلامِ واللذَّاتِ
والدهرُ يَأبى أن تعيشَا عيشةً
سلمتْ مِن التجريحِ والحسراتِ
فخلقتِ مِنْ أحزانهِ فرحًا كما
أبدعتِ مِنْ نيرانهِ جنَّاتِ
حتَّى إذا القدَرُ الغشُومُ أصابَه
ورأى الوفاةَ دعاكِ قبلَ وفاةِ
فسمعتهِ همسًا بسمع مِسَرَّةٍ٢٧
وأجبتهِ بالدمعِ والصيحاتِ
وحييتِ ترجين المماتَ وقد دَنَا
فذهبتِ ظافرةً بغُنْمِ مماتِ!

الحسناء والهيكل العظمي

رأتْ حُسْنَها الأخَّاذَ للحبِّ عالَمًا
وهل عالَمٌ بالحسنِ والحبِّ ضائعُ؟
رأتْهُ حياةً ينبضُ الخُلْدُ مِلأَها
وتَنْبُعُ منها للحياةِ الروائعُ
مَعَانٍ يُبينُ الحسنُ عنها، وكلُّها
مَعَانٍ تناءَتْ عن مَدَاها المنابعُ
هي المُبْهَمُ المجهولُ مهما يَبِنْ لنا
فصيحًا نُحَيِّي سِحْرَهُ ونُطالِعُ
فصارت تُناجِي حُسنَها كلَّما بدَتْ
مَعانيهِ لم تُفْسِدْ سناها الطبائعُ
تُناجيهِ في المِرآةِ حينًا وتارةً
تُناجيه في الكونِ الذي هو تابعُ
وما خدعَتْ مِرآتَها أو جمالَها
فليس لِمَرْأَى الحسنِ في الكونِ خادعُ

•••

وقد يَجمع الضدَّين في الفنِّ جامعٌ
كما يَجمعُ الخصمين في العيشِ جامعُ
وإلَّا فكيف الهيكلُ الميتُ اللُّغَى
قرينٌ لِحُسْنٍ كلُّ ما فيهِ ساجعُ
دَنتْ منه في مِثلِ الخشوعِ كما بدا
وفيهِ حَنانٌ للملاحةِ خاشعُ
تُسائِلُهُ: هل غايةُ الحسنِ غايةٌ
لديهِ، أم الحسنُ المقدَّس شائعُ؟
وهل تَغتدي في صورةٍ كعظامِهِ
ويَذْهَبُ ما تحنُو عليه الأضالعُ؟
إلى أيِّ حَظٍّ ينتهي في جلالهِ
وهل هو مِنْ قبلِ المنيةِ ضائعُ؟
فراقبَها في بَسْمَةٍ مِنْ صُموتِه
وكم مِنْ صمُوتٍ ساحرُ النطقِ رائعُ
وَحيَّرَها مِنْ راحةِ لفنائِهِ
ومِنْ عِزَّةٍ حين المعَزَّزُ جازعُ
كأنَّ به للفيلسوفِ بصيرةً
وفيه تناهتْ ما تُكنُّ الشرائعُ
تَمُرُّ بهِ الأحداثُ وهو مراقِبٌ
حكيمٌ، وَتمْشي بالحظوظِ الفجائعُ
وقد وقفَا صِنويْن، حين كِلَاهُمَا
حياةٌ ومَوتٌ ضيِّقُ الحصرِ شاسعُ
وحارَا وحارَا في الوجودِ وما بهِ
إذِ العِلْمُ مِثْل الجهلِ لهفانُ وادعُ
هو العَيْشُ في الدُّنيا سكونٌ بثورةٍ
وكم مِنْ سلامٍ داعبتْهُ المصارعُ
وكم مِنْ جَمالٍ يملأ العينَ رَوْعَةً
وفيه مجَالٌ للمنيةِ صادعُ
وهل كَانَ في الدُّنيا سوى الموتِ عِزَّةٌ
تُصَانِعُهُ الدُّنيا وليس يُصانعُ؟

•••

فلمَّا أطالتْ لهفةً بعدَ لهفةٍ
تُسائِلهُ حينًا وحينًا تُسامحُ
مَشَتْ في أسًى كالهيكلِ الرثِّ ساقَهُ
على البحر غَمْرًا موجُهُ المتدافعُ!

عقاب الغدر

نَزَّهْتُ نفسي عن إساءةِ غادرٍ
باعَ الصداقةَ باسمِ كل صَغارِ
وأخذتُ أرقُبُ كلَّ ما أوحتْ به
نزواتُه بالعارِ بعدَ العارِ
فإذا المآسي والمهازلُ جُمِّعَتْ
في طيشهِ المتفنِّنِ الغدارِ
مَلْهَى الحياةِ، وهل لها مَلهًى سوى
ما ساءَ من أبنائها الأغرارِ؟
لم ألقَ غيرَ النأيِ مُنصفَ حِكمَتي
إنْ عُدَّ طيشِي الودُّ أو إيثارِي
كم مِنْ مَطاعنَ لي تُكال كأنها
شَرَفٌ يُكلِّلُ هامتي بالغارِ!

قوميتي

أبناءَ قوميَ إني لا أمالقُكم
ليس التملُّقُ مِن طبعِي ولا دَابِي
أنفقتمُ العُمرَ أخصامًا كأنَّ مَدَى
هذي الخصومةِ مَلهاةٌ لأحزابِ
أما علمتمْ بأنَّ الحقَّ مضطهَدٌ
وإن يكنْ أهلُه أربابَ أربابِ
لم يُعرَفِ الحقُّ يأتي مِنحةً أبدًا
بل يُؤخذ الحقُّ دومًا أخذَ غلَّابِ

•••

أحيا وأفْنَى أناجِيكُم وأنصحُكمْ
ولو رُجِمْتُ بأشياعِي وأحبَابِي
لن تبلغوا حقَّكم إلَّا بوحدتكمْ
لا أن تبيتوا ضحايا كلِّ إرهابِ
ولن يكون بخيرٍ مَنْ يُفرِّقُكمْ
إلَّا وأنتم كأنعامٍ وأسلابِ
خيرٌ لمثلي أن تؤذَى كرامتُهُ
بالصدقِ عن مَدْحِ أفَّاقٍ وكذابِ
وأنْ أعيشَ كجنديٍّ على شرفي
مِن أن أعيشَ بخزيٍ عيشَ أقطابِ

الخيانة العظمى

(لهفة إلى صاحب العرش.)

مولايَ! وحِّدْ بالزعامةِ أمةً
تَلْقَى مِن الأحزابِ كلَّ هوانِ
صَغِروا وخانوا عهدَهم لبلادِهمْ
بخيانةِ الإخوان للإخوانِ
لم يتركوا شَغَبًا ولا حِقدًا ولا
سوءًا ولا ضغَنًا مِن الأضغانِ
ومِنَ العجائبِ أنهم لو مُحِّصوا
كانوا رجالَ النُّبلِ والعرفانِ!
فبأيِّ حِلْمٍ أو لأيةِ ملةٍ
يتقاتلون تقاتلَ الحيوانِ؟
ولأيِّ حالٍ يستمرُّ كفاحُنا
بعد الذي نلقاهُ مِن خذلانِ؟
لم يَبق غيرُ العرشِ ملجأ همِّنا
ومثابةَ الآمالِ والإيمانِ

غُنمي ودَيني

كم مِنْ مَطاعنَ لي تُزَفُّ فأشتهي
ألَّا تزولَ، فلن أكونَ غبينَا
كفَلتْ ظهورَ ذوي الدناءةِ بعدما
كانوا يدسُّون الأذاةَ فُنونَا
أهلًا بهذا الغدرِ يُكشَفُ سِترُهُ
فأرى بعينيَّ الخسيسَ الدُّونَا
وقد اشتريتُ كرامتي بشرورهِم
حتى أعيشَ مُنَزَّهًا ومَصُونَا
لو أدركَ السفهاءُ غُنمي بعدما
جانبتهُم عدُّوا الأذاةَ جُنونَا
إني المدينُ لبرِّهم بجنونهمْ
وسأعيشُ ما حملوا عليَّ مَدِينَا!

القلب المتفجر

(إلى الممثلة الشهيرة السيدة زينب صدقي.)

سمعتُ شكاتَكِ يا غانيهْ
وضَحْكتَكِ الحلوةَ العانيهْ
فهل كنتِ إلَّا فؤادِي الكليم
تَفجَّرَ بالأدمعِ القانيهْ!
أَعيدِي عليَّ حديثَ الشُّجونِ
وقُصِّي مصارعَها الباقيهْ
وزِيدي تأجُّجَ نارِي التي
أعيشُ بها شُعلةً فانيهْ
فما النارُ إلَّا لأَهلِ الفنونِ
ولو سكنُوا الجنةَ العاليهْ
أعيدِي أعيدِي الهوى والعذابَ
عليَّ فأحياهما ثانيهْ
أُطَهِّرُ نفسي بما أسبغاهُ
عليكِ مِنَ اللهفةِ الساميهْ

•••

ضَحِكتِ فما كنتِ إلَّا السماءَ
تُقَهْقِهُ عن ثورةٍ خافيهْ
تجلَّتْ بألوانِ وحيِ الربيعِ
ولكنَّها في أسًى باكيهْ
وجادتْ بسحرِ الجمالِ الطروبِ
ومِنْ خلفهِ حسرةٌ جانيهْ
وكم مِنْ وُرُودٍ برغمِ الأسَى
تَسُرُّ بمُهجتِها الداميهْ
وليس لها غير روحِ الفنونِ
عزاءٌ، ولكنها قاسيهْ٢٨

يا للغباء!

يا لَلغباء! أصار مِثلي يَستحي
مِنْ شَتْمهِ وأنا العزيزُ بذاتي؟
أهلًا دُعاةَ السُّوءِ! ليس يَضيرني
إلَّا افتقادَ شجاعتِي وأناتِي
قولوا كما شاء الجحودُ وأسْرِفوا
حتى تَبينَ٢٩ عن الجُحودِ حياتي
هيهات أندمُ، فالعقوقُ وإن قَسا
نِعمْ الصديقُ، فكم يُبينُ٣٠ عِداتي
فيمَ الندامةُ إن شُتِمْتُ دناءةً
وجزاءَ ما أسديتُ مِنْ حسناتِ؟
النحلُ يُعطي الشهدَ جُودًا سائغًا
ولكم يكافئُه الورَى بأذاةِ
ويَظلُّ يدأبُ في وفاءٍ بالغٍ
لرسالةِ الأحياءِ والأمواتِ
يَشْقَى ويَشْقَى مانحًا، فإذا أبَى
عسفَ الطُّغاةِ شَكَوْهُ أيَّ شكاةِ
فسَدَتْ مقاييسُ الزَّمانِ فلم يَعُدْ
إلَّا التَّخبُّطُ في المحيطِ العاتِي!

بعض العزاء

حَمْدًا لكَ اللهُمَّ! لم أرَ مرةً
شَرًّا سِوَى ممنْ وَفيْتُ إليهِ
خَيْرٌ عَنائي مِنْ خيانةِ غادرٍ
مِنْ أن يُقالَ فتًى جَنيتُ عليهِ
بَعْضُ العَزَاءِ — ومُرُّهُ حُلْوُ الجَنى —
أَلَّا أقاتِلَ مَنْ طُعِنْتُ لديهِ
آثرْتُ أن أفْنَى شهيدَ مبادئي
ودَمِي الوفيُّ يُرَاق بينَ يَدَيْهِ!

تجني الرياء

يا مَنْ تَجنَّوْا على قلبي وما رَحِموا
هيَّا تَجَنَّوْا فإنِّي زاهدٌ فيكمْ
بَكيتُ لو أنني أرضَى مودَّتَكمْ
لكنَّها مِنْ رياءٍ في مَبانيكمْ
كفتْ سنينٌ مَنَحْتُ الودَّ أخلصَه
لكم، فضاعَ ودادي في تجنِّيكمْ
لا تذكُروا ذلك الماضِي فقد دُفِنَتْ
زُهُورُهُ بقبورٍ مِنْ مَآسيكمْ
لا خَيرَ في الودِّ لا يحيا على زَمَني
ولا بوَصْلٍ تَناهَى في تَنَائيكمْ
ولا بِقُرْبٍ جديدٍ جِدِّ مُصْطَنَعٍ
وذاك وَجْهُ المُرَائِي في مَرَائِيكمْ!

موت النسور

(رثاء الطيارَيْن المصريَّيْن فؤاد عبد المجيد حجاج وشهدي دوس، وقد سقطا ميتين في أرض فرنسية في طريق عودتهما إلى مصر في ١٨ نوفمبر سنة ١٩٣٣.)

كذا فليَطِرْ للموتِ مَنْ مات واستغنَى
عن المجدِ في دُنْيا نَضيقُ بها مَغْنَى
كذا فليكنْ هزلُ الحياةِ وجِدُّها
فنفتقدُ الروحَ الذي نظَّمَ الكونا
كذا فليضمَّ الموتُ أحلامَ أمَّةٍ
فتُرْغِمُهُ ردًّا وتُثقلهُ دَيْنا
طلبنا الهواءَ السَّمْحَ عند اختناقِنا
فلما بَلغناهُ لقينا به الغبنا
فيا فرحةً قد أعقبتْ شرَّ حسرةٍ
وقد تُعقبُ الأفراحُ في وثبها الحزنا
أكانَ عزيزًا أن يُؤجَّلَ رَوْعُنا
إلى أن ينالَ الطيرُ في وكرهِ الأَمْنا؟
شهيدان قد رَاحَا ضحيَّةَ جُرأةٍ
ولكنَّما قد جرَّدا الموتَ مِنْ مَعْنى
لئن فاتنا تكليلُ رأسيْهما عُلًى
فقد بَلغا فوقَ الذي نحْنُ بجَّلنا
وقد سقَطا في حُبِّ مصر بشُعلةٍ
وفي شُعلةٍ عاشا، فعاشا بها مَثنى
شبابٌ لهم إلهامُ شَعْبٍ مكبَّلٍ
وقد أقسموا يَفنون عَزْمًا ولا يَفنى
فإن فقَد السِّرْبُ الفخورُ كليهما
فما عرفَ الفقدَ الذي رادفَ البينَا
وقد بَعثَ الموتُ الحياةَ بأمةٍ
وكم قد رأينَا الموتَ بالخلقِ مفتنَّا
فهَبُّوا على الآلام هَبَّةَ مؤمنٍ
بما يُنصفُ الأوطانَ والذكرَ والفنَّا
سبيلُ الضحايا وحده نهجُ أمةٍ
تَشُقُّ الدُّجَى كي تبلغَ المأربَ الأسنَى
ونَهْجُ الأَمَاني في سُكونٍ وغفلةٍ
هو المدفَنُ الأَوْفَى لمن يَرتضي الدفنَا

•••

برغمِ الشَّبابِ الحُرِّ يا رمزَ رُوحِهِ
مَماتُكُما في نكبةِ رَمْزها أَهْنَا
تحوطكما أنفاسُنا وحَنَانُنا
إذا القَدَرُ العاتي تأبَّى وما حَنَّا
فلم تُحْرَقَا إلَّا وأنفاسُنا لظَى
وقد نِلتما التخليدَ أو حُزْتُمَا عَدْنَا
ولم تُطْعَنَا مِنْ خدعةِ الحظِّ ميتةً
فنحن الأُلَى ذُقْنَا المنيةَ والطَّعنَا!

عيش الألوهة

مَن لي بأن تدَعَ الحياةُ تَغَلْغُلي
في كلِّ ألوانِ الجمالِ أمامي
حتى أعيشَ بِلُبِّهِ وصميمهِ
عيشَ الألُوهةِ في مَدَى الإلهامِ
لا تُرْجِعُوني للحياةِ بيقظةٍ
هي كالمماتِ قتيلةُ الأيَّامِ
بل فاتركُوني في سعادةِ حالِمٍ
ذاقَ النعيمَ الحُلوَ في الأحلامِ
يَنسابُ في رُوحِ الطبيعةِ روحُهُ
فكأنَّما هي روحُه المُتسامِي
وكأنما الأشجارُ مِنْ خِلَّانِهِ
وتَجاوبُ الأصداءِ وَقْعُ كلامي
وكأنما النِّيلُ الحبيبُ خواطري
تَجري أمامَ تَلهُّفي المترامي
ومِنَ الحُقُولِ مَسَارحٌ لعواطفي
وبكلِّ نَبْتٍ لهفتي وأوامي
ومِنَ الأشعَّةِ حاملاتُ رسائلي
لهوايَ، أو مِنْ حامِلاتِ غرامي
يَتَجاذبُ الكونُ الفسيحُ تَهافُتي
بين الظَّلَامِ ونُورهِ البَسَّامِ
وكأنَّني أُنْسِيتُ نفسي عِندهُ
وصَعَدْتُ فوقَ مَشَارِفٍ وغَمامِ
فَغدَوْتُ مِنْ أجزائهِ، ولُمِحْتُ في
أندائهِ، وعَرفتُ فيه سَلامِي
فإذا رجعتُ إلى الحياةِ وأهلِها
فلقد رجعتُ إلى أذَى الظُّلَّامِ!

وحدتي

وَحدتي! ودَّعتُ أطيافي وقد غابَ وَداعي
أنا كالصَّخرِ ولكنْ ميِّتٌ دونَ نَفَاعِ
أطفأتْ أحلامِيَ الأيَّامُ إطفاءَ الشُّعاعِ
لم تَعُدْ لي ذكرياتٌ لمحبٍّ أو شُجاعِ
كلُّ ما حولي خَوَاءٌ فهو زادي ومَتاعي
سئمتْ نفسي غُرورَ العيشِ والحُبِّ المُضاع

•••

أيُّها الصُّوفيُّ في لهوٍ وفي دِينٍ مُطاعِ
أنا مَنْ يَهديكَ للنعمةِ لو تَرضَى اتَباعي
قد بلوتُ الحلوَ والمرَّ وألوانَ الطباعِ
فإذا العُزلةُ عن كلِّ طُموحٍ وطَماعِ
وإذا الغفلةُ عن دنيا جنونٍ وصِراعِ
وإذا الإيمانُ بالوَحدةِ والموتِ المشاعِ
هي ذخرٌ من حياةٍ وسُمُوٍّ وابتداعِ
رُبَّ ميت دونَ نفعٍ هو بأسٌ في قِناعِ
كمنتْ فيه حياةُ الموتِ في مِثلِ القلاعِ
لا يُبالي، وهو في مَثْوَاهُ في مَثوَى الزَّماعِ
يجذبُ الأحياءَ والأحياءُ حيرَى في نِزاعِ!

•••

وَحدتي إنْ كنتِ موتًا فوقَ سَنٍّ واشتراعِ
فلقد جدَّدتِ عُمري بعد عُمري المستطاعِ
إنْ أقسى الموتِ في صُحبة أحبابي الجياعِ!

نشيد النيروز

عَيِّدِي يا غُصُونْ
وافرَحِي مثلَنا
قد حواكِ السكونْ
في جلالِ الغِنى!
يا عَوَالي النَّخيلْ
في شُموخِ الطهارَهْ
والثَّبَاتِ والحياةِ
لك عِيدٌ نبيلْ
هو عيدُ الحضارَهْ!
عيدُ ماضٍ عيدُ آتِ
راح عامٌ كريمْ
وأتى غيرُهُ
هو مَجْدٌ مُقيمْ
بيننا سِرُّهُ!
مَجْدُ مصر القديمْ
وهو كَنْزٌ ثمينْ
للحياة المُعَادَهْ
كم له في النَّسيمْ
مِنْ هَوًى أو حَنِينْ!
وهو يُحْيِي بلادَهْ
راحَ عامٌ كريمْ
وأتى غيرُهُ
هو مَجْدٌ مُقِيمْ
بيننا سِرُّهُ!
أقبلَ النَّيروزْ
وهو بُشْرَى الجديدْ
هاتفًا بالربيع
هو عِيدٌ عزيزْ
هو عيدُ السَّعيدْ!
كالمليكِ الوديعِ
راحَ عامٌ كريمْ
وأتى غيرُهُ
هو مَجْدٌ مُقيمْ
بيننا سِرُّهُ!
فَلْنُهَنِّ النَّخيلْ
بابتهاجِ القرونْ
في احتفاءٍ واعتلاءِ
كلُّ مَعْنًى نبيلْ
رَمْزُهُ لن يَهونْ!
بين أهلٍ أُمَنَاءِ
عَيِّدي يا غُصونْ
وافْرَحِي مثلنَا
قد حَواكِ السكونْ
في جَلالِ الغنى!

النار والجنة

أنا نارٌ وأنتِ جَنَّةُ رُوحي
خَلَقَ الحُبُّ بيننا المستحيلَا
أَطفئيني إذا أردْتِ، فحُلمي
أن تَحولَ الحياةُ طيفًا جميلَا
جَنَّةٌ أنتِ قد وَعَتْ مِنْ لهيبي
شُعَلًا زادَهَا فَمِي تقبِيلَا
كلما ضمَّنا وصالٌ نَسِينا
حُرْقتَيْ حُبِّنا وعِفْنَا الدليلَا
أتلاشَى لديكِ حُلْمًا نبيلًا
وتعودينَ لي رجاءً نبيلَا

•••

أنا نارٌ وأنتِ جَنَّةُ روحي
خَلقَ الحُبُّ بيننا المستحيلَا!

ألحان الحياة

أزهاريَ الحَيرَى تُناجِي الحَيَاهْ
كما أنَاجِي في صَلَاتِي الإلهْ
هل أنتِ في شَوْقي وفي لَوْعتي
أمْ أنَّ قلبي وحدَه في هواهْ؟
تُصْغِين إذ أُصْغي إلى فاتني
كأنما العُودُ بشيرُ الحَيَاهْ
حسَّاسَةٌ أنتِ وما صَوْتُهُ
إلَّا غِنى الحسِّ وأَحْلَى لُغَاهْ
غُذِّيتِ بالصَّوْتِ ومِنْ قَبْلهِ
غُذِّيتِ بالحُسْنِ غِذاءَ الدُّهَاهْ
واللَّحنْ كالإكسيرِ في وَقْعِهِ
قد يَحفظُ الزَّهرَ ويُنْمي صِبَاهْ
صَدَاهُ في الزَّهْر نماءٌ لهُ
في حين للشمِّ شَذَاهُ صَدَاهُ
كأنَّما العُودُ رَسُولُ الهَوَى
إنْ باحَ، واللحنُ حَنانُ الشِّفَاهْ
النُّورُ ربَّاكِ بتحنانهِ
والأرضُ والجَوُّ بما أُودِعَاهُ
والحسْنُ بالحُبِّ وألحانِهِ
أحياكِ للحُبِّ مَعَاني مُنَاهْ
كأنما دمعُ النَّدَى دَمْعُهُ
وحُمْرةُ اللونِ مَرَائى لَظَاهْ
إن تَبسمِي كنتِ له بسمةً
وإنْ بكيتِ كان هذا بُكاهْ!

أنشودة الهاجر

أيا حبِيبي كفى بعادُكْ
كفى صيامي على هَوَاكْ!
وهل فؤادٌ له فؤادُكْ
سوى فُؤادِي الذي افتداكْ؟
أنا شهيدُ الهوَى البريءْ
في شُعلةِ الحبِّ مُنتهايْ
فإنما حُسْنُكَ الوضيءْ
المُشْعِلُ النارَ في نهايْ
كم أشربُ الخمرَ مِنْ عيونِكْ
ومِنْ جَنى خدِّكَ الوسيمْ
فإنَّها مُشْتَهَى فُنُونِكْ
ومنتهى الخلدِ والجحيمْ
وأجتني ثغرَكَ المحَلَّى
فأجتني الحبَّ والجمالْ
هجرتَني الآنَ واستحلَّا
ليَ الفناءَ الذي استطالْ
ما بينَ شَوقي ولوعَتِي
وفي جُنوني مِن البعادْ
أستودعُ الآن مُهجتِي
وكيف أحيَا بلا فؤاد؟!

سيف دامقليس

أَينصبُ سيفَ دامقليس عمدًا
أسيرٌ فوْقَهُ سَيفٌ تَراءَى؟!
لمنْ هذي السُّيوفُ وكلُّ سَيْفٍ
يُهدِّدُنا ويُشبعنا عَداءَ؟
أهذا ما يُزَيِّنُهُ التآخي؟!
إذنْ بئسَ الذي مَدَحَ الإخاءَ
خدعتمْ بعضُكم بَعْضًا بحَرْبٍ
منوَّعَةٍ وتنتظمُ الفناءَ!
إذا كانتْ سَلَامًا أو سُكونًا
فبعضُ السلمِ نغَّصنا رياءَ!
ومَنْ ضحَّى أخاه لكي يعلَّى
وما يَعْلو، فما يَدْري الحياءَ!
ولكنْ كلُّ ما يَدْري التَّدَنِّي
وقد فقدَ الأخوَّة والرجاءَ!

كأس الظمأ

أنتِ قُدْسِيَّةُ الشبابْ
في الأغاني وفي القُبَلْ
قد عرفنا بِكِ العذابْ
وعرفنَا بكِ الأَملْ
طائرٌ بل فراشةٌ
عمرُهَا ما لهُ حِسَابْ
هي نُورٌ وشُعلةٌ
تتهادَى مع الشَّبَابْ
حُلُمٌ طَافَ حَولَنَا
نسجَتْهُ يدُ الربيعْ
مَنْ تَرَاءَى له اغتنى
مِنْ حُبورٍ ومِنْ دُمُوعْ
عَبَقُ الحُسنِ والهوى
ذكرُكِ المزْهرُ النَّدِي
ذُقْتُ مِن ناره الظما
بينما الكأسُ في يدي
مِنْ فُنونٍ ومن فُتونْ
أشربُ الوهْمَ والجنونْ
كلُّهُ سائغٌ حَنُونْ
مِنْ نَدَى هذه العيونْ!

موسيقى العدم

أنا مَاضٍ في سبيلِ الموتِ، زادِي
ما شَجَا وَهْمِي وحِسِّي مِنْ نَغَمْ
يَمْلأ الجَوَّ حَنَانٌ غيرُ بادِي
يَمْلأ الرُّوحَ بموسيقى العَدَمْ
ذلك اللَّحْنُ أنا أسمعُهُ
حينما غيري غريبٌ عنه ساهِي
هو يَحْدُوني كما أتبعُهُ
في شِفَاءٍ مِنْ عذابي المتناهي
أيُّها العازفُ فوقَ السُّحْبِ لي
طائرًا أو راكبًا مَتْنَ السَّحَابِ
سَئِمَتْ نَفْسي فليستْ تَجْتَلي
غيرَ ما تُوحِي لأطيافِ الضَّبَابِ
كم سَلامٍ، كم نعيمٍ، كم حَيَاهْ
كم غِنًى في كلِّ ما يُزجيهِ لَحْنُكْ
أنَّةُ النَّايِ كتقبيلِ الشفاهْ
وبكاءُ العُودِ قد وَاسَاهُ فنُّكْ
أيُّ موتٍ ذاك تَحْدُوني إليْهِ
مثلما يَحْدُو هوَى الطفلِ أخاهْ
هاتفًا حِينًا عليَّ وَعَليْهِ
فإذا الموتُ طريقٌ للنَّجَاهْ!

ملك العصاة

(إلى زعيم الثورة الدرزية سلطان باشا الأطرش.)

مَلِكَ العُصَاةِ مُشَرَّدًا وطريدَا
صَيَّرْتَ ذكركَ في المناحةِ عيدَا
ما ضَرَّ قدرَكَ أن تعيشَ بوحدةٍ
فمن الزَّعامةِ أن تعيشَ وحيدَا
اليومَ أشربُ نَخبَ ذكرِكَ بينما
ألقاكَ أقربَ مَنْ يُخالُ بعيدَا
مَنْ لي بمثلِكَ في بِلادِي بعدما
أضحَى وفاءُ الأقربين بليدَا
الفارسُ المغوارُ يَضْمِدُ جُرحَهُ
بيديْهِ مُرتقبًا سواه جديدَا
ويشقُّ في جيشِ العدوِّ طريقَه
ويَعودُ مخضوبَ اليديْنِ سعيدَا
ويُعلِّمُ الأبطالَ صدقَ بُطولةٍ
والحربُ تعزفُ للمماتِ نشيدَا
يَمْشي على الأَهْوال مِشْيَةَ فاتحٍ
رَجمتْهُ ساخِطةً لظًى وحديدَا
لم يَدَّرعْ إلا الإباءَ، وما بَكى
يومًا فقيدًا لن يموتَ فقيدَا
جعلَ الضحيةَ نفسَه لا غيرَه
فإذا المنيةُ تتَّقيهِ عنيدَا
وإذا به بَطلُ المعاركِ كلِّهَا
متغلِّبًا أو عاجزًا وطريدَا!
خُلُقُ الكماةِ الفاتحين يصونُهم
والخُلْقُ يَخْلُقُ وحدَه الصنديدَا

•••

عِشْ يا أبا الأحرارِ في حُرِّيةٍ
النَّفيُ مَجَّدَ شأوَها تمْجِيدَا
حَرِدًا بلا زَادٍ، ولا مالٍ، ولا
جُنْدٍ سوى مَجْدٍ يُشِعُّ تليدَا
عِشْ مثلَ آمالِ الحياةِ تحَجَّبَتْ
لتعودَ صُبْحًا للحياةِ أكيدَا
نحيا على أحلامِها في ظُلمةٍ
حتى تلوحَ أشعَّةً وقصيدَا!

مصور البحر

(رثاء الفنان هارُلْد فاراوي الذي تملَّكه الهمُّ لبيعه مضطرًّا صُورَه الفنية التي رسم فيها البحرَ، ثم استردَّ عزاءَه لمَّا علم بغرق الباخرة ألباتروس التي كانت تَقلُّها، ثم نال منه الحزنُ العميقُ غايتَه لمَّا علم بأن البحر لفظ الصندوقَ الحاوي تلك الصُّوَر دون أن تُمَسَّ بأذى، فتخيل أن البحر لم يُقدِّر فنَّه الكشَّاف لأسراره، وأنَّ «النور الأسمى» ازدراه … فانتحر يأسًا وحُزنًا.)

ماذا نَقِمْتَ مِنَ الوُجُودِ الفاني
يا مُعجزًا للفنِّ والفنَّانِ؟
يا خاطفَ السرِّ العميقِ برسمهِ
للبحرِ في تصويرهِ الفتَّانِ
لم أحظَ إلَّا بالقليلِ لظلِّه
فإذا بهِ والبحرِ يلتقيانِ
صُوَرٌ بإحساسِ الخُلود تألَّقتْ
وبها لألوانِ الفنونِ مَعاني
الموجُ فيها خافقٌ متوثِّبٌ
حَيٌّ، وخَلْفَ الموجِ موجٌ ثانِ
رُوحانِ مِنْ رَسمٍ يَلُوحُ وآخرٍ
خافٍ وغيرِهما إليه رَوَانِ
فكأنَّ هذا الرَّسمَ دُنْيَا ما لَهَا
حَدٌّ مِنَ التِّبيانِ والإحسانِ
غَلَبَتْ شُعُورَ المُلْهَمينَ وعبَّرَتْ
عَنْ كلِّ إحساسٍ بكلِّ لسانِ
فنحسُّ بالصفوِ الرُّخاء٣١ حيالَنا
آنًا، وبالإعصارِ والثورانِ
والأفقُ مبتسمٌ يفيضُ بشاشةً
حينًا، وحينًا ساخطُ النيرانِ
والموجُ مِنْ أجنادِه متدافعٌ
للحربِ بين لَظًى وبين طِعَانِ
وسواه يغلبُه العناقُ كأنَّهُ
خِلَّان في التوديعِ يعتنقانِ
ونَرَى رذاذَ الماءِ يُلمَسُ بالرُّؤى
والعينِ لم تُمْدَدْ إليه يَدانِ
ونكادُ نلمحُ فوقَه أو تحتَه
مِن راقصاتِ البحر سربَ غواني
الآخذاتِ من المياهِ خيولها
والجارياتِ بها على الشُّطآن
والضاحكاتِ اللاعباتِ أمامَنَا
وكأنَّها في اليأسِ وهمُ أماني
خُلِقَتْ بروحِ البَحرِ فهي جريئةٌ
هزأَتْ بتِيهِ المدلِجِ٣٢ الحيرانِ
ودَعَتْ وصاحتْ والمياهُ حيالها
ما بين صخبٍ تارةً وأغاني
صُوَرُ الحياة كأنها صُوَرُ الرَّدَى
تبدو كمزجِ مخافةٍ وأمانِ
ونُطِلُّ في المعنى العظيمِ بكنهها
فنعودُ بالإمتاعِ والحرمانِ

•••

أمصوِّرَ البحرِ الخضمِّ كأنَّه
حَبسَ الشعاع برسمهِ النُّوراني
والفاتحَ الغازي مَكامنَ سرِّه
بالحبِّ والإلهامِ والإيمانِ
والخاطفَ العبراتِ مِنْ قطراتهِ
والكاشفَ الآياتِ في الألوانِ
والمستقلَّ بريحهِ وبجوِّهِ
ببصيرةٍ عزَّت على الأقرانِ
والعاشقَ الجوَلاتِ في أنحائه
وكأنَّه في رُوحه متفانِ
فَتْحُ الفنون شجاعةٌ عُلويَّةٌ
فوقَ ادِّراع شجاعة الفُرسانِ
والبحرُ ينقشُه كميٌّ رائدٌ
كالبحرِ يركبُه العظيمُ الشانِ
ميدانُ كلِّ بسالةٍ عُذريةٍ
والفتحُ لم يُخلق لعجزِ جبانِ
أغليتَ صُنعك فوق كلِّ مثمنٍّ
بالمالِ أو بنفائسِ التيجانِ
وعددتهُ ذُخر الحياة كأنما
أودعت فيه رسالة الرحمنِ
وأبيت إغواءَ الزَّمان لبيعهِ
وحسبتهُ كنزًا لكلِّ زمانِ
حتى إذا اضطرتْك ما حكمت به
دُنياك منْ بيعٍ ومنْ حرمانِ
ذُوِّقتَ معنى الفقر بعد قناعةٍ
وعرفتَ كيف خصاصةُ الإنسانِ
وحقرتَ هذا المالَ في يدك التي
طرحتْهُ طرحَ اليمِّ للأدرانِ
وسهدت في حزنٍ على حزنٍ على
حزنٍ، فصرت فريسة الأحزانِ
حتى علمت بفَقدِ فنِّك ذاهبًا
للبحرِ كالأخوَينِ يصطحِبانِ
ففرحتَ فرحة من أُغيث ولاؤُه
من بعد ما عاناهُ من كُفرانِ
وفرضتَ أنَّ البحر أغرق مركبًا
حملت نفائسه بلا استئذانِ
هي ملكُ جنِّياته لا مِلكُ منْ
عاداهُ في الإنسانِ أو في الجانِ
أُخِذَت من الوطنِ العميقِ وعَوْدُها
حقٌّ إلى الأعماقِ والأوطانِ
غاصتْ إليها مثلما أحرزتَهَا
بالغوص بين الدُّرِّ والمرجانِ

•••

البحرُ ثابَ فردَّ بَعْدُ وَفَاؤُه
هذي الوديعةَ في أعزِّ صيانِ
فحزنتَ أَقْسَى الحُزْنِ، ما لعزائهِ
سببٌ، كحزنِ الثاكلِ اللهفانِ
وعَدَدْتَ ردَّ البحر ما استودعَتهُ
نجواكَ أشجى الرُّزءِ والخُسرانِ
وكأنما هو ساخرٌ بأعزِّ مَا
أبدعتَ أو ألهمتَ من إتقانِ
قد كنت تحسبُهُ الغيور فصان ما
أعلنتَهُ بتهافتِ الغيرانِ
قبَسٌ من الديَّان عاد لأصلهِ
فالبحرُ كان مثابة الديَّانِ
والآنَ هذا اليمُّ يلْفِظُهُ بلا
عُذرٍ كأنَّ اليمَّ منه يُعاني
فرأيت في هذا الهوانِ ولم تُطقْ
للفنِّ عيشًا في عذاب هوانِ
وأبيت إلَّا أن تموت، وهكذا
بالموت يثأرُ ناقمٌ ومُعاني

•••

قالوا: جُنونُ الفنِّ! قلتُ أجلُّنا
خطرًا وذا المجنونُ يستويانِ
ذاقَ المصابَ بفقده أحبابهُ
فالبُعْدُ ألوانٌ من الفُقدانِ
ورأَى الطبيعةَ سُخرياتٍ كلَّها
في حين أعطاها أعزَّ مكانِ
وكأنها سكنتْ وما خفقتْ له
وفؤادُهُ يشقى من الخفقانِ
فأراح مُهجته وحيْرتهُ، وهل
غيرُ الفناءِ إراحةُ الحيرانِ؟
الآنَ أسْتوْحِي المياهَ أنينَها
وأبثُّ لوعتَها شجيَّ بياني
أنا شاعرُ الموج الذي هو غامرٌ
هذي الحياةَ وهادمٌ إنساني
فإذا رثيتُكَ فالرثاءُ لمهجتي
وإذا بكيتُكَ فالحنانُ بكاني
ضاقتْ بكَ الدُّنيا وضِقْتُ برحبها
فإذا نُسِيتَ فلستَ في نسياني
وأنا أرى دمَكَ الزكيَّ بحرقةٍ
للأفقِ في هذا الغروبِ القاني
وأرى زَفيرَك في العواصفِ كلَّما
هبَّتْ على البحرِ العزيزِ الجاني
وأرى حنانك في توثُّب موْجِهِ
أبدًا ومِلءَ تَجاوُبي وحَناني
ستعيشُ ما عاشت خواطرُ شاعرٍ
أو عازفٍ أو ناقشٍ فنَّانِ
إنْ كان للأمواتِ أوَّلَ هادِمٍ
فالفنُّ للأحياءِ أولُ باني

موسى في اليمِّ

figure
موسى في اليمِّ.
أنْقَذَتْهُ مِنْ شاطئِ اليَمِّ، واليمُّ حريصٌ عليه حِرْصَ الأبُوَّهْ
بِنْتُ فرعونَ في رعايةِ خلَّاقٍ يُراعِي بالحُبِّ رُوحَ النُّبُوَّهْ
أنقذَتْهُ في سَلَّةٍ وضعتْه في حِمَاهَا وفي حِمَى العُشْبِ أمُّهْ
إنَّ عدلَ الأقدارِ أن يمنحَ المظلومَ عدلًا بل مُنْتَهَى العدلِ خَصْمُهْ
كلَّلَ اللُّوتَسُ النَّقيُّ جبينًا مثلما كلَّلَ القميصُ قوامَا
رَمَزَا بالبياضِ للطُّهْرِ، والطهرُ عريقٌ بنفسها إلهامَا
وبدا الجوُّ في حَنانٍ غريبٍ بين نُورٍ وصبغةٍ وابتسامِ
وبدا العُشْبُ في اخضرارِ حَبيبٍ كانتعاشِ الرجاءِ عند السلامِ
وتَلوحُ النخيلُ منفرداتٍ في مِثالِ الهياكلِ المنثورَهْ
وكذاكَ الأتباعُ حاكوا التماثيلَ خُشوعًا وروعةً مستورَهْ
وَتراءَى النِّيلُ الوَفِيُّ بلأْلاءٍ رشيقٍ وساكنُ الشطِّ ساجي
فهو فرحانُ بالوليدِ ولكنْ ذلك الشَّطُّ مُنْذِرٌ لا يُداجي
فرحةٌ ثَمَّ في ارتيابٍ وخَوْفٍ وضياءٍ بظلمةٍ في سُباتِ
هكذا جانبَ المنيةَ «موسى» وهو طِفلٌ مشرَّدٌ في المماتِ
لَعِبَتْ دَوْرَهَا المقاديرُ حتى خَلقَتْ حولَهُ مِنَ الرَّوْعِ أَمْنَا
إنَّ لهوَ المقدارِ والحَظِّ فنَّانٌ جريءٌ، وكم حبا الشِّعرَ فَنَّا!

النساء الغلمان

أَسَفِي على هذا الجمالِ مُزَيَّفًا
أكذا الحِسانُ تُعَدُّ في الغِلمانِ؟
أين الأنوثةُ؟ أينَ أينَ دَلالُها
وحَنانُها بحديثها الفتَّانِ؟
لا كان قَصُّ الشَّعْر إنْ ضحَّى لنا
حُلْوَ الشُّعُورِ وعطفَكِ الرُّوحاني
أعرفتِ يا مَنْ جِنْسُها شرَفٌ لها
مجدًا ولستِ له الأصيلَ الباني؟
لم ألقَ في دُنيا العظائمِ حادثًا
لم تَرْعَهُ لكِ بالنشوءِ يدانِ
وكأنَّما كنزُ الحياةِ وسِرُّها
في حُسْنِكِ المطبوعِ والفنَّانِ
فإذا عَبثْتِ به عبثتِ بحظِّنا
وبغايةِ الفنَّان من إحسانِ
وإذا رَعَيْتِ جلالهُ وكمالَهُ
خلَّدْتِ سُلطانًا على سُلطانِ

الشرر

هنيئًا لكم بِجنانِ الحياةِ
وأهلًا بنيرانها تَسْتَعِرْ!
سأَحْيا بها وَهَجًا مِن ضياءٍ
وأفْنَى بها رُجُمًا مِن شَرَرْ
وأشربُ مِن كأسِ هذا اللَّهيبِ
وأضحكُ مِنْ ضحكةٍ للقَدرْ!
وما النَّارُ إلَّا شراب الحياةِ
فأرضعتِ الدهرَ حتى ابتدرْ
أعيشُ كما تسبحُ النَّيراتُ
بهذا الأثيرِ بعيدَ الأثرْ
أجوبُ الوجودَ ولي مُهجةٌ
تُعادِي الأمانَ وتهوى الخَطَرْ
تَئنُّ ولكنْ أنينَ اللهيبِ
إذا هو أوشكَ أن ينفجرْ!
وأعتنقُ الحبَّ دينَ الحياةِ
ودينَ المماتِ الذي لا يَذَرْ
يرفُّ عليَّ بأمواجهِ
رفيفَ النسائمِ فوقَ الزَّهَرْ
ويُشْبِعُ لي لهْفةً لا تنامُ
وإشباعُها نَهمٌ ما استقرّْ
فأمرحُ بين اللَّظى والشعاعِ
كما يَمرحُ الموتُ ملءَ الشررْ!

قدسية المرأة

غبَنُوكِ حتى لم يَعُدْ لكِ بينهم
شأنٌ سوى شأنِ المتاعِ الفاني
وكأنَّما لم تخلقي أحلامَهم
وسعادةَ الإنسانِ بالإنسانِ
ورضيتِ غبنَكِ في خضوعكِ تارةً
أو في التوسُّلِ بالشذوذِ الجاني
فتدفَّقي يا نبعَ آمالِ الورَى
بحنانِك المُزْري بكلِّ حنانِ
وَتجمَّلي بإبائكِ العالي الذي
يَفترُّ عن فنٍّ وعن إيمانِ
ودعي لشاعرِكِ الوفيِّ غرامَه
بجمالكِ الرُّوحيِّ والجثماني
حتى يرتِّلَ للخلودِ بيانَهُ
وروائعَ الفنَّانِ للفنَّانِ
ويُصانَ حسنُكِ عن غباوةِ عالَمٍ
لاهٍ عن الحسنِ العظيمِ الباني
ويُثارَ في تقديسِه آياتهِ
فيتوبَ عن عبثٍ وعن كُفرانِ

•••

مَنْ ذا يُجلُّكِ ثم يُحسَبُ وصفُه
لكِ غيرَ تقديسٍ وغيرَ تفانِ؟
ولكم يصيحُ العُمْيُ باسمكِ بينما
هم ينعَمُون بظلمة العميانِ
نعتُوا الإباحيَّ الأثيمَ تَفنُّني
في الوصفِ عن صدقٍ وعن إحسانِ
والصدقُ لونٌ مِن عبادةِ مهجتي
وعبادتي شتَّى من الألوانِ

الحكمة الخالدة

راحَ يَسْعَى طالبًا مِنْ كلِّ شَيّْ
قبسَ الحكمةِ أو بأسَ العتيّْ
راحَ يسعى دائبًا في فَرْحةٍ
وهو كالمعتزِّ في نصر الكميّْ
جاهدًا حتى إذا أَوْفى على
غايةِ الحكمةِ والمجدِ الأبيّْ
صارَ لا يَغبِطُ إلَّا جاهلًا
أو غبيًّا يفهم الكونَ الغبيّْ!

الأوراق الميتة

تَرعرعَ رَوْضي يوم حان ربيعُهُ
ولكنْ مِن الأوراقِ ما سقطَتْ رغما
وما كلُّ نبتٍ مورِقٌ عند ريِّه
ويا رُبَّ نبتٍ كادَ بالماءِ أن يظما
كذلك بَعْضُ الناس حين تصونُهمْ
وتنفحهُمْ ودًّا وتُشبعهم عِلْما
كأنْ خُلِقُوا للجَدْبِ في كلِّ حالةٍ
فإنْ نُقِلوا للخصبِ زادوا به لُؤما
وما أنا مَنْ يأسَى على فَقْدِ جُهدِه
فمن عثراتِ الفهمِ نستكملُ الفهما
تَكشَّفَ روضي عن غصونٍ مريضةٍ
وهل كان يرضَاهَا سوى البصرِ الأعمى؟
لقد سُقطتْ أوراقُها مِنْ سقامها
كما يَقعُ المرْضَى فرائسَ للحمَّى
فطهَّرتُ رَوْضي مِن كريهِ أبوَّةٍ
وأعليتُ نفسي أن تكونَ لها أمَّا
وما كلُّ سُقْمٍ ذاهبٌ منْ رعايةٍ
فإن سقيمَ العطف قد يُورثُ السُّقما
ألا فليُغَنِّ الشامتون فإنَّني
أعيشُ بدنيا لن تُبادِلهُم ذمَّا
حَوَتْ مُثُلَ العليا لنفسٍ أبيَّةٍ
فمن خانها لاقَى الدنيةَ والوهما
ومَن شاء أن يهوِي إلى التربِ لم يكن
بأهلٍ لِأَنْ يَلْقَى لمحمدةٍ طَعْما
وفي الناس مَن يحيا نضيرًا على المدى
وآخرُ ترعاه فتستشعرُ اليُتما
ومَنْ قال إنَّ النفسَ والجسمَ واحدٌ
ففي وهمهِ لم يَفقهِ النفسَ والجسما

المرسم

يا مَرسمَ الألوانِ والأضواءِ
هلَّا ادَّكرتَ خصاصةَ الشُّعراءِ!
أُرْصِدْتَ للنَّهِمِ المصوِّرِ بينمَا
نحن الأحَقُّ بأنفسٍ ومَرائي
الشِّعرُ أحوجُ للمثالِ معزِّزًا
مَعناه أو مَبْناهُ في الأحياءِ
عينايَ في ظمأٍ إليكَ ومُهجتي
ظمآنةٌ كتخيُّلي ورجَائي
مَنْ لي بساعاتِ الخشوع طويلةً
تُقْضَى لديكَ مع الجميلِ النائي
فأعودُ أنقشُ باليراعةِ مؤمنًا
بالسحرِ والإعجازِ والإيحاءِ؟
هذي الأشعةُ والظلالُ جميعُها
صُوَرُ الفنونِ تدثَّرتْ برداءِ
والشاعرُ الكشَّافُ يَنْفذُ خلفَها
فيرى الجمالَ بروحِهِ الوضَّاءِ
لا خيرَ في شعرٍ إذا هو لم يكنْ
مِنْ هذه الألوانِ والأضواءِ!
أرنو إلى الحسنِ الأصيلِ كأنني
أستوعبُ الدنيا بعينِ الرَّائي
فإذا حُرِمْتُ فأيُّ دنيا مثلُهُ
للشعرِ في الأطيافِ والأصداءِ؟

•••

يا مَرْسَمَ الألوانِ والأضواءِ
هلَّا ادَّكرتَ خصاصةَ الشعراءِ؟

حُلم الفراشة

تطيرُ إلى الزَّهْرِ في خِفَّةٍ
لتمتصَّ منه الرحيقَ الشهيّْ
وما تتمنَّى سوى زهرةٍ
تبادلُها لونَها القرمزيّْ
تحومُ عليها وتنشقُ منها
جميلَ الشَّذَى، فالشَّذَى نفسُها
وتأبى التحوُّلَ في النُّورِ عنها
فإحساسُ زهرتِها حِسُّها
كأنَّا بزهرتِهَا أصبَحَتْ
فراشتَنا الحلوةَ العاثرهْ
وتلكَ الفراشةُ حين انتشتْ
على النورِ زهرُتها الطائرهْ
تبادلتَا ما لكلتَيْهِمَا
مِن الحظِّ والصورةِ الفاتنهْ
فصانَ التبادُلُ نفسيْهِمَا
وعاشا به عيشةً آمنهْ!

•••

كذلك تحلمُ في لهوِها
فراشتُنا الحُرَّةُ الباسمهْ
فدعْها تغازلُ في وَهمِها
خيالاتِ ساعاتِها الحالمهْ!

في السماء

كم دُعاءٍ وبكاءٍ ورجاءْ
بَعْضُها بالبعضِ في الجوِّ اصطدمْ
قد تناهتْ في أنيِّ الكهرباءْ
وتلاشتْ في وجُودٍ كالعدَمْ!

•••

مجمعُ الأضدادِ، كم مَعْنى بهِ
مُضْحِكٌ والمحْزِنُ المُشجي أخوهْ
كلُّ معنًى تائهٌ في سِربهِ
كلُّ معنى ليس يدري مَنْ ذَوُوهْ!

•••

تعجزُ الأربابُ عن حَلٍّ لها
فهي ألغازٌ بنُعْمى ونِقَمْ
أيُّ ربٍّ لو يُلبِّي سُؤلها
يُنصف الأحياءَ أو يَنفي الألمْ!

•••

هي فَوْضَى مِنْ أعاجيبِ الحياهْ
بين أنفاسٍ ضِعافٍ ثائرهْ
أبرياءُ الناس فيها والجُناهْ
جمعتْهم داعياتُ الآخرهْ

•••

أيُّ قاضٍ باسمِ عَدْلٍ يستطيعْ
حُكمُهُ في رغبةِ الخلْقِ السَّواءْ؟
أيُّ عدلٍ إنْ مَشَى بين الجميعْ
يَعرفُ الجاني ويَدرِي الأبرياءْ؟

•••

هذه أنفاسُها قد حُمِّلَتْ
ما حوتْ أجواءُ هاتيكَ السماءْ
كم نفوسٍ حَكمتْ أو ذُلِّلَتْ
وزَّعَتْ أنفاسَها ملءَ الهواءْ!

•••

هكَذَا الماضِي بمَا فيهِ لنا
ذكرياتٌ وغِذاءٌ وهواءْ
إنَّما الماضِي ومستقبلُنَا
أخَوَا الحاضرِ أو كالرُّفقاءْ!

ذباب الصيف

هجمَ الذبابُ كأنَّما ثأرٌ له
هذا الهجومُ بغضبةٍ متطايرهْ
ما بالهُ مثلَ الهمُومِ تتابعتْ
أو كالرشاشِ من الجيوشِ الكاسرهْ
نُفنيه، لكنْ لا يزالُ وُفودُهُ
فكأنَّما يحيا ببعثِ الآخرهْ!

العناكب

حَاكتْ مَصائدَها وما غفلتْ بها
لكنَّها عرفتْ ضلالةَ صيدِها
سكنتْ إلى حِيَلِ الدهاءِ بنسجها
فإذا الضَّحيَّة خُودِعتْ في زُهدِها
كم مِن رجاحةِ مُبصرٍ في ضعفهِ
غلبتْ نزاقة أَكمَهٍ مِنْ جُندِها
الدَّهرُ أستاذُ الدهاءِ فمن يَعِشْ
غِرًّا بدنياهُ تُمِتْهُ كعبدِها

المتمنية

لمن تسوقِينَ منكِ أمنيةً؟
أدْنَى أمانيكِ باتَ أقصَاهَا!
لم يَقبلِ الدهرُ ذُلَّ غانيةٍ
إلَّا وقد عافَ حُلوَ مَرآها
لا خيرَ في مُقبِلٍ وقد فضحتْ
دُنْياكِ عن منتَهَى نواياهَا
لا تُخْدَعِي بالرجاءِ واقتصدِي
فقلبُ دُنياكِ مِنْ ضحاياها!
ماتت ومُتنا نحنُ مِيتتَها
فمن عجيبٍ رجاءُ مَوتاها!

الثمن المدفوع

وذي غَدرٍ يودُّ خداعَ حِلمي
وبَعْدَ الغَدْرِ يدعُونِي صَدِيقا!
فقلتُ له: خَسِئتَ! أبعدَ شَتْمي
وإيذَائِي تُضلِّلنِي الطَّرِيقا؟!
دفعتُ جميعَه ثمنًا لبُعدي
عن الغدرِ الذي طعنَ الرفيقا
فكيف تُريدني مِن بعدِ دفعي
أطيقُكَ أو أجدِّدُه مطيقا؟!

طفلتي الشاعرة

أولِعَتْ طفلَتِي «هُدَى» بالمعاني
في جميعِ المُشاهَداتِ الحسانِ
فهي تُعْنَى بما حَوَتْهُ الشِّفاهُ
كيف صاغ الجمالَ منها الإلهُ؟
وهي تُعنى بالموجِ حُلوًا صغيرًا
كصغارِ الأطفال حاكوا الهديرَا
وهي تُعنى بالزَّهرِ والعطرِ فيه
أين قد خبَّأَتْهُ أيدي ذويهِ؟
والنجومِ التي تُطِلُّ حيارَى
كيف تبدو وكيف تخفَى مرارَا؟
والهلالِ الذي مع الليل ينمو
أتراعيه في حِمَى الليلِ أمُّ؟
والنَّدَى والضَّبابِ من أيِّ نارِ
طوَّقا الأرضَ هكذا بالبخارِ؟
أتعبتْ ذهنَها الصغيرَ بكدِّ
وأبوها بالفكرِ أَتْعسُ عَبْدِ
قلتُ: يا طفلتي وُقِيتِ الخيالا
فهو يبني ويهدمُ الآمالا
قد بحثنا الوجودَ لفظًا ومعنى
ورجعنا والكلُّ باكٍ مُعنَّى
وبلغنا بالشعرِ أرقَى السماءِ
ثُمَّ عُدْنا بذلةِ الكبرياءِ!

المستبد العادل

(رُفعتْ إلى جلالة الملك فؤاد الأول لمناسبة عودته إلى عاصمة ملكه في ٢٥ نوفمبر سنة ١٩٣٣.)

ضَجَّتْ لرحمتِكَ البلادُ وأعولَتْ:
أينَ العظيمُ المستبدُّ العادلُ؟
أين ابنُ إسماعيل؟ أين أبو النهى
والحزْمِ: مَنْ نعنُو له ونقاتلُ؟
مَنْ ذا سواكَ وهذه أَحْزابُها
طاشتْ، وكلٌّ في المهازلِ غافلُ؟
لم يبقَ غيرُ التاج مَوْئلَ خوْفِها
وحماكَ لا يرجو سِواه الوائلُ
غَرِقتْ ببحرِ الحادثاتِ وحاولتْ
تجدُ النجاةَ، فأين أين الساحلُ؟

•••

مولايَ! تَقصفُ بالمدافع فرحةٌ
وتَهشُّ بالبشرِ الوفيِّ منازلُ
والناسُ تَهتفُ في رجوعكَ سالمًا
ويُظِلُّهمْ أملٌ وحُبٌّ شاملُ
فاسمحْ لشعري أن يردِّدَ فرحةً
أخرى يردِّدها المروعُ الذاهلُ
قُتِلَتْ٣٣ كموَتى الرِّيفِ لم يَعبأْ بهم
أحدٌ، ولم يخشَ القضاةَ القاتلُ
هو ذلك الفقرُ العميمُ، ومثله
ترعاه في كنفِ الولاةِ مَهازلُ
لو أنَّ أهلَ الحكم هَبُّوا هبةً
ليصانَ ما دِيسَ الكدودُ العائلُ
لكنَّهم قنعُوا بما عَهِدُوا فمَا
عَبَأوا كأنَّ الحادثاتِ مَهازلُ
لولا رعايتُك الأبيةُ لم يَقُمْ
في مصر صَرْحٌ مُشرِفٌ متطاولُ

•••

أُزجي إلى العرشِ السنيِّ تَجلَّتي
وأبثُّ عن قومي الذي أنا حاملُ
وأزفُّ تهنئةَ البلاد وإنْ تكن
في الموتِ يخفقُ تُرْبُها ويسائلُ
فرحتْ بعودتِكَ الوفيَّ لحبِّها
والنَّدْبَ إنْ فُقِدَ الوفيُّ الباسلُ
والعبقريَّ بكلِّ جَدْبٍ نفحةٌ
لذكائهِ، وبكلِّ خطبٍ صائلُ
خُذْ أنتَ بين يديك كلَّ زمامها
ما كان غيركَ في العظائم جائلُ
شُورى الحياة غدتْ شرورَ حياتنا
والكلُّ فيها العاجزُ المتخاذلُ
ونرى الوزاراتِ الحصونَ كأنها
للعابثين المفسدين مَعاقلُ
قد ذقتُ منها اللوعتين، وربما
يمتنُّ بالعبث المسيءِ الجاهلُ
هذي بيوتُ الداء يَفقرُ شعبنا
منها، ويهتبلُ٣٤ الغبيُّ الخاملُ
وتزينها الراياتُ لكنْ تحتها
يلهُو ويسحَقُنا ويجنِي الباطلُ!

•••

مولايَ هذي مصرُ يُؤكل أهلُها
بعضًا لبعضٍ، والعُتُوُّ الكافلُ
ولديكَ أنتَ وما لغيركَ عدْلُها
فاصدعْ فأنتَ المستبدُّ العادلُ

في الأصفاد

أعودُ إليكم أنتمو أهلَ مَوْطني
أُهيبُ لعلِّي أستثيرُ جوابا
على أيِّ مجدٍ فُرقةٌ بعد فُرقةٍ
أم المجدُ أن نَلقى البلاد خرابا؟!
يئستُ ولكني على اليأس آملٌ
وإنْ نلتُ منكم لعنةً وعذابا
أترضون هذا الذلَّ دستورَ عيشكم
وتحيونَ للوهم العميم غِضابا
وقد بيع هذا التربُ غبنًا وضلةً
ولم تعدِلُوا في الحالتين ترابا؟!
إذا عُدَّتِ الأصفادُ زينةَ أهلها
فلا بدعَ إن عَدُّوا الممات غِلابا!

•••

سخطتُ وهل لي غير أبناءِ موطِني
لحبي وسخطي مُغْفَلًا ومجابا؟
سخطتُ وهذا بائسٌ إثرَ بائسٍ
تمرَّغَ في هذا الترابِ وغابا!
لقد ملك الدنيا العريضةَ أمسهُم
فما بالهم حالوا لَقًى ويبابا؟
أُعنِّفهم تعنيفَ مَنْ روحُه لهم
ومن ذاقَ ما ذاقوا أذًى وعقابا
أرى الدَّهرَ يُملي كلَّ وعظٍ وحكمةٍ
عليهم فيأبَوْنَ الصوابَ صوابا
ويحيون في أمنِ الجبان بذلةٍ
ولو عقلوا خاضوا الممات عُبابا
هو السِّلمُ في نار المدافع والقنَا
هو العيش أن نأبَى الحياةَ كذابا
وأن نُرغِم الأعداء إرغامَ مؤمنٍ
يُغيث رقابًا أو يطير رقابا
وأن نملك الأرضَ التي نحن أهلُها
ونخلقَ من هذا السحابِ قِبَابا
وإلَّا فما أخْزَى الحياةَ مهينةً
وأعقَلَنَا ألَّا نعيشَ كلابا
وأن نجعل النيرانَ سقيًا لغرسها
ونبعثَ من هذا المُصابِ مصابا!

رقصة على بركان

أجلْ! هذه رقصةٌ للجنونِ
على حافةِ اللهبِ المُسْتَثَارْ
سئِمتُم دعائِي، سئمتُم حنيني
فماذا انتفعتم بغيرِ الدَّمارْ؟!
إذا كنتُ أقسو عليكم فإنِّي
أغارُ عليكم فداءً بنفسي
وكم مِنْ مُجاملةٍ مَحْضُ جُبْنٍ
ويأسٍ، ولستُ لِجُبْنٍ ويأسِ
تركتم مَواطنَكم للهلاكِ
وبركانهُ قاذفٌ بالحُمَمْ
وصِرتم إلى رأسهِ في عراك
كأنَّ البطولةَ محضُ العَدَمْ!
وأين البطولةُ غيرُ الفداءِ
بأرواحِكمْ لبناء الوطنْ؟
فأمَّا النزاعُ لغير انتهاءِ
فعارٌ، وعارٌ دوامُ الفِتَنْ
أترضون موتَ الخصام العنيفِ
ورقصتكم فوق هذا اللهبْ
وتأبون صِدقَ الإخاءِ الشريفِ
لموطنكم وهو يَلْقَى العطبْ؟!

عباد الشمس

يا زَهْرُ عِشْ للنُّورِ والشمسِ
أنا ما حييتُ فِداهُما نفسي
شمسي وشمسُكَ ما لِنُورهما
إلَّا أماني الرُّوحِ والحِسِّ
بَدَّدتُ ما بدَّدْتَ مِنْ شَجنٍ
وطرحتُ ما ألقيتَ من يأسِ
إنَّا كلانا للفناءِ، فما
أغبى الذي يَبْكي على أمسِ!

•••

ترنو إليها دائمًا فرِحًا
وتبوحُ بالخطراتِ في هَمْسِ
ما أنتَ أوَّلَ مَنْ تَتبَّعها
بالرُّوحِ في أحلامِ مُلتمسِ
كم أمةٍ عبدَتْ مَشارقَها
فإذا بها نهْبٌ لدى الغلسِ
تهفو وتضحكُ أنتَ في شغفٍ
والدهرُ في تصميمِ مفترسِ
وأخوكَ قلبي في تَطلعهِ
كتطلع المسجونِ من حبسِ
لا شيءَ إلَّا الموت غايتُه
ويعيشُ مثلكَ عابدَ الشمسِ!

الباكية

أبكيتُها في لَهْفَةٍ والدُّمَى
تَرْنو إليها في أَسًى ساهمهْ
أبكيتُها لا عن مَدَى قسوةٍ
لكنَّما عن مُهجتي الرَّاحمهْ
لم أُبكها إلَّا وفي ظنها
أني الأبُ القاسي وأني الخصيمْ
ففارقتني وهي في هَمِّها
تستصحبُ النَّومَ بطرفٍ أليمْ
فبلَّلَتْ خدًّا كما بَلَّلَتْ
بالدَّمعِ خدَّ الدُّميةِ النائمهْ
يا ليتَهَا قد أبصَرتْ عَبرتِي
إذ شِمتُها في نومها باسمهْ
كأنما البَسْمَةُ مِن سُخْرِها
وهذه الدُّميةُ لي عاذلهْ
ما هذه اللوعةُ من طفلتي
والبسمةُ السَّمْحَة والقاتِلهْ؟!

لطفية النادي

(تحية أول طائرة مصرية في يوم فوزها.)

figure
لطفية النادي.
يا يومُ أنت قَرينُ أعيادِ
وسَناكَ خلفَ جمالِكَ البادِي
ما كلُّ يومٍ يُسْتَعَزُّ به
ولرُبَّ يومٍ رَمْزُ عُبَّادِ
قد كِدتُ أيأسُ من بني وطني
فنقمت مِنْ يأسِي وإلحَادي
وأريتني لفتاتهِ مَثلًا
يُحيي الرجاءَ ويُلهمُ الشَّادي
إنْ يَنْسَ فتيانُ الحِمَى زمنًا
رُوحَ الفداءِ فروحُها الفادِي

•••

أهلًا برائدةِ الهواءِ لنا!
أهلًا بها «لطفية النادي»!
سَبَقَتْ إلى مَجْدٍ تُسجِّلُهُ
والمجدُ مخلوقٌ لرُوَّادِ
ذهبَتْ بكلِّ قيودِ غفلتِنَا
وسَمتْ بنُبْلِ شعورها الهادِي
طارتْ وعينُ النَّسرِ في خجلٍ
وكأنها طارت لآبادِ
وعيونُنا أسرى تُتابعُها
وترى الدقائقَ طولَ آمادِ
غزَتِ الهواءَ كغزوِ غفلتنا
وسمَتْ على مَعْهُود أسدادِ
وتجولُ في ميدانهِ فرَحًا
فرحَ العزيز بفخرِ أشهادِ
والشَّمْسُ تُرْسلُ مِنْ أشعَّتهَا
جَيْشيْن مِنْ خافٍ ومِنْ بادِ
حرسَا لها ولنا تطلُّعهَا
فكأنَّها حِيطتْ بأجنادِ
وكأنَّها رمزٌ لأمَّتها
في حُلمها وضراعةُ الوادي

•••

يا بنتَ مصر أرى بطولتها
مثَّلتِها ألقًا لمرتادِ
عدَّتْكِ آثارٌ لها شمختْ
كالوحيِ مِن دعواتِ أجدادِ
لبثُوا قرونًا في مَقابرهم
يترقَّبون نهوضَ أحفادِ
نامُوا فما نامتْ رسالتُهم
وكأنَّها طارتْ بميعادِ
فإذا هتفنا اليومَ مِن فرحٍ
فهتافُنا من أمسِنَا الصادي!

الوفاء الذبيح

(إلى الصاحب الغادر)

مدَحْتُ ما مَدحْتُ لكن
هيهاتَ أن أنظمَ الهجاءَ
يَسرُّني ما مدحتُ يومًا
لا ذمُّ خِلي إذا أساءَ
سأحفظُ الذكرياتِ شَدْوًا
يُزيِّنُ الشعرَ والغِناءَ
وكلما لم أجدْ وفاءً
أو كلما زدتَني عداء
رجعتُ أستنشقُ الأماني
في مدحيَ المُزدَهي ولاءَ
وعِشْتُ في الذكرياتِ أبكي
وليتني أرتوي بُكاءَ!

•••

قد بِعتني غادرًا ولكنْ
ما نِلتَ مِنْ بَيعتي ثراءَ
بل زدتَ فقرًا وأيَّ فقرٍ
فأنتَ مَنْ بدَّد الإخاءَ
رضيتُ والله أن تُفَدَّى
لو كنتَ مَنْ يَنشدُ الفداءَ
لا الختلَ إذْ تَزدهي جُحودًا
بالودِّ أو تَزدهي رياءَ
وكلُّ ذنبٍ يهونُ لكن
لا ذنبُ مَنْ يَذْبَحُ الوفاءَ
ومَن يُجازِي بكلِّ كيدٍ
مَنْ يشتهي الناسَ أصدقاءَ!

•••

تَواضُعي ذُقتَهُ طويلًا
فهاكهُ الآنَ كبرياءَ!

عذراء بختن The Maiden of Bekhten

ذاك «رمسيسُ» والوُفودُ حواليْهِ بأشهى الحُليِّ والعُبدانِ
والأغاني تَسيلُ في لهفِ العيدانِ حينًا وفي حنينِ الغواني
زِنَّ منه اليمينَ في جِلسةِ الفنِّ كما زَانَ مَطمحَ الفنّانِ
وعُيونُ الأتباعِ في شَرفِ المُلكِ تَباهَوْا بين الهدايا الحِسَانِ
وضِخَامُ المرَاوِحِ الجمَّةِ الوشيِ تَزُفُّ النسيمَ قبلَ الأوانِ
ونقوشُ البَهْوِ البهيَّةُ ألوانٌ تُحاكي الربيعَ في الطيْلسانِ
والهدايا تَختالُ مِنْ كلِّ رُكنٍ يَتسامى وكلِّ رُكنٍ يُداني
والمليكُ العزيزُ ينظرُها شَزْرًا وإنْ حُمِّلَتْ فُنونَ المعاني
ما يُبَالي بها وإنْ أكْبَرَتْها تُحَفٌ للجمال مِلْءُ الزَّمَانِ
حِينَ حُكامهُ تفانَوْا بما أهْدَوْا وجازُوا به حُدُودَ التَّفَاني
ثم لاحتْ «عذراءُ بِخْتِنَ» في الشَّفِّ فكانت حُوريَّةَ المِهْرَجان
هي أشْهَى ما يَستطيع أبوها مِنْ هدايا تَبُزُّ سِحْرَ البيان
فتخلَّى رمسيسُ عن عرشهِ الفخمِ إليها والعرشُ في الزهوِ رانِ
جذبَتْهُ إلى صِباهَا وكانتْ آيةَ المُلْكِ والمُنَى في ثوانِ!
جَلَّ مَجْدُ الجمالِ، فالمجدُ في الدنيا فناءٌ ومجدُهُ غيرُ فانِ
ورموزُ الأربابِ شتَّى ولكنْ هو رمزُ الموحَّدِ الديَّانِ

الدهر الساخر

سمعنا صياحَ الدَّهرِ في الرَّعْدِ ساخرًا
بأبنائِه والدَّهرُ يُوغلُ في السُّخْرِ
لقد جعلَ الزنديقَ في الناسِ مُؤْمِنًا
كما جعلَ الإيمانَ لونًا من الكُفْرِ
وبدَّلَ مِنْ مقياس كلِّ حقيقةٍ
وتوَّجَ إحسانَ البريَّة بالغدْرِ
وما فاهَ إلَّا لِلخَئُونِ بحكمةٍ
ويا ما أقلَّ الوعظَ والصدقَ للدَّهر:٣٥
«لئن كانتِ الدنيا أفادتكَ ثروةً
فأصبحتَ منها بعدَ عُسْرٍ أخا يُسْرِ
لقد كشفَ الإثراءُ منك خلائقًا
من اللؤمِ كانت تحت ثوبٍ من الفقرِ»

بائع الأحلام

جَمَّعْتُ أحلامي ورُحتُ مناديًا:
هل مُشْتَرٍ يهفو إلى أحلامِي؟
فتضاحكتْ حولي الطبيعةُ حُلوةً
كالأمِّ عاطفةً على إلهامي
أنا بائعُ الأَحلامِ شَتَّى، كلُّها
عَجَبٌ مِنَ الأضواءِ والأنغامِ
لم أَبْنِها يومًا بفضلِ مُعَلِّمٍ
إلَّا الأسَى وهَوَى فؤادِي الدامي
لُعَبُ الخيالِ، وكم بها مِنْ مَظهرٍ
يِستجمعُ السَّامي وغيرَ السَّامي
فيها المُثَلَّمُ والجريحُ، كما بِهَا
ما اختالَ مِنْ حالٍ ومِنْ بسَّامِ
وأنا الصغيرُ الطفلُ في فَرَحٍ بها
وكسيرُها كسليمِها لغرامي
والأمُّ تضحكُ مِنْ غروري تارةً
وهنيهةً تأسَى على أوهَامِي
لم ألقَ في الدنيا جميلًا يُقتَنَى
ويُبَاعُ غيرَ روائعِ الأحلامِ!

قطتي المتصوفة

لقد تقشَّفتُ عُمري
فما خَسِرتُ كثيرَا
فهل تصوَّفتِ مثلي
وقد هجَرتِ القصورَا؟
رضيتِ خُبزًا كسيرًا
ونلتِ قلبًا كسيرَا!

ليلة في الصيف A Summer Night

آمَنَّ بالبدر المُطلِّ حَنانُهُ
حتى ينامَ على بساطِ الماءِ
فخلعْنَ أرديةً كأنَّ بقاءَها
كُفرٌ بما للحُسْن مَنْ آلاءِ
وجَلسْنَ والنَّومُ المخادع ساحرٌ
أحلامَهنَّ بروحهِ المشَّاءِ
فلبثْنَ بين تَنَاعُسٍ لا يَنتهي
والنَّومُ في شغفٍ وفي استحياءِ
والدِّفءُ في الجوِّ الحنون كأنَّه
أمَلُ الحياةِ يُبَثُّ في الأحياءِ
وَكشفْنَ لليلِ الصديقِ نماذجًا
للشِّعرِ فهو مُعلِّمُ الشُّعَرَاءِ
مِنْ كلِّ جِسْمٍ نُورُهُ وظِلالُهُ
مَجْلَى الفُنون بنفحةٍ عَذْرَاءِ
نَتَسَمَّعُ الأَنغامَ ملءَ سُكونهِ
ونعدُّ رُؤياهُ مِنَ الصَّهباءِ
ونَرَى به فصلَ الرَّبيعِ وإنْ يكنْ
في الصيف فتانًا لحُلْمِ الرائي
وإذا الطَّبِيعَةُ في سُكونٍ شاملٍ
والحبُّ فيه يثورُ كالأنواءِ!

السعادة المجنحة

أتحسبُها تَقرُّ لديكَ خِلًّا؟
فهل أنْسِيتَ أهواءَ الغواني؟
فدَاعِبْها إذا ما شئتَ طيفًا
يَمُرُّ كما تَمُرُّ بكَ المعاني
إذا حاولتَ تَخطفُها تَلاشَتْ
تَلَاشِي الوَهْمِ في دُنيا العيانِ
أبَتْ عيشَ الإسارِ فباعدتنا
ونحن بأسرِنا أبدًا نُعَانِي
تراهَا كالضياءِ بكلِّ لونٍ
وتمسِكُها فتفقدُهَا اليدانِ
كأنَّ السِّحرَ يَملؤها حياةً
ولكنْ كلُّها بالسحرِ فانِ
تَطيرُ إذا تَتَبَّعهَا حبيبٌ
وتهبطُ حيث لا يُرجَى التَّدَانِي
ولم نَتركْ محلًّا لم تَزُرْه
على صُوَرٍ مُنَوَّعةٍ حِسانِ
وكلٌّ يَشْتَكِي وَصْلًا وهَجْرًا
وقد بَاتَا بها يتسَاويانِ
وكم جادتْ وكم بخلَتْ ولكنْ
لها سوقٌ تَرُوجُ من الأماني
نبيع حياتَنا لننالَ منها
خيالًا يستحيل إلى دخانِ
فتخدعُنَا وتقهرُنَا وتَمضي
بأجنحةِ القساوةِ والحنانِ!

الجاسوس

حارَبَتْني الحياةُ حتى دَعَتْني
أنْ أَعَافَ الرِّضَى وآبَى السَّلَامَا
ذُقتُ منها العَذابَ والمُرَّ ألوا
نًا فدَعْني أُذيقُها الانتقامَا!
لستُ بَعْدَ الذي تَجَرَّعْتُ مِنها
أشْتَهي عَطفَهَا وأرْضَى هواهَا
سوف أَمْضِي مُنَقِّبًا عن مَدَاهَا
ثم أُفْشِي عُيُوبَها وأذاهَا
أنا بالفَنِّ دائبُ الكَشْفِ عنها
فهو نعمَ الجاسوسُ نِعْمَ الحليفُ
أنا أحيَا بالفنِّ فهو غِذَائي
وانتقامِي، فما الحياةُ الرغيفُ!

أخت أفرديت

(لمحة من فرين Phryne، أروع مثال أبدعته الحياة.)
figure
في قديم الزَّمانِ عاشتْ على جَمْعِ البراعيمِ مِنْ نَضيرِ الحُقُولِ
شبهُ فلَّاحةٍ يُصاحبُها الفَقْرُ وإن أُسْعِدَتْ بحُسْنٍ نبيلِ
ثم زارتْ في «إلوسِيس»٣٦ حُلَى البحر بعِيدٍ للحُسْنِ زاهٍ مؤاتِ
فتجلَّتْ في نشوةٍ ومِراحٍ مِنْ حنانْ الصِّبَا ووثب الحياةِ
وجَرَتْ للمياهِ في غَيْرِ حِرْصٍ والغواني مداعبات إباءَ
فنزَعْنَ الإِزارَ عنها ولكنْ صانَها البَحْرُ عفةً وحياءَ
ذاك يومٌ «فِرينُ» قد سَجَّلتْهُ في حَيَاةِ الفُنُون والفنَّان
ألهمتْ فيه عبقريًّا وفنًّا «لأبلِّيسَ»٣٧ سيِّدِ الألوان
قد رآها ذاك المصوِّرُ إعجازًا وآيَ الطبيعةِ الفتَّانَهْ
فأبى أن يفوتهُ بعضُ جَدْوَاهَا ومِنْ حُسْنِهَا رأَى إحسانَهْ
ودَنا والجُمُوعُ تَرْقُبُهَا حَيْرَى وقد أوشكتْ تفوتُ المِياهَا
داعيًا وهْي مِنْ جلالتهِ تُصغي وترعاه رهبةً وانتباهَا
وإذا منتَهى أماني «أَبليسَ» اتخاذُ النموذجِ الحيِّ ربَّهْ
راسمًا وحيَه مَفاتنَ دُنياهُ، مُذيبًا له كما شاءَ قَلبهْ
وإذا «أَفرديتُ» تاركة البحرِ تجلَّتْ عنها برسمِ الخُلُودِ
صورةٌ تنبضُ الحياةُ بها نَبْضًا وتُوحِي لنا بمعنى الوجودِ
كم أديبٍ وشاعرٍ فيلسوفٍ وعظيمٍ مُصَوِّرٍ معدودِ
صار لا يَرتجي سوى الوحيِ منها ويَراهَا مَآلَ حُلْمِ السعيدِ
فإذا بالفنونِ أَسْرَى لديْها وإذا سِحْرُهَا حَيَاةُ الفنونِ
وتَملَّى «بِرَكْسِتِيليسُ» فيها ما يراه الفنَّانُ أشهى الجُنونِ
شامَ فيها «فينوسَ» واختارَ أن يُودِعَ هذي الأُلوهةَ الصخرَ نَحتَهْ
يَقْطَعُ الصَّخْرَ في ذُهولٍ عجيبٍ بينما يَنْسخُ التفنُّنُ موتَهُ!
هكذا أصبحت «فِرِينُ» مثالًا للجمالِ المقدَّسِ التيَّاهِ
كلُّ فنٍ يَرى بها ربَّه العالي، فمنها استمدَّ رُوحَ الإلهِ
بلغتْ غايةَ النفوذِ وصارتْ في الغِنَى قُوَّةً وأيَّ مَليكَهْ
حمَدَتْهَا دُنيا الجمالِ ولكنْ لم تَهَبْ مرةً أذًى أو شريكَهْ
بل أفاضتْ على روائع يُونانَ بهاءً مِنْ سحرِها العلويِّ
كم جمالٍ في صورةٍ وقريضٍ هو بعضٌ من وَحيها الأبديِّ
غير أنَّ الدُّنيا الحقيرةَ شاءَتْ أن يجازَى الجمالُ شرَّ إساءَهْ
فادَّعتْ ما ادَّعَتْ عليها لتلقَى موتَها وهي شمسُها الوضَّاءَهْ!

•••

وتوَلَّى الدفاعَ «هَيْبَرِيدِيسُ»٣٨ ولكنْ رَأَى النَّجَاةَ مُحالَا
لم يُفِدْهَا دفاعُه الرائعُ الدَّاوِي ولم يُنقذ الذكاءُ الجمالا
وبدا اليأسُ شاملًا، فتمادَى نازعًا عن جمالها الحيِّ سترَهْ
صائحًا: أيها القضاةُ! إليكمْ قُدْرَةً غُلِّبَتْ على كلِّ قُدْرَهْ!
هذه لمحةُ الألوهةِ جاءت في «فرين» العزيزةِ المحبوبَهْ
أَلهمتْ كلَّ شاعرٍ وزعيمٍ في الفنونِ المآثرَ الموهوبَهْ!
هي فوقَ القانونِ في كل شيءٍ فهي رمزُ الحضارةٍ الفنَّانَهْ
ولها الحقُّ أن تُصانَ وتُحْمَى قَبَسًا من ألوهةٍ فتَّانَهْ!
هي مَرْأَى الإعجازِ تَبْعَثُهُ الأربابُ للناسِ كي يَشيموا الألوهَهْ
هي فخرُ الحياةِ في هذه الدنيا نسِينَا بها الهمومَ السفيههْ!
إنَّ جسمًا كذلك الجسمِ لا يُقْتلُ بل يحتويهِ للفنِّ معبَدْ!
أيُّ قاضٍ ضميرهُ يحمل الوزرَ إذا ما قضَى بموتٍ وأيَّدْ؟!

•••

فإذا بالقضاةِ قد بَرَّءُوها ودَوِيُّ الشَّعْبِ المُحيِّي كريمُ
فمضتْ في الأسَى لتشكرَ «فِينُوسَ» كما يشكرُ الحميمَ الحميمُ

ساعة الأبدية

تركنا خلفنَا الضوضاءَ تَطْغَى
ويَبْسُطُهَا على الأحْيَاءِ حُمْقُ
وجئنا «النِّيلَ» نُقْرِؤُه هوانَا
وتَشرحُهُ على الأَفنانِ وُرْقُ
كأنَّ «النِّيلَ» مَعبدُنا المُفَدَّى
وفي أعماقهِ للحُبِّ عُمْقُ
جَرَى فجرَى به أبَدٌ سحيقٌ
مِن الأَحلامِ ليس لهنَّ أُفْقُ
خواطرُ من فؤادِ الدهر سالتْ
وفي لألائِها أملٌ وشَوقُ
تَمَلَّيْنَا الجمالَ يَرفُّ فيها
فليس جمالُهُ ممَّا يُعَقُّ
إذا حقَّ الخشوعُ على جمادٍ
أليسَ على الحياةِ إذنْ يحقُّ؟
تملَّينا بِهدْأتِهِ نعيمًا
له في هذهِ النسماتِ نَسْقُ
وقبَّلنا العواطفَ في شِفَاهٍ
كأنَّا شبهُ أفراخٍ تُزَقُّ
وكنَّا وحدَنا لكنْ شعرنا
بدُنْيَا للملاحةِ تَستدقُّ
تحفُّ بنا وتَمنحُنا رضاها
مِن الوَهْمِ المحبَّبِ وَهْيَ صِدْقُ
وتُحْسَبُ وَحْدَهَا في العُمر عُمرًا
فليسَ لنا سواهَا يَستحقُّ
نَشُقُّ لها من الظلماءِ حِصنًا
عَتيًّا في الصبابةِ لا يَشُقُّ
ويَحمينا النَّخيلُ فما نُبالي
أيُحجَبُ خلفَه بَرْقٌ وَصعْقُ
وتهتفُ حولنا الأَطيافُ سَكْرَى
وليس لهنَّ حين لهنَّ نُطقُ
ويُخفينا الغرامُ فلا ترانا
وإنْ مَلأَ الهواءَ مُنًى وعِشْقُ!

الألحان السجينة

تلك القَمَارِيُّ والكِرْوَانُ صادحةٌ
كأنَّها أنبياءُ الحُبِّ للناسِ
هي الحياةُ بأفراحٍ تردِّدُها
لليائسينَ فتجلو ظُلمةَ الياسِ
هيَّا استمعْها وَدعْ طيرًا كلفتَ بهِ
رهنَ المَحابسِ في أموات ألحانِ
لَحْنُ الطَّليقِ تَرَى رُوحَ الحياة بهِ
تَطيرُ ما بين أفنانٍ وأفنانِ
يا صاحبي! كلُّ ما في العيشِ مِنْ أثرٍ
حالٍ تراه عَدُوًّا للتقاليدِ
ما في الطبيعةِ إلَّا كلُّ مُحْسِنَةٍ
فاغنمْ حياتَكَ من هذي الأناشيدِ
اذْهَبْ إليها ودَعْ أسْرًا تَضيقُ به
ذَرعًا وحرِّرْ أسيرَ الطيرِ يا صاحِ!
لن يغنمَ الفَنُّ صَدَّاحًا يقيِّدهُ
بل يبعثُ القيدُ أتراحًا لأتراحِ!

الزائر الخائف

أهلًا بزائرِنا الجديدِ «الهُدهدِ» الخاشي أماني!
ماذا؟ أتخشَى يا عزيزَ الحُسْنِ فنَّانًا يُعاني؟
أبدًا يُتابعُ كلَّ حُسْنٍ كعزاءٍ لِهَوَاهْ
ويَصونُه أضعافَ ما صانتْه غاياتُ الحياهْ
اُنظرْ! تأمَّلْ ما تنالُ دواجني مِن صُحبتي
فأنا الأسيرُ لها وإنْ عُدَّتْ أسيرةَ رغبتي!
النحلُ مالكةُ الهواءِ سعيدةٌ بحديقتي
وحبيسةُ الغالي الدجاجِ أليفَتِي وصديقَتِي
وأرانبُ الصُّوفِ الجميلِ تألَّقَتْ نظراتُها
الحُبُّ يجمعُنا ولم تَدْرِ الهمومَ حياتُها
بَيْنا الحمامُ يطيرُ في فَوْجٍ كأحلامِ الربيعْ
لم يَخْشَ مِنْ شَغفي فعادَ إليَّ في نَسَقٍ بديعْ
فإذا أردتَ فمرحبًا بك ضيفنا وصديقنَا
وإذا أبيتَ فليتَنا ندري رضاءَك … ليتَنَا!

القدِّيس

(أهداها الشاعر إلى صديقه الفنان شعبان زكي.)

figure
شعبان زكي (بريشته).
يا صديقي أنتَ كالقدِّيس في هذي الحياةِ
أنتَ حَيٌّ بين أمواتٍ أساءوا للمماتِ!
ثاويًا في عُزلةٍ كالصخرِ في بحرِ الطُّغاةِ
تقبسُ النورَ من الظلمةِ بل من ظُلُماتِ
ترسمُ الأصباغ شِعرًا قد تعالى عن رُواةِ
لغة يفهمها الأحياءُ مِنْ دُونِ اللغاتِ
أينَ هُمْ يا فنُّ؟ أينَ الناسُ؟ في أيِّ الجهاتِ؟
لا أرى إلَّا نُجومًا هامساتٍ باسماتِ
عَلَّها الأحياءُ في الدنيا وأهلُ النظراتِ
هنَّ لن يَخذلْنَ فنَّانَا على الأرضِ المواتِ
سابحاتٍ في مُحيطِ الدهرِ في ماضٍ وآتِ
باحثاتٍ عن فقيدِ الفنِّ بين النَّيِّراتِ
عازفاتٍ في مَجاري الكون لحنَ الكائناتِ
عِشْ وتَرجمْ أنتَ مِنْ أسرارها أغلَى الصفاتِ
في نُقوشٍ كلُّها آياتُ فَنٍّ أو صلاةِ
تَبعثُ الألحانَ في النفس بلمح الخطَرَاتِ
كلُّها صدحٌ وصمتٌ هو كالصَّدحِ مُؤاتي
قنَصتْ أطيافَ أضواءٍ على لحنٍ شَتَاتِ
لهِجتْ بالصَّفوِ حينًا ثم حينًا بالشكاةِ
يَتْمَشَّى الحبُّ فيها بالمعاني الخالداتِ
أيُّ وَحْيٍ غير وحي الحبِّ يَبْقَى للحياةِ؟
لا أَرى إلَّاه نُورًا ضائعًا بين الهواةِ
مَجْمَعُ الألحان، لكنْ أينَ أفواهُ الشُّدَاةِ؟

•••

يا صديقي! ذلك الإلهامُ فَيْضُ النَّشَوَاتِ
يتوالى في ازدحامٍ بالمعاني الرائعاتِ
عبقريُّ الوحيِ يَهوَى عبقريَّ اللمحاتِ
أَوَحِيدٌ أنتَ يا مَنْ نالَ هذي المُلْهِمَاتِ؟!
مِنْ دُهُورٍ تعرضُ الكونَ ببعضِ اللحظاتِ
مِنْ نعيمٍ سَرْمَديٍّ في ثوانٍ قلقاتِ
كلُّها طَوْعٌ لما تهْوَى بأشهى السَّكَرَاتِ
كلُّها صادٍ إلى الفنَّانِ مُحْيي كلَّ ذاتِ
وكأنَّ الخلقَ وَهْمٌ دونَه حتى يُؤَاتي!
فتقبَّلْ حُبَّهَا الغالي ومحسودَ الهِباتِ
هي في الأحلامِ سَكرَى وهي سكرى اليقظاتِ
راوياتٍ سيرةَ الدهرِ وآياتِ العِظاتِ
هي أقْصَى مِنْ مُحالٍ وهي أدْنَى الراوياتِ
ثائراتٍ خاضعاتٍ، خاضعاتٍ ثائراتِ
كلُّنا الجاهلُ ما تَعني، سوى الفنِّ … فهاتِ!
هاتِ ما تُبدعُ في محضِ خُشوعٍ وتُقَاةِ
مِنْ مَراءٍ ومَعانٍ وصفاتٍ وسِمَاتِ
كلُّها مِنْ عالَمٍ خافٍ وطَوْع اللَّمَساتِ
تَتَجَلَّى فتراها بِنُهًى للفَنِّ عاتِ
ثم تُحييها ضُروبًا مِنْ حياةٍ شائقاتِ
أنتَ يا فَنَّانَ شَعْبٍ خاسرٍ في الغَمَرَاتِ
إنْ تَناسَ الناسُ لم تَخسرْ سوى عطفِ الجُنَاةِ
كم ضحايا لفنونٍ وضحايا لأذاةِ
فلتَعِشْ للفَنِّ قُربانًا وعِشْ أسمى أداةِ
وإذا النَّاسُ تناسَوْا فتقبَّلْ قُبُلاتي!

المتعبِّد

هَدأةَ اللَّيلِ أنت صَوْمَعَةُ الحُبِّ فروحٌ تهفو وقلبٌ يَرفُّ
ظُلماتٌ هي الضياءُ لنفسٍ بسموِّ الإيمانِ تسمو وتصفُو
نامَ أهلُ الغرامِ بعد سُهادٍ وأنا سَاهِدٌ به أستخفُّ
سَكروا بالهوى ولكنَّ سُكري بمعانٍ عن الإلَهِ تشفُّ
خَمرتي ذلك التأمُّلُ في الليلِ فأعلو في حين غيري يَسُفُّ
قد تَذوَّقْتُ كلَّ راحٍ وعندي أنَّ راحَ التعبُّدِ الحُرِّ صِرْفُ
نظراتي إلى الوجود عِباداتٌ لربِّي وصَمْتُهُ السَّمْحُ عَطْفُ
لي عيونٌ مِنْ صفوْ نفسي تناجيه فما يُسْعفُ التَّصَوُّفَ طَرفُ
وأنا ذلك الضعيفُ ولكنْ في حِماهُ لا يَعرفُ النَّفسَ ضَعْفُ
لُغَتي مِن حَنانِ هذي المباني والمعاني٣٩ وما لها بَعْدُ حَرْفُ
لغةٌ للصموتِ وهو بليغٌ، رُبَّ صَمْتٍ له بيانٌ ووصفُ
إنَّني سابحٌ وكوني محيطٌ ومَماتي أمنٌ وأمنيَ حَتْفُ
وحياتي لولا مُناجاةُ خَلَّاقي فناءٌ، فإنَّ نَبعي يجِفُّ

خمر الحياة

لم أَذُقْها إلَّا قليلًا ولكنْ
أنا دومًا كالشَّاربِ المُتَحَسِّي
أَتملَّى الحياةَ شِعرًا وأَحْكِي
وَقْعَهَا الحُرَّ في جوانبِ نفسِي
لا تَظنَّ الظُّنونَ بي فشفيعِي
خاطرٌ طائفٌ على كلِّ حِسِّ
كم عرفتُ العميقَ مِنْ سَكرةِ الحِرْ
مَان في حين تمْلأ الخَمْرُ كأسي٤٠
أكتفي بالدُّنُوِّ منها وأرنو
لِلَظَاهَا كعابدٍ نارَ شمسِ
لا تَلُمْني فلستَ تعرفُ ديني
هو أسمى مِنْ كلِّ طُهرٍ ورِجْسِ
هو مَعْنًى يَجلُّ عن كلِّ وَصْفٍ
وهو صِدْقٌ يَجلُّ عن كل حَدْسِ
هو نفسُ الألوهةِ المتفاني
في مَدَاهَا مَدَى رجائي وأُنسي
مِنْ ضياءِ الإلهِ قد خُلِقَتْ نَفـ
ـسي ومِنْ ظُلمةِ الورى جاء يأسي
وأرى اللهَ في الحياةِ فدعني
عابدًا غافرًا لأبناءِ جنسي
إنَّ هذا «الينبوعَ» لله قربا
نٌ فهمسي له إلى الربِّ همسي
كم طهور مِنْ نظرةِ الرِّجْسِ رجسٌ
وسواه بالطهرِ للطهْرِ يُمْسي
فأنا عابدُ الألُوهَةِ في كُلِّ
مَجَالٍ، وللألوهةِ نَفْسِي!

ليالي الرمل

قد سألنا الآمالَ عنها ولكنْ
ما تَزَالُ الآمالُ عَطْشى سِغابَا
عُلِّلَتْ بالغَرَامِ فيها فشابتْ
في ارتقابٍ وما برحنَ كعابَا
حُلِّلَ السحرُ حينما حُرِّمَ الشِّعـ
ـرُ مَتَاعًا نحسُّه وانتهابَا
في ليالٍ كأننا أفقرُ النا
سِ جميعًا ونُشْبِهُ الأربابَا
وكأنَّ الغريبَ عنها غريبٌ
عن غِناها يرى الضياءَ الضبابَا
كم عَرَفنَا الجمالَ طيفًا عجيبًا
وشربنا الهوَى خيالًا عُجابَا
ثم عُدنا وما ملكنَا سوى البثِّ
كأنَّا بها فقدنَا الشبابَا
ونظمنَا له الأَناشيدَ لَهْفَى
في خريفٍ يَقْضِي الليالي انتحابَا!

صلاة

لَدَى سُرُرٍ لأَوْلَادِي
أَبُثُّ الحُبَّ منفردَا
صَلاةُ اللَّيل مِنْ قَلبي
وقد نامُوا كما سَهِدَا
على نظراتِ مفتونٍ
تُقبِّلهم فمًا ويدَا
تتابعُ حُلْوَ أَنْفَاسٍ
ونُحْصيها لَهُمْ عَدَدَا
وأركعُ شِبْهَ مُبْتَهلٍ
ولم أكُ داعيًا أحدَا
كأنَّ الليلَ عابدُهم
فحالي حالُ مَنْ عَبَدَا
أرى الإيمان يَغْمرُني
فلستُ بمسرفٍ أبدَا
ولكنِّي أبٌ حانٍ
أحَبَّ اللهَ والولَدَا
وقد جُمعَا بنظرتِه
وفي أحلامِهَا خَلَدَا!

مدام رولان

figure
مدام رولان صاعدة درجات المقصلة.

(كانت مدام رولان قدوة فرنسا المتأهبة لثورة الإخاء والمساواة والحرية، وكانت تكره التمادي في العنف لفطرتها الشاعرة الرقيقة، وقد تألَّف برعايتها ورعاية زوجها حزب الجيروند، ولكنَّ المتطرفين «اليعقوبيين» أساءوا الظنَّ بهؤلاء الأحرار الذين احتضنوا الثورة فنكلوا بهم، وقد فرَّ بين من فروا السيد رولان، وسُجنت زوجته شهورًا، وعوملت أسوأ معاملة، ثم أعدمت في النهاية … ويُؤثَر عنها أنها لمَّا صعدت درجات المقصلة أظهرت منتهى الشجاعة، وكانت تودُّ قبل إعدامها أن تدوِّن خواطرها، فأبوا عليها ذلك، وحينئذ التفتت إلى تمثال الحرية في ميدان الإعدام، وقالت بأعلى صوتها جملتها الخالدة: «أيتها الحرية! كم من جرائم تُرتكب باسمك!» وحفظ التاريخ لمدام رولان أنها أنبل امرأة عرفتها فرنسا الحديثة.)

ألَا في سبيل العدلِ تلك المَظَالِمُ
فقد عزَّ مَظلومٌ كما هانَ ظالمُ
خلدتِ بدنيا الحقِّ والحقُّ خالدٌ
ومُتِّ بدنيا البطشِ والبطشُ راغمُ
لئن خانكِ القومُ الذين خلقتِهمْ
بروحكِ فالحيُّ المسامحُ غارمُ
وما هذه الدنيا بدارِ عدالةٍ
ولو أنَّ روحَ العدلِ حيٌّ ودائمُ
حضنتِ لهم أسمى المبادئ حُرَّةً
فلما نمتْ عادتْ عليكِ المغارمُ
فيا عجبًا! هل يَحصدُ الغدرَ منقذٌ؟
ويا أسَفًا! هل يُطعَمُ الموتَ راحمُ؟
وهل تَسكنُ السجنَ التي لم يكن لها
سوى الطهرِ مأوًى لم تنله الجرائمُ
وهل تَعرفُ النطعَ التي مِنْ سَنائها
تبسَّمَ محزونٌ وأُسْعِدَ حالمُ
حياةٌ هي الفنُّ الجميلُ لقومِها
ففي كلِّ مَسْعًى للجمالِ تُسَاهِمُ
تناهتْ إلى أسمى الشجاعةِ وارتقتْ
إلى مُنتهًى ما جازه قَطُّ سالِمُ
ويدفعُها الوَحْيُ الذي ما دَرَتْ به
جُموعٌ ولم تُفْصِحْ لُغَاهُ التراجمُ
هو القَبَسُ الأَعْلَى الذي مِنْ شُعَاعِهِ
أضاءتْ على دُنيا الصَّغَارِ العظائمُ
على هذه الأرضِ التي صار أهلُها
مُلوكًا ولكنَّ النفوسَ بهائمُ
يُعَاقَبُ فيهم بالإساءة مُحْسِنٌ
ويُنْعَتُ بالنعتِ المقدَّسِ غاشمُ
وتَحْيَا المآسِي في تواريخِ مَجْدِهِمْ
كأنَّ مَعاني المَجْدِ تلك الجماجمُ!

•••

أتاركةَ الذِّكْرِ المعطَّر بيننَا
وذكرُكِ لم يَبْلُغْهُ جانٍ وناقمُ
حييتِ على الأرضِ الخَئُونةِ مرَّةً
ونُبلك للذكرِ المخلَّدِ عاصمُ
صَدَقْتِ! فللحرَّيةِ الناسُ أجرمُوا
وكم باسْمِهَا مَدَّ السلاسلَ جارمُ
صَعَدتِ إلى الموتِ العزيزِ قريرةً
كما يَبْلغُ النَّبعَ المُشَوِّقَ صائمُ
وقد عانقَ الآبادَ صَوتُك داويًا
ولم تُسمِعِ الآبادَ تلك الغماغمُ٤١

الهازلون

لن يَقدرَ النَّاسُ موهوبًا يُحرِّرهم
إلَّا إذا خُلِقُوا مِنْ رُوحِهِ الحيِّ
كم مِنْ ذكاءٍ مُضاعٍ بين مَنْ عَبثوا
والكُلُّ باكٍ ولكنْ شِبهُ مَبكيِّ
الواهبُ الفردُ يَشْقَى وهو متَّهَمٌ
والعابثون بجاهٍ غيرِ مطويِّ
تشكو وتبكي جُموعٌ وهي غافلةٌ
عن جُرْمِهَا حين تُفني كلَّ علويِّ
والفرقُ ما بين موهوبٍ وغامطهِ
كالفرقِ ما بين إنسيٍّ وصخريِّ
هيهات يَفلحُ قومٌ كلُّ مَأربهم
هدمُ الرجالِ وتشييدُ الأمانيِّ
يبكون في العجزِ حين العجزُ سخَّرهم
لمَّا أحلُّوه في أسمى الكراسيِّ
ويرحمون عظيمًا لا يُخادعُهم
حتى يموتَ ذليلًا موتَ مَنْسِيِّ
وكلُّهُمْ هاتفٌ باكٍ على صُوَرٍ
مِن المهازلِ تُشجِي والأغانيِّ

مسلة المطرية

يتيمةَ الدهرِ في بُؤسٍ وفي خَرَسِ
ألم تكوني مَنارَ الوَحْيِ والقبَسِ؟!
لا تجزعِي ودَعي الأحداثَ غاشمةً
لأنتِ في غُنْيةٍ دومًا عن الحرَسِ
لم يَدرِ قدرَكِ أحفادٌ كم افتخروا
بالأمسِ، والأمسُ يشكو بطشَ مفترسِ
يا رمزَ تبجيلِ «هوراسٍ» لمنْ خُلِقَتْ
هذِي الأشعةُ في الدنيا لمقتبسِ؟
عافوكِ ما بين أدرانٍ يَئِنُّ لها
هذا الثرى كأنينِ الضوءِ والغلسِ
كانت تحجُّ لكِ الأحلامُ في فرحٍ
واليومَ ترجعُ في آلامِ مبتئسِ
سكنتِ في قريةٍ بالذكرِ عاطرةً
والحسنِ ناضرةً كالخودِ في عُرُسِ
فكيف تُمسين بعدَ المجدِ آفلةً
وكيف تبقين بعدَ الطُّهر في دَنسِ
أمشي إليكِ وما أدرِي على تلفِي
أمشِي على المَاءِ أم أمشي على اليَبَسِ!
والعيرُ يأبى إباءً أن يعاوِنَني
على المضيقِ وتأبى عزَّةُ الفرَسِ
والوحلُ حولكِ صخَّابٌ إذا نُسِيَت
أقدامُنا فيهِ أو في مائِهِ النَّجِسِ
والغرسُ عندك كالفرحانِ ظاهرُهُ
وكله في شجًى من دهره الشَّرِسِ
ومِنْ بنيهِ وكلٌّ صائحٌ مَرِحٌ
يَستلهمُ الأمسَ مَجْدًا غيرَ مُندرسِ
حتَّى إذا لاحَ ذاكَ الأَمْسُ يرمقهُ
ويضرِبُ السمعَ بالإيحاءِ والجَرَسِ
أغفى وأشبعهُ الخذلانَ في عَمَهٍ
وفاتَه بين مغبونٍ ومُخْتَلَسِ

الشروق الهائب

صَعدتُ إلى مَرْقَبي المستعِزِّ
وللفجر إيماؤُهُ الغاضبُ
تلَكَّأ حينًا فلمَّا مَضَى
مَضَى واللَّهِيبُ له تابعُ
فَمُدَّتْ له في مَجَالِ الشُّرُوقِ
خنادقُ يَرهبُها الناظرُ
وراحت تُحاذِرُها الجارياتُ
مِن السُّحْبِ والرِّيحُ والطائرُ
ومِنْ عَجَبٍ كلُّ هذا السكونِ
ولِلْحَرْبِ مَشْهَدُهَا الرَّائعُ
وقد أبطأتْ في شروقٍ «ذكاءُ»
كأنَّ الشروقَ هو الهائبُ!

الورود الحمراء

يا وُرودًا بحرقةٍ واحمرارِ
نحن سيَّان في الهوى والنارِ
يُطْفئُ الليلُ شُعلةً لكِ مثلي
وكلانَا بحزنهِ المتوارِي
آهِ مِنْ خدعةِ الظلامِ وما تُخـ
ـفي مِنَ النَّار والهَوَى الجبَّارِ!
عُمْرُنا بالنهارِ حتى إذا ما
راحَ مُتْنا بميتةٍ للنَّهارِ
فعرفناكِ بالشَّذَى في الضَّحايا
وعَرَفْتِ اللهيبَ في أشعارِي
وعُدِدْنا كالرُّسْلِ في عالمِ الحُبِّ
وكالحُبِّ في غِناءِ القمارِي
أنا أحنو عليكِ صنوًا لنفسي
وشِعارًا، يا للجوى مِنْ شِعار!

إدِّي كنتور

(الممثل الغنائي المضحك الشهير.)

figure
يا مُضحكَ الدُّنيا وأبرعَ ساحرِ
أتعيشُ عُمْرَك في خيالِ الشاعرِ؟!
نلقاكَ للأنغامِ أحذقَ صَائدٍ
ونراكَ للأحلامِ أجرأ طائرِ
وكأنَّ رُوحَ الكونِ رُوحُك دائمًا
بخيالِكَ المتوثِّبِ المتطايرِ
تُصْغِي إلى ألحانهِ وفُتونهِ
وتَصوغُها بروائعٍ لمشاعرِ
الهزلُ فيها الجدُّ حين حياتُنَا
كالكرنفالِ على غرورٍ دائرِ
إن أحسَنَتْ سلبَتْ فليس لحظِّنا
حظ الغنيِّ ولا الفقيرِ العابرِ
ما ساعةٌ تُقْضَى لديكَ بفرحةٍ
إلَّا مُحالٌ مِن نعيمٍ ساحرِ
في جنةِ الوهمِ الحبيبِ وإنها
لأجَلُّ مَعنًى مِنْ وجودٍ ساخرِ
ونراكَ كالطفلِ الكبيرِ وكلُّنا
يلهو وراءَكَ كالصَّغيرِ الكابرِ
دُنيا الجنونِ وإنها دُنيا المنى
والحبِّ بين مبَاسمٍ ومَزَاهرِ
الرقصُ بعضُ لغاتِها، واللحنُ من
أدواتِها، بين الجمالِ الثائرِ
نمشي على الأحلامِ والأضواءِ، لا
نمشي على همٍّ وحظٍّ عاثرِ
ونرى الربيعَ حيالَنا في كل ما
يُوحيهِ طيفُكَ آسرًا للناظرِ
نَنسى وجودَ الناسِ حتَّى ذاتنا
ونَعبُّ من نبعِ الفنونِ الطاهرِ
فاضتْ لنا ألوانُه ومَزيجُهَا
عَبَقٌ من الككتيلِ بين أزاهرِ
وكأنَّما الدهرُ العنيدُ حليفُنا
يرنو ويشرَبُ كالعتيِّ الفاجرِ
فينال منَّا الصفحَ ساعةَ أُنْسِهِ
معنا ونمنحهُ صفاءَ الغافرِ
قد كانَ يجرِي تائهًا حتَّى إذا
أبدعتَ عاد مِن الضلالِ الحائرِ
فنرَى الحياةَ تَجَمَّعَتْ في يَقظةٍ
كالحُلمِ مالكةً جميعَ الخاطرِ
وكأنما الكونُ العظيمُ بأَسرهِ
قد صار مَنْسِيًّا بذهنِ الذاكرِ
وغَدَتْ أمانيُّ الحَيَاةِ رهينةً
للعبقريةِ في مَدَاكَ الباهرِ!

بين ذنوبي

عاتَبْتِني فشكرتُ عَتْبَكِ حينما
آلمتنِي بعتابكِ المحبوبِ
أنا في جَحيمٍ لا انطفاءَ لنارهِ
أَيُعَدُّ موتي فيه بين ذُنُوبي؟!
لم أَلْقَ إلَّا عُزلتي في حُرقتي
تُوحِي العَزَاءَ إذا استطالَ عذابي
النارُ تَضحكُ في اللَّهيبِ وها أنا
كالنارِ أضحكُ فاللهيبُ شرابي
آثرتُ وَحْدي أن أُحمَّلَ عبءَ ما
أسلفتُ للدنيا مِنْ الإحسانِ
والآنَ في غُصَصٍ أجَرَّعُ حسرةً
في حسرةٍ مِنْ كلِّ غرٍّ جانِ
في سالف الأحلامِ لم أَبْخَلْ بها
أبدًا على مَنْ ناشدوا أحلامي
والآنَ ما لي غيرُ آلامٍ لَهَا
عُمْرِي فخلِّيني على آلامي
ما كلُّ عتبٍ لي يُكالُ سوى شَجًى
وأذًى ولو خلقَتْهُ رُوحُ ودادِ
مَنْ ذا يَلومُ على الجَريحِ سُكُوتَهُ
وعلى الحزينِ عُزُوفَه بِحِدَادِ؟
الصَّمتُ أكرمُ لي وأوْفَى نعمةً
مِنْ كلِّ شكوى أو تَكلُّفِ أنْسِي
وأنا الشَّكورُ لمن يُعِزُّ محبتي
ومِنَ المحبَّةِ أن تُحَرَّرَ نفْسِي

لصوص الخلود

تَعَالَيْ لنخطِفَ هذي الدقائقَ مِنْ فجرِ هذا الصَّبَاحِ الوسيمْ
ونُخْلِدَها قُبَلًا للحياةِ وكنزًا لهذا الزَّمانِ العديمْ!
تَعَاليْ إلى ساهماتِ النخيلِ يُداعبُهَا النُّورُ في وَجْدِهَا
لِنَنْهبَ لذةَ ما أَضْمَرَتْهُ مِن الذكرياتِ على بُعْدِهَا!
تعالَيْ تعالَيْ فللصُّبحِ لحنٌ حواه النَّدَى وشذًى لن يَعُودْ
تَعَاليْ لنسرقَ منه الهوى ففيه الوجودُ وفيه الخُلُودْ!
تَعَالَيْ فكم أخذَ الدَّهرُ منَّا حظوظًا ولم يَبْقَ حتى الشَّفَقْ
وكم قُتِلَتْ فُرَصٌ للنعيمِ وحتى الخيالُ لهنَّ احترَقْ!
وعِشْنا نسائلُ عنها الغديرَ وتلك الزُّروعَ وذاك الحَصَى
وقلبَ الوُجودِ الذي نَبْضُهُ يَنَالُ الثَّرى ويَنالُ السَّمَا!
فلم نلقَ إلَّا السكوتَ العميقَ، فبعضُ الصِّيَاحِ شبيهُ السكوتْ
وما الحيُّ إلَّا حياةُ المعاني فكلُّ الذي قد عداها يَمُوتْ!
ولم نَرَ إلَّا خُلودَ الهوى تُسَجِّلُهُ قُبَلٌ خالدَهْ
مِنَ الكونِ آنَا ومن رُوحهِ لديكِ على اللهفةِ العابدَهْ!
وتُحْفَظُ في الفنِّ محسوسةً وإن قُرِئَتْ في نظيمِ السُّطُورْ
وتَنبضُ بالشعرِ نبضَ الحياةِ ونبضَ الجمالِ برغمِ الدهورْ!

البعوضة والببغاء

الببغاءُ ترى البعوضةَ ذرَّةً
في الوهم لا خَطَرٌ يُخافُ لديهَا
وهي التي أفنَتْ جيوشًا في الوغى
والسِّلمِ سلَّطها الإلَهُ عليهَا!
يا هذه! إنَّ البعوضةَ ذاتها
شخصيةٌ في نقمةٍ وهلاكِ
ماذا لديكِ سوى غُرورٍ كاذبٍ
وغباوةٍ لممثِّلٍ أو حاكي؟!

خصومي

وليس خُصومي مَنْ أرادوا إساءَتي
ولكنْ خصومي رِفقتي وصحَابِي
هُمُو مكَّنوا الأشرارَ منِّي بصفحِهِمْ
وقد خُدِعُوا مِنْ بَسمةٍ وشرابِ
أَعِرْني رجالًا يفقهُون عقيدتي
ويَسعون لا خوفًا ولا لثوابِ
وبَعْدُ فسائِلْ: أيُّ حصنٍ ممرَّدٍ
نجا إنْ طَغَى مِنْ غَضبتي وعقابي؟!
لئن شَمتَ الأعداءُ بي في غرورِهمْ
فما بَلغُوا منِّي كَوَهْمِ صحابِي!

أنشودة الفناء

الشَّمسُ تَخطفُ بالأشعةِ كلَّ ما
في الليل هُيِّئَ للصباحِ من النَّدَى
وخَطَفْتِ أحلامي وما عوَّضْتِني
إلَّا التَّحرُّقَ بالأشعةِ والصَّدَى
حَسَدُوا حَياتي وهي بين ظلالِهَا
وضيائِهَا وتَنَوُّعِ الألوانِ
صُبِغَتْ كأوراقِ الخريفِ بهيَّةً
وجَميعُها صُوَرٌ من الأحزانِ
ولربَّما ضحكتْ وغَنَّتْ وانتشتْ
في الرِّيحِ طائرةً أمامَ فنائِهَا
وأنا كذلك ضاحكًا ومغنيًا
والنفسُ مُدركةٌ مصيرَ غِنَائِهَا!

في مرقص النجوم

فِتَنَ السَّمَاءِ أراكِ مِلْءَ مَسائي
كمراقصِ العُشَّاق في الصَّحراءِ
صدَحتْ بموسِيقَى الخلودِ فهل ترى
صدحتْ بتلكَ الأنجمِ الزهراءِ؟!
أصْغِي إليها وهي سِحْرٌ شامِلٌ
للكونِ مِنْ ملكوتها الوضَّاءِ
وأنا بها فَرحٌ كفرحةِ طفلتي
بكُرَاتِها دُحْرِجْنَ فوقَ الماءِ
أو فرحةِ الأَزهار رَشَّ عبيرَها
عَبَثٌ من النافورةِ الحسناءِ
أو فرحةِ الأطيار قبلَ شتائِهَا
في سُكْرِهَا بهوى الربيعِ النَّائي
رُوحُ الطبيعةِ كم يُحَسُّ ولا يُرَى
ويَبُوحُ للعشَّاقِ والشُّعرَاءِ!

مصر العازفة

(تصدير كتاب «سيد درويش» للأديبين السكندريين علي محمد البحراوي وأحمد علي عوض.)

تَقَبَّلْ! ذلك الأدَبُ المُصَفَّى
يُزَفُّ إليكَ والفَنُّ اللبَابُ
وأصْغِ إلى الصَّدَى في الشعر يُحْكى
وفي النقدِ الوفيِّ ويُسْتَطابُ
أديبَا الثَّغْر قد كفلاه مَعْنًى
مِنَ القُربانِ زكَّاهُ الشَّبَابُ
بقايا مِنْ شُعاعِكَ في غِنَاءٍ
وفي أدَبٍ إذا انطفأ الشِّهابُ
لقد عرفاكَ في عَيشٍ ومَوْتٍ
وقد جافاكَ بينهما الصِّحابُ

•••

عَزَفْتَ وأنتَ «مِصْرُ» بكلِّ لونٍ
عَرَضْتَ، ونَبْعُكَ البَحْرُ العُبابُ
ولولا خُدعةُ الأقدارِ كانت
حياتُكَ كلُّها أمَلًا يُجابُ
ولكنْ جئتَ بالألحانِ سحرًا
وضلَّ الغافلونَ فما أصابُوا
فصانتكَ «الطبيعةُ» في اعتزازٍ
وكم حرسَ الكنوزَ لها الترابُ

•••

لِيَشْكُ العُقْمَ مَنْ يهوى شكاةً
فقد غُفِرَتْ وقد كُشِفَ الحجابُ
وهذِي العبقريةُ فيكَ ثكلَى
ولن يُطْفِي بنا الظَّمَأَ الشرابُ
وكيفَ ونحنُ نرمقُ كلَّ أُفقٍ
وَمَرْأًى سائلِين ولا جوابُ
ولا نجد المغنِّي السمحَ يشدو
مَعانيَها فيرفعها السَّحَابُ

•••

مَغَاني «النِّيلِ» بعدَكَ عاطلاتٌ
فإنَّ مُلوكَهُ الأَربَابَ غَابُوا
ولَحْنُكَ سِرُّهُمْ قد ضاعَ حتى
كأنَّ الفنَّ ليس له إيابُ
فمن يَحْكي الشُّروقَ وكلَّ لونٍ
رَوَتْهُ لَهُ المنازلُ والقبابُ؟
ومَنْ يَحْكي الغُروبَ على لهيبٍ
تُقبِّلهُ المياهُ وقد يُذَابُ؟
وأنغامَ الحياةِ بمصر لمَّا
مضى القُمْرِيُّ واعتزَّ الغُرابُ؟
وأصداءَ المعابدِ وهي تَرْوِي
مِنَ التاريخ ما تركَ الحِسَابُ؟
قرونٌ في الرمالِ وفي المبَانِي
وفي الأمواهِ يجمعها العِتابُ
تلوحُ كأنَّها خُرْسٌ ولكنْ
أغانيها يُساورُها العَذَابُ
ذهبتَ فما مَضَى للفنِّ حُزْنٌ
وبَعْضُ الحُزْنِ ليس له ذهابُ
وهذي الذكرياتُ إليكَ تُهْدَى
كما يُهْدَى لمُلهِمِهِ الكتابُ

الحياة الذاتية

سنسمو برغْمِ الفقْرِ ما دام عَيْشُنَا
مِنَ النفْسِ لا مِنْ غيرها يتسامَى
وليستْ حَيَاةٌ غيرَ ما في قُلوبنا
فإنْ عُدِمَتْ باتَ الضِّياءُ ظلامَا
ستفْنى أَعاصيرُ الحياةِ ببؤسِها
ويَبْقى غِنَاها في النفوسِ سَلَامَا
وإنَّ حياةً عُمْرُها رهنُ ثروةٍ
وفقرٍ لَموْتٌ في التَّسَتُّرِ دامَا
وما الشَّعْبُ إلَّا مِن صَميمِ يقينهِ
فإنْ غابَ أمْسَى كالمضَلَّلِ هامَا
إلى أن يُجازَى حَتفَهُ أو خسارَهُ
ذليلًا، وإلَّا هَمَّ ثم تَسَامَى

ليالي رمضان

خرستْ بالنهار ألسنةُ الحُبِّ
وغَنَّتْ بالليلِ لحنًا شجيَّا
واستحالَ النَّهارُ ليلًا وديعًا
وتراءَى الظلامُ نورًا بهيَّا
والأفاويحُ مِن طعامٍ شهيٍّ
هي ملءُ الآنافِ عند المساءِ
أفلحتْ حينما تَعَثَّرَ داعٍ
في اجتذابِ الأحبابِ والأصدقاءِ
ويموتُ النهارُ في فرحةِ الناسِ
وقد صَوَّبوا إليهِ المَدَافعْ٤٢
ولكلٍّ ثأرٌ لديهِ ويأبَى
صائمٌ في نجَاتِهِ أيَّ شَافِعْ!
وترَاءَى المؤذِّنُ الرائعُ الصوتِ
حبيبًا وساحرًا بالأذانِ
كغريبٍ مِنْ عالَمِ الوَهْمِ حيَّا
نَا بروحٍ يتيمةِ الألحانِ
وكأنَّ الدُّنيا أصَاخَتْ إليه
وهي في حَيرةٍ لما يعنيهِ
شَقِيَتْ كالغديرِ في مُتعب السيـ
ـرِ وقد ناحَ فوق صخرٍ كريهِ
وهو يَمضِي مؤذنًا في حُبورٍ
ويغطي الأتراحَ والآلامَا
وتَعُودُ الدُّنيا فتلقاهُ مَعْنًى
يَهَبُ الحُبَّ والغِنَى والسلامَا
وتُقَضَّى الساعاتُ في الليل ألوا
نًا مِن الأنسِ والمُنى والشبابِ
فكأنَّ الدنيا تُعَيِّدُ فيها
مِنْ عَناءٍ وتَشْتفي مِنْ عَذابِ!

وحوي! وحوي!

وَحَوِي! وَحَوِي!
صاحَ الأطفالْ
وجَرَوْا خبَبًا
بين الآمالْ
والنُّورُ بدَا
كالأحلامِ
والهَمُّ لهمْ
جِدُّ حرامِ
غَنَّوا فرحًا
والليلُ قريرْ
في صَدحتهمْ
إلهامُ بشيرْ
رمضانُ بهم
زاهٍ وسعيدْ
فيكافؤُهمْ
مِنْ حَلْوَى العيدْ
في طَلعتِهمْ
والدهرُ بخيلْ
نِعَمٌ سلفتْ
بين التقبيلْ
فأرَى فيها
أمسِي المحبوبْ
وأحيِّيها
صيحاتِ قلوبْ!

•••

يا أبنائي!
يا أبنائي!
رُسُلٌ أنتمْ
للسَّرَّاء!

الأشعة الصادحة

(الشمس)

أَشرِقي! أشْرِقي! فَدَتْكِ اللَّيَالي!
واغْسِلِينا طُهرًا من الأحزانِ
جُنْدِلَ الحارسُ الذي سُمِّيَ الليـ
ـلُ فأهلًا صديقةَ الإنسانِ!
تلك أضواؤكِ الحبيبةُ لاحتْ
صادحاتٍ في حُسنِها بالأماني
صَدَحاتٌ ترنُّ في أعمقِ النفـ
ـسِ وليست ترنُّ في الآذانِ
فإذا الطيرُ شاعرًا يَتَغنَّى
فهو كالرَّجْعِ وهو كالترجمانِ
وإذا الزَّهرُ عاطرًا يَتَثَنَّى
فهو مَعْنًى خَلقْتِهِ في البيانِ
كلُّ ما أعلنَ الصَّبَاحُ نشيدٌ
مُسْتَمَدٌّ مِنْ لَحْنِكِ النُّورَاني
هَتَفَاتٌ تُرَى بكلِّ حياةٍ
وحَنَانٌ يُرَى بكلِّ مَكَانِ
يَتَجَلَّى بها التَّفَاؤلُ للمنـ
ـهومِ بالعيشِ في حياةِ المعاني
وكأنَّ الوُجودَ حين تَلُوحيـ
ـنَ صلاةٌ في رُوحهِ الفتَّانِ
كلُّ ما فِيهِ مُشْرِقُ النفسِ حتى
غُيِّبَ الموتُ في حياةِ التَّفَاني
ريشةُ الفنِّ في ضيائكِ تُحْييـ
ـنا وتُحْيي الجمادَ بالألوانِ
في خُيوطٍ منغومةِ الوَحْي تَخْتَا
لُ من الوَقْعِ في نُهَى الفنَّانِ
أنتِ أنتِ الحياةُ في كُنْهِهَا الصَّا
فِي وليست في الجِرْمِ أو في الزَّمانِ
خلَدتْ في القرونِ، لكنْ نراها
بنتَ طرفٍ رأَى وبنتَ ثوانِ
وهي سحرُ الألوهةِ الغامرُ الخلـ
ـقِ ومُدْنِيهمُو إلى الديَّانِ!

•••

أشرقِي! أشرقِي! فدَتكِ الليالي!
واغسلينا طُهرًا من الأحزانِ!

رسل الرجاء

(تحية النسور المصريين في عودتهم إلى العاصمة من إنجلترا يوم ٧ ديسمبر سنة ١٩٣٣.)

أقبلَ السِّربُ فأهلًا بالرَّجاءْ
يَتَهَادَى بين أطيافِ السماءْ
قد بذلنا مِنْ ضَحَايانا له
ما بذلنا من جُهودٍ ودماءْ
فاستثارَ اليومَ مِنْ عزَّتنا
واستعادَ اليومَ ماضِي الكبرياءْ
وأتانَا بعَزَاءٍ ما لَهُ
في المعَالي مِنْ نَظيرٍ في العَزاءْ
هذه العزَّةُ لا شيءَ سوى
رُوحِها يُحْيي نُفُوسَ الشهداءْ
عرفوها روحَ مصر المعتلِي
هضباتِ الجَوِّ أو سَيْلَ الضياءْ
فاتحًا للنيلِ أنهارَ العُلى
إنَما العلياءُ في فتحِ الفَضَاءْ
فهتفنَا والضَّحَايَا قبلَنا
في هتافٍ مِن قبورٍ وسماءْ
وكأنَّ الشمسَ لمَّا أشرقَتْ
ثم غَابَتْ في تَهانٍ ورثاءْ
هو يومٌ جامعٌ أحلامَنا
بين آمالٍ وآلامٍ سَوَاءْ

•••

اهتفي يا مصرُ ما شئتِ اهتفي
بحياةٍ لبنيكِ البُسَلَاءْ!
هو يومٌ مِنْ تَفانٍ رائعٍ
أو كيَومِ الوَحْيِ عند الأنبيَاءْ
اهتفي! هذي حياةٌ لم تكنْ
غيرَ أحلامِ الشعوبِ السُّعَدَاءْ
خلقَتْها راحةُ العلمِ كما
خلقَتهَا أنفسٌ تهوَى الفداءْ
ترفضُ الموتَ بإطلالِ الثرى
وتُحيِّيه بأبراجِ الهواءْ
مِنْ إباءٍ وطُموحٍ ولَظًى
صَوْغُهَا، والرُّوحُ روحُ الشُّعراءْ
وإذا الشَّمسُ لها قِبلتها
والهلالُ الحيُّ في الأفقِ اللواءْ

•••

أقبلَ السِّربُ ولم يحملْ سوى
مَنْ لمجدِ النيلِ بالمجدِ كفاءْ
فجرَى والتاجُ ألَّاقُ السَّنا
واستوى فوق صعيدٍ مِنْ وَلَاءْ
أيُّ مجدٍ فاق مجدًا باقيًا
مِنْ قلوبٍ لم يروِّعها الفناءْ؟
أنصفتْ للعصرِ ما لم تستطعْ
في أمَانِيها قلوبُ القُدماءْ
أنصفَتْ ما أنصفَتْ مِنْ شُعلةٍ
أودعَتْهَا في أمانينَا ذُكاءْ
«عينُ شمْسٍ» لِلْعُلى ما اكتحلتْ
بجمالٍ قد شأى هذا العلَاءْ
بنتُ ماضينا التي قد حفَلتْ
مِنْ قرونٍ بفتوحِ العُظَماءْ
ضحكتْ لمَّا تجلَّوْا وانتشتْ
بمعاني الثأرِ نُبْلًا والإِباءْ
ليس مَنْ يثأرُ للنُّبلِ كمن
يجعلُ الثأرَ فخارَ الجُبناءْ
رفَّ ذاك الرملُ في أضوائها
كرفيفِ الحبِّ مِنْ فرطِ الظماءْ
وحروبُ النورِ في أرجائِهَا
لم يهادِنهَا سوى هذا الرَّجاءْ
رحَّبَتْ ملءَ حُبورٍ وسَنى
ببنيها الأذكياءِ الأوفياءْ
الأُلى همُّوا وطاروا وأبَوْا
نظرةَ الخوفِ أمامًا أو وراءْ
الأُلى لمَّا بنَوْا أحلامَهم
شيَّدُوا الأحلامَ في أعلى بناءْ
ألهمونا الشعرَ مِن أشعارهِم
والأغاني في صباحٍ ومَساءْ

التركيز

(يرى الشاعرُ أن الألوهة قد تَتَجَلَّى أشعتُها مركَّزةً في آية من آياتها حسب تجاوب النفوس الإنسانية، كما تَتجلى الشمسُ قاهرةً بتركيز أشعتها بالعدسة البلورية، فتمثل نقطةُ التركيز الشمسَ وإنْ نأتْ جدَّ النأيِ عنها، وكذلك تتمثل الألوهة في الجمال القاهر للنفس المتصوِّفة التي تتأثر به على ذلك النحو.)

جَمعُوا الأشعَّة رُكزَتْ في نُقطةٍ
فكأنَّما هي إذْ جُمِعْنَ الشَّمْسُ
وأراكِ أنتِ منَ الجمالِ ألُوهةً
جُمِعَتْ لديكِ وفي سَناكِ تُحَسُّ
وتَوهَّمُوا الإلحادَ فيما خِلتُه
ونَسُوا تصوُّف مهجَتِي وحياتي
إنِّي عرفتُ الشمسَ مَجْمَعَ ضَوْئِها
واللهَ فيكِ نهايةَ الآياتِ!

حمام الفيلسوف

figure
لا تُنكروا أحلامَ حَيٍّ شاعرٍ
فهي التَّصَوُّفُ في الجمالِ تعالَى
نَبَعتْ شرابًا للنُّفُوس لعلَّها
تُسْمِي الرجالَ وتُنْضج الأطفالَا
عَبَثِي هو الفَنُّ الجميلُ، ورُوحُه
روحُ السُمُوِّ وإنْ يُعَدُّ ضَلالَا
فتذوَّقوه وأَسْرِفُوا بتذوُّقٍ
فالفنُّ أوَّلُ مَنْ يَصُوغُ رجالَا
وتألَّموا مثْلي إذَا آلمتُكمْ
بالطَّعنِ واختطفُوا الفلاحَ عُجالَى
مهما شكوتُ أو استبحتُ معنِّفًا
فأنا المُحِبُّ لكم هُدًى وكمالَا
مهما يئستُ بثورتي فطبِيعَتِي
رُوحُ الحنانِ تُوزِّعُ الآمالَا
لا تَرْكُنُوا للوَهْمِ بين تَعنُّتٍ
فَجٍّ وأوهامٍ تَطيشُ خَبَالَا
أو تُسْرِفُوا كالفيلسوف مخرِّفًا
حتى غَدَا تخريفُه أمثالَا
نسِيَ الوُجُودَ وراحَ يَغنمُ ذاهلًا
حَمَّامَه خَرَفًا يُعَدَّ مُحَالَا
فنرَاهُ في طستِ الغسيلِ وفوقَه
سطلٌ ينقِّط ماءَه إذلالَا
وله جِهازٌ كله عَجَبٌ ولا
تَدريه صِدقًا أم تَرَاهُ خيالَا
ويَعُدُّ هذا مِنْ مَبادئِ علمهِ
بينا الحياةُ تَضِجُّ منه وَبالَا
والنَّاسُ جدُّ المعجبين بحذقهِ
ويُقلدونَ فُنُونَهُ استبسالَا
فَتَضِيعُ دُنياهم وأخراهم معًا
في الوهمِ، يأبون الحياة مَجَالَا
والدَّهْرُ يَضْحكُ مِنْ صَغارِ عقولهم
وهُمُ الذين غَدَوْا بها أبطالَا!

مواسم الفناء

أهلًا بأعيادٍ نُسَرُّ بِعَودِها
وبعودِها تغتالُنَا الأيَّامُ
كتبَتْ صحائفَ موتنا بسجلِّها
وتَعيشُ رغمَ مَمَاتِنَا الأحلامُ
كلٌّ يُهَنِّئُ خِلَّهُ وكأنما
في التهنئاتِ السُّخرُ والإيهامُ
ما أعجبَ الإنسانَ يَخدع نفسَهُ
فَرِحًا وكلُّ نعيمهِ الأوهامُ!
والأرضُ تحتمل الشتاءَ فبعدهَ
يأتي الربيعُ وتُسْمَعُ الأنغامُ
أمَّا بَنُوهَا الذاهبون فعمرُهُمْ
حِيَلُ الفَناءِ مَشَتْ بها الأعوامُ!

الخئُون

لَئنْ هانتِ الدُّنْيَا وهانتْ نُفوسُها
فهيهاتَ مِثْلي يَشْترِي مَنْ يَبيعُهُ
وشتَّانَ بين المُذْنِبِ النَّادمِ الذي
تَحَرَّرَ ممَّا قد جَناه صَنيعُهُ
وبين الذي مَنْ طَبْعُه الغِشُّ دائمًا
سواءٌ لديهِ ضَحْكُهُ ودُموعُهُ
وما كنتُ مَنْ يَأبَى التَّسَامُحَ، إنما
كفاني كفاني أنَّ قلبي صريعُهُ
وليس مُسِيءٌ مثلَ مَنْ عاشَ خائنًا
تَملَّكهُ مِنْ كلِّ شيءٍ وضيعُهُ
فحسبي زمانٌ قد تَوَلَّى بخدعتي
وحَسْبِي وفاءٌ لم يَصُنْهُ مُضِيعُهُ

الإنسان الإله

أحببتُ فيكِ اللهَ حبًّا خالصًا
وعرفتُ مَعْنَى جُودِهِ وَحَنانهِ
وغفرتُ زلَّاتِ الأَنامِ لأَنَّني
ألقاكِ مَعْنَى اللهِ في إنسانهِ
يا مَنْ تَعَلَّمْتُ المحبَّةَ للورَى
مِنْ حُبِّهَا وأُسِرْتُ مِنْ إحسانهِ
أنا عبدُكِ الحيُّ العبادةِ دائمًا
والعبدُ موقوفٌ على دَيَّانهِ!

أستاذي المصوِّر

لا تَسأمي يا شمسُ مِنْ نظري إلى
هذا الجبينِ هنيهةَ الإشراقِ
هي لحظةٌ، لكنَّها ليَ حِقْبَةٌ
مِنْ نعمةٍ أُخِذَتْ مِنَ الخَلَّاقِ
اللهُ أُستاذي المصوِّرُ، لا أرَى
إلَّاهُ مَنْ رَبَّى عباقرةَ النُّهَى
في كلِّ يومٍ مِنْ عَجيبِ رُسُومِهِ
فِتَنٌ، وليسَ لهنَّ يومًا مُنْتَهَى
لَن يُخْلِدَ الرسَّامُ في أصباغهِ
مَعْنًى أجلَّ من ابتسامِ الشاعرِ
رُوحُ الفُنُونِ مُشاعةٌ فإذا بها
في الرَّسْمِ شِعْرًا أو صوادحَ ساحرِ
الفنُّ رُوحٌ تَشملُ الكونَ الذي
يَتَمازَجُ الإحساسُ فيهِ بوحدةٍ
فإذا الرسومُ قصائدٌ غِرِّيدةٌ
وإذا الهياكلُ في جمالِ قصيدةٍ
هذي خفايا القلبِ ما أنا شاهدٌ
بشعاعكِ المتألِّق الوهَّاجِ
قلبي على الظلماتِ يُشرق طيَّه
حُبِّي فيطردُ كلَّ همٍّ داجِ
وأعودُ قبلَ الفَجْرِ أرقبُ هانئًا
هذا الشروقَ عبادةً وحياةَ
متناولًا منه ذخائرَ مُهجتي
مِن قبل أنْ أجدَ الحياةَ مماتَا!

لولاك!

لولاكِ لم أَعرفْ مَحَبَّةَ خالقي
عرفانَ قلبٍ شاعرٍ … لولاكِ!
وَلعِشْتُ في الظُّلُمَاتِ عيشةَ جاهلٍ
نُورَ الألوهةِ وزَّعتْهُ يَداك
ولَفُتُّ أسْرَارَ الحياةِ وما وعَتْ
للرُّوحِ والإيمانِ والإدراك
هِبَةُ الألوهةِ أنتِ، بل ورسولُهَا
للفَنِّ، ثم مَلَاكُها لفتَاكِ
أينَ المعاني للسُّمُوِّ إذا مَضَى
مَعْنى الجمالِ ولم تَزنْهُ حُلَاكِ؟
ولِمَنْ أصوِّرُ ما أصوِّرُ شاعرًا
إنْ لم تُجِبْ أذناكِ أو عيناكِ؟
إنَّ التجاوبَ والحياةَ تجاوُبٌ
لكِ، فالحياةُ ونُورُها مَعْنَاكِ!

قلبي البالي

بحسبكَ ما ألقاهُ مِنْ قلبيَ البالي
فما عُمرُهُ عُمري ولا حالُهُ حالي
أراه طعينًا فوقَ ما قد حملتُهُ
مِنَ الطَّعنِ في يأسي ولوعةِ آمالي
فهل عاشَ في شتى العصورِ التي خلتْ
وهل ذاقَ ما يشكُوه في الزمن الخالي؟!
وهل عرفَ الدنيا الكئيبةَ وانتشى
من الهمِّ أضعافَ الذي ذاقهُ بالي
فأصبح يَرثي للأنامِ وحَظِّهم
ويصفو ويَشْجَى كالشجيِّ وكالخالي؟!
لكَ اللهُ مِنْ قلبٍ تَخطَّى معاركًا
مع الدهر حتى بات كالأَثَرِ البالي!
له كلُّ ألوانِ الحياةِ وما لَهُ
حياةٌ من الحَظِّ المكافئِ والعالي
ولم تَكفهِ تلك القرونُ التي مَضتْ
فعاد يُعَادِي كلَّ غِرٍّ وختَّالِ
تَمَهَّلْ! هي الدنيا كما قد عرفتَها
فدَعْها فما فيها كريمٌ ولا غالي
وتكفيكَ هاتيكَ الجروح، فبرؤُها
عزيزٌ، فما تُسْلَى وما أنتَ بالسالي!

عالم الذهول

ضَحِكَ الصِّحابُ وربَّما وَجَموا كما
ضَحِكوا أمامَ تَخيُّلي وذُهولي!
لِمَ يضحكون؟ أليس ذلك عالَمًا
أسمى وأجدَى مِنْ سفاسفِ قِيلِ؟
كم يُنفق المتشدِّقون حياتهم
في غيرِ محمودٍ ولا معقولِ
والحُلْمُ أوْلَى بالتفاتةِ شاعِرٍ
مِنْ عالَمٍ مُتضَائِلٍ مخبولِ

حنين الكهولة

رجَّعْتُ أنغامي كعهدِ صِباهَا
وفرِحتُ بالقلب الذي غنَّاهَا
ونظرتُ للدنيا التي أبدعْتُها
في الحُلمِ أرقبُ عطفَها ورضاهَا
فإذا الصِّبا بين المخابئ مُعْرِضٌ
عنِّي، ولو أني خلقتُ غِنَاهَا
دُنيا الخيال تمرَّدَتْ، وأنا الذي
قد كنتُ أحسبُ مَوْئِلِي بحماهَا!
ما روْعةُ الأنغامِ مِن فمِ شاعرٍ
كالقلبِ إنْ فاتَ الزمانَ صَدَاهَا؟
تَخِذَ الخُفُوقَ حَنانَهُ ونُواحَهُ
يَستصرخُ الآمالَ في مَثْوَاهَا
فَتلفَّتَتْ وتضاحَكتْ مِنْ جهلهِ
وكأَنه غِرٌّ يَعيبُ إلهَا!
والدهرُ مُستمعٌ إليه كأنما
بشجونهِ الدهرُ العَتِيُّ تَلاهَى
غَنَّى ودُنيا الحرب شَتَّى حولهُ
في الأرضِ أو بمدَى السماءِ مَدَاهَا
واشتاقَ أيامَ الصِّبا ولو انَّه
يَدْرِي المآل لما أطاقَ لِقاهَا
خادَعْتُهُ بهوَى الخيالِ، وهل أنا
إلَّا شريدٌ في الخيالِ تناهَى؟!
قد ماتت الأيامُ، لا رَجْعٌ لها
كالمومياءِ، فلو أَفاقَ رَثَاهَا
أسَفي عليها في تَناوُحِ لهفةٍ!
فكأَنها ذكرى تودُّ أباهَا!
والموتُ يجحبُها ويَحجبُ عطفَهُ
عنها فردَّ نداءَه ونِدَاهَا

•••

سقيًا لأطيافِ الصِّبا وجمالها
حتى تُعيدَ الذكرياتُ شَذَاهَا!
رقصت بتجديدِ الصباح وربَّما
لثمتْ بإشعاعِ الصباحِ شِفاهَا
ومضتْ إلى أقصى الكواكبِ خُلسةً
فكأنَّها ما أشرقتْ لولاهَا!
فإذا استمعتُ إلى هتافٍ غائبٍ
للحبِّ خِلتُ بِرُوحهِ مَعْنَاهَا
تاهت ببحرِ الغيْبِ فوقَ كواكبٍ
كالسُّفن تحمل للزمانِ رُؤَاهَا
واستعذَبتْ شعرَ الجنون نيشدَها
وأَبَى لنا شِعْرُ الجنونِ سِوَاهَا!

في المعترك

عييتُ مِنْ قلَقي فيما وُجِدْتُ له
وفي المعانِي لكونِي أو لأحلامِي
أُسائلُ الدهرَ عنها وهْوَ مضطربٌ
مثلي وأصحبُ كالمبهوتِ أعوامي
وأنتحِي عن وُجودي شبهَ منعدمٍ
في الصَّمتِ، والصَّمتُ آمالي وآلامي
في حيرةٍ وكأني عالَمٌ يئستْ
منه الحياةُ فعافت روحَه الدَّامي
أبكي وأضحكُ في نَفْسِي فإنَّ بها
من التناقُضِ إيساري وإعدامي
ما بين ضدَّين قد عاشتْ وليس لها
مِنْ شاغلٍ غيرُ معنى عيشِهَا السامي
تصدَّرَتْ لهمومِ الناس تُسْعدهُمْ
وعُوقِبَتْ بين أحبابٍ وأخصامِ
ولو تَسَلَّتْ عن الدُّنيا ونقمتها
ولم تُبَالِ بأنعامٍ وأصنامِ
لقدَّسوها جميعًا في رعايتهمْ
ومَجَّدوها بأفواهٍ وأقلامِ!

•••

يا لَلحياةِ التي استوعبتُها شغفًا
بها، وفجَّرتُها شِعْرِي وأنغامي
أنا الحريصُ عليها وهْيَ تنبِذُني
وكم تُمزِّقُ صدري عند إرغامي
وحاملُ الرايةِ المحسودِ حاملُها
وهو الذي يتلاشَى تحت أقدامِ
الرافعُ الرأس في الحرب العَوان وإن
غَدَوْتُ ما بين أشلاءٍ وصَمصامِ
ممرَّدًا ورياحُ الدهرِ عاصفةٌ
مُسوَّدًا رغمَ خفضِ الدهرِ للهامِ
وثائرًا بين صرخاتٍ يُردِّدُهَا
سَمْعُ الزمانِ إلى ويلاتِ أيامي
يكاد حُبُّ بقائي يستثيرُ بِها
حُبَّ الفناءِ، وحُبُّ الحقِّ أوهامي
كأنَّما الموتُ والأوهامُ أخيلةٌ
من الجمالِ تعالتْ فيه عن ذامِ
كأنَّما طهرُ آلامي يحبِّبها
إليَّ أو أنها مِن نَبْعِ إلهامي
وهذه صُوَرُ الأحياءِ صارخة
باليأسِ صرخة هذا الصاخبِ الطامي!

الصيد الحلال

تركوا مُطاردةَ الوُحُوش وآثروا
صيدَ ابنِ آدمَ مُرْهَقًا وذليلَا
كم مِنْ جُمُوعٍ ليس تعرف عيشَها
إلَّا الأسى والموتَ والتَّرميلَا
ساد الجبابرةُ الطُّغاةُ، وسُلِّحُوا
بالغدرِ، وابتدعوا «السلامَ» دليلَا
وهم الذين تمثَّلَتْ نعماؤُهم
في الحربِ تَحصدُ أمةً وقبيلَا
هذا هو الصَّيْدُ الحلالُ بعُرْفِهمْ
لم يَصطنعْ شرحًا ولا تأويلَا
والناسُ تشكو ثم تشكر، ما لَهم
عَقلٌ، وهل تدري الجموعُ عقولَا؟!

اللوَّام

ما أكثرَ اللوَّامَ حين شقاوتي
عَيشي وحينَ تَحجُّبي سُلواني
كلٌّ يَرَى العاني أحقَّ بأن يُرَى
في الهمِّ شبهَ مُهرِّجٍ متفاني٤٣
يا لَلأنانيِّ الذي لا يستحي
ويَلومُ ثم يَلومُ وهو الهاني!
أوَمَا كفَى عُمْرِي الذي ضحَّيتهُ
للمبدأ السَّامِي وللإنسانِ
حتى أسَخَّرَ في تحياتِ الورى
وأنا أكافِحُ مُفرَدًا وأعَاني؟!

فلسفة الحب

(مقتبسة من الشاعر الإنجليزي المشهور شيلي P. B. Shelley.)
الينابيعُ في مَدَى النَّهرِ تَنصبُّ وفي البحرِ تذهبُ الأنهارُ
ورياحُ السماء بين امتزاجٍ وحُبورٍ، فما لهنَّ نِفارُ
ليس شيءٌ فردًا، فهذي جميعًا رَهنُ قُدْسِيِّ شَرْعِهَا في امتزاجِ
فلماذا وهذه سُنَّةُ الخَلْقِ كلانا يحيا بغيرِ اندماجِ؟!
انظري للجبالِ قبَّلتِ الأوْجَ وهذي الأمواجَ بين احتضانِ!
لن تنالَ الغفرانَ في الزَّهْرِ مَنْ عافتْ شقيقًا لها على الحرمانِ!
تَلْثِمُ الشمسُ بالأشعةِ هذي الأرضَ، والبدرُ هذه المَوْجَاتِ
أيُّ مَعْنًى لها إذا لم تجودي بالحبيبِ الشهيِّ مِنْ قُبُلاتِ؟!

الزمان

(مقتبسة من شيلي)

أيُّهذا البحرُ الذي ما لَهُ غَوْرٌ ويا مَنْ أمواجُهُ السَّنَوَاتُ
يا خِضَمَّ الزمانِ أمواهُكَ اللوعاتُ، للناسِ مِلْؤُهَا العَبَراتُ
لذعَتْ بالشَّجَى، وأنتَ بلا حَدٍّ زعيمٌ على حدودِ الفناءْ
بين مَدٍّ وبين جَزْرٍ تَعافُ الصيدَ جَمًّا وتَستزيدُ العطاءْ
ثم تَمْضي تمجُّ منكَ حُطامًا عند شطٍّ مِنَ العُبوسةِ أظلمْ
أنتَ عند السكونِ يملؤُكَ الغدرُ وعند الإعصارِ عاتٍ تَجهَّمْ
مَنْ تُرَى ذلك الذي سوف يَمضي جارئًا خائضًا عُبَابَكَ فِكرُهْ؟!
أيها البحرُ! أنتَ يا مَن عجزنا عن مَدَاهُ، فليس يُسْبَرُ غَوْرُهْ!

طائر الحب

سمعتُكَ هاتفًا عندي
ولكنْ لم أزَلْ وَحْدي!
أفتِّشُ عنكَ في قُربٍ
فهل في القُربِ مِنْ بُعْدِ؟!
وأبحثُ عنك مِنْ وهمي
على غُصنٍ، ومِنْ وَجدي
وأتبعُ جارياتِ السُّحـ
ـبِ في خوفٍ مِنَ الصَّيْدِ
وأرْجِعُ سائلًا نَخلى
عليك، وسائلًا وَرْدي
وهذا البدرَ وهو يَسْبـ
ـحُ في الدُّنيا مِنَ المَهْدِ
وموسيقى الكواكب وهـ
ـيَ تَصدحُ صدحةَ الخُلْدِ
وأطيافَ الضياءِ وكم
تُصاحِبُني على سُهْدِي
فألقَاها مُحَيَّرَةً
وشاردةً بلا رُشدِ
كأنَّ جميعَها بَحثتْ
عليكَ وأنت في زُهْدِ!

أمير الصعيد

(تحية صاحب السموِّ الملكي الأمير فاروق لمناسبة إسناد إمارة الصعيد إلى سموِّه في يوم ١٢ ديسمبر سنة ١٩٣٣.)

أميرَ النيلِ والوطَنِ المَجيدِ
لتهنَأْ بانتسابِكَ للصَّعيدِ
بلادٌ يَستعزُّ «خنومُ» فيها
بمعنى الحَزْمِ واليأسِ الرَّشيدِ
وقد وُلِدَتْ بها أحلامُ «مينا»
فأسَّسَ دولةَ المجدِ التليدِ
كما عَرفتْ قِنَا «هاتورَ» رمزًا
لمعنى الصدقِ والنُّبلِ الأكيدِ
وتاهتْ للخُلودِ «بأخنتونٍ»
إمامِ الحُبِّ للرَّبِّ السَّديدِ
كما أوْحَى «تحوتُ» لها حياةً
مِنَ العرفانِ والنُّورِ السَّديدِ
مَعَابدُ للفخارِ بكلِّ ركنٍ
ودورٌ أهلُها أهلُ الخلودِ
فإن نُسِبَتْ إليكَ فأنتَ منها
بنسبتكَ الفريدُ إلى الفريدِ
فتِيهي يا رُبوعًا تَوَّجَتْها
أيادي الشمسِ بالشِّعرِ النضيدِ
وعيِشي للإمارةِ ذُخرَ مِصْرٍ
فإنك أنتِ مُلهمُ كلِّ عيدِ

ليالي الخريف

أُشْعِلَتْ بالنُّجومِ ملءَ سُكونٍ
وصَفَاءٍ تَخَلَّيَا عن حَيَاةِ
فكأنَّ الطبيعةَ الآنَ قامتْ
تَحْتَفِي في جنازةِ الأمواتِ
قد تَوَلَّى عامٌ وكم فيه مِنْ عُمـ
ـرٍ تَوَلَّى ومِنْ عَناءٍ وقَصْفِ
فإذا الموتُ عامرٌ كلَّ شيءٍ
بجمالٍ قد جَلَّ عن كُلِ وَصْفِ
كلُّ شيءٍ ساجٍ، وحتى نسيمُ اللـ
ـيلِ مَيْتٌ يَطوفُ كالأطيافِ
وله نَفْحَةُ البُرودةِ تَحْكِي
نفحةَ الموتِ في الوجُودِ الخافي
آهِ! كم لي مِنْ راحةٍ بوقوفي
في أعالي السُّطوحِ أرنو وحيدَا
أرقُبُ الكونَ مثلما يَرقُبُ الحا
لمُ مَوْتَاهُ وهو يَفْنَى شريدَا
أَتَمَلَّى الحياةَ نشوانَ في الصَّيـ
ـفِ وفي لهفةِ الربيعِ العجولِ
وأحِبُّ المماتَ ملءَ خريفٍ
وشتاءٍ في عاصفٍ مِنْ عويلِ
هو دِيني الذي تَصَوَّفْتُ فيهِ
وعليهِ أموتُ حين أموتُ
حَبَّبَ العيشَ لي كما حَبَّبَ المو
تَ فناجَى الفؤادَ هذا السكوتُ!

السماء الشاعرة

كأنَّ دُموعَهَا وصَدَى جواها
صَدَى العانينَ مِن بينِ الأنامِ
وكم غُولٍ ينوحُ بها طريدًا
مِنَ الأرضِ الغنيَّةِ باللئامِ
وقد هجرَ الملائكةُ الحيارى
مَنازلها وغابوا في الظَّلامِ
فباتت مثلَ هذي الأرض يأسًا
وأعلَن يأسَها فزَعُ الغمامِ
وسَحَّتْ أَلسُنٌ بالشعر فيها
فِصَاحًا بالدُّموعِ وبالضِّرامِ!

مآتم مهجتي

كَثُرتْ بلا حَصْرٍ هُمومي كثرةً
أنستنيَ الدُّنيا وحَقَّ حياتي
وصفحتُ عن لُؤمِ الجُناةِ ولم أزلْ
ألقَى من الأصحابِ لُؤْمَ جُناةِ
أصبحتُ أحوجَ ما أكونُ إلى مَدًى
مِنْ عُزْلةٍ قُدْسِيَّةٍ للرُّوحِ
عَلِّي وحيدًا أستطيعُ شفاءَها
ممَّا تُعاني مِنْ أسًى وجُروحِ
والناسُ حتى في عَنائي استعذبوا
لَوْمي كأنِّي لستُ غيرَ سَميرهمِ
لا يرحمون مكبَّلًا بقيودِه
عاش الضمينَ لخيرِهم وحبُورِهم
والآنَ لا أرجو كثيرَ نوالهمْ
لكنني أرجو السلامَ بعزلتي
فلمَ الملامُ وما ألوم معذِّبي
وأنا الوحيدُ لدى مَآتمِ مهجتي؟

الفنان البائس

تأمَّلَ في كونٍ يَرَى الموتَ شاملًا
له، ويَرَى مَرْآهُ نَظْمًا بلا مَعنَى
وهيهاتَ يَدْري هل هو المَيْتُ مثله
أم الميتُ مَنْ بالجسمِ عن رُوحهِ استغنى
كأنْ أفلَسَ الكونُ العظيمُ فلم يَجدْ
سوى الموتِ عونًا حينما افتقدَ العونَا
ومِنْ عَجَبٍ مِلْءَ السُّكُونِ عواصفٌ
وملءَ الظلامِ اليأسُ قد أرهق الظَّنَا
هواجسُ تجري ثم تمضي طوائرًا
حَوَاليْهِ كالأشباحِ تسلبهُ الأمْنَا
أيشكو من الناسِ الأُلَى ليس بينهم
سوى ميِّتٍ هيهات يستأهل الدَّفنَا؟!
أم الدَّهرُ مَنْ يُشْكَى وقد ماتَ مثلهم
وأشلَاؤه بُعثرْنَ قرنًا شَأَى قرْنَا؟!
بَكى ما بكى لكنْ بعزَّةِ مؤمنٍ
رأي الكونَ ظُلمًا للحقيقةِ أو غَبْنَا
تجرَّأ لكن كالسفيهِ مشرَّدًا
يَهدُّ ويَبني ما يَهدُّ فلا يُبْنى!
ولا غايةٌ يَرْمِي إليها وطالَمَا
أنِيلَ من الأعذار ما بَعْدَه جُنَّا
فأفسدَ إفسادَ الممرَّدِ ذاهلًا
عن الحُسْنِ حتى بدَّدَ الحقَّ والحُسنا
وقد نالَهُ غولُ الفناءِ، وإنَّه
على الرغمِ يأبى أن يُقيمَ له وزْنَا
فلم يَبق إلَّا هيكلٌ من كيانهِ
يدلُّ عليه بَعْدَ أن لم يَعُدْ كَوْنَا
وشَرٌّ من الموت الأكيدِ مسخَّرٌ
لدى الموتِ إذ تلقاهُ يفنى ولا يَفنى!

•••

بكى بؤسَه في ليلهِ وهو ما دَرَى
أفي الوهمِ يبكي أم بكى ما رأى عَينَا
وهل كلُّ شيءٍ ميتٌ وهو وحْدَهُ
فبات يتيمًا لا حبيبَ ولا مَغنَى
أم الدهرُ يلهو بالشقاوةِ حَوْله
طروبًا، وبالأحداثِ والناسِ مفتنَّا
فإن كان، فليدفعْ أذى الدَّهْرِ لاهيًا
به مثلما يلهو، فينصفْ به الفنَّا!

السابقة الأولى

(في تهنئة الآنسة لطفية النادي وقد نالت جائزة الشرف في سباق الطيران الدولي بين القاهرة والإسكندرية ذهابًا وإيابًا يوم ٢٤ ديسمبر سنة ١٩٣٣.)

أنتِ زينُ السابقاتِ في التَّسامي بالحياةِ
لم يَعُدْ للأرضِ شأنٌ في الشعوبِ الخالداتِ
كلُّهَا ثارت إلى السُّحْبِ على رغمِ المماتِ
كلُّها دانتْ بدينِ الثأرِ من أرضٍ مَواتِ
قد عشقتِ الجوَّ حتَّى عِفْتِ أسبابَ السُّبَاتِ
وتَنَفَّسْتِ التَّعَالي مِنْ مَعَالي الكائناتِ
أنتِ يا عنوانَ «مصرَ» في هَوًى للمجدِ آتِ
هكذا تعتزُّ «مصرٌ» بكِ بين المُحْسِنَاتِ
كم تُعَاني الفقرَ والحرمانَ من دُنيا الجُنَاةِ
هل يُزيل الضَّيْمَ إلَّا مثلُ هذي الوثباتِ
مِنْ قُلوبٍ عامراتٍ ونفوسٍ ثائراتِ
لا تَرَى السُّخطَ كفيلًا بالغِنَى دونَ الهِبَاتِ؟!
إنما الأمةُ تحيا بتوالي التضحياتِ
بجُهودٍ مُلهماتٍ وهُمومٍ مُغْنِيَاتِ
امْرَحِي يا مِصْرُ! تِيهِي بِعُلَى مِصْرَ الفتاةِ!
حَوَّمَتْ فوقَ نُسورٍ لا تُبالي بالنَّجاةِ
وبَنتْ في الجوِّ ذكرًا مِنْ أعاجيبِ البُنَاةِ

•••

طِرْتِ لكنْ بين آلافِ القلوبِ الطائراتِ
كلها ترعاكِ بنتَ «النيلِ» في أَبْهَى تُقَاةِ
طِرْتِ كالإلهامِ لكنْ في مَسيرِ النَّيراتِ
في سماءٍ مِنْ شُعَاعٍ ودُعاءٍ وصَلَاةِ
وخَطَفْتِ النَّصرَ بالجُهْدِ برغمِ العَقَباتِ
في مَدًى كالحُلْمِ قد أهدتْهُ أحْلَى اليَقَظَاتِ
لحظةٌ للمجدِ عندي هي أسنى اللَّحَظَاتِ
شَرَّفَتْ أبناءَ قومي فهي أَوْلَى بحياتي!

سنتكلوز

مدحتُ «سَنْتِكُلُوزًا» مُداعبًا أطفالي
فحدَّثوني طويلًا عن خُلقهِ المتعالي
وكيف يبدو حَفِيًّا بهمْ بدنيا الخيالِ
وإنْ تحجَّبَ عنهم كأنَّه لا يُبالي
قالوا: تحجَّبْتَ عنَّا وأنتَ رهنُ اشتغالِ
فلا نراكَ نهارًا ولا طوالَ الليالي
أأنتَ «سَنْتِكلُوزٌ» منوَّع الأشكالِ
أم والدٌ لا يُرَجَّى جَنَتْ عليه المعَالي؟!

•••

يا ضيعةً لأَدِيبٍ مُسَخَّرٍ للجمالِ
يقتاتُ منه ويقضي حياتهُ في ابتهالِ
وللسلامِ يُغَنِّي وللإخاءِ يُغالي
يَنْسَى ذويهِ ويفنى على ضَنًى واشتعالِ
ويخدمُ الناسَ لكنْ يُذمُّ في كلِّ حالِ
فمجدُهُ مِنْ خَيَالٍ وحظه مِنْ مُحَالِ!

مُحال!

مُحَالٌ أن تحَاولَ هَدْمَ حُبِّي
وإنْ لم ألْقَ بين الناسِ حُبَّا
صَفَحْتُ عن الخُصُومِ وإنْ أسَاءُوا
وكادُوا واعتبرتُ الكلَّ صَحْبَا
لَهُمْ أسَفِي وإشفاقي وقَلْبي
وإنْ لم يَعرفوا أسَفًا وقَلْبَا
ومهما خِلْتَني أشكو بيأسِي
ذُنوبَ الناسِ خِلتُ اليأسَ ذنبَا
سيَطوينا الزَّمانُ، وكلُّ ذنبٍ
سيمحوه الزَّمانُ لِمَنْ تَأَبَّى!٤٤

أنشودة الحزين

لا الظلُّ ظلٌّ ولا الأضواءُ أضواءُ
إذا تَناوبَ نفسي الهمُّ والداءُ
فزعتُ حُزنًا إلى أمٍّ كلفتُ بها
كما تدفَّقَ في أحضانِهَا الماءُ
أنا الذي فُتُّها في دَمْعِها نزقًا
فطوَّحَتْني تَعِلَّاتٌ وأهواءُ
ورُحْتُ أنفقُ عمري دائبًا فَرِحًا
للناسِ، والناسُ للإحسانِ أعداءُ
فعدتُ واليأسُ يُشقِيني ويقتُلُني
وللطبيعة إشفاقٌ وإحياءُ
تعودُ نفسِي إلى مَجْلَى عنايتِهَا
كما تعودُ إلى الأفنانِ ورقاءُ
بات الخريفُ ربيعِي بعدمَا كفرت
تلك النفوسُ بطبِّي وهي شوهاءُ
أعودُ أمنحها رُوحي وتمنَحُنِي
روحًا جديدًا يناجيه الألبَّاءُ
ما لي وللناسِ أُحييهم وأعبدُهم
وكلُّهم ساخرٌ بالسوءِ مشَّاءُ؟!
إني لغافرُ ما قَالُوا وما صَنَعُوا
كمَا حَبَا بالأغانِي المرْهِقَ النَّاءُ٤٥
لكنَّني عازفٌ عنهم وإنْ وُهِبَتْ
نفسي لهم كيفَمَا شاءُوا وإن سَاءُوا
إني لملكٌ لنوعي٤٦ لستُ أجحدُهُ
ولو جزائيَ ضرَّاءٌ وضرَّاءُ
في عُزْلةٍ كصلاةٍ لا انتهاءَ لها
حينَ الطبيعةُ بكماءٌ وغنَّاءُ
أُعطي زكاةَ حياتي ما أخلِّصُه
مِنَ الحياةِ وأعطي الحبَّ مَنْ شاءُوا
عَيِيتُ بالناسِ مِنْ لؤمٍ يساورُهم
وما عييتُ بما تجنيهِ أنواءُ
هلمَّ يا نورُ واغمُرنِي فقد ظَمِئتْ
رُوحي إليكَ، ففي مَعناك صهباءُ
ويا ظلالُ أعيدي كلَّ ما فقدتْ
رُوحي فعندكِ للأرواحِ أصداءُ
ويا طبيعةُ غذِّيني مسامحةً
فإنَّ أنفسنا لولاكِ جرداءُ
لولاكِ لولاكِ مَا كانت مشاعرُنا
ولا بكتْ في وداعِ الأمسِ حوَّاءُ!

صومعتي

إليكِ أَلْجَأُ يا أَفياءَ٤٧ صومَعتِي
بعد الذي ذُقْتُ مِنْ صَحْبِي وأيَّامي
هَبِي حياتي سَلَامًا منكِ أعهدُهُ
تَرعرعَتْ فيه أطيافِي وأنغامِي
لقد سئِمتُ هواءً كاد يخنقُنِي
مِنَ الرياءِ وكم عانيتُ أسقَامِي
كما سئمتُ ضياءً كلُّه ظُلَمٌ
فعُدْتُ أوثِرُ ليلي بين أوهَامِي
مالي ودُنْيَا تسامَى للجُحودِ بها
مَجْدٌ، وهانَ الحِجَا مِنْ مَجْدِهِ السَّامي
تَشْقَى وتَشْقَى حياةُ المصلحين بها
وكلُّهم بين أهلِيهَا كأيتامِ
ويُرْحَمُونَ مِرارًا كلَّما ضَمَدُوا
جُرحًا، وكلٌّ بقلبٍ مُثْقَلٍ دامي
دُنْيَا غُرورٍ ولُؤمٍ لا يُهذِّبُها
عَصْرٌ ولا حَمْلُ أعباءٍ وآلامِ
دُنيا الغرائزِ ما زالتْ طبيعتُها
طبيعةَ الجُودِ في حربٍ وآثامِ
نفنِي الضحَايَا لهَا، لكنْ بلا أملٍ
حيٍّ، فآمالُنا أضغاثُ أحلامِ!
١  انظر قصيدة «الزهرتان» في ديوان «أطياف الربيع» ص٤٩.
٢  إشارة إلى انعكاس الأضواء من سطح الماء على السفين.
٣  ثغر الإسكندرية.
٤  معابد الحب.
٥  يخاطب رفيقة صباه.
٦  روح الوجود وروح الفن.
٧  يريد النجوم.
٨  كان القصر الملكي في تل العمارنة معرضًا للجمال الطبيعي الذي فتن به الملك إخناتون وزوجته الملكة نفرتيتي.
٩  رواية نفرتيتي، تأليف صاحب الديوان.
١٠  الشعلة: المادة المشتعلة، واللهيب: النار الخالصة من الدخان.
١١  إشارة إلى عهد نيرون.
١٢  إشارة إلى عدسات الكامرا في مراسم السينما.
١٣  اللَّورا معربة من اليونانية.
١٤  عداه: فاته.
١٥  نصفت: خدمت.
١٦  رصدت الحكومة المصرية مليونًا من الجنيهات بإشارة جلالته لتخفيف أزمة الفلاحين، واتخذت إجراءات خطيرة أخرى لخيرهم.
١٧  الأبدال: من يقومون بتمثيل الأدوار الخطرة في السينما بدل سواهم، وإن نسبت المخاطرة خدعة إلى الآخرين الذين يفوزون زورًا بإعجاب الجمهور بمخاطراتهم المزعومة، حينما يقوم بها في الواقع غيرهم؛ أي أولئك الأبدال.
١٨  ممتد.
١٩  هو أبو علي الحسن بن هانئ الشهير بأبي نواس.
٢٠  هي الممثلة الفنانة مارلين ديتريش بطلة رواية «أنشودة الأناشيد».
٢١  البيت للشاعر الفحل ابن حمديس.
٢٢  لما يعقب ضياعه من الحسرة اللاذعة عنده.
٢٣  يحميه ويصونه.
٢٤  حزن.
٢٥  منع.
٢٦  هي الممثلة المبدعة «أيرين دون» بطلة الفلم الإنساني «الشارع الخلفي».
٢٧  المسرة: التليفون.
٢٨  أي روح الفنون.
٢٩  تبعد.
٣٠  يظهر.
٣١  الرخاء: الريح اللينة التي لا تحرك شيئًا.
٣٢  المدلج (لغة): السائر بالليل، وهنا بمعنى الضال.
٣٣  أي الفرحة.
٣٤  يغتنم.
٣٥  البيتان التاليان للمعتمد بن عباد وجههما إلى صنيعته الأديب صالح بن صالح، وقد تنكر للمعتمد بعد أن ظفر بمعاونته تنكرًا قبيحًا صار مضرب المثل في الجحود.
٣٦  Eleusis مدينة إغريقية بحرية اشتهرت بمعبدها.
٣٧  Apelles هو المصور الإغريقي العظيم، وقد استوحى من فرين صورة (أفرديت خارجة من البحر).
٣٨  Hyperides مِدرَهٌ كبير وزميل ديموستينيس الذي حضر — مع كثيرين من الأعلام — محاكمة فرين.
٣٩  الكائنات وتجاوبها.
٤٠  انظر قصيدة «العودة».
٤١  الغماغم: أصوات المحاربين. يريد الشاعر أن صوتها للحرية والسلام هو وحده الذي خلد.
٤٢  من المتبع الآن إعلان الإفطار بإطلاق المدافع في العواصم الإسلامية.
٤٣  متفاني: بمعنى devoted، يعني واهبًا نفسه للتهريج.
٤٤  لمن أبى الصفح.
٤٥  الناء: الناي، يشير إلى جوده بالموسيقى كلما أرهقه صاحبه.
٤٦  النوع الإنساني.
٤٧  أفياء: ظلال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤