جولستان أو روضة الورد

في الزهد والحكمة
«لم نعلمك حق العلم»

باب الإلهيات

أياعجبًا كيف يُعصى الإلـ
ـه أمْ كيف يجحده الجاحدُ؟!
وفي كل شيء له آية
تدلُّ على أنه واحد

«سألوني عن ذاته المقدسة وقالوا: صِفْها؛ فأنت بها خبير، فعجزت عن الوصف والتعبير وقلت: جلَّ عن أن يكون له مثيل أو نظير؛ فهو الواحد الأحد، والفرد الصمد، أحيانَا فعِشْنا به، ويُميتنا فنموت في حبه.»

حديقة الورد

غاص وليٌّ من أولياء الله في بحر التأمل والتفكير، فلمَّا هبَّ من نومه وصحا من نشوه، قال له إخوان الوفاء: «ماذا جلبت لنا من تُحف الحديقة الغنَّاء؟»

فقال الوليُّ: فكرت فيكم وأنا أتنقل بين الخزامى والياسمين، وأُمتع النفس بشم الأزهار والرياحين، فصحت عزيمتي على أن أُهديكم بعض التحف، وأنفحكم بما أستطيع من الطرف، فلمَّا بلغت بستان الورد اجتنيت منه ما اجتنيت وملأت حِجري، فأصابني من الأريج والعطر ما غيَّب عنِّي الرشد والفكر، فانفلتت أهدابي من يدي، وانتشر الورد في الروضة البهية، فعدت إليكم بلا هدية.

الأسرار الإلهية

اضرب للعاشقين مثل الفراش والنار؛ فهو الذي يسعى بجناحه إلى الهلاك والدمار، وهذا جزاء من يحاول الوقوف على الأسرار قبل الأوان، فلا هو مُصيب غرضًا، ولا مُطفئ ما به من أوار، فيا أيها الباحث، أقصرْ فسوف يكون نصيبك الفشل، واعلم أنه ما اهتدى إلى الحق إلَّا من غادر عالم الفناء، وهيهات هيهات أن تبوح النفوس بسر الوجود قبل أن تعبر من عالم الزوال إلى عالم الخلود.

تمجيد واجب الوجود

جلَّ جلالك يا مَن تعالى عمَّا يقول القائلون، يا مَن لا تُحيط به الشكوك، ولا تلحقه الظنون، يا مَن يعجز عن معرفة كُنهه الحكماءُ والعارفون، أنت القديم منذ القِدم، وأنت المُعطي الكريم، بل أصل الكرم، بل أنت البقاء والوجود، وكل ما عداك فناء وعدم.

إصلاح النفوس الشريرة بعِشرة النفوس الخيِّرة

أعطاني محبوبي قبضة من طين ذات ريح زكية، فقلَّبتها بين يديَّ قائلًا: يا لها من هدية! وسألتها قائلًا: يا أيتها الطينة العطرية، أأنت من العنبر الإلهي أمْ من المسك المقدس؛ فإن أريجك يُطهِّر الفؤاد ويجلي مرآة النفس؟

فقالت: اعلم أنني حسوت عطر الورد فانتعش جسمي، وأضاءه شعاع من الروح العلِيَّة، وسرى فيه الطِّيب فتضوَّعت منه تلك الريح العبقرية.

قوة الجَنان وفصاحة اللسان

إذا منحك الله قوة الجَنان وفصاحة اللسان فلا تكتمَنَّ ما يجول بصدرك، وعبِّر ما استطعت عمَّا تشعر به في جهرك وسرِّك، وأفرغ المعاني الدقيقة في قوالب الألفاظ الرقيقة، وكن كالصائغ الحاذق الماهر الذي يُرصِّع الذهب بالدراري والجواهر، وليكن لك في المحافل منطق يشفي الجوى، ويسوغ في أذن السامعين سلافه:

فكأن لفظك لؤلؤ مُتنخل
وكأنما آذانهم أصدافه

واعلم أن الموت سوف يُطفئ شعلة الفؤاد، فيطول أمد الرقاد، ويعجز اللسان عن البيان، وتُدفن جواهرك معك في القبر، وليس هذا هو المقصود في الحياة ولا تلك غاية العمر.

فما اكتمل البدر إلَّا ليُضيء وينير، وما فاض النهر إلَّا ليُغدق على الوادي الخير الغزير.

حديقة السعدي

ولمَّا نزلنا منزلًا طلَّه الندى
أنيقًا وبستانًا من النور حاليا
أجد لنا طيب المكان وحسنه
مُنًى فتمنينا فكنت الأمانيا

عرفت جنة ذات أنهار حِذاء نهر جرار، وحوض ثرثار، ذات أشجار باسقة، وغصون متقاربة متلاصقة، قد كساها الجمال ثوبًا قشيبًا باهرًا، وحباها الحُسن نصيبًا وافرًا؛ فخضرتها تسرُّ الناظرين، ومنظرها يُبهج الرائين، سيَّما وقد ازدانت مروجها بالأزهار كما تزدان بالعقود النحور، فقصدتها في يوم النيروز وإذا بالبلابل تُغرِّد على الأغصان، والطيور تُسبِّح باسم المهيمن الديَّان، فكأن تلك الجنة جامع فسيح، وتلك الطيور خُطباء تصيح بالوعظ الصحيح، وكأن قطر الندى على الشجر دموع انهملت من عين عابد في السَّحَر، أو بكاء عاشق بان عنه معشوقه وبان له القمر.

قضيت مع صديق لي في تلك الجنة ليلة لا تُحسب من العمر، بين الغصون والرياحين والزهر، وكنا إذا سرنا خُيِّل لنا أن حصاها من البلور، وأن قطوفها جوهر، وأن ماء أنهارها من زبرجد، وأزهارها من عسجد، ومن رأى زهر الخزامى وهو يميل نحو الورد للتقبيل، أو لحظ النرجس وهو ينظر إلى السماء بمقلته النجلاء، ورأى الماء أزرق كعين السنور، صافيًا كقضيب البلَّور، بل كلِسان الشمعة في صفاء الدمعة، قال: لا ريب في أن هذه روضة من رياض الجِنان، وهبها الرحمن لبني الإنسان؛ ليتحدثوا بنعمته، وليُسبِّحوا بحمده.

فلمَّا هزمت جيوش الصباح جنود الظلام، وولَّى الليل مدبرًا، وجاء الفجر مقبلًا بسلام، وعزمنا على الانصراف عن تلك الحديقة الأنيقة، عزَّ علينا فراق ذلك الجمال، ووددنا لو أننا نبقى فيها سبع ليال نُمتِّع أثناءها الطرف والشم، ونُفرِّج في خلالها الكرب والهمَّ، ولكن هيهات أن يتم لنا ما نرجو في تلك الدنيا الفانية، أو ننال في الأولى ما نُمتَّع به في الثانية، فنهضنا والأسف ملء القلوب، واستسلمنا للقضاء استسلام أيوب.

وإني لكذلك أتحفز للمسير، وإذا بصاحبي يشد ثيابه ليملأ أهدابه بالأزهار الزكية، كالورد الذي أسكرنا عطره، والنرجس الذي ملأ المكان عبيره ونشره، فقلت له: ماذا أنت صانع، يا أخي، بتلك الأزهار البهية؟ قال: أحملها لإخواننا ممَّن لم يُسعدهم الله بمثل ما أسعدنا، فأجبته لساعتي: ألست تعلم أن الأزهار النضرة سوف يئول أمرها إلى الذبول؟! وأن عطرها لا يدوم أكثر ممَّا يدوم أثر الشمول؟! فلا نفع والحال كما ذكرت بتعزيز ما كان مصيره للفناء، فقال صاحبي: بماذا نعود إذن إلى أصحابنا بعد أن غبنا عنهم، وكان نصيبنا من الخير أوفر من نصيبهم؟

فوعدته بأن أكتب كتابًا يكون كتلك الحديقة، غير أنه سهل المنال، وتبقى أزهارها على الدوام نضرة، لا يؤثر فيها تقلُّب الأيَّام والليالي، فإذا أنجزت ذلك الكتاب استغنى الناس عن البساتين؛ لأن وردها يبقى غضًّا يومًا وليلة، أمَّا ورد روضتي فسيبقى غضًّا على كرِّ القرون والسنين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤