الرسالة التاسعة

من باريس إلى لوندرة وخلاصة وجيزة على المؤتمر

اشتهر الإنكليز عند الخاص والعام بالاختصار في الكتابة والكلام، والهجوم على المقصود من غير تقديم مقدمة أو استفتاح بفاتحة، وسأتكلم عن أخلاقهم بالتفصيل في الرحلة، وأكتفي الآن بمجاراتهم في هذا السبيل.

قمت من باريس إلى دييب (Dieppe) أحد ثغور فرنسا في الشمال الغربي، وركبت الباخرة وأنا مرتجف من هول بحر المانش ودواره؛ إذ إني قرأت في كل كتب السياحة أنه من أشد الأبحر اضطرابًا وهيجانًا، لانحصاره بين شطوط فرنسا وإنجلترا واندفاع التيار فيه؛ ولذلك كان الأوروبيون، بل الأمريكيون أنفسهم، يعترفون بشدة هوله، ويفزعون دائمًا من اجتيازه، حتى لقد حمل ذلك بعض المهندسين من فرنسا على تقديم مشروع مقتضاه خرق نَفَق تحت قاع البحر تسير فيه السكة الحديدية للسهولة والراحة وتقريب المسافة، ولكن إنجلترا عارضت في إنجاز هذا المشروع خوفًا من تعدي قوة حربية برية عليها من فرنسا فجاءة (كما يقول الفرنساويون).

ولقد ازداد رعبي حينما سألت أحد المسافرين وأجابني بأكثر مما قرأت، ثم تمكن الفزع مني كل التمكن بعد أن أنذرني القبطان نفسه بأضعاف ما أفادني الأول، فكاد يفعل بي الوهم ما يقصُر عنه دوار البحر، ولولا أني تجلدت، وإذ كنت مضطرًّا للسفر وليس لدي من المراكب سوى ركوب هذا المركب، ولا يمكنني الانتظار حتى تعترف إنجلترا بفائدة النفق (كما اعترفت بفائدة قنال السويس فيما بعد)، فقد اعتمدت على الله وعملت بنصيحة بعض الخبيرين الذين تعرفت بهم في باخرة البر، فبادرت بطلب الطعام قبل قيام السفينة، حتى يكون في المعدة شيء يقاوم تأثير الدوار بادئ بدء، فلا يقع على الأمعاء مباشرة.

فجاءني الغلام وكلمني بالإنكليزية، وكنت قد نسيت اليسير الذي تعلمته قبيل سفري من القطر المصري؛ بسبب استعمالي الطلياني في إيطاليا والفرنساوي في فرنسا، فضلًا عما في رطانة الإنكليز من الصعوبة والدمدمة والتعقيد والهمهمة وإهمال المقاطع الأخيرة من الكلمات، فلم أفهم منه شيئًا بالمرة، ولكنني تذكرت أن أحسن طعام يجيد القوم صناعته هو الرزبيف والبفتيك (أو البُكتيف بحسب رواية البعض في بلادنا)، فذكرت اسم اللون الأول، فعاد الغلام ومعه قطعتان كبيرتان حواليهما من الدهن سواران، بل سوران وبجانبهما قليل من شبه المرق، فغمست لقمة في هذا السائل ثم وضعتها في فمي، فكادت تحدث عندي ما هو أشد من دوران البحر ودوخة الرأس واضطراب الأمعاء، لولا أن تداركت نفسي فأهويت إلى فمي بكمية عظيمة من الملح والفلفل والخردل؛ وذلك لأن الإنكليز يصنعون مآكلهم من غير ملح ويتركون تمليحها للآكل بقدر ما يريد، وخلاصة القول أني أكلت كما أكلت (لا هنيئًا ولا مريئًا).

وأما رفيقي فقد آثر النوم على كل شيء عملًا بما اكتسبه من التجربة في بحر الروم.

ثم إني صعدت على ظهر السفينة لأتمتع بمنظر البحر ومشاهدة المدينة، ولو أن ذلك يزيد في أعراض الدوار، ولا أصف اعتدال الجو وبهاء السماء وصفاء اللجة وجمال المدينة، وأجرافها الصخرية الشامخة التي تتأطَّم الأمواج تحت أقدامها، بل أقول إني كنت أستغرب من تحسن الحال كلما تقدمت السفينة إلى الأمام وأنا لا أشعر بالاضطراب، ولكن القبطان كان يقول لي (بالفرنساوية): تربَّص قليلًا ريثما تعارض السفينة التيار فهناك كل الهول. وما زال الحال على هذا المنوال حتى بدت لنا شطوط إنجلترا والفرح يداخلني قليلًا قليلًا إلى أن دخلنا ميناء نيوهافن (New Hayen) بسلامة الله تعالى وحسن معونته بعد مسير أربع ساعات ونصف. وكان عدد المسافرين ١٤٠ في الدرجة الأولى، و٨٠ في الثانية، ولم يؤثر الدوار إلا على ستة من الستات واثنين من الخواجات، وقد أجمع الخبيرون على أن مثل هذا اليوم لا يجيء إلا فيما ندر، غير أنني قلت لعل هذا من كرامات المؤتمر.

ثم نزلنا في المدينة فاستقبَلَنا أعوان الجمرك يسألوننا هل معنا شيء من الدخان والسجاير، ثم وضعوا أمتعة المسافرين على كثرتها في مخزن كبير بحسب ترتيب عددها في التسجيل، ووضعوا النمرة على الأرض بالطباشير لكل متاع مسافر مع بيان عدد ما يتبعه من الشنطات وغيرها؛ لكي يتوجه كل أحد بحسب تذكرته إلى موضع نمرته فيرى متاعه بدون أن يكون ازدحام أو اختلاط أو ضجة أو رجة، فأعجبني هذا الترتيب، وبعد التفتيش باللطف والمجاملة سار بنا القطار إلى لوندرة فيما بين حقول خضراء ناضرة ومراعٍ واسعة زاهرة.

فلما وصلنا المحطة المقصودة من لوندرة في مساء ١٩ أغسطس تلقَّانا عامل من بيت كوك ومعه كثير من مكاتيب إخواني الذين تركتهم في مصر، وَصَلَت قبل وصولي، فحفظها لي عامل كوك. وقد تلوتها باشتياق زائد قبل أن أنتقل خطوة واحدة، وحمدت المولى على هذه النصف مشاهدة مسرورًا بها شاكرًا لله ذاكرًا ما لهم من الفضل والعناية. ثم ركبنا العربة قاصدين الفندق، فإذا المدينة كبيرة ضخمة جسيمة هائلة لا يصح أن تسمى مدينة أو عاصمة، بل هي قُطر كبير، وإذا حق لي تسمية باريس (جنة الدنيا) فلا بد لي من تسمية لوندرة موسوعات العالم.

وقد نزلنا في أهم فندق بأهم حَي من أحياء هذا القطر إعلاءً لشأن المأمورية، وإجلالًا لمقام حكومتنا السنية، وهو المعروف ﺑ (ألبماريل هوتيل) وهو من الطبقة الأولى، ولا ينزل به أحد من المسافرين إلا بتوصية أو تقديم. وكان نُزُلًا لأعضاء العائلات الملوكية الذين جاءوا إلى هذه الديار. وقد كان النور الكهربائي فيه طوع بناني طول الليل وطول النهار. وإن اليراع لعاجز عن وصف ما عليه الفندق، ولكني أقول إن بذل الدنانير الوافرة أجرة للنزول فيه كبذل الدراهم في غيره، وسأصفه بما في المقدور في الرحلة إن شاء الله تعالى.

وفي صباح النهار نزلنا إلى قاعة الاستقبال، فرأينا ثلاثة من أبناء بلدنا قد حضروا للسلام علينا، وكنا لا نتوقع أن أحدًا يعرف مكاننا في تلك الساعة، فحصل لنا برؤيتهم ومكالمتهم مزيد السرور، وهم من التلامذة الذين أرسلتهم الحكومة الخديوية للتعلم في بلاد الإنكليز، وقد صدر لهم أمرها بمقابلتنا وإرشادنا.

ثم حضر لزيارتنا في الفندق سعادة الجنرال السير غرنفل باشا سردار الجيش المصري سابقًا، فاستقبلْنَا سعادته بواجب الاحترام اللائق بمكانته من الفضل والعلم، وهو الذي يساعدنا في مأموريتنا هذه كما سيمر على نظر القارئ، ثم حضر لنا رفيقنا الثالث وهو الدكتور فولرس (Vollers)،١ وقد رددنا هذه الزيارات بعد ذلك.

فلما جاء يوم افتتاح المؤتمر أرسل لنا سعادة سردارنا السابق عربته لتقلنا إلى محل الاجتماع، فلما وصلنا رأيناه يموج بالناس، ولا يجهل القارئ أن جميع من يضمه المكان هو من مشاهير العلماء، ونخبة الفضلاء من كل أمة، ولم يحضر المؤتمر أحد من العائلات الملوكية، بل كلهم اعتذروا برسائل برقية وغير برقية.

وافتتح حضرة الرئيس الأستاذ مكس مُلَّلر أعمال المؤتمر بخطبة قد كانوا طبعوها في ٦٣ صحيفة ووزعوها علينا، وكلها غُرَر ودُرَر، وربما لخصتها في الرحلة. أما الرياسة الإدارية فقد كانت في يد اللورد نورثبروك (الذي كان حاكمًا على الهند، وقد جاء مصر من زمن غير بعيد)، ولاحظ الجميع أن الوقت المقرر قد مضى ولم يتم العمل المحدد في البيان الرسمي ليوم الافتتاح، بل إنه لم يتكلم أحد غير الرئيس، وآخر أثنى عليه وثالث تكلم بالطليانية، وعلى ذلك انفضت الجلسة الافتتاحية. وفي المساء كانت مأدبة اللورد نورثبروك لأربعة وعشرين مدعوًّا من أهل المؤتمر لم يكن بينهم شرقي غيري، وقد أجلسوني على المائدة وإلى يميني الدكتور بوهلر، وهو من أشهر مشاهير العلماء في أوروبا، وإلى يساري السير غرنفل باشا، وكانت المأدبة أشبه شيء بمآدب الملوك على ما سمعت لا ما عرفت.

وفي الأيام التالية كانت الأقسام تشتغل بمباحثها، وفي جملتها الفرع الثاني من القسم الثاني الخاص بالساميَّات الذي كُنا فيه، فلما جاء دورنا تكلم الدكتور فولرس على رسالة كتبها في الأصوات العربية مستندًا على ما رواه ابن يعيش شارح المُفَصَّل وما جاء به سيبويه النحوي، ثم تلوته بالفرنساوية مبينًا إجمال ما في الرسائل التي قدمتها للمؤتمر،٢ثم قام حضرة الأستاذ الشيخ محمد راشد، وتكلم على رسالته التي كتبها في الكلام الدارج بمصر القاهرة، وأورد كثيرًا من أزجال العوام وألحانهم وموشحاتهم وموالياتهم وأدوارهم، ثم قَدَّم شرحًا مطولًا كتبه على خطبة مقامات الحريري.

وفي اليوم الرابع عينوا لجنة دولية للنظر في شئون المؤتمر الآتي والإقرار على وقت انعقاده ومحله، وتعينتُ فيها عضوًا نائبًا عن الديار المصرية. وكان الحاضرون ٢٥ بما فيهم الرئيس، فتُليت الخطابات الواردة في هذا الشأن، ودارت المذاكرة على تعيين وقت انعقاد المؤتمر الآتي. فقال الكونت داجو بيرانتي مندوب إيطاليا: إن اللازم عقده بعد ثلاث سنوات حتى يتيسَّر للعلماء في خلال هذه المدة أن يحضروا مباحث يقدمونها فيه، فقلت حينئذ: (إن القاعدة التي تقررت في أول الأمر لأجل عقد المؤتمر كل ثلاث سنوات إنما كانت لقلة المستشرقين، وأما الآن فقد انتشروا حتى كان لهم من أمريكا مشاركون كثيرون، والواجب علينا أن نوجد لهم فرصًا كثيرة يعرضون فيها أعمالهم؛ لئلا يزداد الشقاق بين أجزاء هذه الجمعية، فتضيع القاعدة الأولى بالكلية، وتذهب ثمرات هذا الجمع أدراج الرياح، ويصر علماء كل دولة على عقد مؤتمر في عاصمتها كل عام أو عامين، فيتفرق العمل شذر مذر. ولهذا فإني بمناسبة الشقاق الحاصل الآن في لسبون أرى وجوب الإقرار على عقد المؤتمر في سنة ٩٤؛ أي بعد سنتين فقط.) فطرح الرئيس هذين الرأيين على الأعضاء وحسبت الأصوات، فإذا هي متساوية في كل فريق ١٢ عضوًا وبقي الترجيح له، فأطال الإمعان ثم انحاز إلى رأينا وتقرر الاجتماع في سنة ٩٤، ثم تقرر أن يكون مركزه مدينة جنيفا (جنبرة) ببلاد السويسرة. ثم تقدَّم مشروع خاص بتنظيم أعمال المؤتمرات في المستقبل، وجعلها تسير على وتيرة واحدة فتقرَّر بعد بعض تعديلات.

ولما حَل اليوم المحدد لانفضاض المؤتمر اجتمع فيه خلقٌ أقل من الذين حضروا يوم الافتتاح، ودارت المذاكرة على ما قرَّرته اللجنة الدولية التي سبقت الإشارة إليها ثم أعلنوا بالاختتام.

وفي المساء توجهنا إلى مأدبة أعدَّتها لجنة تنظيم المؤتمر لجميع الأعضاء في قاعة (هوتيل متروبول)، وهو من أكبر فنادق لوندرة، وكان عدد الحاضرين فيها ٣٠٠ مدعو. وكان السير غرنفل باشا على يميني والأستاذ الفاضل الشيخ محمد راشد على شمالي، ولا يخطئ من يُشبه هذه الحفلة ببرج بابل من حيث اختلاف الألسنة، إلا أنها بالغة في الكمال والإتقان، جمعت أصنافًا كثيرة من بني آدم ولغات متخالفة تكلم بها القوم الواحد بعد الآخر، وقال رفيقي شيئًا يناسب المقام، ثم تكلمت بالعربية حسب مقتضى الحال.

واعلم أنه لكبر هذه المدينة واتساعها لم يظهر فيها أثر ما لانعقاد مؤتمر المستشرقين، بل ولا أقل أثر لمؤتمرات غيره كانت منعقدة في الوقت الذي انعقد مؤتمرنا فيه؛ وهي مؤتمر للعَمَلة (بفتح الميم)، ومؤتمر للمعامل، وثالث للصحة، وكل هذه منزوية في غضون جوف هذه المدينة التي تسمى عند العرب (لُنْدرس) كما هو اسمها الآن عند أهل إسبانيا، وأما اسمها في لغة أهلها فهو لَنْدن (London)، ولكن الفرنساوييين يسمونها لُوندر (Londres)، ويضعون في آخرها سينًا لا ينطق بها، فإذا أرادوا النسبة إليها رجعوا للأصل اللاتيني الذي يقرب من اللفظ الإنكليزي فقالوا لندنيان (Londonien).
وفي الأسبوع الذي كان المؤتمر منعقدًا فيه (من ٥ إلى ١٢ سبتمبر) دعينا لمآدب كثيرة ونزه مفيدة للجسم والفكر، يسمونها رياضة رياضية، وبلغتهم جاردن بارتي (Garden Party)، لكنهم ينطقون بها (جادن باتي) بجيم وألف مفخمتين ونون لا تكاد تظهر، وكذلك الباء الفارسية والألف في التفخيم والتاء والياء في عدم الظهور (فهذا درس من اللسان الإنكليزي، وإن كنت لا أعرف منه الآن إلا قليلًا).

ولا أذكر من هذه الرياضات الرياضية في هذا المقام سوى مأدبة أعدها لنا اللورد أمهرست (وهو غير الذي كان حاكمًا على بلاد الهند)، فقد دعانا في يوم ١٣ سبتمبر إلى قصره الكائن على مسافة أربع ساعات من لوندرة، فركبنا القطار ونزلنا عند وصولنا في عربات فاخرة أرسلها لنا رب الضيافة، ومنزله أشبه شيء بمدينة عامرة فيها الرياض الغناء والمنازه الفيحاء، ومن ألطف ما يروق النظر فيها أماكن أعدها للعب، فسيحة الأرجاء مفروشة بالأعشاب الطبيعية، وفيها الغابات والبحيرات لصيد الطيور والأسماك، ومعمل للغاز وآخر للكهربائية، وآخر لاصطناع العربات وترميم آلات الزراعة وخزانة للأسلحة، وغير ذلك، مما يدل على تمكن الحضارة وضخامة الثروة وأصالتها. وأذكر أنه جمع في روضته هذه كثيرًا من الأشجار النادرة الغريبة من أقاصي المشرق والمغرب، وله عناية بالأزهار والفواكه فوق العقل، وقد رأيت عنده صنفًا من العنب كبير الحجم لذيذ الطعم أبيض اللون، وله خاصية الرائحة الذكية فيضوع أريجه عند أكله.

وقد اصطنع فيه زهرية على مثال بستان الأزهار الذي كان في قصر الحمراء بغرناطة أيام دولة عرب الأندلس، وشكلها آخذ بالبصر بهجةً ورونقًا.

أما داخل القصر فحدِّث عنه ولا حرج وقل ما شئت، ففيه دار تحف مصرية وبابلية وعمومية؛ ولأجل أن يتصور القارئ مقدار التحف التي فيه وعظيم أهميتها أقول إنه يوجد لديه ١٣ صندوقًا كبيرًا كلها مشحونة بآثار مستخرجة فقط من تل العمارنة في ديارنا قريبًا من مَلَّوى بمديرية أسيوط، وهو ينظر الآن في بناء محل متسع لعرض هذه الآثار فيه.

وأما المكتبة فهي كبيرة جدًّا وفيها نُسخ كثيرة بخط اليد من المصاحف الشريفة، وكثير من الكتب العربية والفارسية والهندية مما له قيمة، وذلك عدا الكتب الإفرنجية المنسوخة بخط اليد المحلاة بالصور والرسوم البالغة حد الإتقان، والكتب التي كانت باكورة اختراع المطبعة في أوروبا، وفي إنكلتره، وهي الآن نادرة الوجود وقَلما توجد في الكتبخانات العمومية التي من الدرجة الأولى، وأحسن شيء رأيناه نَسَق وضعها وترتيبها المدهش للعقول، وقد أعد للكتب النادرة المثال خزائن من الحديد خشية عليها من الحريق إذا شبت النار، وإن كان متحفظًا على جميعها كما ينبغي.

وفي المنزل غُرفة ورقها من الجلد الأندلسي القديم، وعليه أشكال ورسوم صوَّرها أحد المعلمين النابغين، وأما الآنية والفرش والأثاث والاستعداد، وكثرة الرسوم والطيور والحيوانات المصبرة، فذلك مما لا حد لوصفه، ولا تسل بعد هذا عن بقية قاعات النوم والجلوس والأكل، وما تحتوي عليه من الأثاث والنور والأشكال والأوضاع، فكله من وراء مقدور اليراع. وفي الدار كلها أسطوانات عليها إعلانات تفصيلية بكيفية استعمالها بالسهولة لإخماد النار إذا شبت في أي مكان. وخلاصة القول أنه إذا كان في الدنيا نعيم فهو في منزل هذا الرجل.

أما دماثه أخلاق حضرة اللورد وحسن معاملته لنا هو وزوجته وبناته الست، فذلك بمقدار ثروتهم وحضارتهم، وقد أحرزوا من شكرنا بمقدار ما كان لنا من مكارم الأخلاق.

ومن بناته ثلاث أو ثنتان جئن مصر والباقيات لم يزرنها، ولكنهن يقرأن الحروف العربية، ويقدرن على كتابة بعض الكلمات بخلاف أخواتهن الأُخر. وقد كان بود هذه العائلة الكريمة أن تبقينا عندها أيامًا كثيرة، ولكنا مع وجود أعظم من رغبتهم عندنا اعتذرنا؛ لأن حضرة الشيخ كان لا بد من رجوعه إلى مصر في يوم ١٦ سبتمبر، فودعناهم بعد أن أخذت إحدى كريماته صورتنا بالفتوغراف، وبعد أن استكتبونا أسماءنا بالعربية والإفرنجية.

أما نزهتنا في لوندرة فلا أتكلم عليها الآن، وإنما أذكر أني شفيت الغليل برؤية شبه مدينة البندقية في إحدى ضواحيها، وهو محل متسع اسمه البندقية (Venice) فيه تياترو رحب ومعمل للزجاج يشبه معامل البندقية، وفيه شوارع مائية ومراكب ومراكبية تمثل للإنسان مدينة البندقية بالتمام.

فحمدت الله على هذه الفرصة التي جعلت لي فكرة على هذه المدينة المائية، حتى كأني شاهدتها بالعين فما لا يدرك كله لا يترك كله.

وقد توجهنا في يوم من الأيام إلى معرض التاريخ الطبيعي البريطاني، وكان مرشدنا فيه حضرة وطنينا الفاضل المتفرد بالشهرة في هذا الفن الدكتور عثمان بك غالب، فاستفدنا من دقائق المعرض وحقائقه أشياء كثيرة. وأقول الآن إن الحكومة تنفق عليه وحده في السنة أكثر من ٤٤ ألف جنيه إنكليزي في نظير ماهيات العلماء والعمال فقط؛ أي خلاف المشتروات وصيانة المكان، وغير ذلك من النفقات الكثيرة التي لا يمكن أنها تقل عن هذا المقدار. وقد كان في الأول فرعًا من المتحف البريطاني، فلما اتسع نطاقه وازدادت معروضاته نقلوه إلى هذا المكان المخصوص، وهو في غاية الترتيب ونهاية الكمال.

هوامش

(١) كان الدكتور فولرس مديرًا للكتبخانة الخديوية في ذلك الوقت.
(٢) انظر خلاصة الخطبة في آخر الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤