الفصل الأول

في يوم من ذات الأيام

بدايات الأدب وتحولاته

في يوم من ذات الأيام، تعرفتَ على الأدب الإنجليزي، وربما بدأ التعارف بعبارة: «في يوم من ذات الأيام.» وإذا كنتَ ممن عاشوا فترة طفولتهم في القرن العشرين، فقد تكون بداية القصة هكذا: «في يوم من ذات الأيام، منذ فترة بعيدة جدًّا، لعلَّها تكون الجمعة الماضية تقريبًا، عاش «ويني الدب» وحيدًا في غابة في منزل يحمل الاسم ساندرز.» أو هكذا: «في يوم من ذات الأيام، كان هناك أربعة أرانب صغيرة تُدعَى فلوبسي وموبسي وكوتون تيل وبيتر.»

أو ربما كانت القصة مكتوبة شعرًا. فربما كنتَ طفلًا في مطلع القرن الحادي والعشرين وكانت بداية القصة هكذا: «تجوَّل فأر في غابة دامسة الظلام، ورأى ثعلبٌ الفأر، وبدا الفأر في أحسن حال.» (جوليا دونالدسون، «جرافالو»، ١٩٩٩). نبدأ القصة بدخول الغابة مع الفأر، ونشعر بشيء من الإثارة وشيء من الخوف؛ تُرى ماذا سنجد هناك؟ إنها بداية أدبية شديدة النمطية؛ «في منتصف الطريق عبر هذه الحياة الفانية، وجدتُ نفسي في غابة موحشة» (دانتي، «الجحيم»، ترجمة هنري كاري، ١٨٠٥). إننا نشرع في رحلة لاكتشاف الذات، وسوف نقابل فيها وحوشًا غريبة «جرافالو» ونتعرض لإغواءات تعصف بنا، ونتعاطف مع بطل شجاع (الفأر!) ينتصر بفضل خياله الثري وسعة حيلته. ويحدونا الكلام المسجوع المؤثر على المُضي قدمًا والرغبة في مواصلة القراءة، وربما نطلب سماع نفس القصة مجددًا في الليلة التالية.

عندما صدرت مجموعة مسرحيات شكسبير مطبوعة لأول مرة، قدَّمها المحررون، الذين كانوا أصدقاءه المقربين وزملاءه الممثلين، بالاقتراح التالي: «اقرءوها إذن مرة تلو الأخرى.» إننا لن نرغب في قراءة جريدة أمس مرات عديدة، ولا الرواية البوليسية أو الرومانسية أو الكوميدية التي اخترناها في اللحظة الأخيرة من منفذ بيع الكتب بالمطار. بل الكتب التي تُقرأ مرة تلو الأخرى هي ما يُطلق عليها «الأدب»، وقد يكون أحدها رواية بوليسية أو رومانسية أو كوميدية أو قصة أطفال. وقد يطلق على الكتاب «رواية بوليسية كلاسيكية» أو «رواية رومانسية كلاسيكية» عندما يصبح علامة مميِّزة لهذا النوع الأدبي بعينه، وقد يُوصف بأنه «كلاسيكي» فحسب عندما يتجاوز حدود نوعه الأدبي — مثل رواية «جين أير» (١٨٤٧) لشارلوت برونتي التي لا تُعتبر مجرد رواية رومانسية فحسب — وعندما يظل يُقرأ لأجيال عديدة متتالية. وقال د. صامويل جونسون في مقدمته لشكسبير (١٧٦٥) إن الاختبار الوحيد للعظمة الأدبية هو «مدى الاستمرارية ودوام التقدير».

لماذا اجتاز كلٌّ من «حكاية الأرنب بيتر» لبياتريكس بوتر (١٩٠٢) و«ويني الدب» لإيه إيه ميلن (١٩٢٦) اختبار التقدير المتواصل بهذا النجاح المدوِّي؟ لأنه يمكن إعادة قراءتهما بسرور عبر الأجيال؛ إذ إنهما تتمتعان بثلاث من نقاط القوة: السرد القصصي، ووصف الشخصيات الروائية، وجودة الكتابة. وثمة عوامل خارجية قد ساعدت أيضًا، وأهمها الرسوم التوضيحية (بالألوان المائية التي استخدمتْها بوتر وتجسيد عالم بو وإخراجه على يد إي إتش شيبارد)، مثلما ساهم أداء الممثلين العظام في الحفاظ على حيوية السرد القصصي ووصف الشخصيات الروائية واستخدام اللغة عند شكسبير، ولكن دارس الأدب يبدأ أولًا بالبراعة في استخدام الكلمات ومصداقية الشخصيات ومدى اتساع الخيال وثرائه.

حازتْ رواية «جرافالو» جوائزَ عند نشرها وبيعتْ أربعةُ ملايين نسخة خلال عَقْد من الزمان، وفي عام ٢٠٠٩ حصلتْ على لقب «أفضل قصة قبل النوم» استنادًا إلى وسيلة التقييم الرئيسية في تلك اللحظة التاريخية، وهي رأي الجمهور الذي أعربوا عنه بالتصويت عن طريق الهاتف أو الرسائل النصية أو الإنترنت. والقصة مستوحاة من حكاية شعبية من الفولكلور الصيني عن ثعلب يقترض المظهر المرعب من النمر، وهي تمزج بمهارة بين التقليد والابتكار، وهي سمة حاضرة في العديد من الأعمال المرشحة للمرتبة الكلاسيكية. ولكن في عالمنا الفائق السرعة في القرن الحادي والعشرين يتغير الذوق الأدبي بسرعة فائقة، ولا سبيل إلى معرفة إذا ما كانت رواية «جرافالو» سوف تصل إلى المرتبة الكلاسيكية أم لا. وقد قدَّر د. جونسون المدة اللازمة ﻟ «استمرارية» العمل بمائة عام، وحتى إذا احتسبنا نصف هذه المدة فقط، فعليَّ أن أقبل أنني عندما أكتب في عام ٢٠١٠ فإن أي عمل أذكره في هذا الكتاب ظهر منذ عام ١٩٦٠ قد يكون مجرد عمل أدبي كلاسيكي «مؤقت».

يُعَدُّ الأرنب بيتر أول شخصية من النوع الذي أَطلق عليه إي إم فورستر في كتابه «أركان الرواية» (١٩٢٧) شخصية «محورية متطورة»، والشخصيات المحورية المتطورة بحاجة إلى الشخصيات «السطحية الثابتة» كي تبرز التضاد. ويمثل هذا في حالة بيتر دَوْر شقيقاته اللواتي يصطنعن الفضيلة. وتشير بوتر بإيجاز إلى ذلك في جملتها الأولى عن طريق إطلاق أسماء الأرانب الطفولية على فلوبسي وموبسي وكوتون تيل، في حين أطلقتْ على شقيقهن اسمًا بشريًّا. وبيتر ليس صالحًا أو طالحًا، ولكنه سيِّئ السلوك ومغامر وبريء في الوقت ذاته. وهذا المزيج يُوقِعه في المآزِق، ولكن القارئ يعلم دائمًا أنه سيكون على ما يرام في النهاية. إنه التجربة الأولى التي يتعرف من خلالها الطفل المُصغي إلى البطل المتشرد من النوع الذي قدَّمه هنري فيلدينج في رواية «توم جونز» (١٧٤٩) وتوبياس سموليت في رواية «رودريك راندوم» (١٧٤٨).

تتسم الشخصيات الأدبية العظيمة بأنها شديدة الفردية ويمكن التعرف عليها في الحال بوصفها أنماطًا لها نُظَراء في عالمنا. فكل شخصية في ركن بو لها صوت مميز ومجموعة من الخصائص المميِّزة، ولكن في كل فصل وكل قاعة اجتماعات يوجد نمر متحمِّس وحمار مكفهرٌّ حزين وبومة متحذلقة تستخدم كلمات طويلة وأرنب عاكف على تنظيم الناس دائمًا. وينطبق الأمر نفسه على مكان المشهد؛ فجغرافيا «غابة المائة الفدان» التي بُنِيتْ على غرار غابة آشداون في ساسكس مخططة بدقة وخصوصية كي تخلق عالَمًا مشابهًا للواقع؛ ليكون بمنزلة خلفية لسريالية مغامرات الحيوانات، ولكنها أيضًا مكان نموذجي كأنه المدينة الفاضلة أو جنة عَدْن أو مكان للبراءة الريفية.

القاعدة الصارمة لذلك العالَم الذهبي هي أن الوقت سيحين لمغادرته، ويُعَدُّ أجمل تعبير في الأدب الإنجليزي عن لحظة الرحيل هو ختام «الفردوس المفقود» (١٦٦٧) لجون ميلتون:

والتفتا إلى الخلف فشاهدا الجانب الشرقي كله
من الفردوس، التي كانتْ منذ هنيهة مقام هنائهما،
والسيف الملتهب يُلوَّح به فوق الباب؛
حيث تجمعتْ وجوهٌ تُلقِي الرعب في القلوب وأسلحة نارية،
وذَرَفا بعضَ العَبَرات، عَبَرات الطبيعة البشرية، ثم جفَّفاها على الفور،
كانت الدنيا تمتد كلها أمامهما، تدعوهما لاختيار
مقرِّ راحتهما، تهديهما العناية الإلهية،
وهكذا، بأيدٍ متشابكة، وخطوات حائرة بطيئة،
سارا وحيدين في أرض عدن.
(ترجمة د. محمد عناني)

أصبح آدم وحواء «وحيدين» لأن اختيارهما الحر بالأكل من فاكهة شجرة المعرفة قد أخرجهما من معية الله، ولكنهما يسيران «متشابكي الأيدي»؛ فلدينا روابط إنسانية تساعدنا على المضيِّ قدمًا في مسار الحياة، وبالنسبة لميلتون فتلك هي اللحظة التي يُجبَر فيها الإنسان على النضج.

تتمتع رواية «المنزل في ركن بو» (١٩٢٨) بأسلوب مشابه؛ حيث يرحل كريستوفر روبن بعيدًا، ويبدأ ميلن كتاب بو الأول بقَدْر من الدعابة الإنجليزية:

تساءل كريستوفر روبن قائلًا: ماذا يعني «تحت اسم كذا»؟ فيرد الراوي عليه: «يعني أنه قد وضع الاسم على الباب بحروف ذهبية ثم عاش تحته.»

وينهي ميلن كتاب بو الثاني بقَدْر من التحفظ الإنجليزي:

مدَّ كريستوفر روبن يده متحسسًا مخلب بو، وعيناه ما زالتا على العالم.

وقال كريستوفر روبن جادًّا: «بو، إذا … إذا لم أكن …» وتوقف ثم عاود المحاولة: «بو، مهما حدث فسوف تتفهم الأمر، أليس كذلك؟»

«أتفهَّم ماذا؟»

فضحك قائلًا: «لا شيء، هيا بنا.» وهبَّ واقفًا.

فتساءل بو: «إلى أين؟»

فأجاب كريستوفر روبن: «إلى أي مكان.»

ولن يصبح الإيقاع الموزون لهذا الحوار، الذي يتمتع فيه المسكوت عنه بنفس أهمية المصرَّح به علانيةً، في غير محله في رواية لإيفلين ووه أو نويل كوارد، ولكن نظرًا لأن ميلن كان يكتب للأطفال فإنه لا يقاوم إغراء إضافة فقرة أخيرة تحمل قدرًا من الحنين الإنجليزي:

وهكذا فقد انطلقا معًا، ولكن أينما يذهبا ومهما يحدث لهما في الطريق، فسوف يظل الصبي ودبُّه يلعبان إلى الأبد في ذلك المكان المسحور في أعلى الغابة.

إن العالم كله أمامنا، ولكن مهما يحدث فإننا بحاجة لأن نحتفظ في ذاكرتنا بمكان سحري يطلق عليه طبقًا لتعبير ويليام وردزوورث «ذكريات الطفولة المبكرة». وفي قصيدته الغنائية التي تحمل عنوان «كان ثمة زمن» (١٨٠٥) يرى وردزوورث أن تلك الذكريات تقدم لنا «تلميحات بالخلود». ويشرع الأدب في أداء مهمته في الاحتيال على الزمن والموت، مانحًا إيانا الحرية عبر الخيال في نفس اللحظة التي يأتي فيها الموت إلى عالمنا. أما بيتر بان الصبي الذي يخرق القاعدة الحديدية التي تقضي بأن علينا مغادرة العالَم الذهبي من خلال رفضه أن يكبر، فهو يُحيط نفسه في نيفرلاند ﺑ «الأطفال الضالة»؛ أي الأطفال المتوفَّيْن. وشخصية بان نفسها من أكثر الأنواع المؤثرة في الأدب الإنجليزي كما يوضح سيباستيان فلايت في «عودة إلى برايدزهيد» (١٩٤٥)؛ حيث يتعلق بدُمْيته التي على شكل دب كعلامة على رفضه لمغادرة المدينة الفاضلة والدخول في المغامرة الكبرى البغيضة وهي الحياة.

التعليم المدرسي

لم يكن بو وأصدقاؤه يعرفون أين يذهب كريستوفر روبن، ولكننا نعرف. ورغم أن النص لم يذكر ذلك صراحةً، فإنها مدرسة داخلية. ويُحتمَل أن تكون المرحلة الثانية مِن تعرُّفنا على الأدب الإنجليزي هي القصص المدرسية، وهو ما يقودنا في الحال إلى مسألة الطبقات الاجتماعية التي لا مفر منها في إنجلترا، فثمة تعليم «أو لا تعليم» للفقراء، وآخر للأغنياء؛ مثل مدرسة لوود الباردة حيث احتملتْ جين إير الفقيرة القسوة الذهنية، ودوثبويز هول التي يُرسَل إليها الأولاد غير المرغوب فيهم كي يقعوا تحت رحمة السيد واكفورد سكويرز («نيكولاس نيكلبي»، ١٨٣٩)، فضلًا عن الإصلاحية في رواية ديكنز السابقة «أوليفر تويست» أو «رحلة صعود ابن الأبرشية» (١٨٣٨)؛ فثمة فرق شاسع بين تلك الأماكن وبين روح المدارس الحكومية الإنجليزية في «أيام دراسة توم براون» لتوماس هيوز (١٨٥٧). يتساوى الطعام في السوء في كل تلك المؤسسات، ولكن أبناء الأثرياء يُسمَح لهم بتناول الصلصة والمخللات مع الطعام كي يصبح سائغًا. وبفضل مدير مدرسة الرُّجبي الحقيقي د. توماس أرنولد، يُهزَم فلاشمان البلطجي ويُصوَّر توم على أنه مسيحي شهم مفتول العضلات، وهو ينتصر في ملعب الكريكيت نهارًا ولا ينسى تلاوة صلواته ليلًا.

fig1
شكل ١-١: (أ) «الطرد»: رسم توضيحي بريشة ويليام بليك للأبيات الأخيرة في ملحمة «الفردوس المفقود» لجون ميلتون، و(ب) رسم توضيحي آخر بريشة إرنست إتش شيبارد لنهاية «المنزل في ركن بو».

أصبح الصبي الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى وينحدر من أصل محترم ولكنه ليس ثريًّا، والذي يعرِّفه تعليمه الحكومي بالطبقة الحاكمة وقِيَمها بعد أن تغلَّب على بلطجي ينتمي إلى الطبقة العليا في طريقه؛ نموذجًا مألوفًا في القصص التالية الموجهة إلى قُرَّاء الطبقة الوسطى، وغالبًا ما يكون لديه صديق صالح أو اثنان يساعدانه في طريقه، مثل آرثر في حالة توم ورون وهرميون في حالة هاري بوتر.

يمكن ممارسة روح المدارس الحكومية أثناء العطلة المدرسية بإقامة المعسكرات والتنزُّه بالزوارق وتسلق الجبال، وذلك في رواية آرثر رانسوم التي تحمل عنوان «طيور السُّنُونو وأنهار الأمازون» (١٩٣٠)، وهي تجسيد مصغَّر للطبيعة الإنجليزية الحكيمة بقلم شخص متعاطف أحيانًا مع البلاشفة تزوج من سكرتيرة تروتسكي. وتختبر شجاعة مجموعة من الأطفال الإنجليز الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة في وقت المِحَن. وفي رواية «الأسد والساحرة وخزانة الملابس» لسي إس لويس (١٩٥٠) يجري إجلاءُ أطفال بيفينزي من لندن هربًا من الغارات الجوية، ولكنهم يجدون أنفسهم يقاتلون نسخةً خيالية من الحشد النازي/الشيطاني. وفي رواية «جزيرة المرجان» (١٨٥٧) لآر إم بالانتاين أظهر الصبيَّان رالف وجاك شجاعة مثيرة للإعجاب عندما تحطمتْ بهما السفينة على الشعاب المرجانية في إحدى جزر بولينيزيا دون أن يكون معهما أشخاص بالغون.

يتعلق الأدب بقلب التقاليد رأسًا على عقب مثلما يتعلق بتوارثها؛ ففي رواية ويليام جولدينج «أمير الذباب» (١٩٥٤) تحول الصبيَّان رالف وجاك إلى همجيَّيْن بدلًا من أن يصبحا نبيلين عندما جنحتْ بهما السفينة على جزيرة. وعلى النهج نفسه، مثلما تتفق القصة الرمزية المسيحية لروايات نارنيا مع التفسير التقليدي لميلتون في «مقدمة إلى الفردوس المفقود» (١٩٤٢) بقلم سي إس لويس، فإن ثلاثية فيليب بولمان «المواد المظلمة» (١٩٩٥–٢٠٠٠) تعتمد على التفسير الابتداعي لملحمة «الفردوس المفقود» الذي بدأ ﺑ «زواج الجنة والجحيم» (١٧٩٣) لويليام بليك: «كان ميلتون شاعرًا حقيقيًّا، وهو من حزب الشيطان دون أن يعلم ذلك.» و«المواد المظلمة» اقتباس من «الفردوس المفقود»، وهي إشارة إلى مرور إبليس عبر كاوس من عالم إلى آخر. وليرا بطلة بولمان هي تلميح محرَّف قليلًا إلى ليكا، وهي «الفتاة الصغيرة المفقودة» في ديوان بليك الشعري «أغاني الخبرة»، وثمة تلميح محرَّف آخر وهو فكرة أن لكلٍّ منا «قرينًا» أو طيفًا يُجسِّد شخصيته، وفي الوقت ذاته يقوم بدور الروح الحارسة له.

الأشرار والغرباء

كثيرًا ما يحفِل أدب الأطفال بتخيل الحيوانات تتصرف كالبشر، بينما كثيرًا ما يصوِّر أدبُ الكبار البشر وهم يتصرفون كالحيوانات. فعندما تتصرف شخصيات شكسبير بطريقة وحشية فهي تُقارَن بالبجع والأفاعي والكلاب، وكتب بن جونسون كوميديا قائمة على الخداع تحمل عنوان «فولبون» (١٦٠٦)؛ أي «الثعلب» والتي يُحدِث فيها خادمٌ يُدعى موسكا (أي الذبابة) إزعاجًا طوال الأحداث، ويقتات محامٍ يدعى فولتوري (أي النسر) على الغنائم.

تُعَدُّ الحيوانات التي تحمل صفات البشر الاستثناء لا القاعدة في أدب الكبار، وهي تَظهَر عادةً في الأعمال الرمزية أو الساخرة، وأشهرها الكتاب الرابع من «رحلات جليفر» (١٧٢٦) لجوناثان سويفت، الذي نجد فيه الهوينمز جيادًا عاقلة والياهو بشرًا أشبه بالبهائم. ومن الأمثلة الأخرى رواية جورج أورويل المناهِضة للستالينية «مزرعة الحيوانات» (١٩٤٥) ورواية توماس لوف بيكوك «ملينكورت» (١٨١٧)، وهي نقد لطيف لفكرة التقدم؛ حيث يترشَّح فيها إنسان الغاب لعضوية البرلمان. ثم هناك تلك الحالة الخاصة لإبليس الذي يجلب الشر إلى العالم في صورة ثعبان. ولكن تلك استثناءات، فبوجه عام إذا رغبتَ أن ترى حصانًا أو دبًّا أو ذئبًا أو أرنبًا يتكلم فعليك أن تقصد أدب الأطفال.

يُطلَق على قصص الحيوانات التي تُخلَع عليها صفات بشرية اسم «الخرافة»، وهي ترجع إلى إيسوب الذي عاش أيام الإغريق. وفي القصة الخرافية البسيطة، يَلقَى حيوان مغرور أو شرير جزاءه وتفوز السلحفاة على الأرنب البري. وتتفق الخرافات من ذلك النوع مع نظرة الأدب التي تعتنقها المربية المتكلفة الآنسة بريزم في مسرحية «أهمية أن تكون إرنست» (١٨٩٥): «كانت نهاية الأخيار طيبة ونهاية الأشرار سيئة، وهذا هو معنى الأدب القصصي.» وتعد رواية بياتريكس بوتر «حكاية أرنب شرير شرس» (١٩٠٦) خرافة موجَّهة إلى الأطفال شديدي الصغر، وهي محاطة بالتناقض الأخلاقي بين الشرير (الأرنب الشرير الشرس) والضحية (الأرنب اللطيف المهذَّب). ويلقى الأرنب الشرير الشرس الجزاء الذي يستحقه عندما يُطيح رجل يحمل بندقية بشواربه وذيله. وتخبرنا بوتر بوفاته القاسية بلهجة سردية واقعية لا تحمل أي نوع من التأثر، وهو ما جعلها ذات تأثير مهم على أسلوب كلٍّ من إيفلين ووه وجراهام جرين.

ونظرًا لتعقيد شخصية الأرنب بيتر، وسوء سلوكه تحديدًا، تُعَدُّ قصته أكثر «أدبية» من الأرنب الشرير الشرس؛ فالأدب لا يتفق مع متطلبات المربيات كالآنسة بريزم. وأدرك أوسكار وايلد، مبتكِر تلك الشخصية، أن أفضل أنواع الأدب قد يكون أحيانًا هزلًا أكثر منه جِدًّا، وأن أكثر الشخصيات إثارةً للاهتمام نادرًا ما تكون شخصيات الأخيار التي تنتهي نهاية سعيدة. وكانت نهاية شخصية الشرير الجذَّاب التي رسمها شكسبير مثل ريتشارد الثالث وإياجو في «عُطيل» وإدموند الابن غير الشرعي في مسرحية «الملك لير» غير سعيدة بالفعل، ولكن قبل ذلك فهي تقدم مردودًا هائلًا للممثل والجمهور على حد سواء. فمَن الممثل الذي يفضل أن يؤدي دور مالكولم عن دور ماكبث؟

بعيدًا عن مسرحيات شكسبير، فإن أكثر المسرحيات التي أُعيد إحياؤها في إنجلترا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هي مسرحية «طريقة جديدة لسداد الديون القديمة» (١٦٢٦) لفيليب ماسينجر، التي ترجع شعبيتها الضخمة إلى شخصية الشرير القوي المحبَّبة إلى النفس والمثيرة للإعجاب التي يمثِّلها السير جايلز أوفريتش، وهو دَوْر يرغب كل نجم في أدائه، وهو نموذج نمطي لرجال الأعمال شديدي الطمع الذين يُضارِبون في البورصة كما يُصوِّرهم أدب العصر الفيكتوري؛ مثل أوجستوس ميلموت في «كيف نحيا الآن» (١٨٧٥) لأنتوني ترولوب والسيد ميردل في «دوريت الصغيرة» (١٨٥٧) لتشارلز ديكنز.

يختلف العمل الأدبي عن الخرافة والموعظة والمقال الأخلاقي، وخاصةً في قدرته على إضفاء الإثارة على الشر؛ حيث يزخر أدب الأطفال بالساحرات والوحوش والشياطين والمذءوبين والكبار الذين يُعتبر تناول كيس من الحلوى منهم تصرفًا غير حكيم، فالأدب في أفضل أحواله أغنية للخبرة لا للبراءة. وتعد قصيدة «الحَمَل» لويليام بليك (ديوان «أغاني البراءة»، ١٧٨٩) «بثوبها الفاتن من أنعم الأصواف» تقليدية إلى درجة الملل وشديدة العاطفية حتى تُقرأ بالمقارنة مع «عذوبة وعفوية» نظيرتها المتألِّقة «النمر» (ديوان «أغاني الخبرة»، ١٧٩٤). وكما أوضح الناقد ويليام هازليت أثناء حياة بليك، فإن «أسدًا يطارد قطيعًا من الغنم أو الحمر الوحشية يمثل موضوعًا أكثر شاعرية منهما» (مقال عن «كوريولانوس» في «شخصيات شكسبير المسرحية»، ١٨١٧). ويحقق الأدب القصصي أفضل تأثيراته عندما يُوضَع الراوي، ومن ثَمَّ القارئ، موضع الفريسة المطارَدة، فتُولَد الإثارة من رحم الخوف، مثل جيم هوكينز وهو يسمع اقتراب بلايند بيو في قصة المغامرات المثيرة لروبرت لويس ستيفنسون:

عندما كنا في منتصف الطريق، وضعتُ يدي فجأة على ذراعها، فقد سمعتُ صوتًا يخترق ربوع المكان بسكونه وبرودته التي تقشعرُّ منها الأبدان، صوتًا جعل قلبي يرتجف خوفًا، كان ذلك وقْعَ عصا الرجل الأعمى على الطريق الثلجي.

«جزيرة الكنز»، ١٨٨٣

غالبًا ما تكون أكثر الشخصيات تشويقًا غرباء مِن نوع ما؛ وأكثر صغار القُراء نهمًا في القراءة هم الأطفال الوحيدون أو الذين يشعرون بالوحدة أو الانطوائيون، وهم يتوحَّدون بسهولة مع شخصية جيم هوكينز المنعزل الذي يقدِّم له القراصنة مجتمعًا بديلًا جذَّابًا. أما جيمس هنري تروتر لروالد دال، وهو يَتِيم تُربِّيه عمَّتاه القاسيتان سبايكر وسبونج، فهو يجد مجتمعه البديل وسط الكائنات التي تتخذ من ثمرة الخوخ العملاقة مسكنًا لها، مثلما يفعل هاري بوتر وسط سحرة هوجورتس.

يرجع الاقتصاد في استخدام العناصر الفنية في مسرحية «عطيل» لشكسبير جزئيًّا إلى كيفية تقسيم الدراما لشخصية الغريب؛ حيث يُعَدُّ عطيل المغربيُّ غريبًا بحكم أصله، ولكنه يرغب في أن يكون محبوبًا ممن حوله، وهو أحد معاني الانتماء، بينما إياجو البندقي قد وُلِد في تلك البلاد، لكنه لا يرغب في الحب، وهو المنعزل والحالِم «الشرير»، وهذا أحد معاني الاغتراب.

يهتم الكُتَّاب بالغرباء تحديدًا؛ لأن إحساسهم بالاغتراب غالبًا ما يكون نابعًا من داخلهم. وبدلًا من الانخراط في الحياة والمشاركة فيها، يشاهدون أنفسهم وهم ينعزلون عن الحياة جاعلين منها المادة الخام للفن. وكثيرًا ما كان يُلاحَظ أن مؤامرة إياجو مشابهة لمؤامرة شكسبير ذاته، وقد يبدو غريبًا أن نصِف شكسبير بالغريب، ولكن لا بد أنه قد شعر بذلك وهو يدخل عالم المسرح في لندن دون أن يكون حاملًا للشهادة الجامعية التي تُعتبَر علامة الانتماء لدى رفاقه من الكُتَّاب المسرحيين. وعلى الأرجح، فقد كان يتحدث بلهجة ريفية غليظة، وهي أحد الأسباب التي جعلتِ الآخرين يشيرون إليه في بداية الأمر ﺑ «الغراب مُحدَث النعمة». وكان روبرت لويس ستيفنسون شديد الاغتراب حتى إنه قضى معظم حياته القصيرة مسافرًا واختتم حياته بقضاء ستة أعوام في ساموا. ولم يشعر روالد دال الذي كان يجمع بين الأصل الويلزي والنرويجي بالانتماء في إنجلترا قط، رغم أنه كان طيَّارًا في سلاح الطيران الملكي أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد كتب قصة «جيمس وثمرة الخوخ العملاقة» (١٩٦١)، وهو الكتاب الذي استهلَّ به حياته المهنية مؤلِّفًا إنجليزيًّا لكتب الأطفال أثناء إقامته في نيويورك البعيدة.

يُعد الفنان والكاتب الفيكتوري إدوارد لير مثالًا رائعًا للغريب، فقد وُلِد في عائلة كبيرة متقلبة الحال من سيِّئ إلى أسوأ في حي هولواي بشرق لندن، وقضى معظم مرحلة الرشد من حياته منفيًّا وهائمًا على وجهه؛ حيث كان رسَّامًا مرتحلًا في أوروبا والشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. وبِوُسعنا أن نفسر قصائده الجوفاء التي لا معنى لها بوصفها ردَّ فعل لحياة قضاها بين اللغات الأجنبية:

قبل سنوات طوال مضتْ
كان دونج يعيش سعيدًا ومبتهجًا،
حتى وقع في غرام فتاة من الجامبلي
أتتْ يومًا إلى تلك الشُّطآن.
ولأن الجامبلي أتَوْا في قارب، نعم هكذا فعلوا،
فرسَوْا ليلًا بالقرب من زميري فيد؛
حيث تنمو أصداف أوبلونج أويسترس المستطيلة،
وحيث الصخور رمادية ملساء.
«دونج صاحب الأنف المضيء»، ١٨٧٦

عندما أستمع إلى قارئ روسي أو صيني أو من قبيلة اليوروبا يُلقِي شعرًا بلغته، لا أفهم شيئًا ولكنني أشعر بالبهجة الشديدة لسماع الإيقاع الشعري وأصوات الكلمات، وتعترينا بهجة مشابهة في هذه القصيدة بلغتنا المحلية عندما نصادف أسماء أماكن غريبة مثل «سهل جرومبوليان العظيم» أو «تلال تشانكلي بور» أو «زيمري فيد».

ثمة طريقة أخرى لقراءة قصائد لير الجوفاء وهي استخراج قصة منها غصبًا. ماذا نعرف عن دونج؟ هو مخلوق رقيق القلب يُنظَر إليه بمزيج من الانبهار والخوف والاشمئزاز بوصفه كائنًا أدنى من الإنسان إلى حدٍّ ما، وهو رحَّالة وحيد ذو أنف غريب يُضفي عليه مظهرًا غير طبيعي، وهو يبحث عن حبيبة مفقودة ويشتاق إليها، وهي فتاة من الجامبلي ذات مظهر غير طبيعي أيضًا؛ نظرًا لرأسها الأخضر ويديها الزرقاوين: «قبل سنوات طوال مضت/كان دونج يعيش سعيدًا مبتهجًا.» ورغم أن كلمة gay التي استخدمها — والتي تعني في العصر الحديث «شاذ» — لم يكن لها نفس المعنى الحديث في القرن التاسع عشر، فثمة احتمال قوي أن يكون أحد أسباب الاغتراب الدائم لدى إدوارد لير — الذي كان يكره أنفه الكبير — في إنجلترا في العصر الفيكتوري أنه — كما نكاد أن نجزم — كان يُخفي بداخله الشذوذ، وهو ما جعله تعيسًا (ذلك بالإضافة إلى أسباب مثل الصرع والاكتئاب ومجموعة من المشاكل الصحية الأخرى).

العصر الذهبي لأدب الأطفال

«في يوم من ذات الأيام» هكذا نبدأ الأدب، وهكذا على الأرجح بدأ الأدب. كان المجتمع البدائي يجتمع حول النيران ويستمع إلى الراوي وهو يستحضر أرواح الآلهة والأجداد والأبطال. والبشر بحاجة إلى القصص كي يفهموا العالَم، والأطفال يحبون القصص ويفهمون عالمهم من خلالها؛ ومِن ثَمَّ فإن تاريخ أدب الأطفال تاريخ للأدب ذاته. وأول الأعمال الكلاسيكية الإنجليزية التي قُرئت على مسامع كل الأطفال المتعلمين تقريبًا (رغم أنها كانت أحيانًا النسخة المختصرة) هي «رحلة الحاج» (١٦٧٨) لجون بونيان و«روبنسون كروزو» (١٧١٩) لدانييل ديفو، وهما ينتميان إلى عصرٍ كانت الحياة الثقافية البريطانية تتحول فيه بفعل التأثير المشترك لحركة التزمُّت الديني ونظرية جون لوك في علم النفس التي ترى عقل الطفل بوصفه صفحة بيضاء يُكتَب فيها عن طريق التعليم والبيئة. وفي ظل تلك التأثيرات تحديدًا، اتخذ أدب الأطفال الصريح وروايات البالغين الشكل الحديث المعروف. وبحلول مطلع القرن التاسع عشر كانت لدينا مجموعة ضخمة من كتب الأطفال، وحتى مسرحيات شكسبير قد تحوَّلتْ إلى قصص للأطفال، وذلك عن طريق تحويلها إلى روايات على يد ماري وتشارلز لامب في كتاب بعنوان «حكايات من شكسبير» (١٨٠٧).

غالبًا ما يُعتبر عصر الملك إدوارد السابع في مطلع القرن العشرين العصرَ الذهبي لأدب الأطفال. وإذا كان الموضوع البارز في أدب الأطفال الإنجليزي هو اجتياز الطفولة والطرد من المدينة الفاضلة، فإن المذاق المميِّز للكتابة في عصر الملك إدوارد يأتي من معرفتنا التي نملكها حاليًّا بأنه ينتمي إلى نهاية عصر طويل من السلام (النسبي) والاستقرار الاجتماعي (المقارن)، فأبناء العصر الإدواردي كالأطفال الذين يلعبون في ضوء الشمس قبل أن يستيقظوا على حقيقة مُرَّة. وقد رأتْ فرجينيا وولف هذا النموذج واستخدمتْه في بنية روايتها «إلى المنارة» (١٩٢٧)؛ فالجزء الأول تدور أحداثه قبل الحرب عن عطلة صيفية للأطفال على شاطئ البحر، وتؤدِّي الحرب إلى فجوة قصيرة في الجزء الثاني، والجزء الثالث مرثية شخص بالغ لعالَم مفقود.

لم يكن مؤلفو قصص الأطفال في عصر الملك إدوارد يدركون أن الحرب العظمى على الأبواب، ولكنهم شهدوا تغيرات أخرى وقلقوا بشأنها. وفي قصة «رياح في شجرة الصفصاف» (١٩٠٨) يُبرز كينيث جراهام رسوخ الغابة البرية التي يسكنها بادجر في الجانب المقابل من ضفة النهر التي يقوم مضاربو البورصة والسماسرة مُحدَثو النعمة ببناء القصور الجديدة عليها. لقد اختفى النموذج الأرستقراطي القديم لسيد الضيعة؛ فقد بِيعتْ قاعة تود لسيدٍ نبيلٍ زائف مولع بالسيارات السريعة، وسوف يستولي عليها لاحقًا أبناء الطبقة العاملة المراوغون بوضع اليد. ويعد هذا الكتاب مرثية لأسلوب حياة قديم ومستقر؛ واقع مفقود، يعرف فيه الناس منازلهم ولا تملك النساء فيه حق التصويت. وحتى بينما نبتسم بدفء على تود المتفاخِر وهو يقلِّد صوت محرك السيارة «بووب بووب» بسذاجة وحيوية وأنانية، يُفترَض أن نتعامل مع سوقيته وابتذاله بنفس الطريقة التي نتعامل بها مع ابنة السجَّان المتزنة طيبة القلب:

قال تود بفخر: «تصلح قاعة تود مسكنًا مستقلًّا شديد التميز لسيد نبيل؛ حيث يرجع تاريخها جزئيًّا إلى القرن الرابع عشر، ولكنها حافلة بكل وسائل الراحة العصرية. فيوجد فيها نظام صرف صحي حديث وتبعد خمس دقائق عن الكنيسة ومكتب البريد وملاعب الجولف، وهي صالحة ﻟ …»

فقالت الفتاة ضاحكة: «فليبارك الله في الحيوانِ! لا أريد امتلاكها، أخبرني شيئًا ملموسًا عنها، ولكن انتظر أولًا حتى آتيك بالمزيد من الشاي والخبز المُحمَّص.»

سبق كينيث جراهام إيفلين ووه، الذي كان كتابه المفضَّل «رياح في شجرة الصفصاف»، في رثائه لانحدار المعنى الحقيقي لشخصية السيد النبيل مثل توني لاست الذي كان جديرًا باسمه في رواية ووه «حفنة من التراب» (١٩٣٤) والذي لا يشغل نفسه بنظام الصرف الصحي الحديث وملاعب الجولف، وهي الأمور التي ينشغل بها مُحدَثو النعمة وسماسرة العقارات.

ثمة خيال مألوف شبيه بالحكايات الخرافية عن التحول الاجتماعي؛ حيث تقوم جِنِّيَّة متجولة ليلًا باستبدال طفلين رضيعين في مهديهما، ويتضح أن طفلة لقيطة هي في الأصل أميرة، ويناسب الخُفُّ الزجاجي قَدَم سندريلا. أما النسخة الحديثة من تلك القصة في العصر الفيكتوري والإدواردي، فتصوِّر أحد العامة وقد أصبح أرستقراطيًّا. وثمة أمثلة تاريخية عديدة على التزاوج بين العائلات العريقة ذات الأملاك والمكانة الاجتماعية الرفيعة، ولكنها تعاني نقصًا في المال، وبين الأغنياء الجُدد سواء صاحب المصنع الحضري أو الوريثة الأمريكية. وتكمن عبقرية «صورة سيدة» لهنري جيمس التي نُشِرت عام ١٨٨١ في الطريقة التي توضح بها إيزابيل آرشر أنها امرأة روحانية عندما ترفض الزواج من لورد واربرتون حتى لا تصبح سيدة صورية. وبعد بضعة أعوام، كتبتِ الروائية الإنجليزية الأمريكية فرانسيس هودسون بيرنت (التي كان قد سبق لها أن كتبتْ روايات للبالغين عن الفقر والصراع الطبقي والخلاف الزوجي) قصتها الأولى للأطفال التي تحمل عنوان «اللورد فونتلروي الصغير» (نُشِرت على هيئة حلقات مسلسلة في إحدى المجلات عام ١٨٨٥، وفي صورة كتاب عام ١٨٨٦). عاش سدريك إيرول الصغير في بروكلين فقيرًا متعففًا مع والدته الأرملة، ثم يصل محامٍ إنجليزي يُدعَى هافيشام، وهو الاسم الذي يوحي على الفور بأن سدريك تنتظره «توقعات كبرى»، وبالطبع يُخبَر الطفل بأنه قد أصبح وريثًا لسلطان اللورد وضَيعة كبرى في إنجلترا. وقد جعل هذا الكتاب من مؤلفته صاحبة أعلى إيرادات في الولايات المتحدة؛ إذ بيعتْ منه ملايين النسخ وتُرجِم إلى عشرات اللغات وتحوَّل إلى عروض مسرحية وتليفزيونية، وأصبح أيضًا ظاهرة تسويقية؛ ففي كلٍّ من إنجلترا والولايات المتحدة كانت الأمهات في أواخر العصر الفيكتوري يَكسُون أبناءهن ملابس فونتلروي.

وكالعديد من الكُتَّاب كانت بيرنت امرأة غير تقليدية؛ حيث وُلِدتْ في إنجلترا وتزوجتْ من رجل أمريكي وعبرت المحيط الأطلنطي، وكانت لها قصة حب شهيرة جدًّا، وحصلتْ على الطلاق من زوجها ثم تزوجتْ رجلًا إنجليزيًّا، وأعطتْ عملها الأولوية على حياتها العائلية وكانتْ تقضي معظم الوقت بعيدًا عن المنزل. وهكذا، فلم تكن عالقةً على نحو مضاعف بين دولتين فحسب، بل بين عالَمين أيضًا؛ عالَمِ خيالها وواجبات الأمومة، وقد تحطَّم قلبُها عندما فقدتْ أحد أبنائها بسبب مرض السل وهو في الخامسة عشرة من عمره، ويُعَدُّ شفاء الطفل المريض كولين في «الحديقة السرية» (١٩١١) خيالًا تعويضيًّا مستوحًى من هذا الحرمان. أما ابن بيرنت الذي بقِيَ على قيد الحياة فقد عانَى نَفْسَ مصير كريستوفر روبن للكاتب إيه إيه ميلن؛ حيث ظل يشعر دائمًا بالحنق تجاه والدته لاستخدامها إياه كنموذج للورد فونتلروي الصغير. فمصدر الألم الدائم لأحبَّاء الكُتَّاب وأصدقائهم وأقاربهم أنهم قد وجدوا أنفسَهم يُستخدَمون كمادة خام تتحول إلى نوع من الفن على حساب الحياة، ولا يتم ذلك التحوُّل دائمًا بأسلوب لطيف.

استُوحِيَتِ «الحديقة السرية» من حديقة محاطة بأسوار في مقاطعة كِنت؛ حيث قضتْ بيرنت بعض الأعوام السعيدة وهي تؤدِّي دَوْر السيدة الإنجليزية الريفية، ولكن الرواية كُتبتْ في الولايات المتحدة، وتُرى إنجلترا الريفية بوضوح أكبر من الخارج. في الرواية، كانت ربة البيت ماري — وهي فتاة صغيرة مُدلَّلة — قد ورثتْ إمبراطورية، وأتتْ إلى المنزل الذي يطل على المستنقع قادمةً من الهند، وهي عالَم ثانٍ كان يمثِّل خلفيةً ذاتَ مرجعية قوية في معظم الأعمال الأدبية في ذلك الوقت. وتُعالَج ماري من مرضها على يد ديكون، وهو ابن الطبيعة الذي قابلتْه في الحديقة السرية. ويعد التفاعل بين الواقعية التي يؤدِّي فيها المركز الاجتماعي دورًا رئيسًا، والرومانسية التي تتسبب فيها علاقة روحية مع عالَم الطبيعة في الإشباع الروحي؛ أحد ركائز القوة الإبداعية التي تقع في صميم الأدب الإنجليزي.

إنجلترا من الخارج

في أغسطس عام ١٩٠٠ قَدِم روديارد كيبلينج الذي كان ابن حاكم الهند البريطاني، وكان رحَّالة وشاهدًا على حرب البوير؛ كي يعيش في إنجلترا. واكتشف منزل بيتمان، وهو منزل راسخ متين يرجع إلى عصر المَلِك جيمس الأول يقع في وادٍ بالغابة أسفلَ التل من قرية بيرواش شرق ساسكس. كان كيبلينج على النقيض تمامًا من السيد تود مقاومًا للخُيَلاء والغطرسة الاجتماعية، وسوف يرفض لاحقًا كلًّا من لقب السير وشاعر البلاط، وظل مصرًّا على أن منزل بيتمان ليس قصر مالك الضَّيْعة، ولكنه منزل أحد أصحاب مصانع الحديد الناجحين. لم يكن المنزل يحتوي إلَّا على حديقة وفرن وبرج حَمَام، بلا ساحة مخصصة لوقوف السيارات ولا كوخ عند البوابة ولا ممر خاص طويل «أو أيٍّ من ذلك الهراء».

استكشف كيبلينج المناظر الطبيعية المحلية؛ مثل مستنقعات راي ورومني والحجر الجيري في ساوث داونز والغابات والمُروج، وزَرَع أشجارَ التفاح وشَرَع في تربية النحل، وانبهر بصانع سياج محلي؛ حيث أكسبتْه مُشاهَدَةُ ذلك الحِرفِيِّ وهو يجتثُّ سياجًا من الأشجار «نوعًا جديدًا من احترام البشر»: «كان صيادًا بالوراثة والفطرة»، وكان «أكثر «توحُّدًا مع الطبيعة» من قاعات كاملة حافلة بالشعراء … كان مَعينًا من الحكمة والدراية عن الأشجار والسياجات والنباتات والأرض بوجه عام» («شيء عن نفسي»، ١٩٣٧). وفي الهند، تساءل كيبلينج «ما الذي ينبغي أن يعرفه عن إنجلترا مَنْ لا يعرفون سواها؟» («العلم الإنجليزي»، في «قصائد الثكنات الغنائية»، ١٨٩٢). والآن كان هو نفسه يتعرف على إنجلترا ويكتشف ماضيَها القومي من خلال عِلْم الآثار، فقد اكتشف في بلاده آثارًا ترجع إلى العصر الحجري الحديث وأخرى ترجع إلى عصر كرومويل، ومن خلال تعقُّب ملامح الأرض المتغيرة، بما تعكسه من التاريخ الطويل الذي تحولت فيه الغابة إلى مرعًى ثم إلى مزرعة للأشجار ثم إلى مرعًى مرة أخرى.

كشف كلٌّ من «كتاب الأدغال» (١٨٩٤) و«مجرد قصص» (١٩٠٢) عن موهبة كيبلينج كقاصٍّ بارع للأطفال؛ ففي «عفريت تل بوك» (١٩٠٦) وجزئها الثاني «مكافآت وجنيات» (١٩١٠) حوَّل المعرفة المحلية التي اكتشفها حديثًا إلى أساطير للوطن الذي لم يولد فيه، وحاك بخياله تاريخًا للقُرَّاء الصغار لا على أساس تسلسل الأحداث ولا مؤسسات الدولة، بل على أساس الجغرافيا أو بالأحرى الجغرافيا النفسية للأرض.

يجد الطفلان دان وأونا مرشدًا لهذا التاريخ عندما يؤدِّيان عرضًا مسرحيًّا لنسخة مصغرة من مسرحية «حلم ليلة صيف» لشكسبير على مسرح صيفي بسيط في أحد المروج، وفجأة يسمعان صفارة بين أشجار جار الماء وتنفتح الشجيرات كما لو كانت ستارة مسرح ويظهر بوك الحقيقي، فيقول دان مدافعًا «هذا حقلنا». وفيما يلي اقتباس لحوار طويل بعض الشيء؛ كي أنقل تحديدًا الشعورَ بالإيقاع السجعي المنقطع النظير لدى كيبلينج. اقرأه بصوت عالٍ وببطء، فعليك أن تقرأ كيبلينج ببطء:

قال الزائر وهو يجلس: «أهكذا؟ بحق السماء، ما الذي جعلكم تُمثِّلون حلم ليلة صيف ثلاث مرات في عشية ليلة القديس جون وسط حلقة أسفل واحد من أقدم التلال التابعة لي في إنجلترا القديمة؟ تل بوك – تل العفريت – تل العفريت – تل بوك! الأمر واضح تمام الوضوح.»

أشار إلى المنحدر الظاهر للعيان والمغطَّى بنبات السرخس لتل بوك الذي يمتد من الجانب البعيد لجدول الطاحون إلى غابة مظلمة، ووراء تلك الغابة كانت الأرض ترتفع وترتفع حتى خمسمائة قدم، حتى تجد نفسك في نهاية الأمر على القمة المكشوفة لتل بيكون؛ كي تطل على سهول بيفينسي والقناة ونصف تلال ساوث داونز الظاهرة للعيان.

«… لقد فعلتما شيئًا كان الملوك قديمًا يتنازلون عن عروشهم والفرسان عن مهاميزهم والعلماء عن كتبهم في سبيل اكتشافه. وإذا كان مرلين نفسُه قد ساعدكما، فلم تكونا لِتفعلا أفضل من ذلك! لقد حطمتما التلال، لقد حطمتما التلال! وهو ما لم يحدث طوال ألف عام.»

فقالت أونا: «إننا … إننا لم نقصد ذلك.»

«بالطبع لم تقصدا ذلك، وهذا تحديدًا السبب وراء أنكما فعلتماه! لسوء الحظ فإن التلال خالية الآن وكل سكانها قد رحلوا، لم يتبقَّ سواي، أنا العفريت، أقدَم شيء قديم في إنجلترا، وأنا على أتم الاستعداد لمساعدتكما إذا … إذا اهتممتما لأمري، وإذا لم تهتما فما عليكما بالطبع إلا أن تُصرِّحا بذلك وسوف أرحل.»

فمدتْ أونا يدها قائلة: «لا ترحل؛ فنحن نحبك.»

وقال دان: «يمكنك تناول بعض الرقائق.» وناوله قطعة البسكويت الطري مع البيض.

تربطنا الرقائق والبيض المسلوق جيدًا المهروس بأرض الواقع، بينما يجنح بنا الخيال بعيدًا. ويستعير فكرة البيض أيضًا السيد تومنوس، وهو نسخة أخرى من عفريت كيبلينج، عندما يدعو لوسي لاحتساء أول فنجان شاي لها في نارنيا، وذلك في رواية «الأسد والساحرة وخزانة الملابس». ويشير لويس إلى امتنانه عن طريق ذكر أسماء الطفلين من سهول بيفينسي اللذين ورد ذكرهما هنا؛ حيث يقوم دان وأونا بتحطيم التلال وتحرير روح الأرض. ويحفل أدب الأطفال بذكر الطعام، مثل نزهة راتي ومول في رواية «رياح في شجرة الصفصاف»، والمنتجات الغريبة في مصنع الشيكولاتة الذي يملكه السيد ويلي وونكا (١٩٦٤)، كما لو كان يقدم قياسًا بين غذاء الجسد وتأثير الكتاب نفسه في غذاء العقل. وفي الملجأ كان أوليفر تويست محرومًا من الغذاء والتعليم على حدٍّ سواء، فهو جائع يرغب في المزيد من العصيدة والمزيد من الفرص للتحليق بخياله.

يمنح عفريت تل بوك كلًّا من دان وأونا سلسلة من الرؤى المتعلقة بتاريخ إنجلترا أساسها الأيكة والغدير، ونسافر عبر الزمن من العصر البرونزي إلى عصر جورج واشنطن، ونقابل أحد قادة المائة في الجيش الروماني الذي كان يقاتل عند سور هادريان (الذي بناه الإمبراطور الروماني هادريان بعرض إنجلترا الحالية) لحماية الحضارة الرومانية من البربر، وهي صورة إمبراطورية تستحضر في الذهن الحدود الشمالية الغربية للهند، ولكن كيبلينج يؤكد بالأساس على الصلح بين الساكسونيين والنورمان. ومِن ثَمَّ، فإن إنجلترا التي يعنيها هي أمة هجينة أَثْرَتْها موجات متعاقبة من الغزو والهجرة، وهويتها متعددة الأعراق قد حفرت في الأرض ذاتها. وعلى مدار القرون تخلى الوافدون عليها عن دياناتهم واعتنقوا بدلًا من ذلك القيمَ «الإنجليزية» كالتسامح وروح الدعابة والمساواة، وتحولت آلهة السماء في الديانات القديمة إلى أرواح للمكان تتوسط بينها شخصية تُدعَى هوبدن، وقد بُنيت تلك الشخصية على أساس صانع السياج القديم. وتقدِّم رواية «عفريت تل بوك» لقرَّاء كيبلينج من الأطفال تاريخًا من العَلْمَنة والتكامل يحكي قصة وطنية شديدة الاختلاف عن تلك التي ساهم في وضعها في نفس الوقت تقريبًا في الكتاب المؤيِّد للفكر الاستعماري «تاريخ إنجلترا» (١٩١١)، الذي اشترك في تأليفه مع مؤرخ محترف يُدعَى سي آر إل فليتشر الذي أدخل نغمة عنصرية تُعَدُّ الآن مُنفِّرة.

وصف هنري جيمس روديارد كيبلينج بأنه أكثر العباقرة الذين عرفهم اكتمالًا، ولكنه في بريطانيا القرن الحادي والعشرين غالبًا ما يُنبَذ بوصفه متحدثًا رسميًّا ضيِّق الأفق باسم الاستعمارية. وغالبًا ما يأتي ذلك النبذ من أشخاص لم يقرءوا «كيم» (١٩٠١)، وهي رواية «فارقة» عن صبي، تروق للكبار والصغار على حد سواء، على غرار «أوليفر تويست» لديكنز أو «المواد المظلمة» لبولمان. وهي تُروَى بضمير الغائب، لكنها مكتوبة بعيون كيم الطفل اليتيم لجندي أيرلندي، الذي عاش فقيرًا في شوارع لاهور. يشرع كيم في رحلة مزدوجة، فقد تورط في «اللعبة الكبرى» للتجسس عندما كان البريطانيون والروس يتصارعون من أجل فرض السيطرة على أفغانستان، وفي الوقت نفسه اتَّبع راهبًا بوذيًّا في طريق التنوير الروحي. ويعد الاختيار بين طريق السياسة وطريق الروح نسخة أخرى من الجدل بين الواقعية والرومانسية، ولكن التميز الأكبر للرواية يأتي من رؤيتها للحياة الحافلة المتعددة الثقافات في الهند كما عاينها (صورةً وصوتًا ورائحة) في طريق جراند ترانك؛ حيث «تتحرك كل الطبقات الاجتماعية وكل أصناف الرجال … البراهمة (أفراد الطبقة العليا عند الهندوس، ولا يكون الكهنة إلا منهم) والشومار، المصرفيون والعمال، مصففو الشعر والتجار، عابرو السبيل وصناع الخزف، العالم بأسره يروح ويغدو.» وكان الناقد اللبناني الأمريكي إدوارد سعيد أحد محللي أواخر القرن العشرين الأكثر تأثيرًا لما اعتبره العلاقة التعايشية بين قوى «الثقافة والإمبريالية»، ولكن أطول الفصول في كتابه الذي صدر عام ١٩٩٣ بهذا العنوان عبارة عن قراءة مفصَّلة شديدة التعاطف لشخصية كيم بعنوان «ملذَّات الإمبريالية» الذي يُؤكد فيه أن المعنى الذي يدور حوله الكتاب هو ارتباط كيبلينج العميق بالهند التي أحبها، لكنه لم يستطع أن يحتفظ بها حقًّا. ورغم استيعاب كيبلينج للثقافات المتعددة بالهند، القائم على التفهُّم والتأييد، فقد آمن أن مِن واجبه أن يحتمل ما أطلق عليه على سبيل الاستقباح والإساءة للسمعة «عبء الرجل الأبيض»، وكان من المتوقع أن يأفُل نجمه عند اختفاء الإمبراطورية. وكانت قصة الأدب الإنجليزي في النصف الثاني من القرن العشرين على النقيض من رحلته، وهي تتلخص في منح صوت للرعايا المستعمرين. وقد حاكى «في إس نايبول» — الذي كان من أصل هندي ينحدر من جزر الهند الغربية — وصول كيبلينج إلى منزل بيتمان في «لغز الوصول» (١٩٨٧) في مجتمع ريفي مستقر في ويلتشير، بل إنه يعثر على صانع سياج قريب الشبه بهوبدن لدى كيبلينج، وهو مصدر العادات والتقاليد المحلية في الرواية.

وفي النص السينمائي الإيطالي الاسكتلندي الإنجليزي الحاصل على جائزة أوسكار لأنتوني مينجيلا، والمقتبَس من الرواية السريلانكية الكندية الحاصلة على جائزة بوكر للكاتب مايكل أونداتجي والتي تحمل عنوان «المريض الإنجليزي» (١٩٩٢)؛ يعاد تقديم بداية «كيم» بنغمة ما بعد استعمارية مع منح دور محوري لخبير مفرقعات من طائفة السيخ يُدعَى كيب، وهو على غرار كيم قد وُلِد في لاهور:

المريض : عليك أن تقرأ كيبلينج ببطء، فعينك نافدة الصبر، فكِّر في سرعة قلمه (مستشهدًا بكيبلينج للتوضيح) ما هي؟ «جلس … متحديًا الأوامر المحلية … منفرج الساقين إلى جوار ماسورة المدفع زمزمة …» «… المنزل العجيب … كما يطلق السكان المحليون على متحف لاهور.»
كيب : ما زال المدفع هناك خارج المتحف، وهو مصنوع من أكواب وأوعية معدنية أُخذَت على سبيل الضريبة من كل أسرة في المدينة ثم صُهرت، ولاحقًا أُطلقتْ نيران المدفع على قومي … أهل البلد.
المريض : فما هو إذن وجه اعتراضك؟ الكاتب أم ما يكتب عنه؟
كيب : ما أعترض عليه حقًّا يا عمي هو احتساؤك كل اللبن المكثف الخاص بي (مختطفًا العلبة الفارغة) والرسالة التي يحملها كتابك في كل مكان مهما قرأته ببطء، وهي أنَّ أفضل مصير للهند أن يحكمها البريطانيون.

وفي القرن الحادي والعشرين أصبح سؤال كيبلينج أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى: ما الذي ينبغي أن يعرفه عن إنجلترا مَنْ لا يعرفون سواها؟

والمريض الإنجليزي المجهول أُلماشي من أصل مجري، وهو يطمح إلى حالة ما بعد الاستقلال السياسي، وهو يمثل نقد أونداتجي لمفهوم الهوية القومية، ولكن بانغماسه في هيرودوت وكيبلينج فإنه يجسد الثقافة المهذبة. وعندما ينخرط في جدال حول رواية «كيم»، يضم السرد محاولة للقراءة والتفسير الأدبي. ويدمج النص السينمائي الذي كتبه مينجيلا ببراعة بين مشهدين في رواية أونداتجي، بالأحرى كما كان شكسبير يخلط أجزاءً مختلفة من مصادره؛ ففي الكتاب نقشت الفقرة التي تتناول التاريخ الحقيقي للمدفع زمزمة على الورقة البيضاء في مقدمة نسخة من رواية «كيم» شخصية أخرى وهي الممرضة الكندية هانا. وتعني الكتابة الأدبية إعادة كتابة الأدب الحالي، فيرد أونداتجي على كيبلينج كما يرد بولمان على ميلتون ومالوري بلاكمان على شكسبير، محولًا «روميو وجولييت» إلى ديستوبيا مختلطة الأجناس («السود والبيض»، ٢٠٠١).

عندما تقرأ الشخصيات الكتب، مثل جين إير وهي تجلس في مقعدها بجوار النافذة في بداية رواية شارلوت برونتي، أو كاترين مورلاند وهي تلتهم الروايات القوطية في رواية جين أوستن «دير نورثانجر» (١٨١٨)، فهي تصبح مرآة القارئ الذي يطالع الكتاب. ويعد الهروب إلى عالم آخر مثل أليس وهي تهبط إلى جُحر الأرنب في رواية لويس كارول «أرض العجائب» (١٨٦٥) أو «عبر المرآة» (١٨٧١)، أو عبور أطفال بيفينسي من خزانة الملابس، مماثلًا لهروب القارئ من عالمه الدنيوي إلى العالم السحري للأدب. والآن نحن بحاجة لأن نتساءل عن حدود هذا العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤