رسالة إلى ولدي

١

أي بني:

إني لأعلم أنك قد خلقت لزمن غير زمني، وربيت تربية غير تربيتي، ونشأت في بيئة غير بيئتي — لقد كنت في زمني عبد التقاليد والأوضاع، وأنت في زمن يكسر التقاليد والأوضاع، وكنت في زمن شعاره الطاعة، الطاعة لأبي ولأولياء أمري، وأنت في زمن شعاره التمرد، التمرد على سلطة الآباء، وعلى المعلمين وعلى أولي الأمر — وتعلمت أول أمري في كُتَّاب حقير، نجلس فيه على الحصير، ويعلمنا مدرس جبار، يضرب على الهفوة وعدم الهفوة، ويعاقب على الخطأ والصواب، ويمرن يده بالعصا فينا كما تمرنون أيديكم على الألعاب الرياضية. وأنت تعلمت في روضة الأطفال حيث تشرف عليك آنسة رقيقة مهذبة، وتقدم لك تعليم القراءة والكتابة في إطار من الصور والرسوم والأغاني وما إلى ذلك. وكنت أعيش في كتَّابي على الفول النابت والفول المدمس، وأنت تعيش في روضتك على اللبن والشاي والبسكويت وما إلى ذلك أيضًا.

ثم لما صبوت تعلمت في المدارس الفرنسية حيث تنقل إليك في تعاليمها كل أساليب المدنية الغربية — وتربيت أنا في وسط كله دين — دين في الكتب ودين في الحياة الاجتماعية ودين في أوساطي كلها. وتربيت أنت في مدارس أو جامعات لا يذكر فيها الدين إلا بمناسبات. وكان يذكر الدين في وسطنا دائمًا ليحترم، وكثيرًا ما يذكر الدين في وسطك ليهاجَم. ونشأت في وسط لا تذكر فيه السياسة إلا لمامًا، ونشأت في وسط كله سياسة وإضراب وأكثر من الإضراب. ونشأت في وسط لا يعرف المرأة إلا محجبة، ولا يعرف فتاة إلا أن تكون قريبة، ونشأت أنت في وسط تجالسك الفتاة في جامعتك وتشاهدها في أوساطك وقد أخذت من الحرية مثل ما أخذت؛ ولو عددت لك الفروق بيني وبينك، في زمني وزمنك، وتعليمي وتعليمك، وبيئتي وبيئتك، لطال الأمر.

ولكن برغم كل هذا فالفروق مهما كانت فروق جزئية، ولا يزال بيني وبينك وجوه شبه أعمق من هذه المظاهر، فالتغيرات بين الناس مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة تغيرات سطحية وأمور عرضية؛ أما الإنسان في جوهره والجمعيات البشرية في نزعاتها الأصيلة فترجع إلى أصول واحدة، ومن أجل هذا كانت تجارب السلف تفيد الخلف. فلأقص عليك شيئًا من تجاربي التي أعتقد أنها تفيدك، مهما اختلفت بيئاتنا ومدارسنا وثقافتنا.

•••

أهم ما جربت في حياتي أني رأيت قول الحق والتزامه، وتحري العدل وعمله، يكسب الإنسان من المزايا ما لا يقدر، لقد احتملت في سبيل ذلك بعض الآلام، وأغضبت بعض الأنام، وضاعت عليَّ من أجله بعض المصالح، ولكني برغم ذلك كله قد استفدت منه أكثر مما خسرت، لقد استفدت منه راحة الضمير، واستفدت منه ثقة الناس بما أقول وما أعمل، واستفدت منه حسن ظنهم بما يصدر عني ولو لم يفهموا سببه، ومع هذا فقد استفدت منه أيضًا ماديًّا أكثر مما استفاد غيري، ممن لم يلتزموا الحق ولم يراعوا الصدق والعدل. لقد وُجدت في أوساط كثيرة وعاشرت زملاء كانوا يرضون رؤساءهم أكثر مما يرضون ضمائرهم، ويقولون ما يعجب الناس لا ما يعتقدون أنه الصدق، ويرتكبون الظلم طلبًا للجاه أو العلو في المنصب، ومع هذا فقد ربحوا قليلًا وخسروا كثيرًا. لقد خسروا الفضيلة وخسروا الضمير، وفازوا بقليل من الحظ العاجل تبعه كثير من الفشل الآجل. فلو حسبت بالدقة ما كسبت وما خسرت وما كسب هؤلاء وما خسروا لوجدتني أسعد حالًا وأوفر حظًّا. فإذا أردت أن تنتفع بتجربتي فالتزم الحق والصدق والعدل في جميع أعمالك مهما تكن النتيجة.

نعم رأيت من زملائي من تمسكوا بهذه الفضيلة فخسروا كثيرًا وفشلوا فشلًا ذريعًا، ولكن لم يكن عيبهم أنهم التزموا الحق والصدق والعدل، بل عيبهم أنهم التزموا هذه الصفات في سماجة، فقالوا الحق في غير أدب والتزموا الصدق في غير لباقة، وتحروا العدل في غير لياقة، فلم يكن الذنب ذنب الحق، ولكن الذنب ذنب السماجة. فتعلَّم من هذا أن تقول الحق في أدب وتتحرى العدل والصدق في لباقة ولياقة. فمن غضب بعد ذلك كان الذنب ذنبه ولا ذنب عليك، ولا تتعجلن النتيجة فقد تمس من الحق نارًا، ويهب عليك من العدل لفحة جحيم، ولكن ذلك أشبه ما يكون بالامتحان، إن صبرت له انقلبت النار جنة واللفحة الحارة نسيمًا عليلًا.

ومن أهم تجاربي أيضًا أني رأيت كثيرًا من الناس يخطئون فيظنون أن المال هو كل شيء في الحياة. يبيعون أنفسهم للمال ويحاولون أن يتزوجوا للمال ويضيعون أعمارهم للمال، ويفرطون في الفضيلة للمال، وقد أقنعتني التجارب أن المال وسيلة من وسائل السعادة حقًّا؛ بشرط أن يطلب باعتدال وينفق في اعتدال، وبشرط ألا يكون ما تحصله كثيرًا جمًّا، فتنقلب عبدًا له، وبشرط أن يبقى المال وسيلة أبدًا ولا ينقلب غاية أبدًا. فإن أكثر الناس وقعوا في متاعب شتى من هذه الأخطاء.

فمنهم من بدأ حياته يطلب المال على أنه وسيلة ثم استمر في طلبه بعد أن استوفى حاجته منه فانقلب غايةً، ومنهم من صرف حياته وتفكيره في المال وفي الاستزادة منه حتى فقد سعادته بل وفقد نفسه، وقد دلتني التجارب على أن أسعد الناس من وضع المال في موضعه اللائق به، فلم يرفضه رفضًا باتًّا ولم يذل له ذلًّا تامًّا. ونظر إلى المال على أنه وسيلة من وسائل السعادة لا كل السعادة، ولم يطلبه إلا مع الشرف والعزة والإباء. فإن تعارض معها ضحى المال للفضيلة والغنى للضمير.

•••

ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة. ولكن أصدقك أنه لم يعجبني موقف زماننا من الدين ولا موقف زمانك، فقد كان الدين في زماننا متزمتًا لا سماحة فيه، متشددًا لا لين فيه، مغلقًا لا عقل فيه، والدين في زمانكم متضائل لا حياة فيه، منسي لا ذكر له، موضوع على الرف لا يؤبه به. والحياة السعيدة كما دلتني التجربة حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه ويعتمد عليه، وتستمد منه المعونة ويطلب إليه التوفيق في الحياة، ويملأ القلب رحمة وعطفًا وحبًّا لخير الإنسانية. يعجبني من الدين أن يكون سمحًا لا غلظة فيه، وألا يكون ضيق الأفق فيناهض العلم، بل يؤمن صاحبه أن له مجاله وللعلم مجاله، وأن الدين الصحيح لا يناقض العلم الصحيح، وأن لا بد منهما جميعًا للإنسانية، فالعلم لحياة العقل والدين لحياة القلب.

•••

هذه، يا بني، بعض تجاربي في الحياة وما أكثرها! ولكني أخشى أن أطيل عليك فتمل، وأحب أن أقدمها إليك جرعة فجرعة لتستسيغها وتتذوقها وتأخذ نفسك بتشربها رشفة فرشفة. أذكر لي رأيك فيها وموقعها عندك ومبلغ استعدادك لقبولها، وفي ضوء ما أسمع منك ستتوالى عليك كتبي إليك، تقدم إليك تجاربي كأسًا فكأسًا.

والسلام عليك ممن يحب لك الخير ويود أن تكون خيرًا منه، ويتمنى أن يحيا فيك خيرًا مما حيَّى في نفسه والسلام.

٢

أي بني:

إنك الآن تدرس في إنجلترا بعد أن أتممت دراستك في مصر، والذين درسوا قبلك في أوروبا أشكال وألوان، اختلفت منازعهم واختلفت اتجاهاتهم، واختلفوا في مقدار نجاحهم وفشلهم، ولكن يمكن تقسيمهم إلى مجموعات محددة واتجاهات معينة.

فمنهم من شعر بأن حريته في مصر كانت مفقودة، فرآها في أوروبا موفورة. فقد تحرر من رقابة الأبوين ورقابة المدرسة، وأصبح أمير نفسه ليس عليه رقيب ولا حسيب، ورأى مجال اللهو في أوروبا واسعًا فسيحًا (وأوروبا — على العموم — كفيلة أن تحقق كل رغبة وتوفر كل اتجاه، فمن شاء الجد فالأبواب أمامه مفتحة ومجال الجد لا حد له، من شاء اللهو فالأبواب أمامه مفتحة ومجال اللهو لا حد له) فانغمس في وسائل اللهو ووهبها كل ماله وكل تفكيره وكل وقته. نهاره نائم وليله عابث، ولا يرى جامعته ولا تراه إلا محافظة على الشكل وحرصًا على استجلاب المال من أبيه أو من حكومته أو منهما معًا، وهو يلهو ويوهم أباه أنه يجد، ويعبث ويخدع من في مصر بأنه دائب في طلب العلم، ويحتال على أبويه في تحصيل المال بكل وسيلة، فهو من فرط جده محتاج إلى شراء كثير من الكتب، ومن فرط البرد محتاج إلى كثير من الملابس، ومن فرط مذاكرته محتاج إلى التردد على الطبيب، وكل ما يأتيه من هذه الحيل مصروف في شهواته ولذاته. وأخيرًا تنكشف الأمور عن مأساة ويعود إلى بلده ولا علم ولا خلق، وقلما يصلح في مصر لعمل بعد أن فسدت نفسه ومات ضميره وذهب علمه وانحط خلقه.

•••

ومن الدارسين في أوروبا من كانوا على العكس من ذلك — وهم أقل عددًا. هؤلاء عكفوا على دروسهم بكل جد، ولم يعرفوا غير حجرتهم وكتبهم وجامعتهم وطريقهم من البيت إلى الجامعة، قد نقلوا حجرتهم في مصر إلى حجرة في إنجلترا أو فرنسا، وغيروا كتبهم في مصر إلى كتبهم في إنجلترا وفرنسا، وعملهم في مصر إلى عملهم هناك من غير فرق، وظلوا يعملون ويكدون حتى نالوا الدرجة العلمية وأتت التقارير عنهم إلى وزارة المعارف وإلى آبائهم بأنهم مثال الجد والنشاط والنجاح العلمي، ثم عادوا يحملون شهادتهم ويعملون فيما عهد إليهم أن يعملوا. هؤلاء قد نمت عقولهم وغزر علمهم، ولكنهم لم تتفتح قلوبهم ولم ترق نفوسهم، وهؤلاء الآخرون لا يعجبونني كما لم يعجبني الأولون.

•••

وهناك طائفة ثالثة هي التي تعجبني وهي التي أحب أن تسير على منهجها. هؤلاء قد فهموا رسالتهم من بعثتهم على الوجه الأكمل — فهموا أنهم إنما سافروا ليدرسوا علمًا وليدرسوا خلقًا — يحضرون لنيل الدكتوراه ويحضرون لشيء أسمى من الدكتوراه، وهو دراسة الحياة الاجتماعية في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أمريكا، ويبحثون عن سر عظمة هذه الأمة ومواطن قوتها وضعفها والفروق بينها وبين مصر، وما يحسن أن تقتبسه مصر وما يحسن ألا تقتبسه، يتعلمون هذه الدروس من الحياة الاجتماعية في الجامعة ومن الحياة العائلية في البيت، ومن الرحلات التي تنظمها الهيئات، ومن الحفلات التي تقام في المناسبات، ومما تقع عليه العين المفتوحة والقلب الواعي في الشوارع والحدائق والأمكنة العامة ونحو ذلك. فهو يرى أن في كل منظر درسًا وفي كل خطوة يخطوها فائدة. إذ ذاك تتجدد نفسه ويحيى قلبه وترتقي كل ملكاته ويصبح مخلوقًا آخر جديدًا، ويعود إلى بلده وقد اكتسب علمًا كثيرًا وخبرة فائقة. تعلم من جامعته إلى جانب دروسه الخاصة أساليب التعليم في البلد الذي سافر إليه في مراحل التعليم المختلفة، وتعلم نظام الأسرة من البيت الذي نزل فيه وما دار فيه من أحاديث وما حدث فيه من أحداث. وعرف الشعب الإنجليزي أو الفرنسي مما شاهده في الشارع ودور السينما والتمثيل وما اشترك فيه من رحلات ومن معاملاته اليومية مع الناس، وهكذا أمتع نفسه وقلبه وعينه في حدود المعقول، وأمتع عقله في حدود المعقول أيضًا.

وكما اختلف المتعلمون في أوروبا هذا الاختلاف الذي شرحته اختلفوا كذلك في مسلكهم بعد عودتهم إلى بلادهم.

فمنهم الذي عاد إلى بلاده يشيد بمجالي اللهو في أوروبا ويفيض في وصف مغامراته النسائية ويعرج على النماذج الوضيعة من ذلك كله في بلاده فيحتقرها، ويعلن أنه يتمنى العودة إلى النعيم الذي كان ينعم به في إنجلترا أو فرنسا. أما وقد حالت الحوائل بينه وبين عودته فهو ينتهب اللذائذ في بلاده على وضاعتها ما أمكنه مترقبًا اليوم السعيد الذي تتاح فيه الفرصة للسفر إلى الخارج حتى يعب من لذائذها وينهل؛ فالحياة في نظره لذة منتهزة ولذة مرتقبة ولذة مأسوف على ضياعها ولا شيء غير ذلك، فإن كلف عملًا جديًّا فعلى هامش الحياة.

ومنهم من عاد وكأنه لم يخرج من بلده، إلا علمًا حصله أو شهادة نالها، أما نظرته إلى الحياة وانسجامه مع الحياة الأولى التي كان يحياها قبل سفره فلم يتغير منها شيء.

ومنهم من استفاد فائدة كبرى من أوروبا في علمه ونظرته الاجتماعية ومعرفته بكثير من دقائق الحياة في البلاد التي رحل إليها، ولكنه لما عاد إلى مصر فسرعان ما دب إليه اليأس … اصطدم بالفوضى في إدارة البعثات وفي وزارة المعارف وفي وزارة المالية، وتذكر ما كان قد نسيه من ورق يغيب بين الإدارات أشهرًا من غير أن يبت فيه، وورق يسار فيه بسرعة البرق لأن صاحبه «محسوب»، ورأى مستحقًّا يهمل وغير مستحق يكافأ، ورأى البيوت وهرجلتها والشوارع وفوضاها والناس وقذارتهم والفقراء وبؤسهم، وقارن بين ما كان يعيش فيه من نظام وعدالة ونظافة وأناقة، وما أصبح يعيش فيه في بلده من اضطراب وارتباك وظلم وقذارة. وحاول أول الأمر أن يغير شيئًا من ذلك فلم يستطع، فيئس واستسلم وطوى نفسه على حزن عميق، وأصبحت حالته حالة من فقد عزيزًا عليه لا أمل في عودته وإنما يتسلى بذكراه.

•••

كل هؤلاء — يا بني — قد رأيت نماذج منهم، ولا أحب أن تكون أحدهم، إنما أحب — إذا عدت وقد اكتسبت علمًا ونفسًا وقلبًا — أن تنظر إلى عيوب قومك فترحمهم، ونقائصهم فتشفق عليهم، وتجتهد — ما أمكنك — في إصلاحهم فإن لم يمكنك الإصلاح العام، فحاول الإصلاح في بيئتك الخاصة … وفي طلبتك الذين تعلمهم والأساتذة الذين تخالطهم والبيت الذي تنشئه والصديق الذي تجالسه، وفي هذا القدر كفاية للرجل الطيب المحدود الإرادة. فإذا اتسعت إرادتك وقويت عزيمتك وشغلت بعد منصبًا رئيسيًّا استطعت أن تنشر نفوذك وتعمم إصلاحك.

•••

لو أن كل مبعوث إلى أوروبا تعلم ونضج ثم عاد ويئس لكان من الخير ألا يبعث؛ لأنا بذلك نخلق جوًّا من اليأس خانقًا، وقلة العلم مع الأمل والطموح خير من كثرته مع اليأس والقنوط.

إن الأمة ترسل مبعوثيها ليكونوا خير ذخيرة لها وقادة إصلاحها ومتزعمي نهضتها، فإن هم استولى عليهم «القرف» واقتصروا على التقزز مما يرون وإطلاق ألسنتهم بالعيب في أمتهم والإشادة بذكر أوروبا ومحاسنها كانت خسارتنا فيهم مضاعفة … خسارة في الأرواح وخسارة في الأموال وخسارة في خلق أعداء للأمة من ذاتها.

•••

إن كل مبعوث فبعثته دين عليه لأمته لأنها ربته أولًا في أحضانها ثم أنفقت عليه من مالها لينضج في خارجها، فإن هو جحد الدين فتجهم لها وأنكر صنيعها كان أكبر غادر وأخس جاحد.

إن أكثر هؤلاء — يا بني — يتعللون بأنهم حاولوا الإصلاح فلم يفلحوا، وجدوا في تنظيم ما فسد فلم ينجحوا، ثم لم يجدوا أمامهم إلا أن يرضوا بحالهم، أو أن يسيروا مع التيار فيفسدوا مع المفسدين ويشيعوا الفوضى مع المشيعين، ويطلقوا مثلهم الأعلى ويقتصروا على التملق لأخذ درجة أو الحصول على منصب؛ ولكني أعيذك بالله أن تكون واحدًا من هؤلاء الممسوخين الذي ردوا أسفل سافلين. إن هؤلاء إنما جرفهم التيار لضعف قوتهم ونكصوا على أعقابهم لانعدام شخصيتهم، والرجل القوي الإرادة العظيم الشخصية يفرض إرادته ويحقق شخصيته، ويحول التيار ولا يجرفه التيار — وهذا ما حدث فعلًا من أشخاص تعلموا في أوروبا ثم عادوا فصبروا على ما أوذوا وعاندوا في محاربة الرذيلة والانتصار للفضيلة حتى أدركوا بعض غايتهم وحققوا شيئًا من أملهم.

ومع الأسف كان عدد هؤلاء الممتازين قليلًا، بل أقل من القليل؛ فلو نظرنا إلى عدد المبعوثين من عهد محمد علي للآن لوجدناهم يعدون بالآلاف ولوجدنا من أفاد منهم لا يعد إلا بالعشرات، وإني أرجو لك أن تكون من هذا القليل النافع لا من الكثير الفاشل.

•••

إن أكثر من كانوا قبلك قد فسدوا لأنهم سافروا لأخذ شهادة وعادوا لأخذ درجة. فليكن سفرك أنت للمعرفة والعلم وعودتك للإصلاح والنفع، والله يوقفك.

٣

أي بني:

أكتب إليك هذا في أواخر مارس، موسم الربيع، وموسم الجمال، وموسم البهجة؛ والدنيا — كما قال أبو تمام:

دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر

ولشد ما آسف إذ أرى مدارسكم وجامعاتكم تعني بالعقل فتضع له المناهج الطويلة العريضة في مختلف العلوم، وتمعن في الإجرام فتقلب الآداب والفنون إلى علوم عقلية، أو نظريات فلسفية، وتعني بالجسم فتنظم له الألعاب الرياضية، وتقيم له مباريات السباق وكرة القدم ورفع الأثقال … ثم لا تقيم وزنًا ولا تضع منهجًا للذوق وتربيته، وهو الأحق بالعناية والأجدر بالرعاية؛ فإن قصرت مدارسك وجامعاتك في ذلك، فتول أنت تربية ذوقك بنفسك، ووجه إليه كل همتك. فما الحياة بلا ذوق، وما الدنيا بلا جمال؟ وجزى الله خيرًا من وجهني إلى الجمال فهويته، ورتبت في شبابي بائع الزهور بجانب بائع الخبز واللبن، فأعجبت بالورد وجماله، وبديع ألوانه، وبالزهور على اختلاف أنواعها، في تناسقها وانسجامها، فكان هذا متعة لنفسي وحياة لروحي بجانب متعة عقلي.

أي بني!

إن الذوق عمل في ترقية الأفراد والجماعات أكثر مما عمل العقل. فالفرق بين إنسان وضيع وإنسان رفيع، ليس فرقًا في العقل وحده، بل أكثر من ذلك فرق في الذوق. ولئن كان العقل أسس المدن، ووضع تصميمها، فالذوق جمَّلها وزينها. إن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الفرد، فجرده من الطرب بالموسيقى والغناء، وجرده من الاستمتاع بمناظر الطبيعة وجمال الأزهار، وجرده من أن يهتز للشعر الجميل، والأدب الرفيع، والصورة الرائعة، وجرده من الحب في جميع أشكاله ومناحيه، ثم انظر بعد ذلك ماذا عسى أن يكون وماذا عسى أن تكون حياته.

وإن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الأمة، فجردها من دور فنونها، وجردها من حدائقها وبساتينها، وجردها من مساجدها الجميلة الجليلة، وكنائسها الفخمة، وعمائرها الضخمة، وجردها من نظافة شوارعها، وتنظيم متاحفها، ثم انظر بعد ذلك في قيمتها، وفيما يميزها عن غيرها من الأمم المتوحشة والأمم البدائية.

أي بني!

إني لأرثي لحال كثير من شبان اليوم، لا يعرفون الجمال إلا في وجه فتاة، ولا يعرفون الذوق إلا في أناقة الحديث معها، والتظرف إليها، مع أن في الدنيا جمالًا يفوق هذا بمراحل، وللذوق مجالًا يجد فيه من المتعة ما يقصر عنه الوصف؛ ولكنهم عدموا الذوق وتربيته فلم يلقفوا معانيه ونواحيه ومداه إلا في حدود ضيقة.

أي بني!

إن للذوق مراحل كمراحل الطريق، ودرجات كدرجات السلم. فهو يبدأ بإدراك الجمال الحسي: من صورة جميلة، ووجه جميل، وزهرة جميلة، وبستان جميل، ومنظر طبيعي جميل، ثم إذا أحسنت تربيته ارتقى إلى إدراك جمال المعاني: فهو يكره القبح في الضعة والذلة، ويعشق الجمال في الكرامة والعزة، وينفر من أن يظلم أو يُظلم، ويحب أن يعدل ويعدل معه، ثم إذا هو ارتقى في الذوق كره القبح في أمته، وأحب الجمال فيها، فهو ينفر من قبح البؤس والفقر والظلم فيها، وينشد جمال الرخاء والعدل في معاملتها، فيصعد به ذوقه إلى مستوى المصلحين. فالإصلاح المؤسس على العقل وحده لا يجدي، وإنما يجدي الإصلاح المؤسس على العقل والذوق جميعًا. ثم لا يزال الذوق يرقى إلى أن يبلغ درجة عبادة الجمال المطلق والفناء فيه.

فعلى هذا الأساس نظم ذوقك: استشعر الجمال في مأكلك وملبسك ومسكنك، وصادق الزهور وتعشقها، ثم انشد الجمال في مجالي الطبيعة ومد بين قلبك ومناظر البساتين والحدائق — والسماء ونجومها، والشمس ومطلعها ومغيبها، والبحار وأمواجها، والجبال وجلالها — خيوطًا حريرية دقيقة تتموج بموجاتها، وتهتز بهزاتها، ثم انظر إلى الأخلاق على أن فضائلها جمال، ورذائلها قبح، لا على أن فضائلها منفعة ورذائلها متلفة، ثم غن للجمال واهتف به حيثما كان، واعبده وافن فيه، وأنا واثق أن ستسعد بذلك سعادة لا يتذوقها ذوو الشهوات، ولا أصحاب رءوس الأموال، بل ولا الفلاسفة والعلماء.

بل إني أجزم لو وجدت طائفة كبيرة من أمثال هؤلاء الذين رقى ذوقهم إلى هذا الحد في أمة، لنهضوا بها وأعلوا شأنها؛ إن أمثال هؤلاء من أصحاب الذوق الرفيع لو تولوا شئون السياسة ورياسة الأحزاب لكانوا مثلًا في حب الخير، ورقة القلب، وإدراك ما يجب أن يعمل وكيف يعمل، وما يجب أن يترك وكيف يترك، ولو كان أمثال هؤلاء رؤساء مصالح، أو مديري أعمال، لوجهوا همتهم لإتقان عملهم، وإيصال الخير لذويهم، وتحري وجوه النفع لمن يلوذ بهم، وإنما أفسد هؤلاء جميعًا قلة الذوق لا قلة العقل. فأنت إذا رأيت الشوارع لا منظمة ولا نظيفة، والأمور الصحية مهملة لا يعنى بها، والفلاح بائسًا فقيرًا، أو رأيت معاملة الناس بعضهم بعضًا جافة سيئة، تحدث ضوضاء وجلبة، كالآلة لم تُزيت، أو رأيت العداوة والحقد والخصومة بين رجال الأحزاب السياسية، أو رأيت رجال الحكومات تعني بمناصبها أكثر مما تعني بمصالح رعيتها، فاعلم أن منشأ ذلك فقدان الذوق الرفيع لا العقل النابه.

أي بني!

إنك محتاج إلى مجهود جبار، وإرادة قوية لتربية ذوقك، وإرهاف شعورك بالجمال، فكل ما حولك مفسد للذوق متلف للمشاعر السامية: بيوت لم يعن فيها بالجمال، وشوارع لم يعن فيها بنظافة ولا نظام، وترام تكدس فيه الناس أسوأ مما تكدست علب السردين، وهرجلة وفوضى وضوضاء في دور المحاضرات والسينما والتمثيل، ومهاترة غير نبيلة بين الجرائد الحزبية، وارتباك واضطراب وسوء معاملات في المكاتب الحكومية وغير الحكومية، ورؤية البؤس والمرض والفقر والجهل والقذارة على الأرصفة في المدن، وبين الفلاحين في القرى، وبين العمال في المصانع، ونبو في أحاديث المتحدثين، وفي النكت بين المتنادرين، ومئات ومئات غير ذلك، وكلها كفيلة أن تفسد الذوق وتقضي عليه. فتربيتك لذوقك واحتفاظك به ساميًا لا يتأثر بهذه المفاسد، أمر عسير لا يُنال إلا ببذل الجهد وقوة العزم.

أي بني!

أتذكر يوم كنت تشكو لي من شدة غضبك وهياج أعصابك، وكثرة احتكاكك ومصادماتك، إذا ركبت السيارة العامة أو الترام، أو ذهبت إلى السينما، أو أردت قضاء مصلحة في ديوان من دواوين الحكومة يوم — كنت في مصر — ثم كتبت إليَّ من سويسرة تذكر أن قد هدأت أعصابك، وزال غضبك، ولم تجد ما يسبب الاحتكاك والاصطدام؟ إن كنت تذكر ذلك فالآن أذكر لك أن مرده كله للذوق، فإن الذوق إذا شاع في مكان، شاعت فيه السكينة والطمأنينة، ونعومة المعاملة، وجمال السلوك، وإن انعدم أو قل في مكان خشنت المعاملة، وساء السلوك، وكثر هياج الأعصاب واضطرابها وارتباكها.

أي بني!

لقد جربت الناس فوجدتهم يخضعون للذوق أكثر مما يخضعون للمنطق، فبالذوق لا بالعقل تستطيع أن تستميلهم، وأن تأسرهم، وأن توجههم، وأن تصلحهم إن شئت، أما العقل وحده فلا يستطيع أن يأسر إلا الفلاسفة وقليل ما هم.

أي بني!

ليس عندي نصيحة لك أغلى من أن تكوِّن ذوقك ثم تنميه وترقيه. فإن فعلت ذلك ضمنت لك سعادة الحياة والاستمتاع بها، وضمنت لك سمو أخلاقك ونبل عواطفك، وضمنت لك نجاحك على قدر كفايتك، والله يوفقك.

٤

أي بني!

أشد ما يقلقني عليك في هذه الأيام وجودك وسط تيارات تتنازعك، وأمواج تتقاذفك، أخشى أن تتغلب عليك فتغرقك، وأن تنال منك فتميتك، فكم رأيت لها من ضحايا أزعجتني، ومن مشاهد غرقى أفزعتني، وإني أرجو لك من صميم قلبي السلامة من هذه التيارات، والنجاة من هذه الأمواج.

فأول هذه التيارات، التيارات السياسية … وهي في نظري نوعان: سياسة قومية، وسياسة حزبية. فالسياسة القومية كالتي يكون الجهاد فيها ضد المستعمر والمحتل والغاصب. وقد قام الطلبة فيها بأدوار رائعة أفادت البلاد وقربتها من الاستقلال، كإضرابهم يوم اعتقل سعد باشا، ونفي إلى سيشل، ونحو ذلك. والسياسة الحزبية كأن يعمل بعض الطلبة لنصرة حزب على حزب، وإثارة الشغب لعرقلة سير الحكم. فإذا جاء الحزب السعدي في الحكم مثلًا، انتهز الطلبة الوفديون أية فرصة للشغب عليه، وإذا جاء الوفديون في الحكم شغب عليهم الطلبة السعديون، وهكذا، من غير منفعة قومية واضحة، ولا نتيجة مفيدة بينة، إلا الرغبة في تولية حزب وتنحية حزب، والطلبة في مثل هذه الحال، إنما يهدم بعضهم بعضًا من غير كسب واضح للأمة ولا تحقيق مصلحة عامة، وقد كثر — مع الأسف — هذا النوع من الإضراب حتى شل حركة التعليم بأجمعها، وأفسد الحياة العلمية من أساسها. فلو حسبنا أوقات انتظام الدراسة في الجامعات والمعاهد العالية لما حصلنا على دراسة منتظمة تستغرق ثلاثة أشهر كاملة، وحسبك هذا نتيجة مرعبة. فما معنى هذا؟ أليس معناه أن الطلبة إما أن يرسبوا في الامتحان، فنكون قد أضعنا على كل طالب رسب، سنة من حياته، وأضعنا على الأمة عددًا كبيرًا من السنين يساوي عدد الراسبين … وإما أن ينجحوا بسبب التساهل في الامتحان، فنكون قد منحنا الشهادات للعاجزين وأخرجنا للأمة طبيبًا عاجزًا ومهندسًا غير ناضج وزراعيًّا غير مستأهل، وفي هذا أكبر الضرر على الأمة. ولو نحن تحملنا هذه التضحية لتحقيق فائدة للأمة أكبر منها لهان الأمر، ولكنا نبذلها لقيام حزب في الحكم مكان حزب، وما أقل ذلك مكسبًا!

أي بني!

إنني أرتضي لك الاشتراك في السياسة القومية والأعمال التي تعمل لنيل الأمة استقلالها وضمان تقدمها على شرط واحد، وهو أن يظهر رؤساء الأحزاب وقادة الأمة فيعلنوا خطتهم ويطلبوا من الطلبة معونتهم، فإذ ذاك يجب أن تستجيب لهم، أما أن يختفي القادة من الميدان ويظهر الطلبة من غير قادة فإذ ذاك يكون شأنهم شأن الجند في الميدان من غير ضابط، والجيش من غير «أركان حرب» … وهذا عرضة لتضارب السير للجيش الواحد وعمله على غير خطة، وانقسامه سريعًا، وانهزامه سريعًا.

أما السياسة الحزبية فإني أرتضيها لك رأيًا ولا أرتضيها لك عملًا، فاعتنق آراء الحزب السياسي الذي تؤمن به ويدلك الدرس على صحتها، ولكن يجب أن لا يتحول ذلك إلى إضراب. فالإضراب في هذه الحالة تعطيل للدرس من غير أن يكون له مبرر كافٍ، وحتى هذا لا أفهمه اليوم فهمًا كاملًا، إنما أفهمه يوم يكون هناك برنامج معروف لكل حزب، فيكون للوفد مبادئ محصورة محدودة في الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ويكون للسعديين، والأحرار الدستوريين ونحوهم مبادئ كذلك … إذ ذاك تقرأ المبادئ وتقارن بينها، وتفضل بعضها على بعض، وتؤمن بما تفضله.

أما أن يكون اختيارك للحزب مبنيًّا على أساس أن رئيسه فلان ورئيس الآخر فلان، فنظرة كنظرة الطفولة تعرف الأشخاص ولا تعرف المعاني، تعرف الأبيض ولا تعرف البياض، وتعرف الأب ولا تعرف الأبوة. أما الرجل الناضج فيقوِّم المعاني والمبادئ ويحاسب الزعماء على سيرهم أو انحرافهم عن هذه المعاني وهذه المبادئ، وهذا ما يحدث في الأمم الراقية، وما لم يحدث في الأمم الشرقية جميعًا.

أي بني!

إنك وأمثالك تفهم السياسة على أنها فكرة عارضة ورأي عابر، وأنها من السهولة بحيث يمكنك الحكم على مسائلها بمجرد النظر إليها، والتفكير السطحي فيها، وهذا خطأ أي خطأ. إن السياسة علم كسائر العلوم، كعلم الهندسة والطب والطبيعة والكيمياء، فهل تبيح لمن لم يدرس الطب أن يكون طبيبًا، ولمن لم يدرس الهندسة أن يكون مهندسًا؟ فلماذا تستبيح لنفسك أن تكون سياسيًّا ولم تدرس علم السياسة؟ ولماذا ترضى أن تحكم على الأشياء حكمًا سياسيًّا من غير درس …؟ بل أؤكد لك أن السياسة علم أصعب من هذه العلوم التي ذكرتها، تحتاج إلى دراسة تاريخ وجغرافيا واجتماع كمقدمات لها، ثم تحتاج إلى دراسة النظريات السياسية واختلاف الآراء فيها والتطبيق عليها، ومتى طبقت بنجاح، ومتى طبقت بفشل، وأسباب النجاح وأسباب الفشل. وكثيرًا ما يعرض الأمر السياسي، فيبدي فيه عامة الناس آراءهم، ثم يكون هذا الرأي خطأ فاحشًا وضررًا بليغًا؛ لأنهم لم يدرسوا الأمر درسًا دقيقًا عميقًا في أسبابه ونتائجه. لهذا كله أبيح لك أن تشتغل بالسياسة على سبيل التجربة والمران، لا على سبيل الاشتراك الفعلي. فالبت في أمور السياسة من عمل الساسة الذين انقطعوا لها ودرسوها درسًا وافيًا، وبنوا آراءهم على دراستهم، فإذا رأوا أن يستعينوا بكم فلتستجيبوا. أما أن تتزعموا الحركات من غير قيادة … فطبيب يداوي من غير علم، ومهندس يبني من غير خبرة، وجندي يتزعم الجيش حتى الضباط والرؤساء، وهذا قلب للوضع وإفساد للنظام.

إني أفهم أن تكون طالبًا في جامعتك أولًا ومتمرنًا على السياسة ثانيًا، أما أن تكون متمرنًا على السياسة أولًا وطالبًا ثانيًا، فمنافٍ لطبيعة الأشياء. فكيف إذا وضعت نفسك موضع الزعيم السياسي، والقائد للجيش، وجعلت حياتك العلمية هامشًا لحياتك السياسية؟! إن هذا خطأ منك آسف له إن صدر عنك كابن لي، وكفرد في أمة.

أي بني!

إن أردت أن تعرف وجه الحق في هذا الأمر، فاستعرض ما كسبته الأمة من حركات الطلبة وما خسرته. لقد كسبت من حركاتهم يوم كانت موجهة إلى عدوهم الخارجي ويوم كانت حركة منظمة صادرة من رأي الزعماء، وكانت لا تظهر إلا حين يجد الجد ويعزم الأمر. فإذا هم فرغوا من مهمتهم رجعوا إلى دراستهم في جد ونظام، وخسرت من حركاتهم يوم كان الطلبة يضربون لا إحراجًا للعدو، ولكن ليضرب بعضهم بعضًا، ولينصروا حزبًا على حزب، وليجلسوا حزبًا في الحكم ويخرجوا منه حزبًا … وخسرت الأمة يوم كان الطلبة يضربون لأتفه سبب وأضعف غاية.

في الحالة الأولى ربحت الأمة واحتفظت الجامعات بكيانها وقوتها وأداء رسالتها، وفي الحالة الثانية خسرت الأمة وتفككت الجامعات وانحل رباطها وتدهور العلم فيها، وليس يصلح ما فسد إلى بجهود جبارة وإصلاح شامل وتضامن بين الأحزاب كامل.

أي بني!

كنت أود أن أحدثك عن تيارات أخرى ليست بأقل خطرًا مما حدثتك، ولكن طالت رسالتي وخشيت عليك الملل. فإلى اللقاء، والله يحفظك.

٥

أي بني!

إني لأشفق عليك من زمنك الذي نشأت فيه، فقد كان زمن من قبلك هادئًا مستقرًّا، تجري شئونه على وتيرة واحدة … وأملنا في المستقبل أن يكون زمنًا هادئًا مستقرًّا كذلك.

أما زمنك هذا فقلِق مضطرب حائر، كفر بالقديم، ثم لم يجد جديدًا يؤمن به.

قد كانت الأمور في زمننا سائرة سيرًا منظمًا، وإن لم يكن حسنًا ولا كاملًا. كان من تحدثه نفسه بالرشوة يخشى افتضاح أمره ونزول العقوبة به، وكان من يقصر في عمله ينال العقوبة على تقصيره، وكان الطالب إذا طاف به طائف من الإضراب أو الخروج على أمر الأستاذ فكر طويلًا قبل أن يقدم، وقلَّ أن يقدم، وكان الناس يخشون أن ينحرفوا — ولو قليلًا — عن الأوضاع المألوفة والتقاليد الموروثة، خوف أن ينقدهم ناقد أو يعيرهم معير. ثم زال كل هذا الخوف وتحرر الناس من كل هذه القيود، ولكن لا يستقيم أمر الناس مع هذه الفوضى ومع هذه الحرية التي لا حد لها، وإنما استقام الأمر في الأمم الراقية مع زوال هذا الخوف لأن الشعور بالواجب حل محل الخوف، وتبادل العطف بين الشعب والحكومة حل محل الرعب والاستبداد، وتحكيم العقل فيما يصلح وما لا يصلح من الأوضاع والتقاليد حل محل الطاعة العمياء، وهذا — للأسف — ما لم نصل إليه بعد.

•••

أكبر ما يؤلمني فيك وفي أمثالك من الشبان، أنكم فهمتم الحقوق أكثر مما فهمتم الواجب، وطالبتم غيركم بحقوقكم أكثر مما طالبتم أنفسكم بواجباتكم، والأمة لا يستقيم أمرها إلا إذا تعادل في أبنائها الشعور بالحقوق والواجبات معًا، ولم يطغ أحدهما على الآخر. وكل ما نرى في الأمة من فساد وارتباك وفوضى وتدهور نشأ من عدم الشعور بالواجب. فلو تصورنا الموظفين في المصالح الحكومية شعروا بواجبهم نحو الأفراد فأدوا ما عليهم في عدل وسرعة، وأدى الطلبة ما عليهم نحو دروسهم وجامعاتهم وأساتذتهم، وأدى الصانع ما عليه في صناعته، وأدت الحكومة ما عليها لشعبها، لاستقامت الأمور وقلَّت الشكوى، وسعد الناس بحكومتهم وسعدت الحكومة بشعبها، ولكن أنى لنا ذلك وحاجتنا شديدة إلى تفهم الواجب والعمل على وفقه؟

إن العلم في زمنكم أكثر أضعافًا مضاعفة من العلم في زمننا، ولكن ليس نجاحكم في الحياة ولا سعادتكم فيها تناسب تقدمكم العلمي … لأن العلم لا يفيد في السعادة والرقي إلا إذا صحبه الشعور بالواجب؛ والعلم كالمصباح قد تكتشف به طريق الهداية وقد تكتشف به طريق الضلال.

•••

إن أسوأ ما كان في زمنك حدوث الحرب … والحرب — عادةً — تزلزل الأخلاق وتغري النفوس الضعيفة بالشره والجشع، وتقدم لنا أمثلة كثيرة ممن اغتنوا بعد فقر لأسباب خسيسة أو أعمال وضيعة، ثم تضغط على صغار الموظفين والصناع والتجار … فيرون أنهم لا يستطيعون العيش الكافي في مجال رزقهم المحدود، فإذا هم لم يتحصنوا بالخلق المتين مدوا أيديهم وخربوا ذممهم. ولذلك كانت الحرب في أكثر الأمم مبعثًا لفساد الخلق وخراب الذمم، وهي في الأمم الضعيفة أشد فتكًا وأسوأ أثرًا، وواجب المصلحين بعد الحرب أن ينشلوا الأمة من وهدتها وينقذوها من ورطتها؛ ولذلك تحتاج أنت وأمثالك في مثل هذا الموقف إلى مجهود كبير يعلي مستواكم ويرفع مثلكم، والأمل فيكم أكبر أمل، لأنكم رجال المستقبل وقادة الغد. فلا يستهوينكم من أثرى حولكم بالخداع والنفاق والكذب والرياء … وخير أن تعيشوا فقراء أعزاء من أن تعيشوا أغنياء أذلاء.

إننا في هذا الزمان أحوج ما نكون إلى منارات تضيء للسائرين في لجج الظلام، يكون شعارهم القيام بالواجب مهما كلفهم — لأنه واجب — لا طلبًا للصيت ولا جريًا وراء المجد … لا يعرفون المجاملة ولا النفاق، ولا يستهويهم وعد ولا يرهبهم وعيد، لسانهم مطابق لقلبهم، وعملهم متفق مع وحي ضميرهم … فكن إحدى هذه المنارات.

إن الاحتفاظ بالخلق الطيب في زمنك أصعب منه في زمننا لكثرة ما يحيط بك من مغريات بالشر، فأسباب اللهو ميسورة في زمنك وقد كانت صعبة في زمننا … وأفانين الخلاعة مغرية جذابة بفضل ما أدخلته المدنية الحديثة من أساليب فتانة، وقد كان الدين في زمننا حرزًا منيعًا من التدهور والسقوط، فلما ضعف شأن الدين في زمنكم ولم يحل محله ما يحفظ عليكم نفوسكم وقعتم بين شرين: قوة المغريات وضعف الحصون المانعات. ولا منجاة من هذا إلا بتقوية الإرادة وتدريبها على فعل الخير، ومقاومة بواعث الشر، ومكافحة الشهوات ومحاربة الأنانية.

•••

أي بني!

بهذه المناسبة، أذكر لك أني شاهدت في حياتي كثيرًا من الشبان كانوا صرعى الشهوات … كانوا في حياتهم الجامعية لامعي الذكاء، يدل جدهم وسلوكهم على أن سيكون لهم مستقبل رائع. كانوا مثال الجد والنشاط والذكاء في دراستهم، ثم رأيتهم فجأة انحرفوا عن الطريق السوي وانغمسوا في شهواتهم؛ فخاب فيهم كل أمل، وفقدوا ذكاءهم اللامع، ونشاطهم السبَّاق، وجِدهم الباهر.

وهؤلاء الصرعى كانوا أشكالًا وألوانًا، فمنهم — وقد يكون أسوأهم — صرعى «الكيوف»، وهو داء — مع الأسف — فشا في كثير من الشبان، فأضاعوا مستقبلهم، وفقدوا إرادتهم، وانحطت نفسيتهم، وأضحوا لا يرجى منهم خير. وكان أسوأ مثل لهذا وأدعاه للحزن والأسف ما رأيت من شاب كان من أوائل الناجحين في البكالوريا، ثم التحق بكلية من الكليات العلمية فكان من أوائل الناجحين في سنته الأولى والثانية، وكان ذا حظوة عند أساتذته، وسمعة طيبة في علمه وخلقه عند زملائه، وفي آخر عامه الثالث من الكلية سقط في الامتحان ثم لم ينفع بعد، وبحث عن أمره فإذا هو صريع «كيف» من «الكيوف». وبلغ به الأمر أن صار يتسكع في الشوارع، ثم صار يستجدي الناس. فأعيذك بالله أن تكون صريع «كيف».

وهناك صرعى حب المال والجاه والمجد … تخرجوا من جامعاتهم والتحقوا بالوظائف الحكومية أو الأهلية، ثم لم يقنعوا بمرتبهم الصغير ولا بطريقهم إلى الرقي البطيء، ورأوا زملاءهم اغتنوا من طريق بيع ذممهم، أو ارتقوا من طريق تزلفهم وتملقهم، أو اشتهروا عن طريق النصب والاحتيال … فقلدوهم في ضلالهم وخسروا خسرانهم … وأعيذك بالله — أيضًا — أن تكون أحدهم.

•••

إن طريقة هؤلاء في الحياة طريقة المقامرين، ولا أريدك مقامرًا، ولكني أريدك تاجرًا … ولا أريدك مستهترًا، ولكن أريدك عفيفًا معتدلًا. لا يغرنك مظهر الذين انغمسوا في شهواتهم واندفعوا وراء لذاتهم، وما يخدعونك به من سرورهم وابتهاجهم وضحكهم … فحسبة بسيطة للذات هؤلاء وآلامهم، تريك أن الاعتدال في اللذائذ أكبر لذة وأقل ألمًا. إن الانهماك في اللذائذ كنار القش تلتهب سريعًا وتنطفئ سريعًا، والاعتدال في اللذائذ كنار الفحم تطول مدتها ويطول الانتفاع بها ولا تخمد إلا ببطء. احسُب حساب من اعتدل في لذائذه، كيف احتفظ بصحته واحتفظ بماله واحتفظ بسمعته، والتذ في حياته لذة طويلة هادئة ممتعة لم يعقبها ألم … واحسُب حساب من أفرط في لذته، ففقد صحته وماله وسمعته، وكانت آلامه الطويلة أضعاف لذائذه القصيرة … حتى في حساب اللذة والألم نرى الاعتدال خيرًا من الإفراط، فما بالك إذا قسنا ذلك بمقياس الخلق والفضيلة والنبل والمروءة؟

كذلك لا يغرنك من علا صيتهم من طريق التهريج، ولا من تخطوا زملاءهم من طريق التزلف، ولا من كسبوا المال من طريق مد اليد … فكل هذه المظاهر الكاذبة، لو وزنت بحياة الضمير وعلو النفس وطمأنينة الاستقامة لم تساو شيئًا. فليكن مبدأك الشعور بالواجب، والاعتدال في اللذائذ، وطهارة النفس، والحرص على الشرف، والسعي وراء النبل والمروءة … ولتكن النتيجة بعد ما تكون … ومع ذلك فإني ضامن لك النجاح.

٦

أي بني!

لعل أهم ما يتميز به جيلكم عن جيلنا هو حيرتكم واطمئناننا، واضطرابكم وسكينتنا، وقلقكم واستقرارنا، ولكن ما سر هذه الحيرة وهذا القلق والاضطراب في جيلكم؟

لقد كان المظنون أن تكونوا أسعد حالًا، وأهدأ بالًا وأكثر اغتباطًا بالحياة، فإن المدنية الحديثة قدمت إلى جيلكم من متع الحياة وترف العيش ووسائل الترفيه عن النفس أضعاف أضعاف ما كنا نجده في جيلنا. فلم يكن عندنا راديو، ولا سينما، ولا تمثيل، ولا سفور، ولا موسيقى، ولا رقص، كالذي لكم في زمانكم. ولم يكن يتدفق المال علينا كما تدفق عليكم، ولا اتصلنا بالعالم وما فيه من لذائذ مثل اتصالكم، بل ولا نعمنا بالحرية كما نعمتم، ولا حققنا أنفسنا كما حققتم، فما الذي حيركم؟

لعل أهم ما حيركم وطمأننا، أننا كنا نركن إلى مبادئ وعقائد نؤمن بها كل الإيمان، ونسير عليها في حياتنا من غير شك، ونشجع السير عليها كل التشجيع، ونحتقر من خرج عليها كل التحقير … فكانت أعمالنا تصدر عنا كما يصدر العمل عن عادة، ليس يحتاج الإتيان به إلى إلى روية ولا تفكير. ثم أتى جيلكم — خضوعًا للمدنية الحديثة — فطوح بهذه المبادئ والعقائد والعادات والتقاليد، ولم ينشئ مكانها ما يسد مسدها … فكان من ذلك فراغ لم يملأ، ومبادئ زالت ولم تعوَّض، وعقائد تهدمت ولم يبن مكانها؛ والطبيعة تكره الفراغ، وتكره السير على غير هدى، وتكره الهدم من غير بنيان، فكانت الحيرة والقلق والاضطراب.

قد كانت السلوة الكبرى للناس في جيلنا دينهم، فكانوا يؤمنون بالله، يعرفونه في الرخاء ويلجأون إليه في الضراء والسراء، ويركنون إليه إذا اشتد الخطب، ويفزعون إليه إذا نزل الكرب … فيجدون في ذلك كله راحةً من عناء، وعونًا على الخير، وصيانة من الشر، وعزاء عند الشدائد. فلما نبت جيلكم وازدهر شبابكم عصفت عليه عاصفة من المدنية الحديثة، فذهبت بدينكم، وجردتكم من عقيدتكم، فلم تجدوا أرضًا ترتكزون عليها ولا ركنًا شديدًا تأوون إليه.

والأنس بالدين طبيعة النفس وراحة الروح، فإذا سلبت من تأنس به أحست بالوحشة وتململت من الفراق. إن الناس يعدون الحواس خمسًا، ولكني أعتقد أن هناك في كل إنسان حاسة سادسة هي حاسة الدين … من فقدها فقد عنصرًا هامًّا من عناصره، وركنًا عظيمًا من أركان حياته؛ ولذلك هدأ المؤمن واضطرب الملحد، وهذا هو الشأن في الشرق والغرب، والمدنية القديمة والمدنية الحديثة.

لقد مر على العالم الغربي نحو قرنين، آمن الناس فيهما بالعلم كل الإيمان، واعتقدوا أن النظم السياسية والاقتصادية قادرة على إسعاد العالم … فلما تقدم العلم وتقدمت النظم السياسية والاقتصادية ولم يروا سعادة، بل شقاء تلو شقاء، وحربًا هائلة بعد حرب فاجعة، بدأ يتزلزل إيمانهم بأن العلم وحده كافٍ لإسعاد الناس، وأيقن كثير من العلماء بأن العلم في حاجة إلى الدين، وأن العقل في حاجة إلى القلب، وأن المنطق في حاجة إلى الحكمة.

وقد حكي أستاذ أنه سأل طلبة متقدمين في جامعات مختلفة حول سنة ١٩٣٠: ماذا يؤملون في مستقبل العالم؟ فكانت أكثر إجابتهم مبنية على الأمل في العلم. فلما اضطربت الدنيا وتأهب العالم للحرب الثانية أعاد السؤال على أمثالهم، فكانت أكثر إجاباتهم أن لا أمل إلا بعون من الله.

أي بني!

إن الإيمان بالله يملأ فراغ النفس، ويحوي بالطمأنينة، ويوثق الصلة بين الفرد وأهله ووطنه، كما يوثق الصلة بينهم جميعًا وبين الله.

فنصيحتي لك أن تؤمن ولو ألحد الناس، وتوثِّق الصلة بينك وبين الله ولو قطعها الناس.

أي بني!

وشيء آخر أحب أن أقصه عليك كان سببًا في حيرة جيلك واضطرابه، ذلك أنكم لما فقدتم الدين لم تدخلوا الآخرة في حساب الحياة كما يتطلب الدين، وعشتم للدنيا وحدها من غير نظر إلى ثواب ولا عقاب … فنشأ عن ذلك مرض خطير وشر مستطير زاد في حيرتكم وقلقكم، وهذا هو ما ألمحه فيكم من أنانية مفرطة وأثرة جامحة.

إني لأشعر أن كل فرد منكم يريد أن يعيش لنفسه فقط … فهو في أسرته يريد أن ينال أكبر حظ من اللذة وأقل حظ من الألم، حتى لو استطاع أن يستولي على ميزانية البيت كلها ويترك أهله يتضورون جوعًا لفعل. وهو في حياته الخارجية يجري وراء شهوته ولذته مهما كانت العاقبة، ولو آذى أهله ولو آذى وطنه … وهو إذا وظف بحث عن الترقية من أي سبيل شريف أو خسيس، بل وقد تضطره أنانيته إلى أن يمد يده، ثم هو لا يشعر بمسئوليته نحو أهله ولا نحو وطنه ولا نحو أصحاب المصالح الذين يترددون على بابه … إنما يبحث عما يسد شهوته ويملأ أنانيته.

لقد آلمني جد الألم ما سمعت عن أستاذ في كلية من كليات الجامعة كان يقرأ على طلبته فصلًا من كتاب لابن المقفع يتكلم فيه عن الفضائل من صدق وعدل ونحو ذلك، ويذكر أن هذه الوسائل للنجاح في الحياة. فهاج بعض الطلبة وقالوا: إن هذا الكلام «بدع» قديم، قد كان يصلح في العصر القديم. أما اليوم فوسيلة النجاح التهريج والوصول إلى المنفعة الشخصية من أقرب طريق … بالصدق أو بالكذب، بالحق أو بالنفاق أو الملق.

إن كان هذا هو شعار الجيل الجديد فويل لنا وللأمة كلها من هذا الجيل الجديد!

إن جيلكم معذور بعض العذر لأنكم لم تجدوا أمامكم مُثلًا عليا كثيرة تضحي لخيركم، وتسوس الأمة بالعدل والنزاهة والصدق والإخلاص لمصلحة وطنكم، ورأيتم أمثلة لمن التزموا الصدق والعدل والإيثار فعاشوا فقراء وماتوا فقراء، ومن هرجوا وكذبوا ونافقوا فتسلقوا الحائط ووصلوا إلى الذروة، فكفرتم بالمبادئ الأخلاقية والفضائل النفسية، ولكن أليس هذا قِصَرًا في النظر، وسوءًا للتقدير، وفسادًا في التقويم؟

سائل نفسك: هل أسعد الناس أرقاهم درجة في وظيفته، وأكثرهم مالًا في دخله مهما فسدت نفسه ومات ضميره؟

وسائل نفسك: أي الرجلين أسعد حالًا وأهدأ بالًا وأكثر سكينةً وطمأنينة … أمن مات ضميره وزاد دخله من غير حساب لفضيلة ولا رذيلة ولا حلال ولا حرام؟ أم من حي ضميره فتلذذ بشرفه، وسعد بقناعته، واطمأن إلى سيرته، واغتبط بما يجريه الله على يديه من خير لأهله ووطنه؟

تصور بيتًا يعيش فيه كل فرد لنفسه … ألا يكون جحيمًا، ويكون أهله كاللصوص يتخطفون الغنائم ويتقاتلون على قسمتها؟ وتصور جيشًا يعمل كل جندي وضابط فيه على أن ينجو بنفسه ويترك العبء على غيره … هل يستطيع أن يقف في الميدان ساعة من غير هزيمة؟ وتصور أمة كل أفرادها يعيشون على التهريج ويبحث كل فرد منها عن لذائذه الشخصية وانتهابها بأي وسيلة … هل تستطيع أن تعيش طويلًا؟ إن البيت إنما يعيش بتضحية الآباء والأمهات، والجيش إنما يعيش بمن يقدم روحه فداءً لوطنه، والأمة إنما تعيش بمن يتحمل المسئولية مهما لقي من جهد وعناء. والدنيا كلها أمثلة على أن الجماعة الصالحة للبقاء من غلب إيثارها أثرتها وتضحيتها أنانيتها، وإلا فلا أمل فيها ولا خير يرجى منها، ولولا تضحية أبيك وأمك ما كنت كما كنت، ولولا تضحية من حولك ما عشت. أفمن العدل أن تجازي الإحسان سوءًا، والرحمة قسوة، والنعمة كفرًا؟ صدقني أنه لا يتطلب اللذة الوضيعة إلا النفس الوضيعة، وأن البحث عن اللذة الفردية نتيجة قصر النظر وضيق الأفق، وأن النفس إذا تسامت ورقيت وجدت لذتها في لذة الناس وسعادتها في سعادة الناس … وأن هذا الكلام وإن كان قديمًا لا يزال جديدًا، وأن الحق حق في كل زمان ومكان، وأن الباطل باطل حيثما كان.

أي بني!

إن كان لي نصيحة تذهب بحيرتك وحيرة جيلك وتعيد الطمأنينة لنفسك ولأمثالك … فالإيمان تملأون به قلوبكم ويملأ فراغكم ويتفق مع طبيعتكم، وأن تعيشوا لأنفسكم وللناس ولخيركم وخير الناس. فهذا هو الذي يساير ما طبعتم عليه، وإلا انتقمت الطبيعة منكم بمخالفتكم لقوانينها فسلطت عليكم السأم والملل والحيرة والقلق.

وقاكم الله شر ذلك.

٧

أي بني!

لشد ما يؤسفني ما أرى في جيلكم من إفراط في اللهو، كما كان يؤلمني ما كنت أرى في جيلنا من إفراط في الجد. لقد عشت أنا في جيل كان أكثر طلبته لا يعرفون إلا بيوتهم ودروسهم وكتبهم … فإذا أراد أحدهم أن يلهو وطاوعته ماليته، ذهب إلى دار تمثيل فاستمع للشيخ سلامة حجازي أو نحوه، مرة أو مرتين في السنة، وإذا قرأ مجلات أو جرائد فمجلات جادة وجرائد وطنية، وإذا عرف فتاة فقريبته تزور بيته مع أمها، أو يزور بيتها مع أهله، وإذا اجتمع الطلبة وأرادوا أن يتسلوا تنادروا على كتبهم ودروسهم، وقد يتنادرون — في أدب — على أساتذتهم. وعشتَ أنت في جيل لا يشبه الجيل القديم في شيء، عماده الحرية المطلقة، وقلة الشعور بالمسئولية، والنظر إلى اللذائذ المادية على أنها غاية الغايات. ينظرون إلى الكتب والدرس والأساتذة على أنها دواء مرٌّ يتعاطى للضرورة. والضرورة هي الشهادة فالوظيفة، ولإحساسكم بمرارتها ترحبون بكل ما يريحكم منها إضراب واعتصام ومطالبة بطول إجازات ونحو ذلك. وإذا قرأتم شيئًا بجانب دروسكم قرأتم الكتب الرخيصة والمجلات الوضيعة التي تلهب الغرائز، وتقوي الشهوات، وتضعف الذكاء، وتبلد العقل، وفي كل يوم سينما أو تمثيل، وفي كل ساعة تليفون يرن لكم أو يرن منكم لمقابلة لاهية أو محادثة عابثة.

أي بني!

لقد غلونا في جِدِّنا وغلوتم في هزلكم … غلونا في جدنا حتى اكتأبت نفوسنا، وانقبضت صدورنا، ولم تتفتح للحياة كما يجب، ولم تبتهج لها كما ينبغي، وغلوتم في هزلكم حتى صرتم كالشيء التافه لا طعم له، وكالماء الفاتر لا ساخن ولا بارد … وحتى صرتم شيئًا رخوًا ينكسر لأدنى ملامسة، أو هشيمًا تذروه الرياح. ويوم يجد الجد وتظهر المصاعب فتتطلب حمل المسئولية، نجد لكم أيديًا مسترخية، وقلوبًا متخاذلة، وإرادات واهية، أضعفتها كثرة الطلب للذة، وقلة التعود لمواجهة المصاعب، وحب الترف والنعيم.

ومن أجل هذا كثرت — مع الأسف — ضحاياكم، وعدَّت بالألوف صرعاكم. هؤلاء صرعى «الكيوف» لا أمل فيهم، ولا خير يرجى منهم، أصبحوا جثثًا تتحرك كالأشباح، ومواد محطمة بلا أرواح؛ أضاعوا صحتهم، وأتلفوا مالهم، وخربوا نفوسهم، وجنوا على أسرتهم وأمتهم. وهؤلاء صرعى الحب البائس أو الحب اليائس، أو النزوة الوقتية من غير تقدير للمسئولية … إلى غير ذلك من صرعى اللذات، وكلهم في الهم سواء. قد جرهم إلى هذا الوبال أن رأوا بعض زملائهم ذوي المكانة — لسبب ما — قد استهتروا فقلدوهم، وتوالت على سمعهم أن الدنيا لذة فوجهوا إليها كل قوتهم. ورأى هؤلاء القادة أنهم قد ضلوا، فأحبوا أن يشركوا معهم غيرهم فأضلوا، وبعثت إلينا أوروبا وأمريكا بملاهيها فاستهوت شبابنا، ووقر في نفوسهم أن أوروبا وأمريكا أرقى منا مدنية وأعلى مقامًا وأعز جاهًا … فقالوا ما علينا إذا سرنا في لهوهم سيرهم، ونعمنا بملاهيهم نعيمهم، وفاتهم أن في أوروبا وأمريكا عِلْمًا يعادل اللهو، وجدًا يوازن الهزل، وشعورًا بالمسئولية يوازي الشعور بالحرية.

ولكن لم يجد جد أوروبا وأمريكا من يعرضه علينا كما يعرض الهزل، لأن وراء عرض الهزل أموالًا طائلة وأرباحًا وافرة، لا تؤاتي من يعرض الجد والعلم والمسئولية، فكان من الخطأ أن نأخذ جانبًا وندع جانبًا، وأن نتصور المدنية لعبًا لا جد فيها، وحرية لا مسئولية معها.

أي بني!

لست أريدك أن تكون راهبًا، فمتى خلقت إنسانًا لا ملكًا فلتكن إنسانًا له ملذاته وشهواته في حدود عقله ومنفعته ومنفعة أمته. والقرآن يقول: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ أريدك أن تفهم معنى اللذة في حدودها الواسعة لا الضيقة … إن للذة درجات كدرجات السلَّم آخذة في الصعود، فأسفل درجاتها لذة الأكل والشرب واللباس، وما إلى ذلك، ومن غريب أمر هذه اللذة أنها تفقد قيمتها بعد الاستمتاع بقليل منها، فلكل إنسان طاقة من هذه اللذة يقف عندها، فإذا تعداها انقلبت ألمًا … ثم هي ليست مرادفة للسعادة، فكثير ممن يأكلون الأكل الفاخر، ويلبسون اللباس الأنيق، ويسكنون القصور الفخمة، هم مع ذلك أشقياء … فسعادتهم إنما هي في نظر غيرهم لا في نظر أنفسهم، ولو كانت هذه اللذة هي السعادة لكان هؤلاء أسعد الناس دائمًا.

ثم هذه اللذائذ قيمتها في الاعتدال فيها، وعدم التهافت على كسبها. إن شئت فاحسب حساب من أفرط فيها في فترة قصيرة من الزمن ثم فقد صحته، فلم يعد يستطيع أن يتابع لذته، وحساب من اعتدل فطال زمن لذته مضافًا إلى لذته من صحته.

وأرقى من هذه درجة لذة العلم والبحث والقراءة والدرس … فهذه لذة العقل وتلك لذة الجسم، وهذه أطول زمنًا، وأقل مؤنة، وأبعد عن المنافسة والمزاحمة، والتقاتل والتكالب، وصاحبها أقل عرضة لتلف النفس وضياع الصحة.

وإن أردت الدليل على أنها أرقى من اللذائذ المادية، فاسأل من جرب اللذتين، ومارس النوعين، تجد العالم الباحث والفنان الماهر والفيلسوف المتعمق لا يهمهم مأكلهم وملبسهم بقدر ما تهمهم لذتهم من بحثهم وفنهم وتفكيرهم.

وأرقى من هذه وتلك لذة من وهب نفسه لخدمة مبدأ يسعى لتحقيقه، أو فكرة إنسانية يجاهد في إعلانها واعتناقها، أو إصلاح لداء اجتماعي يبذل جهده للقضاء عليه … فهذه هي السعادة ولو مع الفقر، ولكن لا يصل إلى هذه الدرجة من اللذة إلا من رقى حسه وسمت نفسه.

أي بني!

إنك خلقت إنسانًا ذا جسم وعقل وروح، وقد ربيت فنما جسمك، وثُقِّفت فنما عقلك، وأرجو أن يكون قد صادفك في بيئتك ما نَمَّى روحك، ولكل من هذه العناصر الثلاثة غذاؤه، ولكل لذته … ولذة اللذائذ أن تستطيع أن تمد العناصر الثلاثة بغذائها ولذاتها من غير أن يطغى عنصر على غيره، فيختل التوازن ويضيع التعادل.

أي بني!

طالما دعوت ربي جاهدًا أن يجنبك الزلل، ويقيك شر أصدقاء السوء، ويمنحك من قوة الإرادة ما تتقي به شر المغريات المغويات، وأن يهديك الصراط المستقيم والسلام.

٨

أي بني!

لقد جئت في مفترق الطرق بين جيلنا وجيل من قبلنا وجيلك، ويخيل إليَّ أن الفرق بين جيلك وجيلنا أكبر جدًّا من الفرق بين جيلنا وجيل آبائنا، لأنك تتأثر بالمدنية الغربية أكثر مما كنا نتأثر ويتأثر آباؤنا … بل إن المدنية الغربية نفسها تتطور تطورًا كبيرًا، فهي في القرن العشرين غيرها في القرن التاسع عشر والثامن عشر.

لقد ظلت المدنية الغربية تتطور إلى أن كان على قمتها القنبلة الذرية … وهناك فرق كبير بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية. فإن نحن تصورنا تعاليم الغرب هرمًا، كان أساسه الدعوة إلى العلم والتجربة ودراسة الحقائق، وقمته هي القنبلة الذرية. وإن تصورنا المدنية الشرقية هرمًا كانت دعامته الروحانية والإلهام وما إلى ذلك، وكانت قمته النبوة؛ وبناء على ذلك فرق كبير بين الفلسفة الغربية والفلسفة الشرقية.

إن المدنية الغربية تتميز بشيئين يظهران جليًّا في فلسفتها: الأول النظام وبحث المسائل بحثًا منطقيًّا منظمًا تنبني نتائجه على مقدماته، ويتجلى ذلك في ديكارت، وكانت، وأوجست كونت، ونحوهم. والمسألة الثانية عنايتها بالحقائق أكثر من عنايتها بالقيمة، على عكس الفلسفة الشرقية في هذين الشيئين. فالفلسفة الشرقية ليست خاضعة لنظام ولا مقدمات منطقية تتبعها نتائج، كما يتجلى ذلك في كلام الجاحظ وابن المقفع والأحنف بن قيس ونحوهم، وهي أيضًا تعني بالقيمة أكثر مما تعني بالحقائق، وأعني بالفرق بين القيمة والحقائق كالفرق بين من يعني بالقلب ووظيفته في الجسم، وبين من يعني بالقلب من حيث تركيبه وموضعه من الرئة اليسرى ونحو ذلك.

أي بني!

إن العالم اليوم كبوتقة الصائغ، تصب فيها كل العناصر من شرق وغرب وقديم وحديث، ثم تستغل كلها ليؤخذ خيرها، وهي تتطلب من الإنسان أن يكون مرنًا واسع الصدر … لا يزدري ما في الشرق لشرقيته، ولا يمجد الغرب لغربيته، وإنما يمجد الحق حيث كان. فنصيحتي أن تكون مفتح العينين، مفتح الأذن، تتطلب الحق حيث كان، لا تأبه للجديد لجدته، ولا تنفر من القديم لقدمه.

إن للشرق مزايا لا يستهان بها، فحكمته مركزة متبلورة، وهو يعتمد على الإلهام أكثر مما يعتمد على العلم والتجربة والحقيقة. وللغرب مزايا لا يستهان بها، فهو يعتمد على الحقيقة والتجربة والعلم، ولكن كانت نتيجة العلم الأوروبي القنبلة الذرية، وهذه القنبلة ينقصها النظر إلى خير الإنسانية لا إلى استعمالها في الغلبة، ولو استكشفت وصحبها النظر إلى خير الإنسانية لاكتشف تحطيم الذرة لا القنبلة الذرية، ولاستخدمت في خير الإنسان، من إزالة سدود وقيود قبل أن تستخدم في القنابل، أما قصد الغلبة فيرمي إلى القنبلة الذرية أكثر مما يرمي إلى خير الإنسانية؛ لأن القنبلة الذرية إنما تستعمل في الفتك لا في النفع.

أي بني!

إنك في زمن الآن قد مسحت فيه كل القيود، واختلط الشرق بالغرب، واختلطت المدنية الشرقية بالمدنية الغربية، وأصبح يمكنك أن تفطر في مصر وتتغدى في فرنسا، وتتعشى في إنجلترا، وهي إحدى الأعاجيب التي ما كنا نحلم بها. وليس هذا بالأمر الهين، فمعناه أن الحضارات تتقابل، ومنافع الناس تتلاقى … وخير لك أن تقابل عالمك في ثوبه الجديد، فتتأقلم معه وتسايره ولا تقف ضد التيار فيجرفك.

أي بني!

خير ما تواجه به هذا الزمان، سعة دراستك، ووقوفك على حقائق الشرق والغرب، وانتفاعك بما في كل من مزايا. وعيب الشرقيين شعورهم بمركب النقص أمام المدنية الحديثة، فهم يقدرونها فوق قيمتها، ويقدرون أنفسهم أقل من قيمتهم، ولو أنصفوا لزادوا من قيمة أنفسهم وقلَّلوا من قيمة المدنية الغربية.

فالمدنية الحقة إنما تقاس بإسعاد الناس لا بكثرة الاختراع ولا بكثرة التجارب. نعم إن المدنية الغربية أكثر اختراعًا وأكثر تجارب، ولكنها ليست أكثر إسعادًا للناس، فكثرة حروبها وكثرة تكاليف الحياة عندها وكثرة مطالبها، جعلتها أشق على الحياة وأفقدتها قيمتها في السعادة.

أي بني!

لست أريد أن أبثك رأيي وألزمك به، فأنت حر في اختيار آرائك ووزنها بميزانك، ولكن هذا لا يمنعني من أن أبث إليك بعض آرائي لا عن طريق إلزامك بها، ولكن رغبتي في نفعك جعلتني أعرض عليك كل ما أرى لترى فيه ما ترى.

والسلام عليك ورحمة الله.

٩

أي بني!

لقد كتب إليَّ أخوك مرة من لندن — بعد أن أتم دراسته في كلية الهندسة بجامعة فؤاد، وذهب إلى إنجلترا يعدُّ نفسه لنيل الدكتوراه — يقول: إنه ضمه مجلس مع جماعة من شبان الإنكليز المتخصصين في الهندسة أيضًا، وما زال الحديث يتنقل بينهم إلى أن وصلوا إلى عمر الخيام، فأخذ كل يبدي رأيه في شعره وفلسفته في الحياة، وجمال رباعياته، والروح التي تبثها في النفوس، وهل هي روح قوية أو ضعيفة تناسب هذا العصر أو لا تناسبه؟ ونحو ذلك … وإن أخاك أثناء هذا الحديث كله، لم يستطع أن ينبس بكلمة ولا أن يشارك في هذا الحديث بأي رأي؛ لأنه لم يسمع قبل هذا المجلس عن عمر الخيام، ولم يعرف عنه شيئًا، وأنه خجل من نفسه وخجل من ثقافته.

وأنت الآن تدرس الهندسة كأخيك، وأخشى أن تكون أيضًا لم تسمع بعمر الخيام وأمثاله … وربما لم يسمع عنه أيضًا كل إخوانك في كلية الهندسة، وكل زملائك في كلية الطب والزراعة والتجارة، وبعبارة أخرى كل المتخصصين في الدراسات العلمية والفنية.

وهذا عيب شنيع ألفت إليه نظرك ونظر زملائك، وأريد أن تتبرأوا منه جميعًا. إنكم تظنون أن واجبكم يحتم عليكم دراسة فنكم والتوسع فيه ما أمكن وكفى، فإن كان عليكم واجب ثقافي آخر فقراءة جريدة سياسية أو مجلة خفيفة، تقرأونها عند تنقلكم في الترام أو القطار، أو للتسلية قبل النوم، فإن تم هذا كله ظننتم أنكم أديتم واجبكم نحو عقلكم … ولا بأس بعد ذلك أن تجهلوا عمر الخيام وأمثال عمر الخيام، وأن تجهلوا ما يجري في العالم من شئون اجتماعية وثقافية عامة أدبية، وفي هذا من الخطأ ما يجب أن تتحرر منه أنت وأمثالك.

إنك إنسان قبل أن تكون مهندسًا أو طبيبًا أو تاجرًا أو نحو ذلك، وإنك إنسان ذو عقل، كما إنك إنسان ذو معدة، وكما يجب عليك تغذية معدتك يجب عليك تغذية عقلك، وليست الهندسة أو الطب أو نحو ذلك، تغذي عقلك إلا في ناحية محدودة ضيقة. إن الهندسة تغذي مجموعة صغيرة من الغدد في المخ، أما سائر الغدد فلا تجد غذاءها في الهندسة ولا الطب … إنما تجد غذاءها في المعلومات العامة والثقافة العامة؛ ولذلك كثيرًا ما تجد مهندسين أو أطباء أو نحوهم، وهم مع معرفتهم الواسعة بمهنتهم عوام أو أشباه عوام … فيما عدا فنهم الذي تخصصوا فيه. تسمع جدالهم أو آراءهم في غير فنهم، فيضحكك حديثهم كما يضحكك حديث من لم يتثقفوا، وليست الجرائد والمجلات الرخيصة كافية للغذاء الجيد الناضج في شيء، بل إن كثيرًا من هذه المجلات الرخيصة تضر أكثر مما تنفع … عمادها إثارة الغرائز الجنسية بحديثها وقصصها ومناظرها، فهي تعالجها — وتعالجها وحدها — كأن ليس في الوجود شيء غير هذه الغريزة، فأعيذك بالله من أن يكون أفقك في الحياة هذا الأفق الضيق المحدود.

أي بني!

إن أخاك هذا ذكر لي بعد ذلك أنه انتقل من إنجلترا إلى السويد ليتمرن في مصانعها الهندسية، وأنه صحب مهندسًا سويديًّا يحب القراءة في الكتب الأدبية وفي كتب النفس والاجتماع ونحو ذلك، وأنه بمخالطته ومصادقته تعلم منه القراءة … فكان يرشده إلى الكتب القيمة التي يجب أن يقرأها، ويستحثه أن يغشى المكاتب ويقلب فيها نظره، ويشتري ما يعجبه موضوعه منها، فنمت عنده ملكة القراءة، وأنه على أثر ذلك — بسبب هذا الصديق — انضم إلى جمعية فرضت على أعضائها أن يجتمعوا كل أسبوع مرة، وأن يحضر أحد أعضائها بالتناوب حديثًا كل أسبوع حسبما يختار، يقرأ فيه ما استطاع قراءته ثم يعرضه عليهم، وبعد سماعه يتناقشون فيه مناقشة تطول أو تقصر، وانقلبت هذه الجلسة إلى لذة عقلية ممتعة له، حتى كان يترقب تلك الساعة ويتمناها طول الأسبوع، وأنه استفاد منها فائدة كبرى غيرت حياته، وغيرت عقليته. ومن ذلك الحين أصبحت له مكتبة تشمل كتبًا من كتب «أدلر» في علم النفس، ومن كتب «موم» في الأدب، ومن كتب «برتراند رسل» في الفلسفة، ونحو ذلك. ثم كان كأنه خلق خلقًا آخر. فأناشدك الله أن تعمل مثل هذا.

أي بني!

لست أريد أن أقيم لك البراهين بأكثر من أن تقارن بين شباب قضوا أوقات فراغهم في لعب نرد أو شطرنج أو حديث فارغ في الأندية والمقاهي، وبين شباب أحبوا الكتب والمطالعات، ووضعوا لهم برامج في تثقيف نفوسهم وتوسيع عقولهم. أريد أن تقارن بين هاتين الطائفتين أيهما أكثر لذة ومتعة لأنفسهم، وأيهما أكثر نفعًا لأمتهم، وأيهما أجدر بلقب إنسان؟

أي بني!

لا تظن أنك تستطيع أن تكون مهندسًا عظيمًا بقراءتك في الهندسة وحدها، ولا أن يكون زميلك طبيبًا عظيمًا بقراءته في الطب وحده … فالعقل وحدة، وثقافته في أي موضوع آخر يفيده في الموضوع الذي تخصص فيه. فكم أتت فكرة هندسية عظيمة من قراءة كتاب في الأدب، أو في الاجتماع! وكم أتت فكرة طبية سامية من ثقافة اجتماعية أو فلسفية. ويخيل إليَّ أن كثيرًا من الأطباء ينقصهم المنطق مثلًا، فلو تعلموا شيئًا من المنطق لاستطاعوا أن يحددوا بالضبط نوع المرض ونوع العلاج، وخاصةً في الأمراض التي تتشابه أعراضها، وتتقارب أوصافها؛ فالمنطق وحده هو الذي يستطيع أن يقول — بناء على هذه الأعراض المتشابهة — إن هذا المرض كذا دون كذا، والطبيب الناجح هو الذي منح ملكة منطقية بالفطرة، ولو نميت هذه الملكة الفطرية بشيء من الفلسفة والمنطق التعليمي لكان صاحبها أنبغ وأعظم.

أي بني!

مفتاح هذه المشكلة أن تجتهد أول أمرك أن تكون لك هواية في فرع من فروع الثقافة العامة، كنوع من دراسة التاريخ، أو نوع من الأدب، أو نوع من الدراسة النفسية أو الاجتماعية بجانب دراستك الخاصة … تبدأ فيه على مهل، وتحبب نفسك فيه رويدًا رويدًا، كما يفعل من يريد أن يمرن نفسه على هواية الزهور أو جمع أوراق البريد أو الرسم أو نحو ذلك، فإذا صبرت على هذا قليلًا قليلًا، وجدت أن لذتك تنمو شيئًا فشيئًا، ولا تزال كذلك حتى تصبح هذه الهواية «كيفًا» لا تصبر عنه ولا تستطيع العيش بدونه، ولكنه «كيف» راقٍ سامٍ نبيل نافع. فإذا وصلت إلى هذه الدرجة استسخفت من يضيعون أوقات فراغهم في الحديث التافه واللعب السخيف والقراءة الرخيصة، وأحببت أن تصادق من قويت ثقافته ونضج تفكيره، ونعمت هذه الصداقة.

أليس عجيبًا أن تسمع من زملائك أنهم يريدون قتل الوقت بلعب الورق، أو قتل الوقت بالحديث التافه، أو قتل الوقت بالكلام في أعراض الناس أو نحو ذلك …؟ كأن الوقت عدو يقاتل، مع أنه المادة الخامة للحياة، وهو أجدر بأن يصادق لا أن يقاتل، ولكن كم يجني الإنسان على نفسه بمعاداة أحق شيء بالصداقة!

أي بني!

تصوَّر أنك ستعيش بعد ذلك أربعين أو خمسين عامًا، وتصور ماذا تجني في هذه السنين الطوال إذا أنت صرفت جزءًا كبيرًا منها في تقويم نفسك وتثقيف عقلك، وتصور كيف تخسر إذا أنت صرفتها أو أكثرها فيما يضر ولا ينفع. بل أنت إذا حسبت ذلك بحساب اللذة الشخصية فحسب، وجدتك تتلذذ أضعافًا مضاعفة من لذائذك العقلية أكثر من لذائذك الجسمية.

والسلام عليك ورحمة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤