الرسالة الخامسة عشرة

العودة إلى باريس

من لي بباحث في أخلاق الإنسان يكون قد وَقَف نفسه على درس الحيرة والاضطراب، وتحقيق تأثيرهما، وتعرف تنوعاتهما. وقد حضرني حينما عَوَّلت على كتابة هذه الحروف، وأعددت القلم والقرطاس، واستفتحت بتحرير ديباجة العنوان، ثم أبقيت يدي معلقة في الفضاء، والقلم بين أصابعي في الهواء، وأعيني شاخصة تنظر ولا ترى، وأسناني تصطك اصطكاكًا متواترًا، وشفاهي يتلاعب بها الاختلاج من غير انتظام، ثم تقع السفلى منهما بين الأسنان فينبهني الألم، فأضع القلم وأرفع يدي إلى جيبي كأني أعصره عصرًا لأستخرج التبيان منه قسرًا، ثم أُسكن بها فكري طورًا، وأرجع لحالتي الأولى من إمساك اليراع وإمساك الذهن، حتى كدت أُعافي نفسي من الخوض في هذا الموضوع، لولا سبق الوعد في الرسالة الثامنة بتلخيص وجيز على باريز، يُعرف القارئ بها، ويصف بعض أحوالها، ويقص عليه شذورًا من أنبائها.

وما مصدر هذه الحيرة — وحقك — عجز عن التسطير، أو إحجام في ميدان التحرير والتحبير، ولكن هي المواضيع انهالت عليَّ انهيالًا هالني، وتزاحمت تزاحمًا تراخت معه عزائمي، حتى أشبهت (هي) أقوامًا احتشدوا في دار شبَّت بها النار، فطفقوا يتسارعون للخروج من باب ليس لهم سواه، وصاروا يتدافعون ولا يعلمون أنهم يتمانعون وأنهم إذن عما قليل هالكون، فقام فيهم شيخ فَطين، ونَبَّههم إلى هذا الخطر المبين، وحثهم على التُؤَدَة والسكينة للنجاة من هذه المصيبة العظيمة، فأراعُوه السمع وسَلموا كلهم من الروع. وقالوا: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

فَعنَّ لي حينئذ أن أقتدي بهم. وأذكر الحيرة في الابتداء، ثم التوصل للاهتداء، بقسمة المواضيع إلى مطالب أتكلم فيها على باريس من جملة وجوه، بحسب ما وصل إليه جهدي ووقفت عليه بنفسي.

(١) كلمتان على باريس

يقول أهل هذه المدينة إنها الآن وستكون على مدى الأزمان حاضرة الحضارة والعمران، ومدينة المدنية في كل ميدان. لا يضيرها اضطراب السياسة فيها أو انشقاق الأحزاب بين أهاليها. وإن الأجانب يفدون إليها وسيتقاطرون عليها؛ إذ ليس في العالم إلا باريس واحدة (وأنت تعلم أن في إحدى الواحات المصرية قرية حقيرة تسمى باريس — فيا لله من هذا التناقض!) ويقولون إن من أقصى أماني الأغراب أن يمتعوا أنظارهم بمجالي محاسنها، ولا سيما أهل الأرياف والأقاليم في فرنسا، فإنهم يرون وجوب المجيء إليها خصوصًا بعد الزواج ليقضوا بها (هلال العسل)، وليس ذلك إلا لأنها تفردت عما سواها وفاقت على ما عداها بما جمعت من أسباب اللهو، ووسائل الانشراح، وإراحة الخاطر، وتمضية أويقات الصفاء والهناء. وخلاصة القول أنها مركز للجذب العام وفتنة لجميع الأنام.

هذه المدينة يشقها نهر السين (La Seine) إلى نصفين يكاد أن يكونا متعادلين، وهي منقسمة إلى ثمانين خُطًّا (بضم الخاء) في عشرين قسمًا، على رأس كل قسم رئيس يعرف بأمين المدينة (شيخ البلد) وثلاثة مساعدين، وعلى رأس الجميع موظف عالٍ لقبه مأمور ضبطية السين، وعليه القيام بوظيفة الأمين العام (شيخ عموم البلد). وعدد سكانها ٢٤٢٢٦٦٩ نفسًا، ومسطح البقعة التي تشغلها من الأرض فيما بين الحصون التي حولها عبارة عن ٨٠٠٠ هيكتار، وطول محيطها ٣٤ كيلومترًا، والحصون عبارة عن دائرة مزدوجة طولها ٣٤ كيلومترًا و٥٣٠ مترًا، وفيها ٥٦ بابًا للمدينة و٩ معابر تمر منها السكة الحديدية، ومعبران لنهر السين وآخران لترعتين. وطول الطرقات العمومية فيها هو ٨٨٨٠٠٠ متر ومسطحها عبارة عن ١٥٣٢ هيكتارًا، وفيها أكثر من ٨٢٠٠٠ دار، وميزانيتها في السنة تبلغ ٢٨٠ مليونًا من الفرنكات.

ولما كانت الكوليرا ضاربة أطنابها بها في الصيف الماضي، تكبدت المدينة نفقات باهظة في رش السوائل المطهرة في الطرق العمومية، ولغسل أماكن القاذورات والمباول في كل يوم من أيام الوباء، حتى بلغت المصاريف ٤٣٠٠ فرنك في اليوم الواحد، وقد بلغت مصاريف التطهير، وتنقية الهواء في المدارس التابعة للمدينة ٨٠٠٠ فرنك، وقد كان مجموع المصاريف التي أنفقت بهذا السبب في فترة اجتماع المجلس البلدي ٥٧٠٤٦٦٧ من الفرنكات.

(٢) متاحف باريس

أول شيء تنساق إليه أقدام السائح الذي يقصد الاطلاع على الغرائب ومشاهدة الطرائف إنما هو المتاحف، وأحقها بالتقديم هو متحف اللُّوفر، فإنه يحتوي على أكمل مجموعة في العالم من حيث الفنون الصناعية، وقد كان إنشاؤه في قصر اللُّوفر في سنة ١٧٩١ بأمر من الجمعية الأهلية، فجعلوه مقرًّا لجميع الأعمال الغريبة التي كانت متفرقة في قصور الملوك، ثم جاء أساتذة الفنون المتقنون وحلَّوه برسوماتهم ونقوشهم، وكثر المتبرعون بفرائد الصور وذخائر الأشكال حتى أصبح من أكمل وأجمل متاحف الدنيا.

وإني أشير الآن بالإجمال إلى ما فيه من الأقسام، فإن التفصيل يكاد يكون من المستحيل فيه للتماثيل والأنصاب من الرخام (ومنها الزهرة إلهة الجمال لميلو، ثمنها وحدها ٦٠٠ ألف فرنك)، ومن النحاس من صنع الأقدمين أو محاكاة لهم، وفيه نقوش دينية على المرمر وأبواب هياكل ومعابد، ثم نقوش وكتابات رومانية بارزة، وفي إحدى قاعاته إناءان كل واحد منهما من حجر واحد ومتباعدين عن بعضهما نحو ٣٠ مترًا، وإذا تكلم الإنسان في أحدهما سمعه صاحبه من الثاني، وهذا من غرائب الصدى وليس لهما من مثيل إلا في أمريكا على ما علمت. وفيه قاعات لأواني الفخار وللوح الرسم والتصوير مما وراء العقول، ولا تسلني الآن عما فيه من مخلفات قدماء المصريين والرومانيين والأشوريين والبابليين وغيرهم من أمم السلف، وفيه متحف للجزائر وآسيا الصغرى. وخلاصة القول أنه في باريس كالدرة اليتيمة في القلادة الثمينة.

وفي الدور الثاني منه متحف للبحرية فيه صور المراكب وجميع آلات البحر وأدواته عند جميع الأمم، وفيه خريطة كبيرة مجسمة من الجبس تمثل قناة السويس وأعماله ومدائنه أهداها له دولسبس، وفيه متحف صيني، أما أثمان الأعمال التي فيه وزخرفة القصر، فهي من قبيل ما ورد في ألف ليلة وليلة.

أما متحف لُكسمبرج (Musee & Luxembourg)، فهو مخصص لحفظ رسوم المتفننين العصريين ونقوشهم، وعلى بابه تمثال بهيئة فرنسا وهي تقدم أكاليل الفخار إلى آلهتي النقش والتصوير، وفيه كثير من النقوش في الحجر والرخام والرسوم على القماش مما يقضي بالعجب العجاب.
أما متحف الحمامات ودار كلوني (Hotel Cluney)، فيمتاز عن السابقين بأنه مخصص لكثير من المجموعات المحتوية على آثار الأقدمين ومخلفاتهم النفيسة من كل نوع من أعمال أمم مختلفة، وقصر الحمامات هو أقدم العمائر في هذه المدينة، حتى إنني حينما شاهدته تنكرت أنني في باريس وتصورت أنني في رومة، خصوصًا عندما دخلت في قاعته الكبيرة الباقية إلى الآن في غاية الحفظ والصيانة تحت قبتها العتيقة الفسيحة، ويقول بعض المؤرخين إن يوليان المرتد نُودي به إمبراطورًا رومانيًّا في هذه القاعة (سنة ٣٦٠ق.م)، وفي المتحف الآن أكثر من ١٢٠٠٠ قطعة معروضة على الأنظار، وكلها من الفائدة والأهمية بمكان؛ إذ تحتوي على كثير من أمتعة القدماء وأبسطتهم ومنسوجاتهم، وعلى عربات مذهَّبة كان يستعملها الملوك في القرون الوسطى، وبعضها يجره الجياد وبعضها مما يحمله الرجال على الأعناق، ولا أظن أن في متاحف المدائن الأخرى مجموعة تعادلها.

وفي الدور الأول من هذا المتحف مجموعة من الأسلحة والدروع والدرق والمَجانِّ والخُوذ للمقاتلين وللخيول ومن الأواني المعدنية، ثم مجموعة من الأواني الخزفية (وفيها مجموعة من صناعة رودس وأخرى أندلسية)، والمينا والخشب المنقوش المُحلى بالصور الباهية، ومجموعة من الأقداح والأكواب والقازوزات والقارورات. وفي هذا المتحف غرفة تحتوي على مجموعة من المصنوعات العبرانية أهدتها له البارونة ناتالي دوروتشيلد، من ضمن ما فيها تمثال لتابوت العهد على هيئة دولاب، وشمعدانات ذات سبعة فروع وثمانية وتسعة، وكلها من الخشب المنقوش والفضة الخالصة والنحاس الصافي.

وفي المتحف خلاف ذلك من صناديق القدماء وأَسِرَّة الملوك والأواني المتخذة من خشب الأبنوس وسن الفيل، ورقع الشطرنج والبلور الصخري والساعات ومفارم الدخان والمفاتيح والسكردانات والمناقد، وكرة أرضية من نحاس مذهب والأقفال والأغلاق والمتارس (الدرابيس)، والمصوغات مثل تيجان الملوك القوطيين وأكاليل الإبريز الخالص الأصم المحلاة بأحجار الصفير والدر العديم النظير، ومذبح (من أقسام الكنيسة) من النضار الدقيق المطروق بصناعة وإتقان والأساور والخواتم وورد من الذهب، وغير ذلك مما يعجز القلم عن وصفه وتحار الأفكار من مشاهدته منضودًا محفوظًا كما كان وكأحسن ما يكون.

أما قصر الحمامات فقد كان بناؤه في سنة ٣٠٠ ميلادية بأمر الإمبراطور الروماني كونستانس كلود، ثم اتخذه ملوك فرنسا فيما بعد سكنًا لهم مدة من الزمان، ولما تركوه اشترى أطلاله أحد القساوسة، وبعد ذلك اشترته مدينة باريس وأحاطته بحديقة لطيفة، وجعلته مقرًّا للتماثيل الرخامية والحجرية التي أقيمت في باريس في العصر الذي شُيِّد فيه القصر، وأطلق عليه اسم قصر الحمامات؛ إذ لم يبقَ من معالمه سوى قاعة الاستحمام. وفي البستان كثير من الأنصاب والعمدان أغلبها كانت في القصر أيام كان يسكنه القسيسون، ومن أهم ما فيها صليب من الحديد انتزعه الفرنساوية من كنيسة سان والدمير بمدينة سباستبول وغير ذلك.

وأما متحف الآلات والفنون الصناعية (ويسمى أيضًا بالمحفظ الأهلي للفنون والصنائع)، فقد أقيم في مكان كنيسة قديمة أضيف إليها جملة قاعات كثيرة، وعلى بوابته تمثالا العلم والصناعة، وفيه مكتبة تحتوي على ٣٠٠٠٠ مجلد خاصة بتطبيق العلوم والفنون على الصناعة، وفي إحدى غرفه رسم بعض المجيدين في التصوير تماثيل الصناعة والرسم والتصوير من جهة والعلم والطبيعة والكيمياء من جهة أخرى، وفيه معامل للكيمياء والطبيعة، وتُعطى فيه دروس ليلية في العلوم وتطبيقها على الصنائع مجانًا لكل طالب يقوم بها رجال من أشهر النابغين في هذه الفروع.

وهو يحتوي على جميع أصناف المحاريث وآلات متنوعة للتقطير وتكرير السكر، ومثال معمل للعربات وأدوات الخراطة والخياطة والنسيج والغزل، وبعض عينات من المنسوجات والآلات الخاصة بنظريات الحركة والانتقال، وآلات تحويل الحركة وتوليدها وآلات العدد والتلغراف الكهربائي وغير الكهربائي، والتلفون وآلات الصوت والجلوانوبلاستيا والموازين والأثقال وآلات علم الطبيعة، وأدوات استخدام حرارة الشمس وجهازات كهربائية متنوعة، وآلات علم الآثار العلوية، وآلات تقييد الأرصاد، وآلات استخراج غاز الاستصباح وجهازات الاستضاءة، وآلات الورق وآلات الطباعة والنقش والتصوير الشمسي، ثم المتحصلات الكيماوية وآلات طبع الألوان والأصباغ على الأقمشة، وتماثيل معامل حمض الكبريتيك، ثم كيفيات اصطناع الخزف والفخار والمينا والزجاج والبلور، وغير ذلك مما تتعذر الإحاطة به، ويستدعي المشاهدة وتمضية الوقت النفيس.

وأهم ما استوقف أنظاري تماثيل استخراج الفحم الحجري وأدواته وآلاته وجهازاته وآباره وسبر أغواره، والمعادن التي تخرج معه والأصباغ والروائح، والأعطار التي تستخرج منه وغير ذلك. وقد رأيت في نموذجات المنسوجات قطعة من شغل مصر أهداها الخديوي الأسبق إلى هذا المتحف، وفيها أشعار عربية مكتوبة بأحرف من القصب ومزركشة بذوق وحذق، بحيث إنها تجعل لصناعة بلادنا مقامًا محمودًا بين ما يجاورها من منسوجات الأمم الأخرى.

وفي تياترو الأوبرا (Theetre de eopere) متحف ومكتبة للتشخيص والتمثيل والروايات وفن الألحان، ولكن المتحف ليس من الأهمية بحسب ما يتصوره الذي يسمع عنه وبعكس ذلك المكتبة.

أما متحف فنون الزخرفة والتزويق فالغاية منه المساعدة على توسيع نطاق أعمال المشتغلين بتطبيق العلوم على الصنائع؛ إذ يرون فيه نموذجات لا تحصى من صنع الأقدمين والمحدثين، فتتربى بذلك ملكتهم ويقتدرون على الاختراع والتنويع، فإنها تحتوي على مجاميع متعددة فيها تصاوير على القماش، ونقوش على الأخشاب والأحجار والمعادن ومصنوعات شرقية مثل الأنسجة والعاج والأبسطة والخزف والزجاج من صنع فارس وغيرها، وفيها أيضًا تصاوير بالألوان وأقمشة قديمة وحديثة وأثاثات المنازل ثم طريق التزويق بحسب العصور قديمًا وحديثًا، وغير ذلك مما يطول شرحه.

أما متحف تطبيق فن النحت فهو في قصر التروكاديرو (Trocadero)، ويحتوي على نموذجات بالجبس من أهم أعمال المباني في مشارق الأرض ومغاربها في العصور السالفة، ومن بوابات وعمدان وجدران وعقود وقبور ونقوش بارزة في الحجر، وغير ذلك مما يطلق عليه لفظة آثار. وهي مرتبة بحسب تاريخ أوقاتها وبيان الأماكن التي فيها الآثار الأصلية وماهية الموضوع بالإيجاز. وأول ما يراه الإنسان فيها هو نقوش قدماء المصريين وغيرهم من الأمم القديمة حتى ينتهي إلى القرن الثامن عشر، فيرى غرفة فيها أعمال من جميع الأمم كأنها فهرست للغرف التي سبقتها أو بيان إجمالي لما رآه الإنسان قبلها.

وأما متحف طبائع الأمم وأحوالها فهو في الدور الأول من قصر التروكاديرو أيضًا ويحتوي على ٤٠٠٠٠ قطعة تمثل أصناف الأمم وكيفية معيشتهم وتغذيتهم ولباسهم وسلاحهم بالأقدار الطبيعية التي تصورهم للإنسان، كأنه يراهم كما هم بالتمام في أقاليم أستراليا والأوقيانوسية وغيرها، مثل ملبوس الرؤساء وشباك الصيد في البحر وحبائل القنص في البر والمساكن وصورة المتوحشين، وغير ذلك مما يتعلق بأمم أفريقية وأمريكا وأوروبا وآسيا. ويرى الإنسان فيها الزوارق والنقوش والأكواخ والمنسوجات والأسلحة والمصنوعات الزجاجية والفخارية والأطلال الدارسة، وسارية من حجر واحد تشبه شكل الآدمي في تكوينها الطبيعي (واردة من بلاد المكسيك) والمحاريب والمعابد والهياكل وبعض موميات واردة من أمريكا وجهازات الجنائز والاحتفالات بالأموات، وكل ذلك مما يتعلق بالقبائل المتوحشة والبدوية والمتمدنة والحضرية، سواء كانت تسكن عند القطب الشمالي أو بجانب الخط الاستوائي أو تحته أو فيما بينهما. وفيه غرفة مخصصة لبيان أهل فرنسا، بحسب أقاليمها وتَنَوع معيشتهم ومساكنهم وأخلاقهم وغير ذلك.

أما متحف التربية فيحتوي على مكتبة مركزية خاصة بالتعليم الابتدائي، فيها الكتب المؤلفة في فن التربية وأساليب التعليم ورسوم وأشكال وخرائط ومجاميع وكتب مطالعة، وغير ذلك مما يلزم الدارسين والمدرسين، وفيه زيادة على ذلك مكتبة متنقلة تُعير الكتب إلى القائمين بوظائف التعليم في سائر أنحاء فرنسا، وفيه آلات التعليم وأدواته وأجهزته وجملة مجاميع للتاريخ الطبيعي ولتعليم الرسم والتصوير في المدارس الابتدائية والثانوية ومدارس المعلمين، وفيه تماثيل للمباني الدراسية لبيان أوفقها للصحة والتعليم، من حيث التهوية والإضاءة وغير ذلك من المرافق.

وهذا المتحف المفيد يحتوي على قاعة كبيرة فيها كلها خرائط جغرافية فقط، وغرف أخرى للرسم ومعامل للكيمياء والطبيعة والأشغال اليدوية وأخرى تحتوي على أثاث المدارس وأدوات الدراسة ونموذجات تصوِّر المدارس غير الفرنساوية. وفي الدور الأول مكتبة التربية الفرنساوية والأجنبية، وأهم قسم فيها هو مكتبة للموسيو رابو تحتوي على ٦٨٤٨ مجلدًا خاصة بهذا الفرع من التعليم، وقد اشترتها الدولة بعد وفاته باسم هذا المتحف، وبعض الكتب الموجودة في هذه المجموعة قد صارت الآن أندر من الكبريت الأحمر، وفيها أيضًا مجموعة تحتوي على كتب التعليم في القرن السادس عشر. وفي الدور الأول مجموعة علمية ومعامل للعلوم الطبيعية وأثاثات مدرسية، وشرائع فرنساوية وأجنبية خاصة بالمدارس.

وقد ترتب على إنشاء هذا المتحف فوائد كثيرة خصوصًا المكتبة المتنقلة، فإنه قد يتفق وجود بعض من المترشحين لوظائف التدريس، أو للترقي إلى وظائف سامية ولا يكون في وسعهم الاستحصال على الكتب الدراسية اللازمة لبعدهم عن المدن الكبيرة ولضيق ذات يدهم، فأنشأت الدولة هذا المتحف ليعيرهم الكتب اللازمة بناءً على طلبهم، فيرسلها لهم خالصة أجرة البريد في صناديق محكمة من الخشب مدة شهر أو شهرين بحسب ما يريدون، ولهم الحق في تمديد الأجل المحدود. وسأشرح الكلام في الرحلة على هذا المتحف بنوع خصوصي لما له من المزايا الكبيرة.

أما متحف جيميه أو متحف الأديان الأهلي، فإنه يتضمن كل ما جمعه الموسيو إيميل جيميه E. Guimet أثناء سياحاته في بلاد المشرق، ثم إنه تبرع بهذه المجموعة النفيسة التي تبلغ قيمتها أكثر من ملايين من الفرنكات لمدينة باريس؛ لأجل إفادة أبناء وطنه، والغاية منها درس الأديان القديمة وعقائد المشرق، بحسب الرسوم الصحيحة والتماثيل والكتب والتصاوير الأصلية الصادرة عن نفس المتعبدين، وهي مرتبة بحسب المذاهب والاعتقادات والأوقات. واعلم أن هذا الرجل الكريم فضلًا عن هذه الهبة السَّنية تبرع بنصف المصاريف اللازمة لبناء دار المتحف، وقد بلغني من ثقة أن رجلًا من أغنياء الإنكليز عرض عليه مبلغًا وافرًا من النقود لمشترى جزء زهيد من المجموعة، فأجابه بما معناه (إنما تعبت وجمعت ما ترى لإفادة أبناء بلادي؛ وللإعانة على رفع شأن وطني وذلك أثمن وأغلى مما تعرضه عليَّ الآن بما لا يقدر بأي حال)، فهكذا تكون الشهامة والمروءة في محبة الوطن والسعي في إعلاء كلمته وتمجيد ذكره.

ومن أهم ما في هذا المتحف مكتبة تحتوي على كتب كثيرة بخط اليد و١٤٠٠٠ مجلد في مواضيع متنوعة و٧٠٠٠ مجلد صيني وياباني ومصري قديم، وهو يحتوي على مصنوعات من الخزف خاصة بديانات الصين واليابان وقدماء اليونان وإيطاليا وفرنسا وقبائل أفريقية والأوقيانوسية وآلهتهم وتعبداتهم وهياكلهم ومعابدهم، وفيه هياكل كثيرة منها هيكل يسمى بالمندرة، يحتوي على ١٩ إلهًا (والمندرة هي المعبد الذي يجتمع فيه جميع الآلهة عند اليابان مثل البانتيون عند اليونان والكعبة عند الجاهلية، وأقدم هذه المنادر هي مندرة سين جون وكان فيها ١٠٦٠ إلهًا).

وآلهة الهيكل المحفوظ بهذا المتحف تنقسم إلى ثلاثة أقسام لتدبير الكون، وهي الكمال في الاعتقاد البوذي، ثم التجسد لخلاص الأرواح بطريق الإقناع، ثم التحول لجذب النفوس بالوعيد والتهديد.

وهناك أيضًا آثار كثيرة مما يتعلَّق بديانة الفراعنة وكيفية معيشتهم في هذه الدنيا ونعيمهم في الحياة الأخرى، وفي ضمنها تماثيل آلهة وتمائم وأوراق بردي ومذابح وهياكل وأحجار مقدسة وغير ذلك.

وفي هذا المتحف غرف للتدريس والعمل، وجميع جدرانه مغطاة برسوم وأشكال تناسب الأشياء المعروضة في كل غرفة أو تكملها، بحيث إن الناظر الدقيق يقف تمام الوقوف على كيفية التعبد والتدين عند كل قبيلة من هذه القبائل. وقد رأيت في فناء المتحف عنبرًا لتربية النباتات المجلوبة إلى فرنسا من البلاد الحارة، وفي أقصى الفناء قاعة يصعد إليها بسلم، وفيها مجموعة من الأحجار المختلفة ورجامات القبور القديمة عُني بجمعها أثناء سياحته في آسيا جناب الموسيو دو مرجان (De Morgan) الذي هو مدير المتحف المصري الآن. وقد تقرر أثناء إقامتي في باريس أن تلامذة المدارس العالية وتلامذة المدارس الحرفية في هذه العاصمة يذهبون إلى هذا المتحف كل يومين مرة بالمناوبة مع بعضهما لأجل الوقوف على كيفيات اصطناع الخزف والطقوس الدينية بإرشاد الموكلين بحفظ المتحف أو الموسيو جيمي نفسه.

أما متحف والنتين هاوي فقد سمي باسم أول من أسس مدارس العميان. وهو وإن كان صغيرًا الآن لكنه جدير بالنظر؛ إذ يحتوي على الآلات والأدوات الخاصة بأعمال العُميان، وعلى كثير من مصنوعاتهم في جميع البلاد. كان دليلي فيه أحدهم وهو الموسيو جيلبو أحد أساتذة مدرسة العُميان، فأطلعني على جميع ما فيه قطعة قطعة بإرشاد وثبات ومعرفة بمواضيع كل شيء، حتى انبهرت من هذا الدليل الماهر، فإنه له معرفة بالغزل والنسيج وكثير من الصنائع اليدوية، وأخص معلوماته الجغرافية والتاريخ والفنون الأدبية، وقد أتحفني ببعض من مؤلفاته وفيها ديوان شعر يعبر فيه عن عواطف العُميان وإحساساتهم، وكيف يقدرون الأشياء. وله كتب أخرى كثيرة تدل على فضله وسعة اطلاعه. وهو الذي سعى في تأسيس هذا المتحف على نفقته، ثم أمدته الجمعيات والمدارس في البلاد الأوروباوية والأمريكانية بتحف أخرى، ولا يزال يدفع إيجار المنزل من إيراده.

وفي باريس متاحف أخرى كثيرة لا يجوز لي أن أتكلم عليها؛ لأنني لم أزرها. وقد جرت عادتي أني لا أذكر إلا ما عرفته بنفسي، ولكني أشير إلى أسماء بعضها مثل: متحف الطوبجية والأثاث الأهلي والطب ومقابلة التشريح والمعادن وآلات الموسيقى والرصدخانة والنقود والمحفوظات (الدفترخانة). والمتحف التاريخي لمدينة باريس (وبه مكتبة فيها نحو ٩٠٠٠٠ مجلد)، ومتحف المجموعات الفنية لمدينة باريس، ومتحف كاين وقد أسسته زوجة كاين، ومتحف جالييرا، ومتحف الغشاشين (ويوجد له نظير في جمرك الإسكندرية)، وفوق ذلك فإن لأغلب المدارس والجمعيات العملية والفنية متاحف خاصة بها.

(٣) قصور باريس

هذه بلد القصور، فحيثما قَلَّبَ الإنسان ناظره رأى قصرًا شاهقًا وبنيانًا شامخًا وإتقانًا زائدًا، ولكني لا أتكلم الآن إلَّا على بعض القصور المهمة، وأترك الباقي لفرصة أخرى.

فمن أفخرها قصر التويلري Tuilleues يدل على ذلك ما بقي منه بعد الحريقة التي التهمته أثناء ثورة الكومون في شهر مايو سنة ١٨٧١. كان بناؤه في سنة ١٥٦٤، وقد أقيمت في مكانه الآن حديقة أنيقة مزدانة بأنواع الأزهار تتخللها تماثيل رمزية وَفَساقٍ تدفع الماء إلى حيضان بهيجة بكيفيات رشيقة تَسُرُّ الناظرين.
أما قصر اللُّوفْر (Palais de Louvre) فقد شُيِّد في عام ١٥٨١ على أطلال قلعة عَثر القوم على بعض بقاياها تحت الأرض في سنة ١٨٨٣، وسكنه كثير من ملوك فرنسا قبل أن يكْمُل تمامًا، حتى جاء الإمبراطور نابليون الأول فشدد الأوامر بإنهائه ولكنه لم يساعده الزمان على بلوغ الغاية في هذا الأمر الجليل. فلما كان الإمبراطور نابليون الثالث أتمه على الوجه المرغوب واحتفل بافتتاحه في سنة ١٨٥٧. وقد بلغت أكلافه ثلاثة ملايين من الجنيهات الاسترلينية (٧٥ مليون فرنك)، وفيه رسوم ونقوش وتصاوير وتماثيل وزخرفة وتزويق في الجبس والحجر والرخام والخشب، وعلى وجهاته وعقوده وجدرانه وسقوفه ونوافذه ومطلاته وأفنانه ورحباته تسلب العقول وتخلب الألباب، وواجهته الأصلية مركبة من عُمد مستندة على عُمد تمثيلًا لأجمل وأعظم هياكل العبادة عند قدماء اليونان. وخلاصة القول أنه اليوم تحفة حوت متاحف وأُعجوبة جمعت عجائب.
ومما يلحق بهذا القصر ميدان الكاروسل (Carrousel أي ميدان البرجاس)١ وهو من أجمل ميادين باريس، ويبتدئ بقوس فخار هائل تحيط به البساتين الناضرة، ويحف به من اليمين والشمال تمثالان رمزيان للحرية والشريعة. ومن هذا المكان يمتد النظر إلى بستان التويلري والمسلة المصرية وقصر الشانزلزية وقوس فخار الكوكب، وينتهي الميدان المذكور بحدائق اللوفر، وفيه تجاه قوس فخار الكاروسل عمود أثري أقيم لتخليد ذكر غامبتا المشهور، وهذا العمود يتركب من كتلة حجرية عظيمة تحيط بها تماثيل من البرونز (الشَّبَهان) تصوِّر الحقيقة والقوة والحرية والمساواة، وفوق هذه القاعدة منشور هرمي من الصَّوَّان يبرز منه تمثال الرجل واقفًا ومائلًا برأسه إلى الخلف قليلًا وباسطًا ذراعه الأيمن بشهامة، وهو يرشد أبناء وطنه إلى الواجب والشرف، وتحت أقدامه الذائدون عن حياض الوطن يرعاهم ملاك فرنسا، وقد ارتفع بأجنحته إلى عنان السماء فقاموا من سقطتهم، ونفضوا ما عليهم من الغبار وجمعوا أسلحتهم المتكسرة، وعلى الواجهات الأخرى من المنشور جُمَلٌ مقتطفة من المقالات الرنانة التي ألقاها هذا الخطيب على قومه يدعوهم إلى الدفاع عن بلادهم إلى آخر نقطة من حياتهم وغير ذلك، وفوق قمة هذا الأثر تمثال رمزي للديمقراطية (أي حكومة الأهالي بأنفسهم)، وقد فازت وعلت كلمتها فامتطت صهوة غضنفر ذي أجنحة. وقد أقيم هذا التمثال في ١٣ يوليو سنة ١٨٨٨، بنقود جمعها القوم من اكتتاب عام اشترك فيه أبناء فرنسا المقيمون في حومتها والبعيدون عنها.
وأما قصر البورصة (Le Bourse) فهو على شكل معبد يوناني بما في واجهته وحوله وفي داخله من السواري والأساطين، وطوله ٦٩مترًا وعرضه ٤١، وفي أركانه من الخارج تماثيل أربعة للتجارة والعدالة القنصلية والصناعة والزراعة، وفي داخله قاعة كبيرة للعمليات المالية تسع ألفي شخص، وعلى جدرانها تصاوير بالغة في الإتقان، بحيث يخالها الناظر نقوشًا بارزةً، وهي عبارة عن الاحتفال بافتتاح البورصة على يد شارل التاسع، وفرنسا وهي تستقبل الإتاوة من أقسام الدنيا الخمسة واتحاد التجارة والعلوم والصنائع وأهم المدائن في فرنسا. وقد زرت هذا القصر ولكنني أعترف بأني لم يتيسر لي أن أدرك شيئًا من أحواله أو أقف على نُزر من تفاصيل ماجرياته، حتى كنت أُتحف بها القُراء، وغاية ما رأيته فيه جلبة وضوضاء وصياح وصخاب وتماوج وتدافع وأيد ترفع وأرجل تُهَرْول وأقوام يخرجون وآخرون يدخلون، وفي يد كل واحد قرطاس وقلم من الرصاص وصكوك مختلفة الألوان، ولا أدري كيف يتفاهمون في بابلهم هذه، وإن كانوا كلهم بلغة واحدة يتخاطبون. وفي هذا القصر مكتب للتلغراف وآخر للتلفون وبارومتر كبير وسكردان يتناولون فيه غداءهم من غير أن يبتعدوا عن الميدان.
أما قصر الأنفاليد (Anvalide) (العساكر السِّقط) فقد شاده الملك لويز الرابع عشر في سنة ١٦٧٠، فإن هذا الملك العظيم أراد أن يضمن حياةً طيبة للعساكر الذين تُبْتَر بعض أعضائهم أو تصيبهم بعض العاهات، ولا يكون لهم وسيلة للتعيش بعد أن وخط الشيب رءوسهم وهم في سلك النظام، ولكن الذي نظم هذا القصر حقيقة وأجاد ترتيبه إنما هو نابليون. ومسطح الأرض التي يشغلها هذا القصر عبارة عن ١٢٦٩٨٥ مترًا مربعًا، وهو معدٌّ في الأصل لسكن ٥٠٠٠ نفس، ولكنه اليوم لا يحتوي إلا على ربع خمس هذا العدد؛ لأن قدماء الجهادية في هذا الزمان يفضلون تمضية ما بقي من عمرهم في استقلال وحرية وإنفاق المعاش الذي يخوّله لهم القانون بحسب ما يريدون، أما النازلون به فتعتني الدولة عنايةً تامةً بمسكنهم ومطعمهم وملبسهم وتدفئتهم وكل ما يلزم لهم.

وأمام هذا القصر رحبة فسيحة طولها ٥٠٠ متر وعرضها ٢٥٠، وفيها صفوف كثيرة من الأشجار.

وبعد هذه الرحبة فِناء خارجي تحف به الخنادق من كل جانب، ويحدق به من اليمين والشمال بطارية مدافع، اغتنمها الجيش الفرنساوي في حروبه، وهي التي تستخدم في إنباء الباريسيين بالحوادث الكبيرة مثل الانتصارات والمواسم وغير ذلك، وحول هذه المدافع مدافع أخرى من طرازات متنوعة وعيارات مختلفة، وفي خلال صفوفها مماشٍ يتنزه فيها قدماء الجنود النازلين بالقصر. أما واجهة هذا البناء الفخم فتُحْدث في النفس جلالة وفي الفكر إجلالًا وطولها ٢١٠ أمتار، وفيها ١٣٣ شباكًا، وعلى يمين الباب تمثال إله الحرب، وعلى يساره إله الحكمة، وفي الدهاليز تمثيل بعض الوقائع التي انتصر فيها الفرنساويون، وفي الفناء الداخلي تماثيل كثير من قوادهم وشجعانهم.

وأهم ما استوقف أنظاري في نفس القصر هو المكتبة التي أسسها نابليون، وهي تحتوي على ألف مجلد تقريبًا، ولا يجوز الدخول والشغل فيها إلا للعساكر السِّقط. ومن ملحقاتها قاعة تحتوي على صور جميع مارشالات فرنسا ومديري هذا القصر، وتصغير يمثل للرائي عمود وندوم المشهور، والقنبلة التي قتلت تورين في سنة ١٦٧٥، وهو من أفرس أبطالهم، ومثال من الجبس لتمثاله فوق فرسه، وبعض المخلَّفات التي تركها نابليون في جزيرة سنت هيلانة (محل منفاه) جمعها بعض المغُرمين بمجده؛ مثل: أغصان من الشجرة التي كان يستظل بها، وقطرات من الينبوع الذي كان يستقي منه، وقبضة من التراب الذي وطئه بقدمه، وقصة من شعره، وقطعة من ورقه، وما أشبه ذلك، وضعها بعض المُجيدين في لوحة تأخذ بالأبصار لما أودعه فيها من الإبداع، وهناك أيضًا أشياء كثيرة من التي كان يستخدمها الإمبراطور في منفاه.

وفي هذا القصر كنيسة باسم القديس سان لويس، وليست ذات أهمية بالنسبة لبنائها؛ بل لأنها مخصصة لدفن المارشالات ومديري القصر؛ ولأنها تحتوي على كثير من الآثار التي تُحيي ذكر أبطالهم المعدودين، وفي قبتها كثير من الرايات التي اغتنمها القوم في مواقع القتال في أفريقية والفريم وإيطاليا والصين والمكسيك والتونكين، وفي إحدى بيعها صورة لسيدنا عيسى عليه السلام مرسومة على القماش، ولكن الناظر إليها يخال أنها مجسمة بكل انتظام.

وخلف هذه الكنيسة قبر الإمبراطور في قبة هي أجمل أثر ديني مصنوع في فرنسا، بحسب الطراز اليوناني، ولا يدخل القوم إليها إلا بعد أن يرفعوا قبعاتهم تعظيمًا وتفخيمًا، وفيها بيعة تحتوي على بقايا جيروم شقيق الإمبراطور وبقايا ابنه البكري، وبيعة أخرى فيها قبر تورين ذلك البطل العظيم، وأمامها بيعة فيها عظام ووبان Vauban، وبجانبها ناووس فاخر يحتوي على بقايا شقيق آخر للإمبراطور.

أما قبر الإمبراطور نفسه فهو في ناووس من الصَّوَّان الأحمر لم يرَ الرَّاءون مثله في البهجة والفخامة، وهو في وسط القبة في حفرة عميقة مكشوفة للأنظار ومبلطة بالفسيفساء، وهناك من التصاوير الهائلة وقبور المخلصين لهذا الرجل وتماثيل انتصاراته وغير ذلك مما يدهش الأبصار، ويقضي على الإنسان بالإعظام والإكبار، ويجعل خطواته مقرونة بالتحسب والهوينا، ويذكره بأنَّ هذا العالَم مصيره الفناء، وأن نهايات المجد الزوال، ويتذكر قول القائل: «ألَا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلا الله باطل» خصوصًا عندما يقرأ هذه العبارة التي أوصى بها نابليون: (أتمنى أن تدفن عظامي على ضفاف نهر السين في وسط هذه الأمة التي أحببتها حُبًّا جَمًّا)، فيخرج المتفرج وهو يقول: «المُلْك لله والدوام لله، سبحان الحي الذي لا يموت، إنا لله وإنا إليه راجعون.»

وأما قصر الفنون المستظرفة فقد أقيم على أطلال دير، وتم تشييده في سنة ١٨٣٩، وفيه مدرسة لتعليم الرسم والنحت والعمارة والنقش بأنواعه، وذلك التعليم نظري وعملي؛ ولهذا القصر فناءان وضعت في أوَّلهما أبواب قصور قديمة وأعمدة متقنة بأشكال مختلفة، وتماثيل للماهرين من الصانعين وغير ذلك، وفي وسطه عمود من المرمر الأحمر مشوب بالشب، وفوقه تمثال الخِصب، وأما الفناء الثاني ففيه مجاميع من تماثيل وقطع تماثيل من أيام القرون المتوسطة إلى عصرنا هذا، وفي وسطه فسقية من قطعة واحدة من الحجر كانت أمام قاعة الطعام في أحد الديور لأجل غسل الأيدي، وعلى الواجهة الأصلية لهذا القصر هذه الكلمات الثلاث (رسم عمارة النحت) منقوشة بعناية وإتقان وتفنن وإبداع، وعلى اليمين والشمال أسماء الأساتذة الذين نبغوا في هذه الفنون.

وفي دهاليز القصر وغرفه أمثلة لتماثيل قديمة ومعابد وثنية ومصنوعات في النحاس وتصاوير رفائيل في قصر الفاتيكان، وأشهر العمائر في فرنسا وغيرها، وصور أعضاء جمعية الرسم والنحت وبعض أساتذة المدرسة، وفيها مكتبة تحتوي على ١٢ ألف مجلد، ونحو مليون قطعة من النقوش، وفيه مجموعة للصور التي تحوز الطبقة الأولى في امتحان رومة، وهي أعلى درجة يمكن للمصوِّر الماهر أن يتوصل إليها، وخلاصة القول أنها حوت من ظرائف الفنون ما يثبت في تلامذتها قوَّة التصوُّر وإبراز الأفكار على القرطاس أو الأحجار.

أما قصر لُكْسُمْبُورج (Pelais du Luxemburg)، فهو الآن مستقر لمجلس السناتو (شيوخ فرنسا)، وقد زرته أربع مرات بواسطة حضرة الفاضل الكامل الموسيو بوليا (M. Pauliat) أحد أعضائه الموقرين. وهو قد وَقف نفسه على خدمة أبناء العرب في الجزائر وتونس والذب عن حقوقهم ورفع الأذى عنهم، وللمسلمين في قلبه محبة شديدة، وبواسطته تمكنتُ من الحضور في الجلسات أربع مرات ووقفت على أساليب المذاكرة والمداولة والمناظرة والمناضلة، ولو شئت حضور الجلسات أكثر من ذلك لتمكنت بواسطته جزاه الله خيرًا.
هذا القصر أمرتْ بتشييده ماري دومدسيس زوجة هنري الرابع على مثال القصر الذي تربت فيه في فلورانسة، ثم تقلبت عليه الأحوال، فبعد أن كان سكنًا للملوك أصبح سجنًا في أيام الثورة الفرنساوية، ثم مقرًّا لمجلس المشيخة، ثم للقنصلية، ثم للسناتو، ثم لنبلاء فرنسا ثم لمحافظة السين (دار أمانة المدينة)، ثم للسناتو في هذا الزمان. وفيه مكتبة تحتوي على أكثر من ٥٠٠٠٠ مجلد، وفوقها قبة مغشاة بأشكال ناضرة فاخرة. وفي القصر تماثيل نصفية لبارات فرنسا (Pairs de France) وشيوخها قديمًا، وهو من أجمل القصور وأكثرها زخرفة وتزويقًا.
وقاعة الجلسات فيه عبارة عن نصفي دائرة متقابلين يجلس الأعضاء بأحزابهم وانشقاقاتهم وتنوعاتهم في النصف الأكبر، وأما الرئيس ولجنة الإدارة ففي النصف الآخر، وعندما تفتح الجلسة لا يتم الانتظام، بل يستمر الأعضاء الذين يدخلون على التسامر فيما بينهم وعدم الالتفات للخطباء ولا للرئيس، وترى الموكَّلين بالخدمة يتصايحون بهذه العبارة (صه أيها السادات) ويردِّدونها جملة مرات، فتذهب في الهواء تردد من جدار يدفعها إلى جدار من غير أن يكون لها تأثير على الحُضار. وترى بعض القوم يخرجون وآخرون يدخلون، والرئيس يدق الجرس في كل نفَس، فلا يؤثر أكثر من صياح الحرس، حتى إذا جاءت مواضيع المذاكرة الحقيقية وقام الخطيب الذي عليه الدور أخذ الانتظام حده، وصار القوم يرمقونه ويتفهمون كلامه، ومنهم من يجُيبه بالتفنيد، وآخر يؤيده بالتأكيد، وفريق يُصَفِّق له استحسانًا، وآخرون يهزون الأكتاف استهجانًا، وبعضهم يقاطعه في الكلام، وغيرهم يساعده على الإتمام، والرئيس يدعو الجميع إلى ملازمة النظام، وهكذا حتى ينتهي الخطيب مما ندب نفسه إليه، فيحتل مكانه أحد المتحزبين له أو عليه، ويصعد الوزير لتأييد سياسة الحكومة وتزكية مساعيها أو لبيان ما يطلبه الأعضاء من الإفصاح عن حالة البلاد في الداخل أو الخارج، ولا يزال القوم في أخذ وعطاء وبيع وشراء واستفهام عن إبهام وإفصاح بقول صراح، حتى تنفض الجلسة ويفيض الأعضاء من حيث أفاض الناس، ولا يصبح الصباح إلا وقد طُبعت أعمال الجلسة وما قيل فيها كلمة كلمة وحرفًا حرفًا بالتمام والكمال؛ إذ في خدمة المجلس كُتَّاب مُختذِلون (Sténographes) ينقلون بالإشارات المختصرة كل ما يُلقيه الخطيب من البيانات، أو يرد عليه من الاعتراضات أو يقع من الاضطرابات أو يظهر من الإشارات، ثم يرسلونها للمطبعة بعد كل عشر دقائق، وهناك يصير نقلها أو ترجمتها للكتابة العادية وجمعها وإعدادها للطبع، فلا يجيء نصف الليل إلا وقد تم طبع الجريدة الرسمية، وفيها حوادث الجلسة بالتفصيل الذي ليس بعده تفصيل، مع أن الجلسة لا تفتح إلَّا في الساعة الثالثة ونصف من بعد الظهر، وقد تنتهي فيما بين الساعة الخامسة والسادسة أو بعد هذه بقليل.

وأما قصر بوربون فهو مقر مجلس النُّواب، وله واجهتان إحداهما تطل على نهر السين والأخرى على ميدان باسم القصر. والأولى هي الواجهة الأصلية وفوق عِمْدانها نقوش ورسوم تمثل فرنسا وفي يدها الدستور، وحواليها تماثيل الحرية والسلام والحرب والفنون والفصاحة والصناعة والتجارة. وقاعة الجلسات كلها من المرمر وحولها عمدان منضودة، وهي على شكل نصف دائرة تسع ٥٨٤ نائبًا، ونظام الجلسات فيها يشبهه في السناتو، سوى أن اللغط فيها أكثر والعراك أظهر والخصام أقرب من حبل الوريد والدعوة إلى المبارزة ليست بالأمر الجديد، بل قد تحصل في كل لحظة عقيب أقل لفظة، وقد رأيت في كلا المجلسين أن بعض الخُطباء لا يُوفَّق إلى نوال القبُول من عموم الحاضرين، فيعطف بمناسبة حيثما اتفق إلى ذكر الوطن وشرفه ومجده وفخره ووجوب التفاني في إعلاء مقامه، وبذل المهج لإعزازه، ثم يُحيِّي القائمين بنصرته الذائدين عن حومته، ويترحَّم على وفاة من وفاه حقه وعرف واجبه، وهكذا من الأساليب الخطابية، فيخلب الألباب ويسحر العقول ويستجذب القبول، فيجاوبه السامعون بالتصفيق وعلامات الاستحسان وكلمات الإعجاب، خصوصًا إذا كان مقْوالًا سَيَّالًا وخطيبًا مصْقَعًا يعرف كيف يقرن الإشارات بالكلمات، وكيف يكون توقيع الألفاظ ليكون لها وقع في الفؤاد.

وقد اتفق في الجلسة التي حضرتها في مجلس النواب حصول مطر بغير سحاب استبدلت فيه الأمواه بالأوراق، فكانت تتناثر على الأعضاء من غير افتراق، وذلك أن رجلًا اسمه ألكساندر هوليه تربَّص فرصة مناسبة فقذف عليهم بكراريس مطبوعة عنوانها (هتك ستر الطرارين)، ولكن الجنود قبضوا عليه في الحال وأودعوه السجن تحت المحاكمة. قالت بعض الجرائد إنه يعني بذلك مسألة بناما، فكتب الرجل إلى الجرائد أنه لم يحُمْ حول هذا المقصد، ولا أعلم الآن ماذا تم في أمره.

وأما قصر الصناعة، فهو معد للمعارض السنوية والجزئية، أقيم في سنة ١٨٥٥ بمناسبة المعرض العام من مال شركة مؤلفة من كثير من المساهمين، ثم اشترته الدولة، وله فناء مستطيل طوله ٢٥٠ مترًا وعرضه ١١٠ أمتار ومسطحه ٣٢٠٠٠ متر. وعلى بابه تمثال كبير يمثل فرنسا، وهي توزع أكاليل الفخار من الذهب النضار على الصناعة والفنون، وهما جالستان تحت أقدامها. وعلى الجدران المحيطة بالقصر أسماء الذين برعوا في العلوم والفنون والصناعة مرموقة بحروف من الإبريز، وقد جعلوه بعد سنة ١٨٥٥ مقرًّا للمعارض السنوية للرسم والنحت والعمل والصناعة، وفن الحدائق ومعارض الخيول والحيوانات والأطيار إلخ.

وكان فيه أثناء مُقامي بباريس معرض أشغال النساء، فكان فيه جميع أصناف ملبوساتهن بحسب الأزياء وتنوُّعها في كل عصر وعند كل أمة قديمة أو حديثة نسَّقوها على شكل مُعجب مطرب، وخصوصًا قبعاتهن وأشكالها المختلفة وتفننهن فيها بما يجذب الأبصار ويسلب الألباب، وليس هذا مقام الشرح عليها، فأترك وصفها إلى فرصة أخرى.

وخلف هذا القصر بناء من الحديد واللبن يسمى كشك مدينة باريس، وهو معد لجملة معارض متنوعة، وكان به أيام مقامي في هذا البلد معرض الصنائع المتعلقة بلحم الخنزير، وكانت الدولة ترسل إليه الموسيقى العسكرية تصدح فيه بألحانها الشجية.

وأختم الكلام في هذا الموضوع الطويل العريض بخلاصة قصيرة على قصر التروكادير، فقد بني على رابية بمناسبة المعرض العام الذي أقيم في سنة ١٨٧٨، واشتركت فيه حكومتنا المصرية وأصابت حظًّا وافرًا من الفضل والفخار، وهو يشتمل على أحاسن أساليب البناء وطرازات العمارة، وفوقه تمثال الشهرة وتصاوير، وفي هذه القاعة مكان للموسيقيين يسع ٤٠٠ نفر منهم بآلاتهم، وأما القاعة نفسها فيمكن أن يجلس بها ٥٠٠٠ متفرج بالراحة، وتحته مَرْبَى لأسماك المياه العذبة موضوعة في مغارات فسيحة تتجدد فيها المياه على الدوام، ومنظر هذا القصر وعمدانه وأبراجه وأروقته وأجنحته وحديقته وفسقيته، مما يفتن العقول ويستغرق الزمان في التأمل والإمعان.

وفي باريس غير ذلك عدد كثير من القصور العمومية والخصوصية؛ ولا أتكلم عليها لأني لم أدخلها.

(٤) معامل باريس

مثل هذه المدينة العظيمة لا يخلو من المعامل المتناهية في الإتقان، ولكني لا أتكلم الآن إلَّا على معامل الجُبْلِين (بضم الجيم وسكون الباء وكسر اللام) (Goblaine) ومعامل الدخان.

فأما الأول فقد كان إنشاؤه في سنة ١٦٠٣ على يد الملك هنري الرابع، وبعد أن دار الشغل فيه نحو خمسين عامًا، اشتراه لويس الرابع عشر وجعله معملًا للأمتعة والأثاثات الملوكية بناء على إشارة وزيره كولبير، فكان يشتغل العمال فيه بالطنافس والستائر المشهورة التي لا نظير لها في الكون، وبأشغال الفص والفسيفساء وبتقليم العاج وتطعيم الأبنوس وبصياغة الحلي والجواهر، وباصطناع التماثيل المخصصة لقصر فرساي، وبعد حكم هذا الملك اقتصر المعمل على اصطناع الطنافس والستائر، وفي ٢٥ مايو سنة ١٨٧١ أحرق ثوار الكومون بفرنسا جزءًا منه، فالتهمت النار كثيرًا من نفائس الطنافس وسائر الستائر. وقد أبدع هذا المعمل في تقليد الرسم وألوانه بالنسيج في أنواله وعلى منواله مع الدقة والرقة، حتى إن الملوك والأمراء ليزخرفون قصورهم ومتاحفهم بمصنوعاته التي سارت بحسنها الركبان، وفيه متحف حوى شيئًا كثيرًا من غرائب منسوجاته ومنسوجات الأمم الأخرى، وقد رأيت قَبَاطِي مصر المشهورة في كتب العرب مع أني من بلادها ولم أرها فيها. وربما تكلمت على هذا المعمل الجليل بما يستحقه من التفصيل إذا ساعدت العناية في فرصة أخرى.

وأما المعمل الثاني؛ أي معمل الدخان، فهو في بناء كبير يبلغ مسطحه هكتاران ونصف، وله خمسة أدوار، ويشتغل فيه ١٩٠٠ عامل أكثرهم من النساء، ورأيت فيه من جميع أصناف الدخان وكيفية تهيئته بعد عرضه لعمليات متعددة، وإعداده سجائر سائغة للشاربين، ويبلغ مقدار الدخان الذي يبيعه في السنة الواحدة ٧٦٥٠٠٠٠ كيلوجرام، وقد علمت من مديره أنَّ قيمة الربح الصافي الذي يصيب الخزينة من معامل الدخان في السنة هو ٣٥٠ مليون فرنك (١٤ مليون جنيه إنكليزي) مع أن جميع المستخدمين به لهم معاش كامل من غير أن يخصم منهم يوم احتياطي.

ولوجود هذه المعامل في كل أوروبا منفعة أخرى أعم وأهم، وهي أن الذين يشربون الدخان في هذه البلاد موقنون بجودة الصنف، وأنه ليس مشوبًا بورق الخَسِّ والقلقاس وخوص النخل وغير ذلك، مما تتولد منه بعض الأمراض الصدرية التي لا يشفى منها صاحبها، كما أنه يتعذَّر أو يتعسَّر شفاؤه من معاقرة هذا النوع من الشراب. ولما كانت هذه المسألة ذات أهمية عمومية عظيمة، فقد اتفقت مع حضرة المدير المشار إليه على أن يتحفني بما يلزم من المعلومات والبيانات لأنشرها بين قومي عسى أن يكون لها بعض الفائدة. وقد بلغ مجموع استهلاك الدخان في فرنسا في سنة ١٨٩١، ٣٥٨١٣٨٥٤ كيلوجرامًا، منها ٢٩١١٠٠٩ كيلوجرامات من الدخان المعد للتدخين، و٥٤٥٧٤١٣ من الدخان المعد للنشوق، و١٢٤٦٣٤٩ من الدخان المعد للمضغ. وإليك جدول الاستهلاك بالكيلوجرام في جملة سنين لمعرفة زيادة انتشار هذه العادة أو الآفة:

سنة دخان التدخين دخان النشوق دخان المضغ مجموع الكميات المباعة
١٨٩١ ٢٢٦١٩٠٧٩ ٨١٦٨٤٥٠ ١٢٤٥٢٢٩ ٣٢٠٣٢٧٥٨
١٨٧٤ ٢١٣٤٨٣٢٢ ٦٥٧٣٦٤٤ ٩٦٢٥٩٥ ٢٨٨٨٤٥٦١
١٨٧٩ ٢٤٣٠٣٩٤٢ ٦٨٢٧٦١٤ ١١٦٥٦٨٢ ٣٢٢٩٧٢٣٨
١٨٨٤ ٢٨٠٥١٠٩٩ ٦٧٠٢٦٥٩ ١١٨٠٩٥٧ ٣٥٩٣٤٧١٥
١٨٨٩ ٢٨٧٨٤٦٦٠ ٥٨٣٤٣٩٠ ١٢٠٠٢٦٢ ٣٥٨١٩٣١٢
١٨٩١ ٢٩١١٠٠٩٢ ٥٤٥٧٤١٣ ١٢٤٦٣٤٩ ٣٥٨١٣٨٥٤

ولأجل أن تكون المقارنة صحيحة ينبغي التنبيه على وجوب تنزيل نحو مليوني كيلوجرام من المقادير الخاصة بسنة ١٨٦٩، وذلك في نظير استهلاك أهل مقاطعتَي الإلزاس واللورين، فإنهما انفصلتا من فرنسا بعد حرب السبعين. ومن هذا الجدول يتضح أن مجموع استهلاك الدخان لم يتغير تغيرًا محسوسًا منذ سنة ١٨٨٤، وأن استهلاك دخان التدخين قد ازداد بالتدريج بنحو مليون من الكيلوجرامات، ومثله دخان المضغ، ولكن النشوق أخذ في النزول بنسبة ٢٠ في المائة.

وقد بلغت كميات الدخان المستهلك في مقاطعة السين وحدها (وهي التي بندرها باريس) في سنة ١٨٩١ نحو ٤١٦٤٩٧٠ كيلوجرامًا (منها ٣٥٣٧٧٧٨ للتدخين، و٥٤٧١٥٧ للنشوق، و٨٩٨٥٥ للمضغ) يقابلها في سنة ١٨٧٩، ٣٦٩٨٠٠٠ (منها ٢٨٥٠٣٧٧ للتدخين، و٧٥٣٠٢٨ للنشوق، و٩٤٨٣٥ للمضغ).

(٥) خزائن الكتب بباريس

اشتهرت هذه المدينة بالفوقان على غيرها في ميدان الخلاعة والجد، فإنها مقرُّ الملاهي والبِدَع والمبتدعات، ومركز المعارف والمعالي والمخترعات، فلا يخلو أقل بيت فيها من خزانة كتب بحسب حالة صاحبه وذوقه، فكل أهاليها يقرءون ويكتبون، حتى إن سائق العربة، بل والكنَّاس إذا لم يكونا مشغولين بالسوق والكناسة يكونان منكبين على القراءة والدراسة، وبهذه النسبة يقاس ولوع القوم بتثقيف العقول وتنوير الأذهان كلما صعدنا في سُلَّم الارتقاء إلى أعلى الطبقات، ولا أدَّعي الاقتدار على استيفاء الكلام في هذا المطلب عن خزائن الكتب في باريس، ولكني أذكر لُمعًا يسيرة عنها بغاية الإيجاز حتى يتصوَّر القارئ ماهيتها فيتمكن من الحكم عليها.

وذلك لأن وجود الكتبخانات من أسمى الدلائل على ارتقاء المدنية وضخامة العمران، ومن أوجب الأعمال لتخليد الذكر وحسن الأحدوثة، حتى لقد سعى الملوك في جميع الأعصار في جمع الكتب والعناية بها لينوِّه التاريخ بذكرهم في جملة المساعدين على نشر المعارف وتوسيع دائرة العلوم، أما الآن وقد اتسع نطاق العرفان، وساغت موارد التعليم للطالبين، فقد صارت العناية بالكتب فرض عين على جميع الحكومات المتمدنة.

المكتبة الأهلية (Poibliotheque Nationale)، هذه المكتبة يكاد لا يكون لها مثيل في العالم، وأوَّل من عني بتأسيسها شارل الخامس ملك فرنسا في سنة ١٣٨٥، فإنه جمع ١٢ ألف مجلد وجعلها بقصر اللوفر، ثم إنها نقلت منه فيما بعد إلى جهات أخرى لا حاجة لبيانها.

ولما جاء الملك فرنسوا الأول اهتم بها اهتمامًا خصوصيًّا، وزاد في عددها لغرامه بالمعارف وولوعه بالعلوم، حتى إنه نقلها إلى قصره في فوننتان بلو لتكون على مقربة منه، ثم إن الملك شارل التاسع أعادها إلى باريس، ولكن ازديادها في كل يوم كان يوجب نقلها من مكان إلى آخر، على أنها مع كل هذه العناية لم تزد عن خمسة عشر ألف مجلد في أول عهد الملك لويس الرابع عشر، فاهتم حينئذ وزيراه كولبير ولوفرا بشأنها وتقدُّمها اهتمامًا لا يزال مستمرًّا إلى يومنا هذا، ثم توالت عليها الهدايا والعطايا والوصايا من كتب بخط اليد وميداليات وأحجار منقوشة ونقود ومبصومات وغير ذلك، ولقد بلغت المطبوعات فيها في سنة ١٧٨٩ ثلثمائة ألف مجلد (٣٠٠٠٠٠) ثم ازداد هذا العدد زيادة كلية في أيام الثورة الفرنساوية بما توارد عليها من الكتب التي انتزعت من الديارات، ومن قصور المهاجرين، حتى صار من المستحيل عمل فهرست أو برنامج للمكتبة، واكتفى القوم بوضع الكتب المستجدة في أقسامها الخاصة بها باعتبار الحروف الهجائية لاسم المؤلف.

ومما يستحق الذكر أنها صارت في دفعتين عرضة لمصيبة من أعظم المصائب، ولم تنجُ منها إلا بما بذله مستخدموها من شدة العناية وصادق الإخلاص، فإن البروسيانيين لما حاصروا باريس في سنة ١٨٧٠ كانت المكتبة مهددة بالحريق في كل لحظة؛ إذ لو وقعت عليها قنبلة لكانت أعدمت هذه الكنوز الثمينة إلى أبد الآبدين؛ فلذلك كان أغلب مستخدميها يذهبون بالنهار إلى الحصون والقلاع للدفاع عن المدينة، ومتى جنَّ الليل يرجعون إلى المكتبة، ويطوفون حولها خفراء عليها وبعضهم يصعد على أسطحتها للوقاية من هذا العدو المبين وهو النار، ولما دخل البروسيانيون باريس اجتهد عمال المكتبة في إخفاء أهم ما فيها من الكتب التي بخط اليد، حتى لا تطمح إليها أنظار الفاتحين.

ولما تم عقد الصلح وعادت السكينة إلى ربوع فرنسا، جاء خطر جديد لم يكن في الحسبان وهو ثورة الكومون، وذلك أنه لم زحف الثائرون من فرساي على باريس، ودخلوها كانت النار تتهدد الكتبخانة من كل جانب ولكن الله سلم.

ولما عادت المياه إلى مجاريها واشتغل الناس بالعلوم والمعارف اكتسبت المكتبة أهمية فوق العادة، حتى بلغ عدد الكتب التي وردت إليها في سنة ١٨٩٠ وحدها ٧٠٠٠٠ مجلد.

وعدد ما فيها من الكتب الآن يبلغ مليونين ونصف مليون، وإذا أضفنا إلى ذلك العدد ما هنالك من المجاميع والكتب المكرَّرة لبلغ العدد ثلاثة ملايين بالتقريب.

ولا شك أن هذه الكنوز المتعددة تستوجب تحرير فهرست وافٍ ببيان محتوياتها، وقد راعت ذلك الجمعية التشريعية، فأصدرت بهذا المعنى أمرًا عاليًا في ٢ يناير سنة ١٧٩٢.

ولكن كثرة الوارد حالت دون كل نظام، غير أن عُمَّالها قد ابتدءوا في سنة ١٨٥٢ بتحرير أوراق منعزلة بالبيان الكافي عن كل كتاب ورد للكتبخانة، وقد كاد الفهرست العمومي يتم اليوم. واعلم أن المبلغ المخصص للطبع هو قليل جدًّا بالنسبة لجسامة العمل، فإنه عبارة عن ١٠ آلاف أو ١٢ ألف فرنك فقط مع أن المتحف البريطاني بلوندرة ينفق في مثل هذا السبيل ٢٠٦١٢٥ فرنكًا، وفي غرفة المطالعة ٧٥٠٠ مجلد ويقابلها في مثلها في المتحف البريطاني ٥٠٠٠٠، ولكن المانع الوحيد هو ضيق المحل في باريس.

وكانت المكتبة متصلة بعمائر ومساكن لبعض الأفراد، فقرر البرلمان مبلغ ٦٦٥٠٠٠٠١ فرنك لعزلها عنها، فاجتهدت الدولة حينئذ حتى اشترت هذه المباني، وأضافتها إلى المكتبة لتوسيع نطاقها وعزلها عما يجاورها، بحيث أصبحت في سنة ١٨٨٢ كجزيرة تحيط بها شوارع أربعة من الجهات الأربع. وتلك العناية بقصد الوقاية من اتصال الحريق إليها مما يجاورها، ولزيادة التحفظ وضعوا فيها مركزًا لرجال المطافئ. وهي على أربعة أقسام:
  • أولها: قسم المطبوعات والخرائط والمجموعات الجغرافية.
  • وثانيها: قسم الكتب المخطوطة (التي بخط اليد) والنظامات السياسية والإجازات؛ أي الدبلومات.
  • وثالثها: قسم الميداليات والأحجار المنقوشة والقديمة.
  • ورابعها: قسم المبصومات.

وفي الخزانة غرفة للمطالعة تفتح في كل يوم من الأسبوع حتى في أيام الأحد من الساعة التاسعة صباحًا إلى الساعة الرابعة أو الخامسة أو السادسة الإفرنكية من المساء بحسب اختلاف الفصول، وفيها غرفة أخرى للاشتغال بالكتب ومراجعتها.

فأما قسم المطبوعات فهو فريد في أوروبا يزيد على جميع مكاتبها بكثرة ما فيه من الكتب النادرة المعدومة، فإنه وحده يحتوي على ٢٥٠٠٠٠٠ مجلد من ضمنها الكتب التي ظهرت أيام نشأة المطبعة أو التي طبعت في أشهر المطابع القديمة.

وأما غرفة المطالعة ففيها طاولات عظيمة يجلس حواليها ١٠٠ مطالع بالراحة، وفيها نحو ٢٥٠٠٠ مجلد من مجموعات دورية وعلمية وموسوعات ومعاجم، وأشهر الكتب المتداولة في الآداب والعلوم والصنائع وغير ذلك، وعلى عقود هذه الغرفة أسماء أشهر الطباعين والمشتغلين بفن الكتب.

وأما غرفة الشغل فمساحتها ١١٥٥ مترًا مربعًا، ويمكن أن يجلس فيها ٣٤٤ شخصًا بكمال السعة والراحة، وسقفها عبارة عن ٩ قباب مغشاة من الداخل بالقيشاني ومتكئة على أسانيد مقربصة من الحديد قائمة على ١٦ عمودًا من الحديد الزهر، ارتفاع كل عمود منها ١٠ أمتار، وحوالي هذه الغرفة دواليب فيها نحو ١٠٠٠٠ مجلد من معاجم ومجاميع وغير ذلك، وهي متصلة بخزانة الكتب الخاصة بها، وفيها أكثر من ١٢٠٠٠٠٠ مجلد، ويتصل بهذا القسم المجموعة الجغرافية، ولا نظير لها في أوروبا كلها؛ إذ جمعت فيها الدولة الفرنساوية خرائط جغرافية للممالك والبقاع والبلدان، وأغلبها مصنوع بالجبس وفيه خرائط فرنساوية وأجنبية من جميع اللغات، ويبلغ عددها ٢٥٠٠٠٠ خرطة.

أما القسم الثاني ففيه أوراق وكتب من جميع اللغات، ومجموعها ٩٠١١٩ مجلد، منها نحو ٨٠٠٠ مزينة بأشكال وتصاوير وحروف مذهبة ومزوَّقة، ويتبعه مجموعة من أوراق البردي المصري والإغريقي واللطيني وتعليمات شارلمان والعهود والعقود من سنة ١٢٠٠ إلى سنة ١٤٥٣، ومنشوران من البابا على ورق من البردي تاريخه سنة ٩٩٩ وغير ذلك. وفيه حجرة قد وضعت فيها جميع مؤلفات فولتير فيلسوفهم وشاعرهم وأديبهم ومؤرخهم المشهور، وفيه أيضًا صناديق مغطاة بألواح من الزجاج تحتوي على أندر ما يوجد من المطبوعات والمخطوطات ذات القيمة الغالية تدل على أصول المطبعة والتجليد وغير ذلك، وفيها كتب بخط اليد يونانية وشرقية وأمريكانية، وكتب كانت ملكًا للملوك والسلاطين، وتجليد عجيب بالعاج والباغة وأوراق بردي ورق غزال وغيره وخطوط بعض المشاهير.

أما القسم الثالث فأول من أسسه لويس الرابع عشر، وهو من أهم المجموعات المماثلة له في العالم، فإنه يحتوي على أكثر من ٢٠٠٠٠٠ ميدالية، وفي الدهليز الموصل إليه منطقة فلك البروج التي كانت بدندرة، ومجلس أجداد تحوتمس الثالث، وكلاهما مما أتى به الفرنساوية من مدينة طيبة بالصعيد، ويوجد به أيضًا ألواح قديمة من أحجار متنوِّعة عليها نقوش بلغات شتى مهجورة، وفيها أحجار دقيقة كريمة منقوشة أو محفورة بالتجويف أو بالتبريز، ونقود إسلامية وغير إسلامية وغير ذلك مما يطول شرحه.

وأما القسم الرابع ففيه أكثر من ٢٢٠٠٠٠٠ قطعة مجموعة في ١٤٠٠ مجلد و٤٠٠ لوح من الورق المتين المعروف بالكرتون، وفيها مبصومات تدل على تاريخ الفنون في فرنسا من ابتداء القرن الخامس عشر إلى عصرنا هذا وغير ذلك «ونعني بالمبصومات تلك الرسوم المصنوعة بالريشة أو بالقلم الرصاص؛ لكي تكون قاعدة في الطبع وهي بالنسبة لألواح الصور الزيتية كالترجمة للأصل».

ولنتكلم الآن على ميزانيتها إظهارًا لمزيد أهميتها، فقد كانت في سنة ٩٢، ٧٨٨٠٠٠ فرنك، منها ٤٣٦ ألفًا للمستخدمين و٢٧٢ ألفًا للأدوات والمهمات و٨٠٠٠٠ للفهرست، والمخصص للمشترى من هذه المبالغ هو ٨٠ ألف فرنك وللتجليد ٢٥٠٠٠ فرنك.

أما ميزانية المتحف البريطاني فإنها تزيد على ٥٠ ألف جنيه؛ أي ١٢٥٠٠٠٠ فرنك، نصفها للماهيات والنصف الآخر لمشترى الكتب وتجليدها وغير ذلك. نعم، إن المتحف البريطاني فيه كثير من المجاميع العلمية غير الكتب والآثار والمخلفات القديمة؛ ولذلك ينبغي لنا المقابلة بين قسم المطبوعات في كل منهما فقط.

ففي باريس ٦٠ مستخدمًا وعاملًا، وفي مثله في لوندرة ١٢٢ مستخدمًا وعاملًا مرتبهم ٤٩٦٠٥٠ فرنكًا، وهذا جدول مقابلة الماهيات.

مكتبة باريس
١ مدير عام ١٥٠٠٠ فرنك
١ سكرتير وصراف ٧٠٠ فرنك
٤ أمناء ١٠٠٠٠ فرنك
٦ مساعد وأمناء ٧٠٠ فرنك
٥٠ كتبخانجي ووكلاء وتحت التمرين وغيرهم من أصحاب اليومية والكتبة ١٨٠٠٠ إلى ٦٠٠٠ فرنك
المتحف البريطاني
١ حافظ من ١٨٧٥٠ فرنكًا
٤ مساعدون من ١٢٥٠٠ إلى ٥٠٠٠
١٣ معاون لدرجة أولى من ٦٢٥٠ إلى ١١٢٥٠
٢٢ معاون درجة ثانية من ٣٧٥٠ إلى ١٠٢٥٠
٣٦ معاون درجة ثالثة من ٢٧٥٠ إلى ٣٠٠٠
٤٦ فراش من ١٥٠٠ إلى ٢٥٠٠

وكانت ميزانية المكتبة الأهلية في أيام لويس الخامس عشر عبارة عن ٦٨٠٠٠ ليرة؛ أي فرنك، منها ٤٦٤٦٩ للمستخدمين و٢١٥٣١ لمشترى الكتب والأدوات، وفي سنة ١٧٧٨ بلغت ٧٣٠٠٠ ليرة، ثم ازدادت في أواخر حكم الملك لويس السادس عشر حتى بلغت مبلغًا جسيمًا جدًّا بالنسبة لذلك الوقت، وهو ١٦٩٢٢٠ ليرة وعشرة صلادي، منها ٦٣٠٠٠ للمشتروات.

  • كتبخانة سنت جنفياف (بفاءين فارسيتين): تحتوي على ٢٠٠ ألف مجلد منها أربعة آلاف بخط اليد، وفيها زيادة على ذلك ٢٥ ألف لوحة مزدانة بنقوش بديعة، وفيها خرائط قديمة كثيرة ومبصومات، وفيها غرفة مطالعة خصوصية تحتوي على أغرب ما فيها من مجاميع وكتب بخط اليد ومطبوعة ونقوش، وفيها تمثال أولرمش جيرنج أول من أدخل فن الطباعة إلى باريس في سنة ١٤٧٠ وغيره من المشاهير، وفيها غرفة مطالعة عمومية تسع ٤٢٠ شخصًا وحواليها ستائر من صنع الجُبلين تمثل المطالعة، وقد دهمها الليل وهو رمز إلى الشغل النهاري والليلي في هذه الغرفة.
  • كتبخانة مازارين: وهي في جمعية المعارف، وفيها ٢٥٠ ألف مجلد منها ٦ آلاف بخط اليد.

هذه هي أشهر المكاتب العمومية، وفي المدينة مما يقاربها مكتبة متحف الفنون والصنائع، وقد قلنا إنها تحتوي على ٣٠ ألف مجلد، ومكتبة مدرسة فرنسا الجامعة وفيها ٤٣ ألف مجلد، ومكتبة مدرسة الفنون المستظرفة، وقد قلنا إن عدد كتبها ١٢ ألفًا، ومكتبة المجموعات التاريخية لمدينة باريس وفيها ٩٠ ألف مجلد و٧٠ ألف مبصوم، ومكتبة مدرسة المعادن وفيها ٦ آلاف مجلد، ومكتبة بستان النبات وفيها ٨٠٠٠٠ مجلد، ومكتبة الأوبرا وفيها ١٥ ألف مجلد وكراسة و٦٠ ألف مبصوم، وفيها كثير من الرسوم والتصاوير والتماثيل الخاصة بفن التشخيص والموسيقى والقيان والقينات، وقد ذكرنا كتبخانات أخرى في الفصل المتقدم.

واعلم أن لكل جمعية مهما كانت غايتها ومذهبها ومشربها في السياسة والصناعة والعلوم مكتبة خاصة بها، تعد المجلدات فيها بالألوف وعشرات الألوف، وكذلك الشركات والمدارس والمكاتب العمومية ولأغلب الكتبخانات فترة معينة في السنة تقفل فيها.

(٦) العمائر الدينية في باريس

يوجد بهذه المدينة ٧٠ كنيسة (جامعة ذات أبرشية) غير البيع الصغيرة التي قد لا يخلو بعضها من الأهمية، وكل سائح يريد أن يقف على الدقائق، وأن يكون له بعض إحاطة عمومية بأحوال البلاد التي يجوبها لا يصح له أن يغض الطرف عنها، ولكني أقتصر في هذه الخلاصة على بعض إشارات خفيفة وأقوال وجيزة.

  • كنيسة نوتردام: كان البدء في بنايتها سنة ١١٦٥، ثم توالى عليها التدمير والترميم والتكميل والتحويل والتبديل حتى استقرت على ما هي عليه الآن منذ سنة ١٨٤٥. وطولها ١٣٣ مترًا وعرضها ٤٨، وارتفاعها ٣٣٧٧ مترًا في المتوسط، ولم يحصل تدشينها٢ إلَّا في سنة ١٨٦٤، وهي من أجمل العمائر التي في فرنسا على الطراز القوطي المتفرد بالشكل البيضاوي، ويحف بواجهتها برجان ضخمان، وفيها كثير من تماثيل القديسين والقديسات وغيرهم وملوك وأمراء، وفيها جرس زنته ١٣ ألف كيلوجرام وجرس مأخوذ من سباستبول، حينما تحالف الفرنساوية والإنكليز وسردنيا مع الدولة العلية أيدها الله على روسيا، وغلبوا الروس على سباستبول، وفيها وردة من الزجاج عرضها ٩ أمتار و٦٠ سنتي تمثل بأشكالها وألوانها الحوار بين الاثني عشر وهم مجتمعون في مكان واحد وفوقها سهم من خشب البلوط مغشي بالرصاص مركب من ثلاثة أدوار، أفرغ صانعه جهده في تنسيقها وتزويقها، وهذه الأدوار على شكل هرمي، ويرتفع السهم عن الأرض بخمسة وتسعين مترًا، وثقله ٧٥٠٠٠ كيلوجرام، منها ٥٠٠٠٠ من الخشب و٢٥٠٠٠ من الرصاص.

    وفي داخل الكنيسة ٣٧ بيعة ومنابر متناهية في الجمال يعظ فيها القساوسة الناس، وفي الخوروس أشغال في الخشب تبهر الأنظار؛ خصوصًا التراكيب والترابيع المعروفة بالعربية التي هي عبارة عن خطوط مشتبكة متداخلة في بعضها على طريقة أهل المشرق والأندلس، وفيها أرغن من أكبر أمثاله في فرنسا وأكملها، يحتوي على ٦٠٠٠ قصبة لإخراج الهواء وتوقيع الأنغام. وأهم ما فيها — بصرف النظر عن ضخامة البناء واتساع الأرجاء وانتظام العقود، وارتفاع القباب — إنما هو خزينة الذخائر، فإنها تحتوي على مخلفات ثمينة مصنوعة من الفضة الخالصة والذهب الصافي ومرصعة بالأحجار الكريمة وآنية مقدَّسة ومباخر مفتخرة والعباءة التي تردَّى بها نابليون حينما كرَّسه البابا إمبراطورًا على فرنسا، والتحف النفيسة التي أهداها الإمبراطرة والملوك والملكة مارية أنطوانيت، وتمثال من الفضة للسيدة مريم عليها السلام، وصور وتماثيل رؤساء الأساقفة في باريس، ومجموعة من الأحجار الكريمة محفورًا فيها صور جميع الباباوات الماضين وجملة صلبان وكئوس وجامات وشمعدانات، وغير ذلك من الحلي والملابس المزركشة المرصعة التي تستخدم في الاحتفالات الدينية الكبيرة. وفي بعض الأيام يعرضون على الجماعات المتقاطرة إلى الكنيسة صندوقًا فيه إكليل الشوك، وبعض المسامير التي يقال إنها استخدمت في صلب كلمة الله عليه السلام، ويعرضون قطعة من خشب الصليب أحضرها هي والأكاليل والمسامير القديس لويس من بلاد المشرق أيام الحروب الصليبية.

    وخلف هذه الكنيسة منتزه بديع يفضي إلى مكان مريع تنقبض له النفوس، وتصمُّ من ذكره الآذان، وهو المعروف عندهم بالمورج، تعرض الحكومة فيه الأموات الذين لا يعرف أهلهم حتى إذا استدل عليهم أحد من العموم أرشد جهات الإدارة عنهم، وقد زرته ورأيتهم يحفظون الغرقى والمقتولين والمشنوقين وغيرهم مع العناية المتناهية والاحتراسات الواقية، فلا تخرج منهم رائحة مطلقًا، وليس منظرهم بشعًا مشوَّهًا، بل تراهم كأنهم نيام لابسون ملابس لائقة ولا يظهر منهم إلا وجوههم.

  • البيعة المقدَّسة (Sacre Coeus): بنيت في سنة ١٢٤٢، وتمت بعد ذلك بخمس سنين وهي في باريس كالدرة اليتيمة في العقد النفيس؛ خصوصًا سهمها الذي لم يرَ الراءون أبدع منه في الحسن والجمال، وهي أقدم وأجمل ما في باريس من العمائر القوطية، بناها الملك لويس التاسع القديس ليضع بها الإكليل الشوكي والمسامير وقطعة الخشب التي سبق لنا الكلام عليها، بعد أن اشتراها من بودوين الثاني ملك القسطنطينية، وقد استخدمت حينًا من الدهر كمستودع للمحفوظات القضائية، ولكنهم رمموها الآن كما ينبغي، واقتضت العمارة فيها ثلاثين سنة من الزمان، وبظاهر واجهتها تمثال الملك لويس وشقيقه لويس الأسقف، وفوقهما تمثال العذراء عليها السلام. والبيعة من الداخل تتلألأ بالزخرفة الفاتنة والنقوش المذهبة، وهي على شكل بيعتين؛ إحداهما فوق الأخرى، فأما السفلى فلا تستعمل الآن في تعبداتهم الدينية، وأما العليا فيحصل فيها القُدَّاس في يوم ١٦ أكتوبر، وقد كان القضاة بالمحاكم مُلزمين بحضوره قبل هذا الزمان، وبجانب سواريها تماثيل الحواريين الاثني عشر، وفيها من الشبابيك ما يبهر الأبصار، وتحار فيه الأفكار من انسجام ألوان الزجاج وتناهي بهائه وصفائه مع الإحكام في التنسيق، والإجادة في التزويق، وفوق البوَّابة وردة من قطع الزجاج تقرُّ لرؤيتها العيون وتعترف بجمالها العقول.
  • كنيسة سنت أوستاش (St. Ostach): أحسن الأوقات لزيارة هذه الكنيسة المتناهية في الضخامة يوم الأحد؛ إذ يكون فيها تلحين الآلات الموسيقية وتوقيع النغمات الصوتية بكيفية تطرب لها الأسماع، وهي شبيهة ببعض القصور العربية من أن خارجها لا ينبئ بشيء عما في داخلها من الزخرفة والإتقان، فإن واجهتها وجهاتها من الخارج حقيرة بالنسبة لما يُكنُّه داخلها من متانة الصناعة وجسامة المقادير وضخامة الأحجار، وارتفاع العقود ارتفاعًا متطاولًا واتساع الأقواس اتساعًا هائلًا، حتى إن الإنسان ليخيل له أنها أعدت للتحصن والاعتقال. وكان البدء في تشييدها في سنة ١٥٣٢، وتمت في سنة ١٦٤١؛ ولذلك لم تجئ على مثال واحد أو من طراز متجانس من الطرازات المتعارفة في فن العمارة، ولكنها من أجمل كنائس باريس وأكثرها زخرفةً وتزويقًا، وطالما مررت عليها ولم تكن نفسي تحدثني بضياع الوقت في الدخول إليها، ولما شاهدتها رأيت أنها بعكس خضراء الدمن ظاهرٌ قبيح وباطن مليح، ولا أرى من حاجة للكلام الآن على ما فيها من المصنوعات والتحف والنقوش في الرخام والمعادن والأحجار أو البيع الكثيرة المشحونة بالزخارف والطرائف أو زجاج الشبابيك أو منابر الوعظ، أو مفاتيح العقود التي تربط الأقواس والحنايا، ولكني أقول إن الضياء فيها أكثر منه في أمثالها، كما أن هواءها أجود وأخف على الروح، وقد دفن بها كثير من مشاهير الفرنساوية مثل كولبير وزير لويز الرابع عشر، والقصصي لافونتين الطائر الصيت المخلد الذكر، وغيرهما من كبراء رجال السيف والقلم والحل والعقد والأدب والحسب.
  • كنيسة سنت جرمان لوكسروا (St. Germeine): في ميدان اللوفر بُنيت في القرن السادس للميلاد، وكان ملوك فرنسا يحضرون القداس فيها، ثم توالت عليها الأيام واتفق أن النورمانديين اعتقلوا بها في سنة ٨٨٥، ثم جعلوا عاليها سافلها، فأقام القوم بناءها في أوائل القرن الحادي عشر، ثم شرعوا في تجديد معالمها وتغيير أوضاعها، ولم يتم تشييدها في هذه المرة الثالثة إلا بعد مضي ثلاثة قرون من الزمان. وإنما ذكرت هذه الكنيسة لشهرتها في التاريخ؛ إذ إنه في ليلة ٢٤ أغسطس سنة ١٥٧٢ (وهو اليوم المشهور بواقعة سنت بارتلمي التي قتل فيها الكاثوليكيون البروتستانتيين قتلًا ذريعًا شنيعًا فظيعًا) اتفق المتحالفون المتمالئون على أن يبتدئوا في العمل حينما يدق ناقوس هذه الكنيسة للأذان بقداس الصباح، وفي يوم ١٣ فبراير سنة ١٨٣١ أقيم فيها احتفال جنائزي عن نفس دوك دوبري، ولكن أحزاب الثورة التي حصلت في يوليو أوَّلوا هذا الاحتفال تأويلًا فاسدًا، واتخذوا ذلك ذريعة للتشنيع على الكنيسة، فباغتها العوام والطغام ونهبوا كل ما فيها من النفائس والأعلاق، ثم أقفلت الكنيسة وجُعلت مقرًّا لدار أمانة المدينة مدة سبع سنين، وفي ١٣ مايو سنة ١٨٣٧ أعيدت إلى وظيفتها الأولى.

    أما داخلها وبيعها فمثل الكنائس الأخرى، ولكن إحدى هذه البيع تمتاز بكثرة الزخرفة على الطراز القوطي، وفيها بيعة أخرى تحاكي برسومها وزجاجها البيعة المقدسة التي ذكرناها.

  • كنيسة سان سولبيس (Saint Sulpice): هي عبارة عن عمارة بالغة في الجمال متناهية في الاتساع، كان وضع الحجر الأول فيها بحضور الملكة آنه دوتريش (Anne d’Autriche) في سنة ١٦٤٦، وواجهتها عبارة عن سوار قائمة على بعضها بشكل يروق الأنظار فيما بين البرجين الشامخين، وفي دائرها من الداخل بواكٍ واسعة تعلوها أساطين متقنة وبيع متعددة تزيد في بهجتها، وفوقها قبة مزخرفة بصور ونقوش من صنع بعض الماهرين في هذه الفنون، وفي وسط صحنها مسلة من المرمر يمر عليها خط من النحاس للدلالة على الاتجاه الشمالي، وفيها منبر للوعظ في غاية ما يكون من الحسن أَمَرَ بصنعه المارشال ريشليو، وفيما عدا ذلك أشياء كثيرة لا تستحق الذكر الآن سوى الأرغن، فإنه من أكمل وأجمل ما يوجد من هذا القبيل، والقوقعتين العظيمتين اللتين يوضع فيهما الماء المقدس، وهما هدية من جمهورية البندقية إلى فرانسوا الأول، وسبيل فاخر محاط بتماثيل بوسوييه وفنلون وماسيليون وفليشيه، وهم من أهم وعاظ الكنيسة وأدباء الفرنساوية في عصر لويز الرابع عشر.
  • البانتيون (Pantheon): مجرد ذكر هذا الاسم يشعر بالعظمة والجلال، ويبعث في النفس هيبةً ووقارًا وفي الفؤاد إجلالًا وإكبارًا. وهو مستودع لبقايا الذين خَدموا العلوم والفنون وسَعَوا في تعزيز وطنهم وترقية بلادهم، حتى جعلوا لها بين الأمم مقامًا محمودًا وفضلًا مشهودًا، ولا يدخله إنسان إلا وتداخله السكينة والتؤدة، فيسير فيه على أطراف الأقدام ملازمًا الصمت التام، بل تكاد تخرج من فِيه ألفاظ التحية والسلام على عظام هؤلاء العظام.

    والبانتيون كلمة يونانية من باس: أي جميع، وثيوس: أي إله، ومعناها المعبد المخصص لجميع الآلهة مثل الكعبة في أيام الجاهلية، فإن كل قبيلة كانت تتخذ لها معبودًا مخصوصًا وتضعه فيها، وبقي ذلك إلى أن بَطُلَ بمجيء الدين الإسلامي الحنيف. وكثيرًا ما تستعمل لفظة بانتيون للدلالة على التعظيم والإجلال اللذين يقوم بهما الخلق في حق المشاهير وأهل الفضل، فيقولون إن فلانًا له مقام معين في بانتيون التاريخ وهكذا.

    بُني هذا المكان في سنة ١٧٦٤ وجُعل كنيسة باسم القديسة سنت جنفياف (بجيم وفاءين فارسيتين) راعية باريس وحاميتها، ثم جاءت الحكومة الاتفاقية في سنة ١٧٩١ فغيرت ما وضع له ومنعت العبادة منه، وأطلقت عليه اسم البانتيون وكتبت على واجهته هذه العبارة الوجيزة في الكلمات البليغة في المعاني والدلالات:

لعظماء الرجال شكر الأوطان (Aux grands hommes, Ia patrie reconnaissante)

فلما آل الأمر والسلطان لعائلة بوربون، ورجعت الحكومة الملوكية أعيد البانتيون إلى أصله، حتى كانت الثورة في سنة ١٨٣٠ فسمي البانتيون مرة ثانية، واستمر كذلك مدة ٣١ سنة إلى أن جاء الإمبراطور نابليون الثالث، فأصدر تقليدًا ملوكيًّا يقضي بإعادته للديانة باسم سنت جنفياف (St. Genevieve)، ولكن الحكومة الجمهورية الحالية أصدرت أمرًا عاليًا في يوم ٢٣ مايو سنة ١٨٨٥ عقيب وفاة فيكتور هوجو (Victor Hugo) مباشرة بإعادة اسم البانتيون للمرة الثالثة، وبعد صدور هذا الأمر بأيام قليلة احتفل الفرنساويون قاطبةً بنقل جثة هذا الشاعر العظيم إلى البانتيون، ودفنوها بجانب مقبرة جان جاك روسو وفولتير وميرابو، وكان هذا الاحتفال بالغًا في العظمة، بحيث لم يسبق له مثال، واشتركت فيه الدولة بصفة رسمية والأمة بأجمعها ممن في فرنسا وفي الخارج.

واعلم أن واجهة هذا الهيكل قائمةٌ على اثنتين وعشرين أسطوانة، وفوقها نقوش بارزة تمثل الوطن واقفًا بين الحرية والتاريخ، وهو يوزع أكاليل المجد وشارات الفخار على عظماء الرجال مثل بونابرت من جهة اليمين، ومن جهة اليسار روسو وفولتير وميرابو ودافيد وغيرهم من رجال فرنسا المعدودين.

وطول هذه العمارة الفخيمة ١١٣ مترًا وعرضها ٨٥ مترًا وفوقها قبة قطرها ٨٣ مترًا.

أما داخله ففيه كثير من التماثيل والصور الدينية والتاريخية التي لها علاقة بالمدينة، ولا حاجة لتفصيلها الآن. أما القبة فهي عبارة عن ثلاث قباب فوق بعضها، وفيها كلها نقوش لا يستحق الذكر منها إلا ما يستجلب الأنظار في القبة الثانية من الرسوم، التي تصور الموت والوطن والعدل، وعلى العمدان التي تستند عليها القبة يرى الإنسان ألواحًا مزدانة بأسماء أبناء الوطن، الذين ماتوا في سبيل الدفاع عن القوانين والحرية في ٢٧ و٢٨ و٢٩ يوليو سنة ١٨٣١، وسأتكلم عليهم بمناسبة العمود الذي أقيم لإحياء ذكرهم.

ومما ينبغي تنبيه الشرقي إليه من الرسوم الكثيرة المزدانة بها جدران هذا الهيكل الصورة التي تمثل الإمبراطور شارلمان وهو يعيد العلوم والآداب بعد اندراسها ويفتح المدارس ويؤسِّس المكاتب ويستقبل وفود الخليفة هارون الرشيد، ومعهم من قِبل أمير المؤمنين مفاتيح القبر المقدس هدية منه لهذا الملك العظيم الشأن، وهناك طنفستان من ستائر الجُبلين قيمتهما ١٠٠٠٠٠ فرنك (أربعة آلاف جنيه إنكليزي تقريبًا).

ومن صعد إلى أعلى قمة القبة رأى أبهج المناظر وأحسن المرائي؛ إذ يكون مشرفًا على باريس وطرقاتها وقصورها وحركتها.

أما الدور الذي تحت الأرض فهو عبارة عن جملة مغارات منقسمة إلى أروقة منتظمة يتردد فيها الصدى بكيفية تقرب مما رأيته، بل سمعته في رومة وبيشة وكنيسة القديس بولس بلوندرة وفي اللوفر ومحفظ الفنون والصنائع بباريس وغير ذلك، وفيه قبور كثير من عظماء فرنسا الذين يتفاخر بهم أبناؤهم إذا جمعتهم المحافل.

وقد كان رجوعي إلى باريس عقيب وفاة رنان (Renan)٣ ببضعة أيام، وكانت الجرائد ورجال السياسة مشتغلين بمسألة نقله إلى البانتيون، وكثر حديث القوم بهذا الشأن إلى درجة لا يمكن تصوُّرها، وجرَّت مسألة رنان إلى التحدث بنقل غيره من مشاهيرهم أيضًا، فقدَّم وزير المعارف مشروع قانون لمجلس النواب لكي يصادق عليه حتى يكون نقل بقايا رنان بمقتضاه، وقد قال الوزير في تقريره ما معناه: (إن حكومة الجمهورية تقترح على المجلس إشراك ميشليه وكينيه مع رنان في هذا الإجلال والتعظيم، فإنهم وإن اختلفت ملكاتهم وتباينت أفكارهم ومصنفاتهم فلا تزال بينهم رابطة لا يمحوها مرور الزمان؛ إذ كانوا كلهم أساتذة في مدرسة فرنسا (College de France)، وقد أنشأها مؤسسها لخدمة المعارف الحرة وهم كلهم قد جاهدوا لتأييد الاستقلال فيما يتعلق بإبداء الأفكار، وكلهم احتملوا الشدائد وقاسوا المصاعب في هذا السبيل.)
ولكن الجرائد وبعض أعضاء مجلس النواب شطوا في الطلب وتغالوا في نقل عظام بعض المشاهير إلى البانتيون، وكثير منهم أخذ في التهزئ والتهكم، وفريق آخر في نحت كلمات مستنفرة من لفظة بانتيون، وهكذا مما هو شأن الجرائد في هذه البلاد عند حلول أيِّ حادث يستلفت الأنظار، فقام جماعة بطلب نقل عظام بعض البارعين في توقيع الأنغام وآخرون منتصرون لنقل بعض المؤرخين أو رجال السياسة أو المعارف أو النظم أو الأدب أو التصوير أو الطب أو نشر الكتب أو الكيمياء أو الاقتصاد أو اللغات أو أعضاء مجلس النواب أو غير ذلك، وقام بعض النواب يطلب نقل بقايا تيارس المشهور، فردت عليه أخت زوجته بكتاب أرسلته إلى كافة الجرائد ترجوه فيه العدول عن هذا الطلب؛ لأن زوج شقيقها كان على الدوام يعرب عن رغبته في أن تدفن عظامه بجانب أهله، وقالت له في ختامه: (إني أسألك أن تتكرم بالكف عن اقتراحك، وأن تترك الموسيو تيارس بعيدًا عن اضطرابات السياسة في مكان الراحة والسلام الذي اختاره أهله له.) وبمثل ذلك أجاب بعض ورثة الشاعر المشهور لامرتين والمؤرخ ميشليه برفض نقلهما إلى البانتيون وغيرهما وغيرهما، ورأيت كثيرًا من الجرائد المعتبرة والثانوية اتخذت هذه الحوادث فرصة لاستعمال ألفاظ الطيش والخفة فيقولون:

عقود البانتيون الباردة — خباياه المظلمة — زواياه المحزنة — هيكل الملل — مدفن عظماء الرجال الذين يؤدِّي لهم الوطن ما عليه من دين الشكران بشح وتقتير — إن هذه العمارة التي اجترمتها يدا فلان (كأن إنشاء هذا البانتيون جريمة لا تغتفر) أراها لا تحتوي على شيء من الإجلال الذي يتصور القوم اتحاف عظام العظماء به بعد وفاتهم — إن دانتي الشاعر الطلياني الذي كتب على الجحيم لو اطلع على هذه الأروقة الصاقعة لجعلها في سقر وبئس المستقر.

وأمثال ذلك من عبارات السخرية التي لا أتذكرها ولا أذكرها.

وبمناسبة هذا البانتيون أذكر خلاصة موجزة على العمائر المشاكلة له في بعض البلاد التي مررت عليها، فإنني رأيت في معظم الكنائس التي تفرجت عليها — إن لم أقل كلها — قبورًا لمشاهير أبناء الوطن، ومن أهم ما يستوقف أنظار المتسوِّح في أوروبا عن قدومه إلى إيطاليا البانتيون الروماني القديم، وفيه الآن قبر الطيب الذكر فيكتور عمانويل وفي كل سنة يتقاطر الطليانيون الذين تشربت قلوبهم بحب الوطن إلى هذا المكان ويزورون هذا القبر بغاية التبجيل والتوقير، وبجانب الملك قبر رفائيل الرسام المشهور وغيره من النابغين في الفنون المستظرفة. وفي فلورانسة مكان يسمى سنتاكروتشي (الصليب المقدس)، ويسمى بانتيون إيطاليا؛ لأنه يحتوي على كثير من تماثيل عظمائها في كل فن ونوع من التصوير والأدب والفلسفة والموسيقى والنحت والنقش والسياسة والدولة والعلم الطبيعي، وبعض أعضاء العائلة الملوكية وغيرهم ممن كان يندرس ذكرهم لو لم يكن اسمهم منقوشًا على الرخام، ومعروضًا لأنظار العامة والخاصة على الدوام، ولا أطيل الكلام بذكر ما في المدائن الأخرى، وأذكر ما في لوندرة فكل الصيد في جوف الفرا.

فإن دير ويستمينستر هو أحق هذه العمائر باسم البانيتون؛ أي الأثر الذي يقيمه الوطن الشاكر لأبنائه فَضْلَهم، العارف لهم حق خدمتهم، ذلك لأن من يريد أن يقف حقيقةً على عظمة الأمة الإنجليزية ومجدها في التاريخ ينبغي له أن يذهب إلى هذا الدير الذي يحتوي على أكثر من ثلاثمائة أثر أقامها الوطن لعظماء الرجال في السياسة والعلوم والموسيقى والفلسفة والشعر والسياحة والملاحة والاستكشاف والاستنباط وتشخيص الروايات وأعضاء العائلة الملوكية، وكل من عاون على إعزاز إنجلترا، ورفع منارها بأية كيفية من الكيفيات، ولا شك أن الرجل من أبناء بريطانيا العظمى حينما يدخل إلى هذا المكان، ويطوفه ويقرأ ما فيه من الأسماء يكبر في عين نفسه، ويرى من الواجب عليه أن يبذل كل جهده ليكون جديرًا بالانتساب إلى هؤلاء الأجداد، ولا يكتفي بأن يقول كان أبي أو صنع قومي.

(٧) جبانات باريس

كانت المدافن في هذه المدينة بجوار الكنائس فأقصتها الدولة إلى ما وراء المساكن حفظًا للصحة وتوسيعًا لنطاق البلد، ويبلغ عددها الآن ٥٩ جبانة؛ منها ١٣ داخلة في حومة باريس والباقي خارجها، وأجدرها بزيارة الغريب ثلاث فقط، وأهمها وأكبرها مقبرة لاشيز (La Chaise)؛ ولذلك توجهت إليها ثلاث مرات في ثلاثة أيام لانتظامها واحتوائها على كثير من عظماء الرجال.

هذه المقبرة كائنة على رابية ذات انحدار خفيف، ويبلغ مسطحها ١٣ هيكتارًا، وكانت ملكًا لرجل من اليسوعيين اسمه الأب لاشيز (كان أمين سر الاعتراف للملك لويس الرابع عشر).

ولهذه المقبرة ذكر متواتر في روايات الفرنساوية وأقاصيصهم مما يتعلق بالغرام، ولكن أشهر ما وقع فيها إنما هو المقاتلة العنيفة، بل المذبحة الشنيعة التي حصلت في ثورة الكومون.

كان إنشاء هذه الجبانة وهندستها في سنة ١٨٠٤، ثم أخذت بعد ذلك في الاتساع والامتداد من جهة المشرق حتى أصبحت الآن عبارة عن ٤٣ هيكتارًا أو ٩٤٠٠٠ متر، وعدد سكان قبورها وحدها ٣ مليون؛ أي أكثر من الأحياء في باريس كلها، وفيها ١٥٠ طريقًا، ويمر تحتها نَفَق لسكة حديد الحزام Chemin de fer de ceinture التي تمر حول المدينة فيكون الأحياء تحت الأموات وفوقهم. وليس فيها شيء مما يقبض النفوس ويزعج الناظرين، بل يعتبرها كل من زارها كأنها من أحد المنتزهات البديعة، وخصوصًا حينما يتجوَّل فيها الإنسان تاركًا نفسه مع تيار الأفكار متأملًا في هذه الحياة الدنيا، ثم يقف من غير قصد فيقرأ الأسماء التي على القبور ويرى بينها بالصدفة اسم رجل عظيم أفاد الوطن أو الإنسانية بكتاباته أو أعماله، فإنني كنت في هذه الحالة يحصل لي انشراح عظيم كأنني اكتشفت أمرًا جليلًا أو وقفت على سر نافع وتعرفت بالرجل ذاتيًّا، خصوصًا وأن قبور العظماء ليست كلها على حافة الطرقات أو في المواضع التي تستوقف الأنظار، فترى العَالِم بجانب الزَّارع وبعدهما صَانِع يَخْلُفهُ شَاعِر يتلوه مُؤرِّخ فَتَاجر فرجلٌ حيثما اتفق فقائدٌ كبير أو أميرٌ شهير أو فليسوف نابغ أو مُحسن فَاضل، إلى غير ذلك من جميع أصناف الناس وطبقاتهم.

وأذكر الآن بعض الذين وقفتُ أمام قبورهم وتذكرت أعمالهم وما استفدته من تأليفهم أو الذين سمعت بشهرتهم مكتفيًا بذكر الأسماء لعدم الإطالة، واعدًا نفسي بالإشارة في الرحلة إلى أعمالهم؛ مثال ذلك: فيسكوندي، وروسِّيني، وألفريد دومسيه، ولونوار، وفافين، ومادام بلان، وإرَّازو، وفولييني، وفيرون، وأورنانو، ومادام هوارو، ومادام ماري رويَرْ، ومورل، ووالسكي، ولازارجو، ورنياتللي، والأثر المقام للعساكر الفرنساوية الذين قتلوا في الدفاع عن وطنهم في حرب سنة ١٨٧٠ المشهورة، والأثر المقام للحرس الأهلي الذين قتلوا في الحرب المذكورة، وقبر ميشليه، وآدم والكونتس داجولت، ودوسيز وسولييه، وكاموس، وبرجيه، والأثر المقام لتيارس المشهور، ومنه يرى الناظر أمامه قبة البانتيون، ثم قبر بلانسكي، وبيَّار، ومدموازل الوتر، ومدموازل دوجنليس، ولابلاس، وغرسيه، وموليير بجانب لافونتين، وجي لوساك، ومقبرة لهوجوسان سيمون، وبنيامين كونستان، وماكدونلد، والجنرال فوا، وبيرانجيه، وبومارشيه، وسكريب، وفولني، وجرامون، ولوبل، والمقبرة التي أعدتها سارة برنار لنفسها وهي تتعهدها بنفسها في أوقات كثيرة، وقبر أبادي، والمقبرة المخصصة للمسلمين الذين يتوفاهم الله في باريس، وقبر مدموازل دوشسنوا، وتالييران، ولافيت، ومقبرة لدولسس، وأندريو، ورسباي، ومونج، وكازمير بيرييه، وفونتان، وديدو، ومقبرة الإسرائيليين وفيها ميشل ليفي (لاوي)، وروتشليد، ومادام فولد، وراشل (راحيل) المشخصة المشهورة وغيرهم، ثم قبور باجيس، وجيريكو، وبلليني، ودنون، ودلامبر.

ورأيت أثرًا يشبه ضريحًا مكتوبًا عليه ما هَذِهِ ترجمته (مقبرة الأب الأبدي)، وأقول إنهم يعنون بالأب الأبدي المولى الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد — تعالى الله عما يصفون — وإنما ذكرت هذه العبارة من باب الغَرَابة والعلم بالشيء وناقل الكفر ليس بكافر.

وبعد أن استغفرت الله — تنزَّهت صفاته وتقدَّست أسماؤه — مررت كعادتي فرأيت قبر شينييه، وكوفييه، ومنتون، ولدرو رولين، وكوسين، ومالهرب، وأوبير، وأراجو، ومدموازل لونورمان الكاهنة العرافة المعروفة التي أنبأت نابليون بجميع وقائعه في المستقبل بواسطة ورق الكتشينة بغاية الضبط وتمام التدقيق، وكان كما قالت من غير تحريف أو تبديل، وقد اتفق أنها حوكمت جملة مرار، وكانت على الدوام تقول للقضاة: إنكم إنما تُتعبون أنفسكم سدى وتضيعون أوقاتكم عبثًا، فإنني لا أموت إلا بعد سبعين سنة (أو عدد آخر لا أتذكره الآن)، وبالفعل كانت وفاتها في الوقت الذي أخبرت به.

وقبور بول بودري، ولويس دافيد، وكسافييه بيشا، ولافوازييه، وبرناردان دوسان بيير، وشيروبيني والمارشال فيكتور، والأثر المقام للذين ذهبوا فريسة الحوادث في شهر يونية سنة ١٨٤٢، وقبر نيلاتون، وشامبوليون، وكللرمان وجوفوان سان سير، والجنرال جوبير، ودوبويترن، ولافاليت، وسوشيه، ودافيد دانجيه، وبود، والمارشال لوففر، وماسينا، وبييسكو، والمارشال مورتييه، والمارشال ني، والمارشال لوبو، وراسين، وجوفر، وسانت هيلير، ورميدوف، وبرادييه، ودروجيه، واللان كاردك، والمشخِّصة دجازت، وبالزاك، وأوجين دولا كروا، وقبر العلَّامتين كروسي سيينللي وسيفل وقد ماتا شهيدين في سبيل المعارف، حينما صعدا في الجو بالقبة الطيارة إلى طبقة عالية جدًّا وحققا أمورًا كثيرةً مفيدةً، ثم سقطت بهما فلم تقم لهما بعدها قائمة، وقبر الكونتس داجو صاحبة التآليف المشهورة التي أخفت فيها اسمها حيث اتسمت بدانييل سترن، وغيرهم من المشاهير الذين يطول ذكرهم في هذه الورقات. وهنا أنبه القارئ إلى أن بعض الأكابر الذين ذكرت أسماءهم يوجدون مدفونين في جهات أخرى من باريس، أو في مدائن غيرها، ولكن الحكومة جعلت لهم قبورًا في هذه الجبانة إحياءً لذكرهم وتنشيطًا للاقتداء بهم، وليس في هذا شيء من الغرابة بالنسبة لعناية هذه البلاد بعظمائها.

بل الأغرب والأعجب أنني رأيت ضريحًا فخيمًا عليه تمثال رجل وامرأة بجانب بعضهما، وفوقهما قبة لطيفة على عُمُد رشيقة تحف بها أشجار صغيرة وأزهار نضيرة، وقرأت عليهما هذين الاسمين (هيلوييس وأبيلار)، وصار اسمهما علمًا على المحبة الزوجية الصادقة الحقيقية، وقد أُحضر هذان التمثالان إلى باريس وعُنيت الدولة بوضعهما في هذه المقبرة في مكان لطيف، وعلمت أنه متى اصطحب فتى بفتاة وتبادلا عهود المودة الحقة والألفة الصادقة وشرعا في عقد الزواج، يأتيان إلى هذا المكان في كثير من الأحيان في أوقات خلو المقبرة من الناس، ويضعان الأزهار والأكاليل على هذا الضريح تيمنًا بثبات الوداد وتفاؤلًا بتبادل الصداقة من الطرفين.

ولهذين الاسمين قصة أرى من الواجب ذكرها هنا لزيادة الإيضاح، بل لزيادة الاستغراب وذلك أن هذا الرجل من مشاهير الفلاسفة، واسمه ورد بهذه الاختلافات Abaalarz, Abailard, Abélard, Abeillard, Belardus, Abailardus, Abaulardus, Abaielardus, بل وBailart، وهو من كبار الفلاسفة اللاهوتيين التعليميين، وله مذهب مشهور في الفلسفة وابتكارات ومصنفات مفيدة في الموسيقى، وكان يعيش في منزل شَمَّاس له حفيدة من أشراف فرنسا بارعة في الجمال واسمها هيلوييس، فكلفه أن يتمم تعليمها ويؤدبها، فَكَلفَ بها أبيلار حتى لقد كتب في هذا المعنى يقول: «ما كان لنا سوى بيت واحد فما لبثنا أن صار لنا فؤاد واحد.» وبعد زمن قليل أحست الفتاة بالحبل، فكاشفت أستاذها (أو خليلها) بذلك فهرب بها ذات ليلة وأخفاها في شمال فرنسا عند أخته، فوضعت ولدًا سمته بطرس أسطرلاب، وحينئذ أراد الرجل أن يتزوَّج عشيقته، ولكنها رفضت قائلة بأن ذلك وخيم العواقب على محبوب قلبها، وقد كتبت له: (إن أصحاب المدارك ونوابغ الرجال لا يصح لهم أن يربكوا أنفسهم بالعائلة ومشاغلها.) وأيدت رأيها بنصوص من أقوال اللاهوتيين من اللاتينيين واليونان، ويقال إنها أجابته إلى طلبه في آخر الأمر بعد كثرة إلحاحه، ولما اطلع الشماس على هذا السر شرع في الاقتصاص من الفيلسوف، فأرشى خادمه ودخل عليه بالليل ومعه نفر من ذوي قرابته وصحابته، ثم أوثقوا كتاف أبيلار وجبُّوا خصاه، فألحَّ الفيلسوف اللاهوتي المخصي على خليلته أو زوجته بأن تترهب فأجابت، ثم لحق بها في الدير وأسس ديرًا للراهبات، وما زال يمارس التعليم والتدريس بما ينطبق تارة على أفكار اللاهوتيين، ويخالفهم أخرى، وهو يوالي وداده لصاحبته التي بقيت أصدق الناس على ولائه حتى فارق الحياة.

وقد رأيت أيضًا عمودًا أقامته الحكومة كأنه قبر لكل من يموت غريقًا، فيعتبره أهل الميت قبرًا له؛ ولذلك تتراكم عليه الأكاليل في بعض المواسم بما يفوق العد والوصف.

واعلم أنه وافق وقوع مولد جميع القديسين أيام مُقامي بباريس، فاغتنمت هذه الفرصة وتوجهت لهذه المقبرة لكي أقابل ما أراه فيها بما هو جارٍ عندنا، وهذا اليوم يسمونه عيد الأموات، وقد نزل المطر رذاذًا طول النهار، ولكنه لم يمنع أهل باريس من التوجه إلى مقابر أهليهم وذويهم ووضع الأكاليل والأزهار عليها كما هي عادة الإفرنج. ولا أذكر شيئًا عن تزاحم الجماهير في هذه المقبرة التي زرتها حينئذ، وأكتفي بذكر العدد وقدره ٤٨٣١٠، ومع ذلك فقد قال لي الثقات إن الازدحام كان أقل مما في الأعوام الماضية، وبلغ عدد الذين توجهوا إلى جميع الجبانات (بما فيها الأب لاشيز) ٢٦٧١٩١.

ولو فرضنا أن نصف هذا العدد كان حاملًا لباقات أزهار ثمنها في المتوسط فرنك واحد لَتحصَّل عندنا ٥٣٤٢٤ جنيهًا إنكليزيًّا (منها نحو ٢٠٠٠ لعمود الغرقى الذي ذكرته)، وهو أقل ما يمكن تقديره؛ لأن الفقير منهم يقتر على نفسه ويقتصد من مأكله ومشربه عند اقتراب هذا الموسم لكي يتمكن من شراء إكليل يهديه إلى فقيده العزيز المحبوب. فإن عادة إهداء الأكاليل متمكنة عندهم إلى درجة لا يتصوَّرها العقل، حتى إنه كثيرًا ما يتفق أن الرجل أو المرأة يموت جوعًا، وإذا طلب من أصحابه وأصدقائه شيئًا يستعين به على سد رَمقه أجابوه بالرفض، فإذا مات في عصر النهار أو في اليوم الثاني بادرت الجماعة التي ينتمي إليها (مصوِّرين حدادين نجارين طحانين أو أعلى أو أدنى من ذلك) بفتح قائمة اكتتاب تبلغ قيمتها مئات من الفرنكات، فيشترون بها رخامًا يضعونه على قبره وإكليلًا يحتفلون بإيداعه عقيب دفنه.

وأذكر بمناسبة الاحتفال بالأموات أن الفرنساوية أشد الأمم الذين رأيتهم اعتبارًا للميت، حتى إنه متى مر سرير الجنازة يبادر الرفيع قبل الوضيع برفع قبعته إجلالًا وإعظامًا مهما كانت درجة الذي فارق الحياة الدنيا، وهو شبيه بما بقي عند بعض المصريين المتمسكين بعاداتهم الشرقية الحميدة، فإنك تراهم عند مرور النعش أمامهم يقفون إجلالًا، ويَتَشَهَّدون ويقرءون شيئًا من القرآن الكريم مع بعض كلمات مؤثرة مأثورة، فيا حبذا هذه العادة، ويا حبذا الاحتفاظ بها!

وقرأت في الجرائد بمناسبة عيد الأموات أن جميع الفرنساوية الذين في برلين توجهوا بصحبة أعضاء جمعية محبة الإنسانية وموظفي سفارة الحكومة الجمهورية إلى قبر العساكر الفرنساوية الذين قتلوا في برلين أثناء حرب سنة ١٨٧٠، وأن وفدًا حضر من فرنسا إلى هذه العاصمة لهذه الغاية، وكذلك جرت جماعة الفرنساوية المتوطنين في بروكسل Bruxelles عاصمة بلجيكا على عادتهم، فتوجهوا في احتفال عظيم إلى الأثر المقام لإحياء ذكر الجنود الذين ماتوا في خدمة وطنهم، وكان السابق في هذه المظاهرة الملية القومية أعضاء غرفة التجارة، فإنهم وضعوا على الأثر إكليلًا جميلًا عليه هذه العبارة (من أعضاء غرفة التجارة ببروكسل إلى مواطنيهم، الذين ماتوا في سبيل الوطن، أول نوفمبر سنة ١٨٩٢)، ثم جاءت جمعية التعاون الفرنساوية ووضعت إكليلًا في غاية الإتقان مصنوعًا من الحديد المطروق، وعليه هذه الكلمات: (إلى الجنود الفرنساوية الذين ماتوا لأجل الوطن في سنة ١٨٧٠ وسنة ١٨٧١، من جمعية التعاون الفرنساوية ببروكسل سنة ١٨٩٢)، ثم وقف الرئيس على سطح الأثر وألقى خطابًا لا بأس من تعريبه في هذا المقام وهو:

أقيمت الآثار وشيدت الأنصاب في كل مكان سقطت فيه العساكر أثناء دفاعها عن الوطن في سنتي ٧٠ و٧١، فسواء في ذلك المدائن الكبيرة والكفور الحقيرة.

وقد اختار النزلاء الفرنساويون منذ بضعة سنين هذا اليوم أول نوفمبر لتمجيد سيرة أولئك الشجعان، الذين أثخنتهم الجراح وفقدوا بعض الأطراف والأعضاء، فلاذوا بهذه الأرض أرض بلجيكا لقضاء ما بقي من أيامهم فيها.

ومن الأمور المستعذبة الموجبة للتسلية الباعثة على العزاء أنهم مع بعدهم عن مسقط رأسهم، وأرض أجدادهم قد صادفوا هنا عناية أخوية جديرة بالمدح والثناء. «إن بلجيكا أكرمت مثواهم وعاملتهم بالحسنى». فهذه العبارة الجميلة المنقوشة بحروف من الذهب على هذا القبر العام، الذي ضم بقاياهم يكون فيها ذكرى للأجيال الحاضرة والآتية بما اصطنعته بلجيكا من العمل الممدوح المحمود واليد المشكورة المبرورة.

ولنا الهناء نحن أعضاء جمعية التعاون الفرنساوية على مجيئنا إلى هذا المكان ننشر فيه على قبور هؤلاء العزاز تلك الراية المثلثة التي كانوا يسيرون تحت ظلها في ميادين القتال: «فلتحي بلجيكا وتحي فرنسا». انتهى.

وقد أصغى جميع الحاضرين إلى هذا المقال بغاية الرعاية والإجلال، وعندما أتم الرئيس كلامه أبدوا كلهم علائم الإقرار والاستحسان.

(٨) بعض الأعمدة والبوابات والفساقي وبرج إيفل

إن الأعمدة الأثرية في باريس هي ثلاثة، أولها وأقلها أهمية عمود سواسون، وهو الأثر الوحيد الذي بقي من القصر المعروف بهذا الاسم، وارتفاعه ٣٠ مترًا، ويقال إنه كان مرصدًا لمنُجِّم الملكة كاترينة دومدسيس، كان يراقب فيه حركات الأفلاك واقتران الكواكب ليتمكن من إخبارها بالكائنات قبل كينونتها، وفي داخله سلم يوصل إلى قمته وفي أعلاه مزولة شمسية.

والثاني هو عمود فاندوم في الميدان الجميل البهيج المعروف بهذا الاسم، وهو مسبوك من برونز ١٢٠٠ مدفع اغتنمتها الجيوش الفرنساوية في الوقائع الحربية، وتمت إقامته في سنة ١٨١٠، وارتفاعه ٤٤ مترًا و٢٠ سنتميترًا، وقطره ٤ أمتار، وفي منتهاه تمثال نابليون متشحًا بملابس إمبراطور روماني، وعلى هذا العمود نقوش وكتابات تخلد انتصارات الفرنساوية في أوائل هذا القرن.

والعمود الثالث هو المعروف بعمود يوليو، وهو في وسط ميدان الباستيل (Bestille)، أقيم تخليدًا لذكر الحرية في نفس المكان الذي كانت فيه قلعة الباستيل معدن الجور والحيف والاستبداد، وعليه بحروف من الذهب أسماء الذين استماتوا في إعلاء كلمة الحرية، ونشر رايتها على ديار فرنسا في سنة ١٧٨٩، وفي سنة ١٨٣٠، وفي أسفله مقابر أولئك الأبطال محطًّا للإعجاب والإجلال. ومن صعد إلى قمة هذا العمود الذي يبلغ ارتفاعه ٤٧ مترًا رأى باريس كلها تحت أقدامه وأمتع ناظريه بمرأى جميل معجب، وفوق هذا العمود تمثال من البرونز المذهب يمثل ملاك الحرية، وفي يده مصباح يرسل النور منه إلى جميع أطراف العالم.

وبمناسبة العمدان نذكر المسلة المصرية المعروفة بمسلة كيلوبطرة التي هي أجمل حلية في أجمل ميدان في أجمل مدينة، قد أهداها المخلد الذكر محيي مصر المغفور له أفندينا الكبير الحاج محمد علي باشا إلى فرنسا، فوضعتها في ميدان الكونكورد (الائتلاف)، الذي تحف به تماثيل كثيرة تمثل مدائن فرنسا التي خدمت الوطن برجالها وأعمالها. وهذه المسلة من حجر واحد من الصوَّان الوردي، وعليها كثير من النقوش البربائية، وطولها ٢٢ مترًا و٨٣ سنتميترًا، ووزنها ٢٥٠٠٠٠ كيلوجرام، وفي أسفلها ترى نقوشًا بالذهب تمثل كيفية إقامتها ورفعها بمقتضى علم الأثقال، وكان ذلك في سنة ١٨٣١ على يد المهندس الماهر الموسيو لبا.

أما البوابات والأقواس فهي كثيرة؛ نذكر منها باب (St. Denis) القديس دنيس (وهو الذي بعد أن قُطعت رأسه في أيام الاضطهاد رفعها من الأرض بين يديه وهو مضرج بالدماء)، وهو أثر جميل قد توالت عليه العمارة والترميم، وكانت إقامته في سنة ١٦٧٢ تمجيدًا لذكر لويس الرابع عشر وتذكارًا لفتوحاته في بلاد الألمان.
وكذلك باب القديس مارتين (St. Martaine) على مقربة من الباب السابق؛ تذكارًا لفتح إقليم فراتش كونتي وهزيمة الألمان على يد لويس الرابع عشر، وفيه نقوش بارزة متقنة.
وقوس الكوكب (éétoile) وهو أكبر بوابات الفوز والانتصار الموجودة في باريس، فإن مجموع ارتفاعه ٤٥ مترًا و٣٣ سنتميترًا، وعرضه ٤٤٫٨٢ مترًا، وأوَّل من ابتدأ في تشييده هو نابليون في سنة ١٨٠٦؛ لأجل تخليد فتوحات الجيوش الفرنساوية وإحياء مآثرها، ولكنه لم يتم إلا في عهد الملك لويس فيلب.

وبلغت نفقاته ٩٠٥١١١٥ من الفرنكات (قريبًا من ٣٦١٣٢١ جنيهًا)، وهو كله مغشى بنقوش في الحجر مناسبة لمقتضى الحال وحول أركانه الأربعة تماثيل ضخمة تصور هيئة السفر والمقاومة والفوز وعقد الصلح، وفي بعض أعاليه رسوم بعضها يصور واقعة أبي قير أخرى تمثل استيلاء الفرنساوية على الإسكندرية، وقد تَقصَّدهُ ثوار الكرمون في سنة ١٨٧١، فوجهوا قنابلهم نحوه ووالوا إطلاق المدافع عليه ثلاثة أسابيع متوالية، كان عدد المقذوفات التي أصابته في كل يوم بالمتوسط ٩٠، فيكون مجموع ما أصابه من القلل ٢٠٠٠ بالتمام، ولكن القوم أعادوا ترميمه وإصلاحه بعد أن انطفأت نار هذه الثورة الشنيعة.

وفي يوم ٣١ مايو سنة ١٨٨٥ عرضت الدولة الفرنساوية تحت هذا القوس التابوت المحتوي على جسد الطيب الذكر فيكتور هوجو باحتفال جليل استمر ٢٤ ساعة.

وقد صَعَدتُ إلى أعلى هذا القوس، فاستغرق ذلك من وقتي ٨ دقائق ورأيت من فوقه منظرًا بهيجًا جدًّا؛ إذ إنني كنت في ميدان يصب فيه ١٢ دربًا سلطانيًّا محتوية على صفين من الأشجار، وخلفها المباني الفخيمة أو البساتين البديعة.

وقد سبق لي كلام وجيز على قوس فخار الكاروسل، فلا موجب لإعادته في هذا المقام وإنما أستعيضه بذكر برج القديس جاك، فإنه في وسط حديقة أنيقة في مركز ميدان الشاتليه (Cholelet).

وهو من أظرف الآثار القديمة الباقية في باريس، وفي أسفله جملة عِمدان في وسطها تمثال العلاَّمة المحقق باسكال، وفي قمته تمثال القديس المذكور. وارتفاع هذا البرج ٥٢ مترًا، وفيه بعض آلات فلكية خاصة بعلوم الآثار العلوية، وفيه غرفة يحضر إليها التلامذة لتعلم الرصد وما يتعلق به، وقد تناقل القوم أن العلامة باسكال جدد فيه تجاربه المتعلقة بمعرفة مقادير ضغط الهواء على البارومتر.

وأما الفساقي فهي كثيرة في باريس؛ منها: فسقية كوفييه العالم بالتاريخ الطبيعي صاحب الاكتشافات الكثيرة، ومخترع علم الكائنات الحفرية، وفوق هذه الفسقية تمثال من الحجر للتاريخ الطبيعي، ثم فسقية الشاتليه في مكان سجن كان هناك قديمًا، وهي في وسط الميدان المعروف بهذا الاسم الآن وعليها تماثيل للأمانة والقوَّة والقانون والتيقظ، ويندفع الماء إلى حوضها من أفواه أسفنكسات (أبو الهول)، وفوق الفسقية تمثال الانتصار وفي يده إكليل الفخار، ثم فسقية جرينل وفيها تمثال باريس، وهي جالسة في سفينة وتحت قدميها نهرا السين والمارن، وحولها تماثيل الفصول الأربعة والسفينتان اللتان هما شعار لها، ثم فسقية الأبرياء تحيط بها حديقة زهرية، وهي من أجمل الآثار التي يقصدها الزوَّار وعليها نقوش تمثل جنيَّات الماء في غاية الإبداع، وقد كانت أوَّلًا في سوق الفواكه، ثم نقلوها إلى محلها الآن حجرًا حجرًا، ثم فسقية لوفوا، وهي بناء أنيق أمام المكتبة الأهلية، وتحتوي على تماثيل متقنة تمثل الأنهار الأربعة التي في فرنسا تحمل الحوض العلوي الذي ينحدر منه الماء في الفسقية.

ثم فسقية موليير من الرخام الناصع، أقيمت بواسطة اكتتاب أهلي، وفي أعلاها تمثال هذا الشاعر المجيد وعلى يمينه ويساره تمثال الكوميديا الجدية والكوميديا الهزلية، ومعنى الكوميديا التشخيص المضحك. وهذه الفسقية أقيمت أمام البيت الذي مات فيه الرجل، وفسقية الرصدخانة، وهي عبارة عن حوض فيه ثمانية أفراس بحرية، وكلها من البرونز، وفي وسطها تمثال أقسام الدنيا الأربعة تعلوه كرة أرضية، ثم فسقية القديس جرجس وفيها تمثال الإيمان والرجاء والإحسان في المرمر، ثم فسقية سان سولبيس (St. Sulpice) في وسط الميدان الكائن أمام الكنيسة المعروفة بهذا الاسم، وحول هذه الفسقية تماثيل بوسوييه وفنلون وماسيلون وفليشييه، وهم من أكبر وعاظ الكنيسة وأشهر كتاب الفرنساوية، ثم فسقية الانتصار مزدانة بتماثيل الإيمان والتيقظ والقانون والقوَّة وفوق الجميع تمثال الانتصار مموَّه بماء الذهب.

وفي باريس فساقٍ أخرى مثل اللتين يزدان بهما ميدان الكونكورد (الائتلاف)، وإحداهما رمز للملاحة في النهر، والثانية للملاحة في البحر، ومثل اللتين في ميدان التياتر والفرنساوي وفسقية مدسيس ونوتردام والقديس ميشل (وقد كانت العمارة جارية فيها أثناء وجودي بباريس).

أما برج إيفل فقد طار خبره وعرف أمره وقدره، بحيث كان الواجب أن يهمل ذكره ولكنني أتحف القارئ بمعلومات جديدة، وأقص عليه شيئًا من التأثير الذي حصل لي أثناء ارتقائه في المصعد (Ascenseur)، والنزول على درج السلالم، ولا حاجة للإحاطة بأنه أعلى جميع الآثار التي شاهدها الإنسان في جميع الأزمان فوق سطح هذه الكرة الأرضية، وأنه يخترق كبد السحاب (من غير مجاز) بارتفاعه البالغ ٣٠٠ متر، وطالما كان المطر يتهاطل على أسافله وحواليه من غير أن يصيب الذين قد ارتقوا إلى ذروته، بحيث إنه لو كان فيهم ممدوح لصح لشاعره أن يقول إنه علا حقيقة على السحاب مثل ذلك الذي قيل فيه إنه علا في الحياة وفي الممات وعدوا له ذلك من المعجزات.

وفوق قمة هذا البرج قبة عليها فنار يبعث الضياء، فيبدد حجب الظلام بما يرسله من مختلف الألوان، بحسب ألواح الزجاج، ويمتد شعاع النور إلى مسافة قاصية وبعرض واسع، وأول ما رأيتُ الفنارَ وأنا فوق إحدى قناطر السين، رأيت مناشيره أشبه شيء بأجنحة طاحونة عظيمة يديرها الهواء بسرعة، وأما البرج فهو أشبه شيء بشمعدان هائل خصوصًا مع وجود النور في أعلاه، وهذا الشمعدان مرتكز على أربع قوائم مسافة الانفراج بين كل قائمة والثانية عند القاعدة ١٠٠ متر.

وكنت أثناء إقامتي بباريس أتربَّص في كل مصباح فرصة الصعود إلى هذا البرج الفريد؛ لأتمتع بما حوله من المناظر الرائقة، ولكن توالي احتجاب الشمس في أغلب الأيام كان يحول دون هذا المرام، حتى خشيت تعذُّر الحصول على هذه الأمنية لاقتراب ميعاد إقفاله، ولكن الله يَسَّر لي يومًا طلعت فيه الشمس ببهجتها، وأرسلت صافي أشعتها فبادرت إليه مسرعًا وأنا لا أصدِّق نفسي من شدة الفرح، وكنت كلما صعدت في طبقة أرى المدينة تنضم إلى بعضها، وتتقارب أبعادها وتتصاغر مسافاتها وتتلاقى أطرافها، فتبدو بكمال جمالها فرجة للناظرين، وبينها نهر السين كقناة طويلة يتصور الإنسان أنه يكفيه أقل وثوب للانتقال من أحد شطيها إلى الآخر، وعليها القناطر العديدة أشبه بخطوط كثيرة مستطيلة كأنها شريط رفيع من البناء، أو سلك رقيق من الحديد، وكانت برك الماء كدموع من مآقي المشتاق، وبعض بني الإنسان أشبه بالأزهار أو بتلك العرائس الصغيرة التي يتلاعب بها الصبايا والبعض الآخر كأنهم من قوم يأجوج ومأجوج، أو من أولئك الأقزام العائشين في أواسط أفريقية. وكانت باريس بازدحامها كقرية النمل أو خلية النحل.

وكنت كلما ارتقيت ازدادت أمامي بهجة الرياض الأنيقة والقصور الرشيقة المجاورة للبرج، مثل قصر التروكادير (Trocadero) وحديقة الشان دومارس (Champs de Mars) وفسقيته البديعة، وقبة القصر المركزي وفوقها تمثال الشهرة، ثم قبة رواق الآلات وقبة الأنفاليد والبانتيون، ثم تياترو الأوبرا وقصر الصناعة وعمود فاندوم وبرج كنيسة نوتردام، وفي أثناء ذلك كنت أسمع اعتراك الرياح في الصبا والجنوب، وتضارب تياراتها في القبول والدبور، فتحدث لها قرقعة كأشد ما يكون من تلاطم الأمواج في البحر العجاج، وبينما أنا غارق في هذه الأحوال نبهني بعض الذين صعدوا إلى صحيفة يكتب عليها الزائر اسمه، أو أي عبارة تخطر بباله، فأخذت القلم ورقَّمت ما أَمْلَتْ به عليَّ القريحة: لله درك يا إيفل! لقد برعت فيما أبدعت، ونبغت بما اخترعت، فعلوت بعقلك على سائر أبناء عصرك، كما ارتفع برجك إلى عنان السماء فائقًا جميع الآثار الشماء مفصحًا بكل لسان عن فضل الأمة الفرنساوية في ميدان العرفان.

ثم نزلت متمهلًا متأملًا وقد كبر الرجل في عيني أكثر مما كنت تصورته، خصوصًا بعد أن علمت أن الموسيو إيفل إذا جلس على كرسيه أمام مكتبته يكون ضغطه على الأرض أكثر من ضغط هذا البرج الهائل، وذلك أن قوة الضغط التي تحدث على الأرض إذا جلس على الكرسي (هو أو أي إنسان آخر) تكون باعتبار ثلاثة أو أربعة كيلوجرامات بالأقل عن كل سنتميتر مربع بخلاف البرج، فإن تأثيره على الأرض هو باعتبار كيلوجرامين اثنين فقط مع أنَّ ثقل البوية التي على جدرانه قد قدرها العلماء بنحو ٣٠ طونولاطة، وقرروا أن مجموع وزنه (من غير البوية) يعادل ٧ ملايين كيلوجرام، وقالوا إن الهواء الموجود في قصر الآلات يزن ربع هذا المقدار مع لطافته. فيا للعجب العجاب من غرائب الإحصاء والحساب!

ومما يجمل بنا ذكره في هذا المقام أنهم استخدموا هذا البرج لأمور كثيرة؛ مثل الأكل والشرب والتصوير والبيع، ونحو ذلك، وأنهم وضعوا فيه منذ سنة ١٨٩١ مانومترًا زئبقيًّا لقياس تمدد البخار، هو أكبر وأجسم ما ظهر في الوجود إلى هذا الزمان، وقد أعدوا في الصيف الماضي تياترو في إحدى طبقات هذا البرج، وكانوا يشخصون فيه رواية عنوانها (باريس في الهواء)، ومن المعلوم أن رجال الإفرنج يرفعون قبعاتهم أثناء التشخيص، ولكنه اتفق في بعض المرات وجود رجل لم يتبع هذه السنة، بل أبقى عُمارته على رأسه، فتذمر الحاضرون واعتبروا ذلك إهانةً منه وخروجًا عن حد الأدب، ثم طالبوه برفع القبعة فأبى، فجاء إليه مدير التياترو وأظهر له وجوب الامتثال، فما ازداد الرجل إلا عنادًا وإصرارًا بحيث لم يكن للمدير من واسطة سوى استدعاء رجال الشرطة وإخراج الرجل بالقوة، ولكنه تدبَّر وتمهَّل، ثم ذهب بجانب رئيس الموسيقى فهمس في أذنه بكلمة واحدة أجابه عليها صاحبه بعلامات الامتثال، ثم رفع عصاه فلحنت جوقة الموسيقى السلام الروسي، فكان الرجل أول من وقف ورفع قبعته إجلالًا وتعظيمًا ثم قال: (إن هذا خبث منك وكيد عظيم. إنني أخشى تيار الهواء في مثل هذا المكان وأفضِّل الانصراف على هذا الاضطرار.) ثم خرج وشكر الناس حِذْق المدير وفطانته في صرف هذا الحادث الذي أوجب لَغَطًا كثيرًا واضطرابًا شديدًا؛ وذلك لأن التقرب في هذه الأيام شديد وثيق فيما بين فرنسا وروسيا، ومتى سمع أحد الفرنساويين النشيد الروسي الوطني قابله بالإجلال في الحال، وكذلك الروس يكشفون الرءوس عندما يسمعون النشيد الفرنساوي، حتى إن رجلًا من محرري الجرائد في بطرسبرج واسمه برتوف حضر إلى باريس أثناء إقامتي بها ساعيًا على أقدامه ليس إلَّا في كل هذه المسافة التي يبلغ طولها ٩٥٠٠ كيلومتر فقط، وكان يمشي في اليوم الواحد ٣٠ أو ٤٠ كيلومترًا، وقد استغرقت هذه النزهة منه نحو ٨ شهور ونصف، ولما حلَّ بباريس كان آلاف كثيرة من الناس في انتظاره، فحياهم وحيوه ورحبوا به كثيرًّا وأطنبت الجرائد بمدحه.

وقد ظهرت في هذه الأيام الأخيرة جريدة اسمها (برج إيفل).

(٩) بستان النباتات

كان تأسيس هذا البستان في سنة ١٦٢٦ وافتتاحه للجمهور في عام ١٦٥٠، وهو ينقسم إلى أربعة أقسام: أوَّلها البستان، وثانيها مَرْبَى الحيوانات، وثالثها متحف التاريخ الطبيعي، ورابعها الأنبار (العنابر) الزجاجية المعدَّة لتربية نباتات البلاد الحارة. ومما يليق ذكره أن الإنسان إذا دخل من أكبر أبواب هذا البستان يرى أمامه ممشيين من الصفصاف غرسهما العلامة بوفون المشهور. وفي منتهي البستان توجد الدار التي مات فيها الرجل المذكور في يوم ١٦ أبريل سنة ١٧٨٨، وفي هذا البستان مدرسة لشجيرات الزخرفة، ومدرستان لأشجار الفاكهة إحداهما مخصصة للفاكهة ذات النواة، وأما الثانية فلأشجار الفاكهة ذات البزر، وفيها ١٨٠٠ نوع من أشجار الكمثرى، وهناك مجموعة أشجار مثمرة تحت الدرس والمطالعة، ومدرسة لعلم النبات تحتوي على أكثر من ١٣٠٠٠ نوع من النبات.

وأما مَرْبى الحيوانات ففيه ٢٢ مقصورة عليها أبواب من قضبان الحديد تسرح فيها الحيوانات الضارية والوحوش الكاسرة والطيور الجارحة، كالأسد والفهد والببر والفُرانق والنمر والدب والنسر والعقاب والرخ والكندور وغير ذلك، وفيها أصناف لا تحصى من الحيوانات المعروفة في بلادنا، والمجهولة لنا مثل الأيائل والوعول والأروية وتيوس الجبل والأثوار والأبقار والأغنام والماعز والجاموس ذي السنام والكنجورو والذئاب والضباع والحلاليف، وبنات آوى والعقبان والنسور وغير ذلك مما لا تمكن الإحاطة به مع تعدد أصناف النوع الواحد، وهناك قطعة مستديرة مغشاة بأسلاك الحديد تسمى قصر القردة فيه منها أجناس كثيرة بين كبيرة وصغيرة.

وأمام هذا القصر مستدير كبير ترى فيه الأفيال وأفراس البحر والكركدن وأصناف الهجين، وهناك تمر قناة من الماء تسبح فيها خلائق كثيرة من الطيور المائية، وبالقرب منها ترى حيوانات بحرية تسمى آساد الماء وبجانبها أبراج لأنواع كثيرة من الطيور ومرابٍ لأطيار الصيد المرغوبة مثل الصقور والبواشق والشواهين وغير ذلك، وهناك أصناف من الأيائل الخنزيرية التي توجد في بلاد الهند، وبالقرب من هذا المكان مربى أطيار الدج والقطا والحجل والفواخت والوُرق والورشان والشفاتن والطياهيج وغيرها، والطيور المغردة وأنواع الببغاء والطواويس.

وقد رأيت في كشك الزواحف أصنافًا كثيرة من الثعابين السامة وغير السامة، وعددًا عظيمًا من السلاحف والورل والضفادع والعلاجيم وأصناف التمساح التي اشتهر بها نيلنا السعيد، وحرم من رؤيتها المصريون فلا بد لهم من المجيء إلى باريس لرؤية هذا الحيوان المشهور حيًّا يرزق لا معلقًا على بعض البيوت لفائدة لم أقف عليها مع كثرة السؤال عنها،٤ وفي هذا الكشك أيضًا أصناف كثيرة من أسماك المياه العذبة.

ولا بد لنا من ذكر كلمتين أيضًا على رواق تطبيق التشريح وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، فإنه يحتوي على ٢٤٠٠٠ تجهيز وأكثر من ١٣٠٠٠ نموذج يختص أكثرها بدرس السلائل البشرية القديمة والحالية و٣٠٠٠ جمجمة و٢٠٠ هيكل عظمي وجملة قطع تتعلق بالإنسان الحفري (الذي وجد في الكائنات الحفرية).

وفي الدور الأول من هذا الرواق مجموعة وافرة من هياكل جميع الحيوانات، وغرف كثيرة مخصصة لدرس التشريح الإنساني، وفيها صور جميع الأجناس بحيث يتمكن الباحث من مقابلتها ببعضها، وهناك مجموعة كاملة من رءوس مصنوعة من الجبس يمكن لأهل علم الفراسة أن يطبقوا معارفهم عليها، أو يزيدوا في معلوماتهم بواسطتها، وخصوصًا أن القوم اعتنوا بتمثيل رءوس بعض المشاهير في ارتكاب الجرائم واقتراف الجنايات. وأمام باب هذا الرواق حُوت هائل طوله أربعة عشر مترًا (من الصنف المعروف بالهائشة) وهيكل عظمي وجماجم من أفراد هذا النوع. وسمعت أنه يوجد متحف لما قبل الطوفان غير أني لم يتيسر لي رؤيته مع كوني توجهت إلى هذا البستان ثلاث مرات في ثلاثة أيام، ولكن اتساعه وكثرة ما فيه من الغرائب حالا بيني وبين رؤيته بجميع أجزائه وتفاصيله. وقد رأيت هناك شيوخ البحر تسبح في برك من الماء ولها صيحة مزعجة، ورأيت أشجارًا لا تفارقها الخضرة على الدوام ولا حاجة لذكر العناية الزائدة التي تلاقيها نباتات البلاد الحارة في عنابر هذا البستان، فإنها فوق الوصف ولكن القوم لم يتمكنوا إلى الآن من تربية النخل المثمر، وإن كانوا توصلوا إلى حفظ كثير من أصناف النخيل الخاصة ببلاد الهند وأواسط أفريقيا.

وأما متحف التاريخ الطبيعي فيحتوي على شيء جسيم وعدد عظيم من الحيوانات الثديية الكبيرة وهياكل الحيتان (الهوائش) والآساد والأنمار والدباب والقرود والزواحف والطيور والأسماك والحيوانات الرخوة والحشرات، كل ذلك بهندام ونظام لا يمكنني أن أصوره للقارئ بأي حال، فإن وصف ما في هذا المتحف يستغرق مجلدات كثيرة وحياة علماء عديدين قد وقف كل واحد منهم نفسه على درس فرع صغير من فروع هذه الفنون.

وهناك أيضًا رواق كبير فيه مجموعات مشتبكة من الأحجار الضالة والنيازك والشهب الساقطة من السماء، ومجموعة فيها أنواع الطبقات التي تتركب منها قشرة الكرة الأرضية وصخور ومعادن وأحجار كريمة، ثم رواق النباتات وفيه تماثيل الفطر والكمأة (بنات الرعد) بالجبس ومجموعة من الفواكه الجافة والفواكه اللحمية، والأزهار محفوظة في الكؤل، ومن النباتات ٢٠٠٠٠ نوع وأكثر من ٥٠٠٠٠٠ عينة وكثير من أصناف النباتات الخضرية.

(١٠) المدارس والمحلات الخيرية والإعانات

رأيت كثيرًا من المدارس ووقفت على بعض أساليب التعليم، وأحطت بوسائل التقديم، وأرى الآن وجوب الاكتفاء بالكلام على مدرسة النظامات السياسية ومدرسة العميان، ومدرسة الخُرس عسى أن يكون لشرحي فائدة في بلادي.

أما مدرسة النظامات السياسية (Ecole des chartes)، فيتلقى الطلبة فيها كثيرًا من الفنون، أخصها علم أصول اللغة الرومانية واشتقاقاتها وعلم الكتب وتنظيم خزائنها وعلم السياسة وتاريخ النظامات السياسية والترتيبات الإدارية والقضائية في ديار فرنسا، ثم عيون التاريخ الفرنساوي وفن تنظيم أوراق المحفوظات، وتاريخ القانون المدني والكنائسي في القرون الوسطى وعلم الآثار (الأركيولوجيا) في القرون الوسطى.

وتفتح قاعات الدروس للطلبة من الساعة التاسعة الإفرنكية صباحًا إلى الساعة الرابعة أو الخامسة بعد الظهر بحسب اختلاف الفصول، ولا يتجاوز عددهم في السنة الواحدة ٢٠ تلميذًا، وينبغي أن يكونوا من الفرنساويين الحائزين شهادة البكالوريا في العلوم البالغين من العمر ٢٥ سنة كاملة بالأقل، ويلزم امتحانهم في الترجمة من وإلى اللغة اللاتينية من غير استعانة بأي معجم أو قاموس، وفي تاريخ فرنسا وجغرافيتها قبل أول القرن التاسع عشر، ومن يكون منهم عارفًا بالألمانية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو الطليانية يكون له فضل السبق على غيره عند تساوي الدرجات، وقد ترتب على إحداث هذه المدرسة فوائد جمة أؤجل تفصيلها إلى الرحلة إن شاء الله.

أما مدرسة العُميان فنظرًا لفوائدها الجمة خصوصًا في قطرنا المصري يجب عليَّ أن أتوسع في القول عليها قليلًا مدخرًا الإشباع إلى الرحلة.

يوجد في فرنسا ٣٢٠٠٠ أعمى لهم من المدارس الخاصة بهم نحو ٦٠ مدرسة، وأهم هذه المدارس وأكملها مدرسة شبان العميان الأهلية Ecole Nationale des Jeunesavergles الكائنة في باريس بدرب الأنفاليد، وقد كان تأسيسها على يد الفرنساوي فالنتين هاوي في سنة ١٧٨٤، وهي أول مدرسة ظهرت في الوجود من هذا القبيل، وربما كانت أفضل من كافة المدارس المماثلة لها وأحسنها نظامًا وترتيبًا، وفيها الآن ١٥٥ غلامًا و٨٠ فتاة، ومدة التدريس عشر سنوات تكون بين سن ١٠ و٢١ سنة، ويتلقون فيها علومًا عقلية وفنونًا حرفية.

فأما التعليم العقلي فهو ابتدائي وعالٍ، وقاعدة القراءة والكتابة فيها جارية على الأسلوب الذي ابتدعه الأعمى الفرنساوي براي في سنة ١٨٢٦، وهو عبارة عن رسم الحروف بنقط بارزة لا تزيد عن ستة عن أي حرف.

وأما التعليم الحرفي فيشمل الغزل والخراطة وعمل الكراسي وأشغال الإبرة والنسيج والموسيقى والألحان (وهذان الفنان قد بلغا الدرجة القصوى والمكانة العظمى، حتى لقد فاق تلميذان وتلميذة من المتخرجين بهذه المدرسة في امتحانات عمومية على كثيرين من المتمتعين بنور الباصرة).

ومساحة الأرض التي تشغلها هذه المدرسة هي ١١٨٠٠ متر، منها ٣٥٠٠ مشغولة بالمباني وفي فنائها تمثالُ مؤسسها وهو يحاول تعليم الأعمى، وللفتيات قسم منعزل تمام الانعزال عن قسم الفتيان، وللأساتذة غرف لسكناهم بالمدرسة فيها كل ما يحتاجون إليه، وهناك سقيفة كبيرة يتنزه التلاميذة تحتها، ويتفرغون للعب والرياضات أثناء اشتداد الأهوية ونزول المطر وتغير حالة الجو. أما نظام التهوئة وتدبير التدفئة ففي غاية من الكمال والموافقة في الغرف والفصول والمكاتب والورش والمآكل والعنابر (الأنبار)، وفيها بيعة صغيرة للطقوس الدينية، وحمامات فيها ٣٠ قسمًا، وفي كل قسم منها جهازات الدوش (صب الماء رشاشًا لإنعاش كافة الجسد)، بحيث يستحم كل تلميذ وتلميذة مرة واحدة في كل خمسة عشر يومًا بالأقل.

وفي المدرسة ورش للتعمير والتصليح والترميم خاصة بالآلات الموسيقية التي يستعملها التلامذة؛ ولذلك غايتان، أولاهما الاقتصاد، فلا تتكلف المدرسة نفقة ذلك في الخارج، والثانية تمرين التلامذة على إصلاح آلاتهم بأنفسهم وإضافة ما ينقصها وتعرُّف مواقع الخلل فيها حينما يسقط مسمار أو ينقطع وتر، وفي المدرسة مطبعة خاصة بها يطبع فيها التلامذة كتبًا كثيرة في فنون الآداب والموسيقى مما يحتاج إليه العميان.

وقد رأيت أيضًا مكتبة فيها ٢٥٠ مجلدًا بالنقط البارزة و١٦٠٠ من الكتب المطبوعة بالكيفية الاعتيادية، وهناك واعظ يقوم بإلقاء الدروس الدينية، وأما التلامذة الذين لا يدينون بالمذهب الكاثوليكي، بل بمذهب آخر معتبر في الحكومة، فتعليمهم يكون بحسب ديانتهم بعد الاتفاق على ذلك بين المدرسة وبين أهاليهم. وشئون الصحة منوطة بطبيب وحكيم أسنان موظفَيْن في المدرسة (وعند الاحتياج يستشار حكماء آخرون)، وطبيب عيون وجراح، ولا يقبل التلامذة إلا فيما بين السنة العاشرة والثالثة عشرة، وقد خرج منها كثير من النابغين الذين أعلوا قدرها وشرفوا ذكرها بما اكتسبوه من حسن الأحدُوثة، وما قاموا به من الخِدَم الجليلة.

فمنهم براي الذي أشرنا إليه قبلًا، ورودنباخ الذي كان أمينًا لإحدى مدائن البلجيكا، ونائبًا عن الأمة في مجلس النواب البلجيكي من سنة ١٨٣٢ إلى يوم وفاته في سنة ١٨٣٩، وبنجون الذي كان مدرسًا للعلوم الرياضية في مدرسة أنجي الشهيرة، وحائزًا لوسام اللجيون دونور من درجة شفالييه، ثم فوكو ذلك الميكانيكي البارع الذي اخترع جهازات كثيرة؛ لتسهيل المكاتبة بين العُميان والمبصرين، وجوتييه وروسل ولوبل وهم من أساتذة المدرسة قد صنفوا تلاحين موسيقية دينية وعمومية لها عند العارفين قيمة عظيمة، وغير هؤلاء عدد عظيم يضيق عن سرده المقام، ويوجد في فرنسا الآن أكثر من ٢٠٠ أعمى ينالون ربحًا واسعًا ورزقًا حلالًا طيبًا من صناعة البيانو، بل إن بعضهم يديرون مخازن بيع آلات البيانو أو اصطناعها.

وقد تأسست شركة مهمة لاستخدامهم ومعاونتهم والاهتمام بكل ما يتعلق بهم حسًّا ومعنًى وبسط لواء حمايتها ورعايتها عليهم في جميع الأحوال، وفي طول حياتهم ولا تطلب منهم في نظير ذلك سوى السير المحمود والإقبال على العمل بقدر ما تسمح لهم به حالتهم، وبلغت إيراداتها في آخر ديسمبر سنة ١٨٩١، ٣٢٣٣٥ من الفرنكات (نحو ١٢٩٣ جنيهًا ونصف تقريبًا) ومصروفاتها ٢١٥٧٩ من الفرنكات (نحو ٨٦٣ جنيهًا وربع تقريبًا)، والباقي في صندوقها ١٠٧٥٥ من الفرنكات (أي: قريبًا من ٤٣٠ جنيهًا وربع)، وأما رأس مالها فهو عبارة عن ١٨٥٤٦٩ من الفرنكات، وقد اتسع نطاقها وكثر عدد المشتركين فيها بالأقساط والتبرعات، حتى بلغ عددها ٨٥٠ شخصًا منهم ٢٨ من أكابر سيدات فرنسا، جُعلت الجمعية تحت حمايتهن و١٧٨ من السيدات و١٥٢ من العذارى و١١٤ من التلامذة الموجودين فيها لتلقي الدرس منهم ٤٠ فتاة.

وقد تأسست جمعية أخرى باسم فالنتين هاوي، غايتها تعليم العُميان الذين يعلمون وتشغيل العميان الذين لا يعلمون، ولها ثلاث جرائد خاصة بالعُميان الأولى (فالنتين هاواي)، وهي مجلة عمومية تبحث في جميع المسائل المتعلقة بالعميان، والثانية (لويس براي)، وهي جريدة تطبع بالحروف البارزة لكي يقرأها العميان، والثالثة (مجلة براي) مثل التي قبلها وتظهر في كل يوم أحد مشحونة بالمسائل الأدبية والعلمية والموسيقية، ولهذه الجمعية قاعة للخطابة يتباحثون فيها كل ما يهم العُميان، وتتبعها أيضًا مكتبة متنقلة تُعير العميان الكتب المطبوعة بالحروف البارزة؛ ليقرءوها في بيوتهم ويستفيدوا منها في أوقات فراغهم، ومن ملحقاتها المتحف، وقد تكلمت عليه بما فيه الكفاية والله ولي المحسنين.

أما مدرسة الخُرس فلا يدخلها غير الذكور، ومدة التعليم ثماني سنوات، فيتعلمون فيها زيادة عن المعارف الابتدائية أحد الفنون الآتية، وهي طبع الحجر (مع الكتابة والنقش على الحجر) ونقش الخشب وطبع الحروف والنجارة، واصطناع الأحذية وفن البساتين، وأما التعليم الديني فيقال عنه فيها كما قيل في مدرسة العميان. والغذاء مرتب بكيفية توافق الصم والخرس، ولهم حمامات بجهازات إيدروليكية وحوض للسباحة ومروج واسعة وصحون فسيحة، يلعبون فيها الجمباز ويتعودون على الرياضات الجسدية. وخلاصة القول أن المدرسة تُعنى عناية كُلية بتقوية أبدانهم وأمزجتهم، وفيها طبيب ومساعدان له وحكيم عيون وجراح عارف بفن الأسنان، ومستشفى يقوم بالخدمة فيه ممرضات حائزات للدبلومة.

وقد شاهدت التعليم حينما يجيء الطفل فيها أول سنة، ويترقى شيئًا فشيئًا بكيفية تدهش العقول، فإنهم منعوا استعمال الإشارات بالأصابع مرة واحدة، ولا يتجاسر أحد من الأساتذة أو التلامذة على إبداء أية إشارة ظاهرة أو خفية، وكل التعليم جارٍ فيها (وفي جميع مدارس أوروبا وأمريكا كما علمته) بواسطة النطق بالأصوات؛ ولذلك يجتهدون في تعليم الأخرس مخارج الحروف بغاية الدقة ونهاية الاعتناء، وقد تكلمت مع بعض الخرس فكانوا يجيبونني بالجواب المناسب، غير أنني في أول الأمر رفعت صوتي كثيرًا، فلم يفهمني الأخرس مطلقًا مع أنني رأيته يفهم ناظر المدرسة كأسرع ما يمكن بالنسبة لحالته، فتنكرت الأمر، وحينئذ دعاني الناظر لأن أخفض صوتي؛ (لأنني مهما بالغت في رفعه فلن يسمعني أبدًا)، وأن أكلمه وجهًا لوجه حتى ينظر حركات شفتي ولساني، فعلمت بما رسم وأجابني الأخرس على الوجه المرغوب، ثم إنني أمليت على جملة من التلامذة عبارة فرنساوية، فكتبوها بالضبط إلا واحد منهم أخطأ في حرف واحد؛ لتشابه المخارج ثم كتبوا اسمي واسم بلدي على التختة ولم يهملوا إلا حرف H المقابل للحاء في لفظة «أحمد» لعدم إمكان النطق به في الفرنساوية.

وأما الفنون الحرفية والصنائع اليدوية وحرث الأرض وغرسها، ففي درجة من التقدم يغبطهم عليها أكثر الناطقين بالضاد وبغير الضاد، وفي المدرسة متحف جليل يحتوي على جميع الطرق التي تؤدي لتعليم الأخرس، ورسوم ونقوش وتصاوير كثيرة من صنع الخرس، وقد كان لبعضها فوقان عند العارفين على ما صنعه كثير من الناطقين، ويقال إن هذا المتحف لا نظير له في البلاد الأخرى فإن الأب دولوبي (وهو أول من عني بتعليمهم) له أكثر من ١٠٠ قطعة تراه فيها مصورًا في جميع أحواله، وهناك عدد عظيم من التحف المتنوعة التي برع في إحداثها كثير من الصم البكم الذين نبغوا في جميع أنحاء العالم.

ومما ينبغي ذكره بوجه الإيجاز أن هذا المتحف يحتوي على رسوم الأماكن، التي استقرت بها هذه المدرسة قديمًا وحديثًا، ومناظر تصور هيئة أهم مدارس الخرس في فرنسا وفي الخارج، وصور الأب سيكار ومعلمي الخرس من الفرنساويين والأجانب، وكثير من أعاظم العالم الذين لهم دخل في تاريخ تعليم الخرس من مؤسسي المدارس ونظارها والمحسنين ومشاهير الكُتاب ورجال الحكومات وأهل السياسة، ثم أعمال الخرس في جميع العصور وعند جميع الأمم من مصورين ونقاشين ونحاتين ورسامين وطباعين وفوتوغرافيين ومهندسين، ثم صور كثير من مشاهير أرباب الفنون الخرس، ثم ميداليات ومسكوكات وكتابات بخط اليد وأشياء نادرة وغير ذلك مما يتعلق بهذه الطائفة.

وقد تألفت جمعية لتعضيد الخرس، ووافق أنها أثناء إقامتي في باريس أولمتْ وليمة فاخرة احتفالًا بحلول السنة المتممة للمائة وثمانين من يوم ميلاد الأب دولوبي. نعم، إني لم أحضر هذه الحفلة الغريبة الشائقة، ولكني لا أرى بأسًا من إفادة القارئ بما عَلمته عنها من الجرائد، وذلك أن المدعوين كانوا كثيرين، وكانت الحفلة تحت رياسة الموسيو كوشفر وهو من المهندسين الذين تخرجوا بهذه المدرسة، وبعد انقضاء الطعام وقف حضرة الرئيس يخطب في القوم … ببلاغة باهرة مستعينًا بالإيماء والإشارة، فإنه ألمَّ أحسن إلمام بذكر حياة الأب دولوبي، وسرد مآثره التي أفاضت الخيرات على جزء عظيم من بني الإنسان، ثم شكر الجمهورية الفرنساوية على مساعدتها في تحسين حال أمثاله، ثم ختم مقاله بإهداء ميدالية إلى أحد النقاشين البارعين من الخرس، وقدمها له باسم وزير التجارة والصناعة. ثم تلاه كثير من الخطباء الخرس، وكانوا كلهم يفيدون الحاضرين بإشارات ظاهرة مفهومة.

أما أماكن البر والإحسان واصطناع المعروف وإغاثة الملهوف، فهي أكثر من أن تعد ولها شئون كثيرة وفائدة عظمى؛ فمنها ما تساعد الأمهات لتمكنهن من إرضاع أطفالهن، أو فقراء المعتوهين الناقهين بعد خروجهم من البيمارستانات، أو تلتقط اليتامى إناثًا أو ذكور أو تتكفل بتعليمهم وتربيتهم في طريق الشرق والاستقامة، أو تعاون فقراء الإلزاسيين واللورانيين الذين تركوا وطنهم وآثروا الفقر مع بقاء الجنسية الفرنساوية لهم على الدخول تحت أحكام ألمانيا، أو تضم الأمهات الفقيرات، أو تضيف النساء والرجال الذين لا مأوى لهم بالليل، أو تتكفل بالفقراء من الرجال أو النساء إلى أن يجدوا لهم خدمة يتعيشون منها، أو بالنساء الحُبالى فقط أو الطاعنين في السن دون سواهم، أو لوصف الأدوية أو لتقديم الدواء، أو للوالدات بعد الولادة وهُنَّ في دور النقاهة، أو للفتيات بعد مرضهن، أو لتقديم الأشغال للخيَّاطات اللاتي ليس لهن خدمة، أو للتكفل بالأبناء حين اشتغال والديهم عنهم بسبب كسب القوت، أو لتطبيب الأطفال على العموم أو المصابين بداء مخصوص مثل الخنازيري والكَلَب أو الأدواء العضالة وغيرها، أو لاستخدام العذارى في مخازن التجارة، أو لاستخدام الفَعَلة والعَمَلة من الجنسين والكتَّاب والحسَّاب وغيرهما، أو لتعليم الزراعة، أو لتبني الأولاد ووضعهم في مرابي الأيتام، أو لاستخدام اليتامي والأولاد الذين تركهم أهلهم، أو لمساعدة العائلات، أو لتعليم الأطفال الفقراء حرفة الصياغة والجواهر والساعات، وغير ذلك من الفنون الحرفية.

ومنها للأغراب الأمريكانيين أو الإنجليز أو النمساويين أو المجريين أو الطليانيين أو البوبونيين (اللاهيين) أو السويسريين أو البلجيكيين أو جميع الأمم، أو لتقديم الخبز أو لتقديم صنف من الطعام أو لفقراء المرضى، أو لتعضيد التكايا، أو لقبول المعلمات اللاتي ليس لهن وظيفة يتعيَّشن منها، أو لفقراء الإسرائيليين، أو لتقديم الجهازات اللازمة لمن تقطع بعض أعضائهم، أو للولادة أو لتسهيل الزواج بحسب قواعد الدين، وإجراء المساعي اللازمة بين الطرفين، أو لتسهيل الزواج بالطريقة المدنية من غير توسط القسيس، وتقديم كل ما يلزم من الصكوك والأوراق مجانًا، والتكفل بإثبات نسب الأولاد وجعلهم شرعيين، أو لحماية الجنود البرية والبحرية الذين أحرزوا نشانات في وقائع التونكين، أو لمساعدة جرحى الجنود (وهذه الجمعية مركبة من النساء)، أو للذين كانوا في سلك الجندية وحازوا وسامات اللجيون دونور، أو الذين سبقت لهم الخدمة في الجيش.

ومنها لمساعدة عائلات وأرامل ضباط البرية والبحرية أو عمال الحكومة الذين تشابه وظائفهم وظائف الضباط، أو لترتيب معاشات للعسكرية، أو لحماية الذين يتطوعون في الخدمة العسكرية، أو لتخديم الشبان الذين يتخرجون ببعض المدارس، أو لإقراض عائلات العَمَلة المبالغ اللازمة (من غير فائدة) لاستخلاص الأشياء التي وضعوها في بنك الرهونات، ثم جاء الأجل ولم يتيسر لهم المال المطلوب، أو لدفع إيجار مساكن الفقراء، أو لإعادة الفقراء والمرضى إلى أوطانهم، أو لمساعدة المحتاجين من المشتغلين بحرفة سباق الخيول، أو لبذل الإعانة اللازمة في الحال، أو لمساعدة الذين يروحون شهداء تأدية الواجب.

(وقد أرسلت هذه الجمعية في شهر أكتوبر الماضي ٤٠٠ فرنك لشيخ إحدى البلاد ليوصلها لأرملة رئيس المحطة وقد دهسه الوابور، بينما كان يجتهد في إنقاذ امرأة ارتبكت على الشريط وقد أتى الوابور، و٣٠٠ فرنك لعائلة رجل مستخدم بالدخولية دهسته العربات، بينما كان يمانع تهريب بعض الأصناف، و٢٠٠ فرنك لرجل من بوليس باريس أصابته جراح بليغة، بينما كان يحاول توقيف خيول حرونة وقد وردت لها في الشهر المذكور وصية من زوجة أحد القضاة بمبلغ ١٥٠٠٠ فرنك، ووصية أخرى قدرها خمسون ألف فرنك من أحد النقاشين، وثالثة من إحدى العذارى وقدرها ٥٠٠٠ فرنك).

وهناك أيضًا جمعيات لا تدخل تحت حصر، فإني عددت الجمعيات التي وقفت على أسمائها وعنواناتها وبيان أعمالها، فإذا هي ٢٤٥ جمعية بعضها له فرعان وخمسة وعشرة بل خمسة وعشرون، وبعضها خاص بطائفة من الناس أو بدين مخصوص أو بجنسية واحدة أو بسن معين أو ببني الإنسان على العموم.

وفضلًا عن ذلك فإن الاكتتابات تراها في كل جرائدهم لأقل حادثة، مثال ذلك: أنني رأيت إعلانات من دار أمانة القسم الأول من باريس تدعو فيه أهل الخير لمد يد المساعدة إليها؛ لتعاون الفقراء على احتمال البرد وشدائده وتقول فيه إنها أنفقت في السنة الماضية الإعانات التي جمعتها من أرباب اليسار وقدرها ٢٠٠٠٠٠ فرنك، وأنت تعلم أن باريس تحتوي على ٢٠ قسمًا، ولا بد أنها كلها سارية على هذا المنوال.

ومثال ذلك: أنه لما أضرب العمال في مناجم الفحم الحجري بكارمو Carmaux عن العمل فتحت جريدة الإنترانسيجان اكتتابًا اشترك فيه كثير من الناس، وكنت أرى في أعمدتها أن فلانًا وفلانًا وفلانًا من الفَعَلة في كذا تبرعوا بمبلغ فرنك واحد، ولكنني ما كنت أستخف بذلك مثل أولئك الذين يحتقرون صغائر الأشياء، ولا يعلمون أنها أُس الاجتماع ومنبع العمران، ودليلي على ذلك أن الإنترانسيجان جمع من هذا الاكتتاب مبلغًا يزيد على ١٨٠٠٠ فرنك ثم إن المجلس البلدي في باريس أرسل لهؤلاء العَمَلة مبلغ ١٠٠٠٠ فرنك صفقة واحدة، وقد تواردت عليهم الإعانات من جميع الجهات ومن جميع الطوائف. ولا بد أن القارئ وقف في الجرائد السياسية على تفاصيل هذه الحادثة الهائلة التي اضطربت لها أساطين السياسة في فرنسا، وشغلت العالم بأسره؛ فلذلك لا أرى وجهًا للخوض فيها فضلًا عن أن شرحها يحتاج لوقت طويل.

ومثال ذلك أيضًا: الإعانات التي بادر أهل فرنسا على اختلاف طبقاتهم ومشاربهم بإرسالها إلى الجرحى من جنودهم في غزوة داهو ماي، فمن ذلك ما قرأته حينئذ في الجرائد أن المحفل الماسوني (إلزاس ولورين) قد أرسل لهم ٢٠٠ فرنك على يد وكيل وزارة المستعمرات، وأرسلت لهم جمعية نساء فرنسا وللجنود التي في التونكين ٣٧ صندوقًا فيها أصناف كثيرة من المأكولات والملبوسات وغير ذلك، واقتدت بها طوائف كثيرة في هذا السعي الحميد، ولكن جريدة الفيجارو فاقت الجميع، فإنها كتبت في يوم ٧ نوفمبر تستحث أهل البر، وخصوصًا كبراء التجار على المساعدة في اكتتاب لجنود داهو ماي، وقالت إنها تفتحه في ثاني يوم وتقفله في اليوم الثالث، وأن ذلك يستوجب التعجيل، ولم يرد اليوم الثالث وهو ٩ نوفمبر حتى كتبت تقول: «لقد أجيب نداؤنا بأكثر من جميع آمالنا، فقد اجتمع في مكتب الفيجارو وفي أقل من يومين ٢٢٠٠٠ زجاجة من نبيذ بوردو والشامبانيا والمياه المعدنية و٢٥٠٠ علبة من المربيات وأصناف المأكولات المحفوظة و٢٩٥٠ قطعة من مربعات الشكولاتة و٢٣٤٥٠ سجارة إفرنكية و٣٠٠٠ سجارة مصرية وأكثر من ١٠٠٠٠ صنف من الأصناف المتنوعة مثل شراب الروم والشارتروز، ومثل التابيوكا وغير ذلك مما سبق لنا سرده في العدد الماضي، وكان مبلغ النقود التي وردت لنا ٤٣٠٠٠ فرنك ونصفًا (١٧٢٠ جنيهًا تقريبًا في يومين اثنين خلاف الأصناف الأخرى)، وقد أقفلنا باب الاكتتاب.» ثم أوردت بيان الأصناف وأسماء المتبرعين، ولا فائدة في إحاطة القراء بذلك، فإن هذا الإقبال يُغني عن الشرح والبيان، ومثل ذلك فليتنافس المتنافسون.

ومثل ذلك: اهتمامهم بعائلات الذين ماتوا في حادثة انفجار الديناميت في شارع بونزانفان أثناء إقامتي في باريس، فكان رئيس الجمهورية أول من اهتم بشأنها، وقد أرسل مندوبًا من قِبَله ذهب إلى منزل كل واحدة من الأرامل وأعطاها إعانات من جيب رئيس الجمهورية الخصوصي، وأعلمها بأنه مشارك لها في أحزانها، ثم توجه الموسيو لوبي رئيس الوزراء حينئذ فزار كل واحدة منهن في مسكنها، وقدم لها مساعداته شخصيًّا ووعدهن بأن الحكومة تتكفل بالأرامل وتتعهَّد بتربية اليتامى، ثم جاء محافظ المدينة ووزع عليهن ٧٠٠٠ فرنك، ثم تعهدهن مرة ثانيةً وقَدَّم لهن ما ورد إليه برسمهن من لجنة مصانع الحديد في فرنسا، ولجنة مناجم الفحم الحجري، وقدم لهن أيضًا مبالغ جمعت في إحدى الولائم، وقد علمت أن مقدار ما أرسلته لجنة مناجم الفحم ٥٠٠٠ فرنك ووردت المساعدات من جميع أنحاء فرنسا بما يضيق عنه المقام، ثم تقرر ترتيب معاش لعائلات المصابين الذين كانوا في خدمة الحكومة يكون نصفه من ميزانية الحكومة والنصف الآخر من ميزانية مدينة باريس، وكان فيهم رجل من خُدامى القومبانية (التي قصد أصحاب الديناميت تدميرها)؛ فلذلك تقرر صرف المعاش لأرملته وأولاده باحتساب النصف على الحكومة والنصف الآخر على القومبانية المذكورة، وهي قومبانية معادن الفحم الحجري في كارمو.

وخلاصة القول أن تفننهم في وسائل الإعانة وإقبالهم عليها أمر يستغرق شرحه مجلدات ضافية الذيول، يدل على ذلك ما قدَّره أهل المعرفة من أن مبلغ الإعانات التي يبذلها أفراد الناس في باريس على حدتهم يزيد على ٢٥ مليونًا من الفرنكات في كل سنة (انظر جريدة الطان عدد ١١٥٤٨ من هذه السنة).

ومع كل هذا الاجتهاد فلا يزال بعض الناس يموتون فيها جوعًا، وإن كانت النسبة أقل بكثير مما في لوندرة، فقد رأيت في العدد ٣٧٠٠ من جريدة الغولوا جملة طويلة على الفاقة والخلو من العمل في باريس أقتطف منها بعض شذرات جديرة بالاعتبار.

قالت: إنه بحسب البيانات الرسمية والاستعلامات المؤكدة التي استحصلت عليها يتضح أن عدد العَمَلَة الذين منعتهم شدة الشتاء، ووقوف حركة الأشغال من كسب القوت يقرب من خمسين ألفًا، وإن طلبات الإعانة قد تواردت على مكاتب الإحسان العام بمقادير جسيمة أزيد من المعتاد، وإن هذه المكاتب تمد ساعد المساعدة لنحو ٩٢ أو ٩٣ ألفًا من المحتاجين، أو أنها تقوم بمعالجة نحو ٩٠ ألف مريض و١٩ ألف والدة في منازلهم، وأن عدد الملهوفين بحسب التعديل المتوسط سيزيد في هذا العام زيادة تذكر.

أما الملاجئ الليلية التي يلوذ بها الفقراء عديمو السكن فقد بلغ عدد الوارد على أحدها في كل يوم بالمتوسط ٢٠٠ رجل مع أنه لا يسع إلا ١٥٠، وكان عدد النساء أكثر بكثير مما قدِّر لهن، فإن الوارد منهن في اليوم الواحد بالمتوسط نحو ٥٠، مع أنه لا يسع إلا ١٥، وإن استمر الشتاء على شدته وكلبه كما هو المنظور يزداد عددهن أكثر من ذلك، وقد بلغ عدد النساء والأطفال الذين لجئوا إليه في العام الماضي ٣٦١٧ مضوا به ٩٦٥٧ ليلة، وفي جملتهن الخدامات والمعلمات والأبكار والأرامل وأمثالهن وغير ذلك. والمقرر في هذا الملجأ إعطاء الرجال كِسرة من الخبز في الليل وورقة للخباز لأخذ رغيف وقليل من المرق بالنهار، وأما النساء فلهن الخبز والمرق في نفس الملجأ. نعم، إن هذه الكسرة وهذا القليل من المرق أمر زهيد جدًّا لا يعتد به، ولكنه في الجملة تصل قيمته ٢٥ ألف فرنك، هذا فضلًا عن كون بعض معامل الصناعة في باريس تعهد بتقديم ٥٠٠٠ كيلو من الخبز في كل شتاء إلى هذا الملجأ احتسابًا لوجه الله تعالى ومعاونة له على أعماله الخيرية، وهذا الملجأ يوزع على أضيافه في كل عام من ٢٠ إلى ٢٤ ألف كسوة وقميص وجوراب وصدار وفستان وحذاء وغير ذلك، وإني لا أرى بعد ذلك كله حاجة للشرح والبيان، بل أحمد الله على حالة بلادنا وأهلها.

(١١) التياترات والملاهي والمنتزهات

أصبح التشخيص في باريس من الكماليات الحاجية التي لا غنى لأهلها عنها، حتى إن الرجل ليقتصد من مصرفه الضروري لتمضية الليلة في أحد التياترات، وكثيرًا ما تتكبد بعض العائلات نفقة باهظة جدًّا لقصر إحدى المقصورات بواسطة الاشتراك (وخصوصًا مقصورات الأوبرا) ليقال عنها إن لها مكانًا معينًا في هذا التياترو أو في ذلك المسرح؛ ولذلك لا يندر أن يحل موسم افتتاح التياترات الكبيرة وليس فيها محل خالٍ للإيجار، والأعظم من ذلك أن الأوبرا يؤجر أماكنه بالستة شهور، بل بالسنة الكاملة، ويخيل لي أن أغلب نساء هذه العائلات، إنما يحضُرن هذه الملاهي لعرض ملابسهن وإبداعهن في زخرفتها وزركشتها، ولاستجلاب العيون والعوينات نحوهن، لا لقصد سماع الأغاني والألحان أو شهود التشخيص والتمثيل، إذ إنهن يكن غالبًا في أثناء ذلك مشتغلات بإصلاح الفستان وهندمة دوائره ومستديراته، وتعديل الصدار وتنميق الوشاح والمخايلة بالمراوح ذات الألوان التي تأخذ بالأبصار، وتراهن عندما يستقر بهن المجلس يبتدئن بعد هذه الهندمات الضرورية لهن باستعمال النظارات المقربة المكبرة المجسِّمة لمراقبة بعضهن بعضًا، واستيقاف رائد الطرف نحو التي تجلت في جلباب الظرف وفاقت بحسب الشكل، وبرعت بجمال المنظر، ثم يرسلن اللحاظ الفاترة في بعض الفترات لرؤية الرجال وهم يرمقونهن على الدوام، حتى إذا جاءت ساعة التشخيص التفت هؤلاء إليه، وأقبل أولئك على شئونهن الأولى من إصلاح الملابس، والإتقان في التبرج والإغراب في البهرجة مع توالي النظر في المرايا أو المسامرة مع بعضهن ومبادلة أفكارهن فيما يتعلق بهن.

تلك يا صاح حالة التياترات على العموم والأوبرا على الخصوص، وصفتها كما رأيتها مقتديًا بعمرو بن العاص ذلك الصحابي الجليل، الذي مع قرب عهده بالبداوة لم يتحاشَ من قول الحق في رسالته المشهورة التي بعث بها إلى إمام المسلمين وأمير المؤمنين الخليفة عمر بن الخطاب — رضي الله عنهما وأرضاهما — حيث قال في عَرَض وصفه لمصر وأهلها: (ونساؤها طرب) ولم يؤاخذه الخليفة الراشد المشهور بالصرامة والجد والصلابة في الحق إلى آخر حد.

وقد اقتديت أيضًا بطارق بن زياد فاتح الأندلس، فإنه قد وصف نساءها حينما خطب في قومه يحرضهم على قتال رذريق ملك الأندلس، وأطنب في ذكر محاسنهن وجمالهن وغير ذلك مما تراه في خطبته التي أوردها صاحب «نفح الطيب» وجميع مؤرخي الأندلس، وقد تُرجمت إلى أغلب اللغات الإفرنجية.

وقد نحوت أيضًا نحو ذلك الرُّحَلَة المشهور بابن جبير، فإنه وصف نساء الإفرنج في صقلية وصَفًا مدققًا كما يعلمه من له اطلاع على كتابه المطبوع المتداول؛ وذلك لأن وظيفة السائح تقرير الحقائق كما هي وذكر الوقائع كما حصلت.

وفي أول ليلة توجهت إلى الأوبرا، ورأيت مقصورات الطرف في مقاصيرهن كأنهن كواكب السماء قد انتشرت أو أزهار البهاء قد انتثرت، حدثتني النفس بأن أصعد بعد تشخيص الفصل الأول إلى بهو الاستراحة البهيج لا لأسترق السمع، ولكن لأسترق البصر، فرأيتهن كلهن يصدق عليهن قول كَعب بن زهير في قصيدته التي مدح بها رسول الله :

هَيفاء مُقبلة عَجزاء مُدبرة
لا يشتكي قِصر منها ولا طُول

ومعلوم أن خاتم الأنبياء الذي بعث لتتميم مكارم الأخلاق أُعجب بهذه القصيدة إعجابًا لا مزيد عليه، ولم يَعب على قائلها وجود مثل هذا البيت فيها، بل نظر إلى مجموعها وما اشتملت عليه من الحِكم الباهرات، حتى إنه لم يكتفِ بحقن دم الشاعر بعد أن كان أهدره، بل خَلَع عليه بردته الشريفة، ولا عجب إذا حق للغريب المتلصص في هذه الحال أن ينشد قول من قال:

وإنك إن أرسلت طرفك رائدًا
لِقلبك يومًا أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كُله أنت قَادِرٌ
عليه ولا عن بعضه أنت صابر
والذي جرأني على الإتيان بهذا الوصف القليل هو ما جَريت عليه من الإحاطة ببعض أحوال باريس وأن لكل مقام مقالًا، فإن من أراد أن يُلم بشيء على التياترات في هذه البلاد لا يجوز له أن يَضِرب صفحًا عن ذكر النساء فيها؛ لأنهن حياتها وروحها ولولاهن لما كان لها ذكر ولا قامت لها قائمة، بل إن الرجل ليعتبر نفسه من أسعد السعداء إذا أصبح ورأى في الجرائد أن زوجته أو أخته أو ابنته، أو من تُنسب إليه هي التي كانت محط الأنظار، ومحل الإعجاب والاستحسان، فهذه هي عاداتهم وهذه هي أخلاقهم يشاركهم فيها عامة الأوروباويين تقريبًا (I’Opere) لم أرَ مندوحة عن الإلماع إليها.

أما التياترات في حد نفسها، فأهمها الأوبرا، وقد كان الاحتفال بافتتاحه في ١٧ يناير سنة ١٨٧٥ بعد أن استمرت العمارة فيه مدة ١٥ سنة وبلغت نفقاته ٦٥ مليونًا من الفرنكات، وبهو المتفرجين يسع ٣٢٠٠ شخص، أما ما فيه من المباني الجسيمة الفاخرة والرسوم الباهية الباهرة والصور الجليلة الجميلة والتماثيل المتُقنة المحكمة والنقوش المزخرفة والسلالم والقباب والثريات، وغير ذلك من الأمتعة الغالية العالية، فذلك بمقدار مبلغ النفقات وفي ذلك ما يغني عن الإفاضة.

ويجيء بعده التياترو الفرنساوي أو الكوميدية الفرنساوية (Comédie Le Francaise)، وقد كان تشييده في سنة ١٧٨٢، ويحتوي على كثير من آثار الفنون المستظرفة ويعتبره الفرنساوية فخرًا قائمًا لهم، وإن الروايات التي تشخص به مسبوكة في أحسن قالب وأكمل ذوق، ولكن الرواية التي شهدتها لا تشهد بذلك وإن كان مؤلفها من أكبر أكابرهم، وهو ابن ألكساندر دوماس ومن أعضاء الأكاديمية الفرنساوية، فإنها عبارة عن امرأة تحققت خيانة زوجها لها فاستعملت كل الوسائل في إرجاعه عن جهله، ولم تنجح فاضطرت ذات ليلة لاقتفاء أثره في الباللو ثم في المواخير وقلدته في جميع أعماله، ثم أخبرته بذلك بتفصيل وتدقيق أثبتت له حضورها في المكان الذي كان فيه متخذةً لها صاحبًا حيثما اتفق من الشبان، إلى غير ذلك مما لا يساعدني القلم على كتابته، وإن كانت في آخر الأمر أثبتت براعتها بقولها عن الشاب المذكور: (لقد كذب)؛ فإنها طلبت من زوجها أن يستعلم منه بطريقة خفية، فأخبره بما يؤكد الظن والريبة. وإنني أدع الآن تفصيل أفكاري في هذا الموضوع إلى الرحلة، وإنما أقول إن أغلب الروايات التي تشخص في فرنسا، بل وفي أوروبا، يكاد يكون الغرض منها تعليم النساء الحِيل والمكايد، مع أنهن بنات بجدتها! وسأقيم البراهين على ذلك بتلخيص بعض الروايات التي يزدحم عليها القوم، ولا ازدحام على القِصاع.

وكذلك أقول عن جميع التياترات التي زرتها ما عدا الأوبرا في قليل من الأحيان وتياترو الشاتليه غالبًا، فإنه مخصص للقطع التاريخية، ومما يستحق الذكر في هذا التياترو الأخير أن عدد الراقصات فيه يبلغ ٢٠٠ عدا المشخصات والمشخصين.

واعلم أنه يوجد في بعض التياترات نظارات موضوعة في ظهور الكراسي بكيفية ميكانيكية لطيفة، بحيث إن غطاءها ينفتح بمجرد وضع نصف فرنك في فتحة فيها، وبعد تمام التشخيص يعيدها المتفرج لمكانها.

ومن أغرب ما يتعلق بالتياترات تلك الآلة الكهربائية المسماة بالتياترو فون (أي سماعة التياترو)، وبيان ذلك أن لأغلب الجرائد المهمة قاعات فسيحة يسمونها قاعة التلغراف، ولكنها أشبه شيء بمعرض للصور والرسوم وبعض المصنوعات الدقية اللطيفة وغير ذلك من مستظرف الآلات ومستحدث البدع، فتوجهت إلى كثير منها ورأيت فيها شيئًا شبيهًا بالتلفون، وفيه فوهة مخصوصة يضع الإنسان فيها نصف فرنك أو فرنكًا بحسب المدة التي يريدها، ثم يضع السماعات على أذنيه، فيسمع التشخيص بغاية الوضاحة كأنه حاضر في أحسن محل بالتياترو، ويسمع الغناء بصوت صريح، ويقف على جميع الأقوال التي يتبادلها المشخصون أثناء التمثيل مما قد لا يسمعه إذا كان جالسًا في الصف الخامس من المتفرجين، ولكن هذه الآلة لا تُمكِّن المستمع بها من سماع التصفيق أو الموسيقى أو غير ذلك مما لا يتعلق بالتشخيص مباشرة؛ لأنها مدبرة بحيث تنقل كل صوت يقع في نفس المسرح الذي يقف عليه المشخصون دون سواه، وقد حضرت بهذه الكيفية قطعًا كثيرة من بعض الروايات التي أعرفها، إذ كنت كل ليلة أتوجه إلى قاعة التلغرافات في جريدة غير قاعة جريدة الأمس.

أما قهاوي المغاني وأماكن الرقص وما يشابهها مما يدخل في هذا الموضوع، فهي أكثر من أن يتصورها الإنسان، وكلها في كل ليلة تكون غاصة بالجماهير المجمهرة والعوالم المتقاطرة.

أما المنتزهات والمسابقات على الخيول والعربات والأقدام والعجيلات المفردة والثنائية والثلاثية (السيكلت والبيسكل والتريسكل) وقبقاب الزحلقة على الثلج الطبيعي والصناعي والسباحة والملاحة والصيد والقنص والرماية، ومرائي العالم (صندوق الدنيا أو البانوراما)، فقد تفننوا وتنمقوا فيها إلى درجة قاصية، حتى إن جرائدهم تخصص لذلك كله أعمدة طويلة في كل يوم، بل إن لكل نوع منها جريدة أو أكثر خاصة به ومنتدى (كلوب) يجمع أهله، وكثيرًا ما تكون مسابقاتهم على الأقدام أو العجيلات المفردة من مدينة إلى مدينة أخرى بعيدتين عن بعضهما بمسافات كبيرة، وقد يشاركهم كثير من النساء في هذه المسابقات، ويفزن في غالب الأحوال بقصب السبق في هذه المضامير المتنوعة المتعددة.

ومن شدة غرامهم بالزحلقة على الثلج أحدثوا في الصيف الماضي قبل رجوعي إلى باريس بقليل مكانًا سموه «القطب الشمالي»، وأحضروا له من آلات التبريد والتثليج (مثل الآلات المعروفة في مصر المعدة لاصطناع الثلج) ما فيه الكفاية لتجميد الماء، وإيجاد الثلج الصناعي بكمية وافرة وحجم سميك يُمكن المولعين بهذا النوع من الرياضة من قضاء مآربهم في غير فصل الشتاء. وقد نال هذا المحل إقبالًا عظيمًا جدًّا مع ارتفاع أثمان الدخول وتأجير القبقاب وتناول المشروبات وغير ذلك، وهذا أكبر دليل على أن القوم لم يقدروا على كتمان اشتياقهم لهذه المسابقة إلى أن يحل أوانها، حتى إنني لم أرَ بُدًّا من زيارته في بعض الليالي حُبًّا للاستطلاع والوقوف على حركته وكيفية إدارته.

فتوجَّهت أولًا إلى الحمام التركي (وهو على طرز الحمامات العمومية في مصر لا يفترق عنها إلا بفرط نظافته ووجود المرشات الباردة وبرك السباحة وكمال المعدات)، وقد رأيت في جملة المكبِّسين الإفرنج الذين به رجلًا من الإسكندريين اسمه حسن قد فارق ديار مصر مع عائلة أمريكانية منذ ١٨ سنة، ثم انفصل من هذه العائلة واستقر في باريس يكسب قوته بكده وسعيه.

وبعد الحمام انتقلت إلى القطب الشمالي، فإذا هو مكان فسيح جدًّا فيه صور ورسوم تصور هيئة القطب الشمالي وثلوجه ونباتاته وسُحبه وكواكبه وغير ذلك، ورأيت الآلات وكيفية إدارتها، ووقفت على سير هذه المصلحة المستجدة بالتفصيل، وعرفت أسرارها مما سأخلده بالبيان الشافي في الرحلة إن شاء الله، وقد هزني الشوق إلى مجاراتهم ووطء الثلج بتلك الأقدام المصرية التي لم يُتح لها قط فرصة مثل هذه في وادي النيل السعيد، فاتخذت أستاذًا يسندني، وكنت أُحس بالبرد في أقدامي والخجل في نفسي من رؤية الغِلمان والفتيان والبنات والعذارى يتسابقون كالريح الهبوب، ويرقصون على هذه المرآة الصقيلة رقصًا موزونًا مع نغمات الموسيقى وإيقاعاتها، ومنهم من كان يرسم دوائر كبيرة ثم صغيرة فأصغر، وهكذا حتى يصل إلى نقطة المركز، ومنهم من … كان يقع على قطبه الجنوبي … في هذا القطب الشمالي … وأنا في خلال ذلك أنقل رِجلًا بعد أن أتحقق من ثبات الأخرى مع التوثق من استنادي على أستاذي، كأنني طفل قد ابتدأ في التخطي أو فيل جسيم يسير بكل تؤدة على حافة هاوية عميقة أو على شفا جرف هار، وفي أثناء ذلك أخبرني الأستاذ بأن جماعة من الإفرنج عزموا على إيجاد محل نظير القطب الشمالي في مصر القاهرة بدلًا من المكان المصفح بالقار والأسفلت المعروف باسم (كيروسكيتنج رنك)، فقلت في نفسي: لقد صدق من قال إن هؤلاء القوم لا يمتنع عليهم شيء من مستصعبات الطبيعة (لأن عقلهم في كفهم).

(١٢) التماثيل والميادين والزهريات المربعة (الإسكوير) والأرصفة والقناطر

تجلت مدينة باريس مثل أكثر المدائن الأوروباوية بتماثيل كثيرة لأعظم رجالها، ولا أذكر الآن ما في داخل القصور والنظارات والمصالح العمومية الأميرية وديار البلدية والمتاحف، وغرف الجمعيات العلمية والصناعية والتجارية وغير ذلك من دور العامة والخاصة، وإنما أذكر ما رأيته في بعض الشوارع والميادين.

فمن ذلك: تمثال الجمهورية وتحت أقدامها غضنفر يحمي كأس الانتخابات العمومية، وعلى قاعدة التمثال رسوم بارزة تمثل أهم أعمال الجمهورية الأولى والثانية والثالثة في فرنسا، وتماثيل الحرية والمساواة والإخاء، وارتفاع هذا الأثر ٢١ مترًا، ثم تمثال الملك هنري الرابع، وتاريخه مشهور خصوصًا في تودده للأمة وتقربه من الأهالي، حتى إنه حينما كان غائبًا عن باريس وتمرد عليه أهلها ورفعوا لواء العصيان لبعض أمور دينية رجع إليهم وحاصرهم وضيَّق عليهم الحصار، ولما عَلم بشدة الضنك الذي صاروا إليه أخذ يرسل إليهم الخبز من فوق الأسوار مع استمراره على الحصار، وكان يقول: إنني لا أريد أن أتملكهم بالجوع فذلك مما تأباه الشهامة والفروسية.٥

ثم تمثال الجمهورية أمام قصر جمعية المعارف، وتمثال الفتاة جان دارك المشهورة بإخراج الإنكليز من فرنسا، وتمثال لويس الرابع عشر ملك فرنسا المشهور، وتمثالين لفولتير، وتمثال لكلود برنار، وآخر لدانتي الشاعر الطلياني المُخلد الذكر، ولويس بلان الكاتب الطائر الصيت خصوصًا بتواريخه على ثورات فرنسا، وشارلمان الملك، وديدرو من أكبر فلاسفتهم ورأس المؤلفين للموسوعات الفرنساوية، وبيرانجية صاحب التلاحين والأغاني التي يكاد يحفظها كل فرد منهم، وألكساندر دوماس صاحب الروايات العديدة المترجم بعضها إلى اللغة العربية، وجان جاك روسو ذلك الفيلسوف العظيم الذي كان له يد طولى في تثقيف عقول الأمة وتنوير الأذهان، وشاكسبير شاعر الإنكليز وفيلسوفهم صاحب رواية كيلوبطرة ملكة مصر، وقد بلغ فيها نهاية الإجادة، ولامرتين ذلك الشاعر المُفلِق والكاتب المجيد، وكثيرًا ما كتب على المشرق ومصر والدولة العلية خصوصًا كتابات تسحر العقول وتخلب الألباب، وقد تولى رياسة الجمهورية، وتمثال دانتون المشهور الذي حَرك ساكن الوطنية في قلوب قومه بخطبه الرنانة ومقالاته المأثورة، ومن أهم كلماته قوله: (لكي نقهر عدو الوطن يلزمُنا الإقدام ثم الإقدام وعلى الدوام الإقدام.) وهي بلغتهم في نهايات الفصاحة مع بساطة الشكل كالسهل الممتنع عندنا. وتمثال الأب دولوبي (ذي الحسام)، وهو أول من عني بتعليم الخرس، وقد سبق لنا ذكره، ثم تمثال الرياضي المحقق والطبيعي المدقق العلامة باسكال، وقد أشرنا إليه فيما سبق.

وهناك تماثيل كثيرة لعظمائهم يضيق عن سردها المقام، والذي يستحق التخصيص الآن هو تمثال رجل كان جاويشًا في غزوة التونكين، واسمه الجاويش بوبيللو، وليس في فرنسا كلها تمثال لصف ضابط سواه، وسبب عناية القوم به لهذه الدرجة واكتتابهم في جميع أطراف فرنسا لجمع المال اللازم لتشييد هذا الأثر أن الجنود الفرنساوية حاصرهم أهل التونكين في غابة كثيفة، وأوشكوا على إبادتهم عن آخرهم لولا وجود هذا الرجل؛ فإنه تعرض لهم وفدى قومه بنفسه؛ إذ شاغل التونكينيين بثبات جاش وجراءة حتى تيسر لقومه وجود مخرج من هذه الورطة، وقد قُتل الرجل في هذه الواقعة بعد أن أبلى في أعدائه بلاءً حسنًا.

وبهذه المناسبة أذكر ما رأيته في تورينو والشيء بالشيء يذكر؛ رأيت في أحسن ميادينها تمثال رجل من أفراد العساكر (نفَر) لم يحرز أدنى رتبة، فتعجبت من هذه الحفاوة به واستفهمت عن السبب؟! فقيل لي: إنه أنقذ المدينة بأسرها من أعدائها وفدى بلاده بنفسه، وذلك أنه لما كانت الحرب بين النمساويين والطليانيين اتفق أن أهل أوستريا فازوا على أهل تورينو وألزموا جنودهم الفرار واحتلوا قلعتهم، فلكي ينتقم هذا الجندي من أعدائه ويأخذ بثأر وطنه اختبأ في مخزن البارود (الجَبَخَانة) ثم أولع فيه النار فطارت القلعة بمن فيها، وهلك هو وجميع الجنود النمساويين، وقد كانوا اعتقلوا بها، وكان الرجل أول من مات ولكنه أنقذ حياة بني وطنه أجمعين.

أما الميادين في باريس فكلها في غاية الجمال ونهاية النظافة تحفُّ بها المباني الخطيرة والقصور الجسيمة ويبلغ عددها نحو الستين، ولكني بالمقابلة وحفظ النسبة أقول: إن الميادين العمومية في فلورانسة أكثر منها في باريس، وقد رأيت أيضًا كثيرًا من الزهريات المربعة (واسمها بالإفرنجية سكوير لفظ إنكليزي؛ لأنها من خصوصيات المدائن الإنكليزية)، ولها في مصر نظائر مثل التي في رحبة عابدين والعتبة الخضراء وميدان الأوبرا وغير ذلك، وكلها مزدانة بالتماثيل والفساقي والأزهار والشجيرات الغريبة والأعشاب النضيرة، وهي مَحط العناية التامة من ديوان البلدية؛ لأنها تساعد مثل الميادين على إصلاح الهواء، وترويح النفوس، وعددها ٢٥ زهرية.

أما الأرصفة والقناطر التي على نهر السين فهي من أهم المنتزهات، وجميع الأرصفة مبنية بحجر الدستور، ولها برازيق ودرابزونات عليها كثير من صناديق الخشب هي مخازن لبائعي الكتب القديمة، ومتسوقي كتب (اللُّقطة)، ولقد استغرقت مني هذه الأرصفة ساعات طويلة في أغلب أيامي، واشتريت منها كتبًا كثيرة بأثمان زهيدة. وعدد الأرصفة ٣٦، وأغلبها عليه أشجار ظليلة، وأما القناطر فعدتها ٢٨ ومنها ما هو مبني بالحجر، ومنها ما هو مُركب من الحديد، وعلى بعضها تماثيل فوق سطحها أو على أساطينها. ومن المعلوم أن نهر السين يخترق باريس كهيئة قوس يبلغ طوله ١٢٠٠٠ متر إلا قليلًا، فتكون المسافة المتوسطة بين كل قنطرة والثانية نحو ٤٦٧ مترًا تقريبًا، وأحسن وقت لرؤية هذه القناطر هو الليل؛ إذ تكون مضاءة هي والأرصفة بالمصابيح المختلفة الألوان، وترسل النور على صفحات النهر فتكون كذهب الأصيل على لجين الماء.

(١٣) المطبعة الأهلية وبنك فرنسا وبنك الرهونات

لا يمكن زيارة هذه المطبعة إلا في يوم الخميس الساعة ٦ بعد الظهر بالضبط بعد الاستحصال على تذكرة خصوصية من المدير. وإذا حضر الزائر بعد الميقات المحدد لا يجوز له الدخول. وقد طفتها ورأيت أعمالها الجسيمة وعمالها العديدين الذين يزيدون على ١٢٠٠ ذكورًا وإناثًا، يقومون بكافة ما تستلزمه صناعات الكُتب من سبك الحروف إلى تجليد الكتاب ونَقش الفوتوغرافية والرسوم على الأحجار، وفي المطبعة ٢٨٨ نوعًا من الحروف منها ١٥٣ خاصة باللغات الأجنبية وبواسطتها يتيسر لها طبع كتب بثمانية وخمسين لسانًا شرقيًّا، وقد ظهر فيها من الكتب والرسائل العربية أصلًا وترجمة ما يكاد يكون مجهولًا في بلادنا، وفي فنائها تمثال لجوتنبرج مخترع الطبع.

أما بنك فرنسا فيكاد يضارع مثيله في إنجلترا، ولقراطيسه ثقة عامة في جميع أنحاء المسكونة، وقد تزيد قيمتها في بلاد كثيرة من أوروبا وأمريكا. ومن أهم ما يستوقف الأنظار به بهو الذهب، وهو عبارة عن قاعة طويلة مزخرفة بنقوش مذهَّبة وأخشاب مصنوعة بإتقان وإجادة، وقد كانت بالقصر الذي هو فيه الآن أيام كان سكنًا لبعض أفراد العائلة الملوكية، فأبقاها البنك على حالها، بل أجرى فيها ترميمات تزيد نفقتها عن المليونين من الفرنكات، وهي معدة لاجتماع المساهمين في بعض أيام من السنة فقط.

أما بنك الرهونات فتعريب اسمه الفرنساوي هو (جبل التقوى)، وله فروع ونظائر في جميع أقطار الأرض، وفي اسمه العربي دلالة كافية على ما يتعاطاه من الأعمال، وفي كل سنة يباشر جردًا عموميًّا على الأمتعة والجواهر والسندات والقراطيس المالية والمرهونة فيه منذ سنوات عديدة، وفي هذه السنة حصلت هذه العملية المهمة. ومن جملة الغرائب التي تدونت في قائمة الجرد ستارة مضى عليها فيه اثنتان وعشرون سنة، وصاحبها يجدد الرهن في كل سنة، وهذا الأمر ليس في شيء من الغرابة، بجانب مطرية مرهونة فيه منذ سنة ١٨٤٩ على مبلغ ٦ فرنكات، وقد أربت فوائد هذا المبلغ على ثلاثين فرنكًا! فتأمل.

(١٤) الأسواق والمطاعم ومعارض الصناعة والزراعة ونحو ذلك

أسواق المؤنة المركزية في هذه المدينة تشغل مسطحًا من الأرض قدره ٧٠٠٠٠ متر مربعًا، وقد كان وضع أول حجر منها في سنة ١٨٥١، وهي عبارة عن كشكات من الحديد ليس إلا، يعلوها سطح من التوتيا وتحتها سراديب فيها مخازن وسكة حديدية ستتصل عما قليل بسكة حزام العاصمة، وفي كل كشك ٥٢٠ دكانًا، وعدد الكشكات الموجودة الآن ١٠، وقد قدروا نفقات هذا العمل الجسيم بستين مليون من الفرنكات، واستخدموا الكهرباء في إضاءتها بالليل منذ سنة ١٨٩١. ويوجد في جميع أقسام باريس أسواق مؤنة ثانوية منظمة على نسق الأسواق المركزية، وأحسن وقت لزيارتها ورؤية حركتها هو وقت التمون؛ أي في بَكرة النهار قبل طلوع الشمس. وأضف إلى ذلك أسواق الأزهار وهي تزيد على الخمسة، وأسواق الأطيار، وسوق الكلاب، وسوق الجلود، وسوق الخيول، وسوق العلف، وسوق البهائم (وله اتصال بالمذابح)، وسوق التميل (الهيكل) وهو في يد قومبانية ومسطحه ١٤١١٠ أمتار، وفيه ٢٤٠ دكانًا تباع فيها جميع الأصناف.

أما المطاعم المعروفة باللوكاندات فهي كثيرة جدًّا، ومنها ما يكون الأكل فيه بثمن محدود أو بحسب قيمة كل صنف على حدته، ومنها ما قد تبلغ الغدوة والعَشوة فيه ثلاثين وأربعين وخمسين ومائة فرنك، ومنها ما لا تتجاوز الأكلة فيه ثلاثة فرنكات أو اثنين، بل أقل من ذلك. وأغلبها مزخرفة مضاءة بالكهرباء، وفي كثير منها خلايات منعزلة خصوصية، ومنها ما هو مخصص لِصنف واحد من المأكولات، وبعضها يكون مفتوحًا طول الليل وغير ذلك، وأغلب القهاوي ومشارب الجعَّة (البيراريات) والخمارات تقدم الزاد لمن أراد.

والذي ينبغي ذكره بنوع التخصيص في هذا الباب وهو مطاعم دوفال، فقد بلغني أن هذا الرجل كان قصابًا (جزارًا) ثم كانت تتأخر عنده اللحوم، فيبيعها بأبخس الأثمان أو لا يجد لتصريفها من سبيل، فخطر على باله أن يتخذ مطعمًا يشوي فيه هذه اللحوم ويبيعها بثمن بخس للآكلين، فشرع في العمل وأقبل عليه الدهر فتوسع في هذا الموضوع حتى صارت مطاعمه مقصودة من العامة والخاصة يتقاطر عليها الأكابر والأصاغر، وذلك لبخس الأثمان وزيادة العناية وجودة المأكولات مع زخرفة الأماكن وإضاءتها بالكهرباء، وإدارة هذه المطاعم الآن في يد قومبانية من المساهمين، وقد بلغ عددها في أول يناير سنة ١٨٩٢ ٢٦، خلاف فندقين كبيرين وخلاف المخازن العمومية ومعمل الفطير والمغسل ومخازن الأنبذة، وعددها أربعة منها واحد في بوردو (Bardeaux)، وخلاف دكاكين الجزارة في ثلاثة شوارع، وإذا توجه الإنسان إلى مطعم من هذه المطاعم في وقت الظهر أو بعد المغرب رأى منظرًا غريبًا؛ إذ يرى كتائب الخادمين مسرعين مهرولين وجيوش الآكلين متشدقين ماضغين بَالِعِين مع المواظبة على الشراب الحلال والحرام والداخلين أكثر من الخارجين، ويكون المكان بهذه الخلائق المتموجة أشبه بأحد شوارع لوندرة.

وعلى ذكر لوندرة أقول: إنني أتعجب كل العجب من عدم مجيء هذه الفكرة لرجل من أبناء بريطانيا العظمى، فإنها أشبه بما صنعه كوك وهويتلي وغيرهما، والأغرب من ذلك أنه لم يقم الآن رجل من الإنكليز بعمل يضارع هذه المطاعم في «موسوعات الدنيا»، بل قد نسجت قومبانية باريسية أخرى على منوال دوفال وأنشأت أربعة مطاعم وفندقًا بقهوة ومطعم في أهم شوارع باريس ودروبها، وهي وإن كانت في درجة من الرفاهية وحسن الحال، لكنها لا تضاهي نجاح مطاعم دوفال، والعادة في هذا النوع من المطاعم أن يعطي للإنسان عند دخوله قائمة مطبوعة فيها الأثمان فقط، ومتى طلب صنفًا أشَّر الخادم أمام الثمن المقرر له حتى إذا فرغ الآكل توجه بهذه القائمة إلى أمين الصندوق ونقده المطلوب، ثم ردها عند الخروج للعامل الذي أعطاها له عند الدخول.

أما معارض الصناعة فلها فيما أرى غايتان؛ أولاهما تنشيط الصُناع وحثهم على التفنن والاختراع، وثانيتهما تعريف الأهالي بما ينجم عن ذلك من الفائدة والاقتصاد، والحصول على أمور قد تطلبها النفس من غير أن يقدر اللسان على التعبير عنها لعدم سابقة العلم بها؛ ولذلك أنشأت مدينة باريس كشكًا على حافة نهر السين يُعرف باسمها، وتأتي الجمعيات الحرفية والطوائف الصناعية لعرض مصنوعاتها فيه، والمباراة لحيازة شهادات الشرف ووسامات الافتخار من أعضاء مجلس المحلفين الخبيرين المعينين لكل نوع.

واتفق أنه في أثناء وجودي بباريس كان الدور لمتعاطي صناعة لحم الخنزير، فتوجهت إلى الكشك حُبًّا للاستطلاع، ورأيت فيها الموسيقى العسكرية تصدح بألحانها المطربة وأعمال الصُنَّاع معروضة على النظار بتأنق وتجمل، بحيث كانت تستوجب إعجاب القوم وتستدعي شهيتهم فينظرون إليها نظرًا متواليًا، ويبلعون ريقهم ثم يقصدون الحانات فيتعاطون المشروبات، فكأنهم حينما أطربتهم نغمات الموسيقى تصوروا أنهم أكلوا من هذا الصنف المستطاب لهم، ورأوا من الواجب إتمام القصف بمعاقرة بنت الكرم. وسأتكلم فيما بعد على هذا المعرض بتفصيل يُشفي الغليل.

ثم جاء الدور للطحانين، فافتُتح مؤتمرهم باحتفال عظيم كان رئيسه وزير التجارة، ومعه كثير من كبار الموظفين في نظارته ورئيس جمعية الطحانين بفرنسا، ثم معرض جمعية المشتغلين بتربية الأزهار، ثم معرض دولي للأطيار، ثم غير ذلك من المعارض التي لا يسعني سردها الآن، وكلها تتجدد في كل عام زيادة في التفنن والإغراب، وكل واحد من هذه المعارض يبتدئ باحتفالات باهرة وينتهي بولائم فاخرة.

(١٥) ضواحي باريس

لا تخلو عاصمة من ضواحٍ يقصدها أهل الثروة وطالبو النزهة لترويح النفس من ضوضاء المدائن الكبيرة، ولكني لم أزر من ضواحي باريس سوى فنسن (Vincent) وفرساي (Versaille). فأما مدينة فنسن (وسكانها ٢٢٢٧٨) فما تستحق الذكر لولا الغابة الجميلة التي بها والقلعة المهمة المنيعة المعروفة باسمها، وقد زرت هذه القلعة بتصريح خصوصي، ورأيت غرف التعذيب وآلات العذاب والمكان الشاهق الذي هرب منه الدوك دوبرفور، وقناة السين التي كانت ترمى بها جثة المُعذب بعد أن يسقى كأس الحمام، وغرفة سُجن بها أحد القساوسة ٧ سنوات، وأخرى اعتُقل فيها أحد الكرادلة ٧ شهور، ولكن ذلك كله أصبح أثرًا بعد عين، وصار كأداة ملغاة لا عمل لها، حتى إنهم سَدوا فوهة البئر الموصل لقناة السين، وقد يبلغ غلظ الحائط في أعالي هذه القلعة ثلاثة أمتار، ورأيت خزائن السلاح ولكنها لبست شيئًا مذكورًا بجانب ما رأيته في برج لوندرة وحصن دوفر من أعمال إنجلترا، وأما الغابة ومنتزهاتها وبحيراتها وجزائرها وخلاويها، فسأتكلم عليها في الرحلة مع الإلماع بشيء إلى غابة بولونيا والبوت شومون وغير ذلك.

أما قصر فرساي فقد كان مقر ملوك فرنسا، وهو في منتهى الجلالة والفخامة، بحيث لا يكاد يعادله شيء مما رأيته، وقد حوى صور جميع ملوك فرنسا ومشاهيرها على الجدران والرخام والقماش وغير ذلك، بغاية الإبداع ونهاية الإتقان، ومن أراد أن يقف على تاريخ فرنسا في سويعات قليلة فما عليه إلا أن ينظر الرسوم التي ازدانت بها غُرَفه، فإنه يرى فيها جميع وقائعها وأعمالها وكل ما يتعلق بتواريخها. ومما استوقف أنظاري بنوع خصوصي صورة الشيخ السادات والسيد البكري والشيخ الشرقاوي، وغيرهم من أكابر مصر أيام دخلها بونابرت، وقد رأيت أسرَّة ملوك فرنسا وأثاثاتهم وأمتعتهم الخاصة بشئونهم الداخلية، ورسومًا تمثل الحروب الصليبية وحروب أفريقية والقِرم وإيطاليا وغير ذلك مما لا يدخل تحت حصر، وأحفظ لنفسي حق الكَلام عليه وعلى الروض الأنيق والفساقي البديعة، وعربات الملوك التي بقصر آخر بجواره يعرف ﺑ (التريانون)، وغير ذلك مما يضيق عنه نطاق هذه الأوراق.

(١٦) أهل باريس

أُفٍّ لَكِ يا باريس وأَلف أُفٍّ! فقد أعياني فيك الوصف، واضطرتني كثرة ما فيك من المآثر والمفاخر وتعدد المشاهد والمعاهد للإطالة في المقالة بما ربما يوجب الملالة والكلالة، مع أني لم أغترف للقارئ إلا قطرة من بَحرك ولم أروِّحه إلا بنفحة من زهرك، ولا يزال مجال الكتابة واسعًا أمامي فسيحًا لجولان أقلامي، ولكنني لا أرى مندوحة عن إقفاله الآن لافتتاحه بعد القفول إلى الأوطان، وأختم هذه الرسالة بذكر كلمات عن أَهلك وأخلاقهم وحركتهم ونشاطهم وأفكارهم وآرائهم، فقد آن لي أن أقدمهم إلى بني مصر بناءً على ما حُققته بالاختبار، وعرفته بعد بعض المعاشرة، حتى إنني لا أرى وصفًا يصدق عليهم أكثر مما قاله أحد ولاة قرطبة في أيام الإسلام بعد أن تخلى عن إدارتها، فإنه وصف أهلها بالقيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضا بأمورهم «كالجمل إن خَفَّفت عنه الحمل صَاح وإن أثقلته به صَاح، فلا يدري أين رضاه!» وفي ذلك دليل على أن أفراد الإنسان مهما كانت بلادهم قاصية وعاداتهم متباينة وطبائعهم متخالفة، وأقاليمهم متنوعة ومعتقداتهم متباعدة، فلا تزال في أفكارهم وحدة تجمعهم وفي نفوسهم حاجات مشتركة بينهم.

وأهل باريس أكثر من رأيتهم من الأمم نظرًا في الفَرق الحاصل بين أفراد الهيئة الاجتماعية، فإنهم يرون الوضيعين كثيرين والرفيعين قليلين والواصلين إلى ذروة النعيم عددهم أقل من القليل، فيقولون: لِمَ هذا الاختلاف ونحن كلنا متساوون وأبناء نوع واحد تجمعنا راية الجمهورية، وقد كُتبت عليها هذه الكلمات (حرية – مساواة – إخاء)؟

ولما انتشر التعليم فيما بينهم ونفذت أشعته بين لفيف المتناولين الحِرف الدنيئة منهم تَصور هؤلاء الأفراد أنهم يعرفون أكثر مما يعلمون، وصَاروا لا يقيسون أنفسهم بمن هو أعلم منهم، بل ينظرون إلى من هم أحط في الدرجة، فداخلهم الإعجاب بنفوسهم، حتى خَيَّلت لهم الخُيلاء أنهم أهل للكلام في كل موضوع، وأن لهم الحق في الحَل والعقد في جميع المسائل على اختلاف طبقاتها، وأخذوا يجاهرون باللوم والتأنيب ويقولون إنهم لو كانت الأمور بأيديهم لكانت مساعيهم أحمد عاقبة وأعمالهم أتم فائدة؛ ولذلك تشعَّبت أفكارهم وكثرت مقالاتهم في حل المسألة الاجتماعية وترتيب نظام الجمعية البشرية على أسلوب يفي بجمع الحاجات، فيقول فريق منهم: (إننا لا نطلب شيئًا ما من أحد ما، ولا حاجة لنا بكائن من كان، فلماذا لا يتركنا الغير نعيش ممتعين بالحرية راتعين في بحبوحة الاستقلال؟ أليس من المستغربات إلزامنا بدفع الضرائب والغرامات من المال الذي جمعناه بكَدِّنا وسَعْينا بحجة القيام بنفقات يسمونها عمومية وهي لا تهمنا ولا تعنينا؟ أليس إن ما نكسبه بعرق جبيننا ملك حلال لنا، فلماذا يضطرنا الغير لبذله في إغناء الغير؟)

ويقوم فريق آخر يعضده ويقول: (ليت شعري هل كُتب علينا التعب والنصب لأجل أن نحمل ثمرة أتعابنا إلى مأمور التحصيل لإغناء المميزين وهم عدد قليل؟! لعمري إنه لا حاجة لنا في أن يتحلى رئيس الشرطة وصاحب العَسس بأشرطة من القصب والذهب، أو أن يكون لحضرة المدير عربات تجرها الجياد الصافنات.)

فيقوم فريق آخر ويقول: (إنني أُكثر الندب على المال، فإنه لا مِراء أن رئيس الشرطة وصاحب العسس لا يمكنهما أن يتفرغا للزراعة والصناعة، بينما هما آخذان في تعقب اللصوص وقطع دابر قطاع الطريق؛ ولذلك فإنه ينبغي لنا أن نكسوهم، ومن رأيي أن شرائط القصب والذهب ليست من الزيادات والنوافل؛ لأنها تُحدث الهيبة، ولا ألوم المدير على اتخاذ الخيول، فإنه يجب عليه قطع المسافات الطويلة لتفقد أحوال مديريته، ولكن الذي لا يمكنني أن أتحمله أو أرضى به هو أن القوم يفدون علينا في كل عام، وينتزعون منا زهرة الشبان ليدخلوهم في سلك الأجناد والأعوان … الله الله! أليس من أشنع الأمور وأبشع الأعمال سوق أولئك الفتيان إلى سوق المذبحة الذي يسمونه بالحرب، فلماذا نحارب ولماذا نضارب؟ أليس إن الأولى أن نلبث في ديارنا بسلام وأمان منقطعين لحرث الأرض وحمل المحصول إلى السوق ومعاملة كافة الناس بالتي هي أحسن؟)

فيقوم فريق آخر ويقول: (نِعمت هذه الأفكار! ويا حبذا هذا الرأي لو كانت الناس كُلهم عُقلاء وقائمين برفع منار العدل فيما بينهم! قولوا الحق، أفلو اعتدى جاركم على قيراط من أرضكم أما تقوم القيامة؟ لعمري إنكم تُشرِعون الأسنة وتشهرون السيف البتار، وتفضي بكم الحال إلى إهراق الدماء. ألا نعمت الحِرفة حِرفة الجندي يذود عن حِياض وطنه، ويحمي أهل بلده، فإن ذلك من أوجب الواجبات؛ إذ من المنازعات ما لا يُجدي فيها المكالمة، بل الملاكمة، ومنها ما لا ينجح فيها المدافع إلا إذا صاح بأفواه المدافع).

ثم تتشعب أفكار كل فريق ويستحسن بعضهم ما يقبحه الآخر، ويأتي هذا ببعض التعديل وذاك بشيء من التبديل.

ولهم مثل ذلك فيما يتعلق بالنواب عن البلاد، فيقول بعضهم: (إنني لا أرى الفائدة التي تعود علينا من اختبار رجل يذهب إلى مجلس النواب؛ لينوب عنا وليشتغل بمصالح البلاد، وذلك لوجوه أقلها أننا نجري في هذا الانتخاب كالعميان الذين لا يهتدون إلى الطريق، فإن القوم يقولون لنا هذا الرجل يصلح وذلك الرجل لا يصلح، ونحن نجهل حقيقة الاثنين في أغلب الأحوال، وكل منهما يشنف أسماعنا بما يخرجه من وطابه من مستعذب المقال، ويعدُنا بأنه يوصلنا إلى تمام السعادة، ولكن أين منا الماهر الذي يقدر على تمييز البواطن من الظواهر، وتعرُّف الخبيث من الطيب؟ فإني إذا توجهت إلى السوق أقدر على تمييز الحبوب الجيدة والأثمار الصالحة، ولكنني أقول الحق إنني في اختيار النائب لا أعرف ماذا أنا صانع، ولا أقدر أن أحكم عليه مثل حكمي على غيره من الأشياء التي لي بها تمام الخبرة، فإن حضرة شيخ البلد «أمين المدينة» يوزع علينا قوائم الانتخاب ويقول لنا إن فلانًا هو الحائز لكافة الأوصاف اللازمة وينبغي انتخابه، فمن رأيي أن ينفرد أمناء المدن بعملية الانتخاب لأن رأيهم هو الغالب، وحينئذ يتم هذا الأمر في وقت قصير وفي اختصار الزمن فائدة عظيمة).

فيقول فريق آخر: (متى عجز الإنسان لأي سبب من الأسباب عن مباشرة شئونه بنفسه، فالواجب عليه أن ينيط واحدًا غيره يختاره لها، فإذا لم يكن عنده من المعلومات ما يكفي لهذا الانتخاب، يجب عليه الاسترشاد برأي حكيم ناصح يثق بقوله ويعول على رأيه، وحينئذ يكون له يد في إدارة أحوال بلاده ويداخله السرور بأن له كلمة معدودة وصوتًا معتبرًا.) فيقول فريق آخر: (كل ذلك حسن، ولكني أرى أن أمور البلاد وإدارة شئونها تصلح كثيرًّا إذا كانت في يد رجل واحد يحكمها بحسب ما أوتي من الحكمة، فإنه متى كان الحاكم واحدًا كانت مصلحته الشخصية أكبر قاضٍ عليه في إدارة الأمة على أكمل منوال حتى يتقرب منها ويتحبب إليها، ومن المقرر الذي لا يختلف فيه اثنان غرق السفينة التي فيها ريسان، وقد رأيت في بعض الأيام عربة يجرها ستة من الأفراس ارتبكت في طريق كثر رحله ووعثه فتقدم لإنقاذها كثير من الناس، فكان بعضهم يدفع العربة ذات اليمين، وآخر ذات اليسار وبعضهم يشدها من الخلف، بينما نفر يجرونها من الأمام، ويجيء جماعة فيفوقون السياط على الخيول وهي لا تزداد إلا حَرنًا وتعاصيًا، وفي أثناء ذلك تزداد العربة غوصًا في الوحل وارتطامًا، ولما رأى سائق العربة هذه الحالة أبعد جميع هؤلاء الناصحين الغير ناصحين، ووصف خيوله بجانب بعضها ثم استوى على كرسيه، وهمهم على الخيل من غير أن يرفع عليها سوطه، فعرفت صوته وجمعت قواها ثم نهضت بحملها الثقيل نهضة واحدة استخلصت العربة من الأوحال، وسارت تركض بها في أحسن حال فهكذا تكون إدارة الأعمال.)

فيقوم فريق آخر ويقول: (إنما أفلح سائق العربة لمهارته وحسن إدارته ومعرفته بمهنته؛ ولأن خيوله كانت قادرة على جر حملها وإلا فلو كان فوق طاقتها لما قدرت أن تقوم به أبدًا، ولكن الرجل لو كان غير كفء لوظيفته لا شك أنه كان يعتبر نفسه سعيدًا من وجود ناصحين له صادقين في خدمته يعاونونه على الخروج من مثل هذه الورطة بسلام، بل ربما كان يشكر العناية الصمدانية إذا كانت تقبض له في مثل هذه الحال رجلًا أقدر منه على قيادة العربة وخيولها، حتى يُلقى إليه بالزمام ويتعلم منه كيف تكون الإدارة في المسالك الحرجة والمواقف الوعرة، ولو كانت خيله لا قِبَل لها بجر العربة فهل كان يرفض نصيحة العقلاء الذين يشيرون عليه بتخفيف الحمل أو تمهيد الطريق أمام العجلات وإزالة ما يعترضها من الأحجار والموانع الأخرى؟ فلذلك لا ينبغي الاستخفاف بالمشورة، فإن من انفرد برأيه زل ومن استغنى بعقله ضل، وما خاب من استخار ولا ندم من استشار.)

هذا مثال من ألف مثال مما رأيته من حركة الأفكار، ولا أود الإطالة بشرح أفكار القوم في المسألة الاجتماعية، وهيجانهم إلى درجة لا يتصورها العقل، وسأشرح ذلك في الرحلة بالتفصيل وأُطلع قومي على غرائب هؤلاء الأقوام. والله المستعان.

هوامش

(١) يعرف الآن باسم ميدان النجمة – شارل دي جول Plece de èetoilè-Charles de Gaule.
(٢) قال في القاموس في مادة (د ش ن) ما نصه: «الدشن يعنون به الثوب الجديد لم يلبس والدار الجديدة لم تسكن.» وجاء اللسان بعبارة أوضح وهي: «الداشن معرب من الدشن، وهو كلام عراقي وليس من كلام أهل البادية، كأنهم يعنون به الثوب الجديد لم يلبس أو الدار الجديدة لم تسكن ولا استعملت.» ا.ﻫ. وعندي التدشين أقرب الألفاظ العربية وأولاها لترجمة Inauguration التي شاعت ترجمتها بلفظة «افتتاح» أو «احتفال»؛ لأن معناها الابتداء للمرة الأولى في عرض أثر من الآثار أو عمارة أو محل مهما كان نوعه على الأنظار، مثل تمثال أو ترعة أو خط حديدي أو عمود أو مدرسة أو غير ذلك، وإباحته لاستعمال العامة، وفي ذلك قرب تام للدار الجديدة لم تسكن ولا استعملت. وقد يستعمل المسيحيون لفظة «تكريس» فيما يتعلق بالكنائس والمعابد وما أشبهها وهي مقلوبة من كلمة إفرنكية Sacre؛ أي تقديس، وربما كان لها أصل في اللغة العربية، قال في القاموس: «والتكريس تأسيس البناء.» وقال في اللسان: «وتكرس أس البناء صلب واشتد … اجعل لهذا الحائط كرسيًّا؛ أي اجعل له ما يعمده ويمسكه … وكل ما جمع بعضه فوق بعض فقد كرس وتكرس».
(٣) الفيلسوف والمفكر المعروف إرنست رينان Ernest Renon.
(٤) ربما كان ذلك من باب التيمن بحصول الخصب والبركة، كما هو الشأن في نهر النيل بالنسبة لقُطر مصر السعيد، فإن التمساح أخص حيوانات النيل المبارك؛ لأنه امتاز به على سائر الأنهار تقريبًا وبه يرمز إليه عند أرباب الصنائع والفنون من القدماء والمحدثين. وربما كانت هذه العادة بقية آثار الجاهلية المصرية والفراعنة الأولين، فإن هذا الحيوان كان من أقدس المعبودات في قسم كبير من وادي النيل.
(٥) الأبلغ من ذلك في الشهامة والكرامة والمروءة والإنسانية ما سبق إليه العرب أهل النخوة والنجدة قبل هذا الملك الفرنساوي بسنين وقرون، فقد روى ثقات المؤرخين عن قبيلتَي الأوس والخزرج (الأنصار فيما بعد)، وهم أعز الناس أنفسًا وأشرفهم هممًا لم يؤدوا إتاوة قط إلى أحد من الملوك، أنَّ تُبعًا الأكبر المعروف بأبي كَرب كاتبهم يستدعيهم إلى طاعته، ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم، فكتبوا إليه:
العبد تبعكم يريد قتالنا
ومكانه بالمنزل المتذلل
إنا أناس لا ينام بأرضنا
عض الرسول ببظر أم المرسل
فغزاهم أبو كرب فكانوا يحاربونه بالنهار ويقرونه بالليل. فقال أبو كرب: ما رأيت قومًا أكرم من هؤلاء يحاربوننا بالنهار ويُخرجون لنا العشاء بالليل، ارتحلوا عنهم. (انظر صحيفة ٥٥ من الجزء الثاني من العقد الفريد لابن عبد ربه طبعه بولاق سنة ١٢٩٣). وأبلغ من هذا وذاك ما وقع من رجل وحده لكتيبة تحاربه؛ فقد جاء في الأنباء الصادقة أن تُبعًا الأخير، وهو أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميري، خرج من اليمن يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل، فمر بالمدينة وخلف بها ابنًا له، ثم ذهب إلى الشام فالعراق، وهناك بلغه قتل ابنه غيلة بالمدينة، فكرَّ راجعًا وقد أقسم بخراب المدينة وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرية، ثم أرسل إلى أشراف المدينة وفيهم أُحيحة بن الجلاح (والأحيحة في اللغة الغيظ وخرازة الغم، والجُلاح السيل الجراف)، فلما تقابل الجماعة مع الملك لم يفطن أحد منهم لمقاصده السيئة نحوهم سوى أحيحة، فذهب وتحصن في حصن له وأرسل الملك بالليل فقتل القوم كلهم وجرد كتيبة من خيلة لطلبه فحاصروه ثلاثًا، فكان يقاتلهم فيرميهم بالنبل والحجارة نهارًا ويرميهم بالتمر ليلًا، فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبع فقالوا له: تبعثنا إلى رجل يقاتلنا بالنهار ويضيفنا بالليل! فتركه وأمرهم أن يحرقوا نخله. (انظر حديث الرجل في صحيفة ١١٩ من الجزء الثالث عشر من كتاب الأغاني المطبوعة في بولاق سنة ١٢٨٥، وفي صحيفة ٢٣ من الجزء الثاني من خزانة الأدب للبغدادي المطبوعة في بولاق سنة ١٢٩٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤