الرسالة الرابعة

مدينة فلورانسة

لولا وجوب الوجود بلندرة في يوم موعود وميقات محدود لحضور احتفال مشهود والاشتراك في مؤتمر معدود، لأطلت المقام برياض رومة الغناء، وأكثرت من التجوال في ساحاتها الفيحاء، ولكني تزودت من شميم عرارها، وتشبعت من محاسن آثارها، فودعتها بالعين والنفس متطلعة إليها والقلب شغف بها، ورددت الدعاء لدولتها بالثروة واليسار، وما ركبت القطار حتى بادرت فأعقبت ذلك بالدعوات الصالحات المستجابات لوطني وخلَّاني وأهلي ونفسي؛ وذلك لأنه خيل لي أن الدعاء مقبول في هذه الأقطار؛ لأني ما خرجت منها إلا بعد أن التزمت بالمساعدة على إنماء ماليتها (وأول ما يجني على المرء اجتهاده).

فإن عمال المحطة قالوا لا بد من دفع أجرة النقل على الشنطات الأربع التي مع رفيقي ومعي، فأفهمت ناظر المحطة ما وقع ببرندزي، ثم بنابولي من أخذ الأجر في الأولى على ثنتين، ثم في الثانية على ثلاث، فقال: إن هذه الشنطات تزيد طولًا وعرضًا في القياس عما يبيحه القانون لأفراد الناس. فأخذ العجب مني كل مأخذ، إذ لم يكن لي ذلك في حساب، وقلت: لعل القوم لا يعرفون الهندزة وقد أتقنوا المتوالية العددية من علم الحساب، فتوليت الدفع في المدينة الثالثة من إيطاليا على الشنطات الأربع، ووطنت نفسي على اتباع هذه الخطة في كل محطة حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.

ثم سار بنا القطار يجوب البلاد جوبًا وينهب الأرض نهبًا، إلى أن بلغ بنا مدينة فلورانسة المصطلح على تسميتها عند أهلها بمدينة فيرنتزا التي تكلم عليها الشريف الإدريسي في نزهة المشتاق، وسماها فلرنسة من غير إشباع (كما نفعل نحن اليوم تقربًا من اللفظ الإفرنجي)، فنزلنا فندقًا لبثنا فيه ريثما استرحنا ونفضنا غبار السفر (هذه العبارة من باب المجاز لوجهين: الأول أن سفرنا كان بالليل، والثاني أن السكة الحديدية في إيطاليا لا تثير قط عِثْيَرًا مهما كانت سرعة القطار؛ لأن المصلحة معتنية كل الاعتناء بوضع الزلط والحصباء على طول الطريق، فهي نِعمة للمسافر تمتعه بما يبدو أمامه من المناظر من غير أن يخشى ضررًا ما على النواظر)، وبعد ذلك خرجنا لنروِّح الرُّوح بأرواح ريحان هذه المدينة، وننزه الطرف في طرقها القديمة وطرفها الثمينة.

فأخذنا عربة قلنا لسائقها أن يدلنا على دليل خبير فخيَّرَنا بين شاب وشيخ كبير، وقال لنا: إن الثاني أفضل لمعرفته بالمدينة وطول ممارسته لهذه الصناعة، فاخترناه على بركة الله راجين منه الإفادة بالدلالة اللفظية والمعنوية. ولكن وقار الشيب كان مستوليًا عليه أكثر من دلالة اللزوم حتى ألزمه السكوت والسكون، فكان جالسًا أمامنا كأنه ثالثنا … بل رابعنا (بحساب العربجي) يُجيل ناظره ذات الشمال وذات اليمين، يتأمل ويتفكر تشبهًا بالمتصوفين أو المتفلسفين، ولا يجيب عن أسئلتنا المتعددة إلا بما فيه قليل الفائدة، فأسفنا على اختيار الاختيار، ورجعنا على أنفسنا بالملامة ولات حين ندامة، ولكنا تسلينا أملًا بأن غيرنا يكون له خير موعظة بما جرى لنا والعاقل من اتعظ بغيره.

أما المدينة فلها من الداخل منظر بعيد عن الرشاقة مجرد من الملاحة؛ لأنك ترى القصور القديمة فيها شاهقة متواصلة، والعمائر الجسيمة شامخة هائلة وعليها من الرزانة جلباب، ومن الجمودة والجفوة أثواب، ليست قائمة من الخارج على أعمدة ولا بواكي مُعقدة، ولا أمامها أشجار نضرة أو خضرة مزدهرة حتى تروق خاطر الخُطار وتقر ناظر النُّظار، فهي بالمعاقل والمحاصن أشبه منها بأماكن المساكن، شادها سادات المدينة وأشرافها في القرون الوسطى للتحرز بها والالتجاء إليها.

ولكنك إذا سرت بعيدًا عن سرة المدينة سُررت برؤية الرياض الأريضة، والجنات الطويلة العريضة، والساحات التي هي أكثر من أن تحصى، والميادين الشائقة بما حولها من الأشجار والأزهار التي أوجبت تسميتها بمدينة الأزهار، فترى حينئذ عليها من الجمال حُلة باهية، ومن المحاسن ما تختال فيه كالغادة الهيفاء، خصوصًا إذا ارتقيت ربواتها أو قصدت منتزهاتها، ولا سيما المنتزه الكبير فإنه من أنزه المنازه التي رأيناها، وأبهج المباهج التي عرفناها، إذ هو من الاتساع والامتداد وجمال المنظر ورونقة الترتيب، بحيث يجيد الفكر ويحسن الذوق ويجلو صدأ العقل ويغذي الروح ويصفي القرائح، فلا عجب إذا تفرد أهلها في تعشق الطبيعة، وبرعوا في الفنون الظريفة.

ولا بِدع إذا قلت في هذا المقام إن كل طلياني لا بد أن يُخلق نابغًا بالطبع في الرسم والتصوير والنقش والنحت والتعمير، أو التحبير والتحرير، أو الموسيقى والأغاني ونظم القريض والمعاني، فقد زرت معرض الصور المعروف بالرواق، ورأيت فيه آثارًا صناعية جليلة وبقايا فنية جميلة مما لا تكاد تضاهيه مجموعة في الدنيا القديمة والجديدة، حتى لقد مللت من كثرة التأمل والمشاهدة، وتعبت من الاستمرار في التسيار مع تيار هذا المعرض العريض الطويل، فعدلت (لعجز لا لنقص) عن إتمام مناظرة ما به من التحف الثمينة العجيبة، وعولت على الخروج منه معجبًا بما فيه قادرًا إياه حق قدره، ثم طفنا بالمدينة وتفرجنا على ما فيها من بدائع الصناعة وعجائب الطبيعة مما أدخر شرحه للرحلة.

فرأيت في منتزهها هرمًا صغيرًا مبنيًّا بالأحجار الكبيرة، فحسبته من مصنوعات أجدادنا المصريين، وقد نقل إلى هذه الديار كما نقل غيره من أحاسن الآثار، ووضع بجانب المنتزه عناية به وحفاوة، ولكني علمت من التسآل أن بعض العمال ابتناه على نفقته لاصطناع الثلج وحفظه به، فعجبت من هذا التفنن في الإتقان، واستغربت من اقتدار بني الإنسان.

وعلى ذكر الثلج والتفنن أذكر أني رأيت رجلًا يبيع الماء المثلج في برميل لطيف ظريف نظيف خفيف ذي حنفيتين من الخارج وأنبوبة لوضع الثلج من الداخل، يحمله على ظهره ويسعى به ليبيع الماء من غير عناء أينما شاء، وإحدى الحنفيتين مخصصة لغسل الكأس التي يستقي منها الناس، وقيل لي إن الرجل اخترع ذلك الطراز منذ عشرة أيام، وأما غيره فلا يزال يبيع الماء المثلج في أحواض من الأخشاب يقف بجانبها ولا بد للظمآن من الورود إليها.

وقد رأيت في جميع المحاط التي مررت عليها شبانًا وفتيات، بل فتيات وشبانًا يحملن ويحملون بأيديهن وأيديهم وعاءً مركبًا من أسلاك ينقسم إلى عيون عدتها ثمان أو عشر فيها أكواب مترعة يمررن ويمرون بها على القطار لتقديم الماء المثلج لمن شاء من المسافرين في نظير صلدي واحد (أكثر من ملِّيمين بشيء قليل).

ومما رأيته بهذه المدينة رجل مُقعَد سطيح، ولكنه يسعى بنفسه كما يسعى غيره بقدمه ويستمنح الإحسان من كل إنسان في أي مكان، فإنه اتخذ عربة صغيرة بقدر ما يجلس عليها ولها أربع عجلات، وبما أن الشوارع منتظمة والأرض ممهدة والسير ميسر في جميع أنحاء المدينة، فما على صاحبنا إلا أن يضغط بيده على الأرض قليلًا لتحريك العجلات، والتنقل من طريق إلى طريق، وقد استغنى بهذه الكيفية عن اتخاذ أعمى يحمله ويسعى به في نظير إرشاده إياه على الطريق ومقاسمته ما يصيبه من الرزق، ولا شك عندي أني سأرى رفيقه الأعمى (بحسب ما جاء في حكايات شارح المقامات الشريشي الأندلسي وفلوريان الفرنساوي) يدبِّر له وسيلة يتوصل بها إلى نوال الحَسَنة من غير احتياج لنظر المقعد وتكلفة حمله على كتفه؛ لأن أهل هذه البلاد بلاد أوروبا أهل حركة وعزيمة وتفنن وإقدام.

وهنا أستوقف القلم مرة ثانية بالرغم عن البواعث الكثيرة التي تجيش في الصدر كغليان القدر، فتدعوه للاندفاع في هذا التيار، وإني لأعاني هذا العناء خشية على القارئ من الملال وشفقة على نفسي.

فقد برَّح بي التشوق إلى الأوطان واشتد بي التشوُّف إلى الإخوان لعدم استقراري في مكان وتعذر استطلاعي الأخبار التي تتوق إليها النفس ويحوم حولها الفؤاد، فيا لله من البعاد! ويا لله من غالب شعرائنا كيف يصفون وهم في مستقرهم عواطف وإحساسات لا يشعرون بها، ولكنها تجيء كلها طبق المراد! أهذا من صدق الحدس أو من سلامة الفطرة! … ويا ليتني كنت تخرجت في الشعر حتى كان ينفتح أمامي المجال ويتسع لي المقال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤