١٢ أكتوبر

لما عدنا كان ميعاد الجلسة قد حان، ودنت سيارتنا من المحكمة، فشاهدنا الأهالي ببابها مكدسين كالذباب. وكان مساعدي قد خرَّ إلى جواري صريع الكرى، ولم يهمني أمره، ولم يدُر بخلدي قط أن أدعوه وهو على هذه الحال من التعب إلى مشاهدة الجلسة بجواري كما شهد التحقيق. إنه لم يعتد بعدُ وصل الليل بالنهار، وحسبه هذه السهرة الممتعة؛ فلأترفقنَّ به في أول عهده بالخدمة. وما إن مررنا بالمحكمة حتى أمرت السائق بالوقوف، وأوصيته أن يمضي بالمساعد إلى منزله، وحييت المأمور، ونزلتُ أشق طريقًا بين أكوام الرجال والنساء والأطفال. ودخلت حجرة المداولة، فوجدتُ القاضي في الانتظار، وما كدتُ أرى وجه القاضي حتى وجمت؛ ففي المحكمة قاضيان يتناوبان العمل؛ أحدهما يقيم في القاهرة ولا يأتي إلا يوم الجلسة في أول قطار، ويسرع في نظر القضايا حتى يلحق قطار الحادية عشرة الذي يعود إلى القاهرة. ومهما زادت القضايا وبلغ عددها فإن هذا القطار لم يفُت القاضي يومًا قط. أما القاضي الثاني فهو رجل ذو وسواس، وهو بعدُ يقيم مع أسرته في دائرة المركز، فهو يبطئ في نظر القضايا خشية العجلة والغلط، ولعله أيضًا يريد شغل وقته وتسلية ضجره في هذا الريف، وليس أمامه قطار يحرص على ميعاده؛ فهو من الصباح يجلس إلى المنصة، وكأنه قطعة منها سُمِّرت فيها؛ فلا ينفصل عنها إلا قُبيل العصر، ويستأنف الجلسة في أكثر الأحيان عند المساء، وكانت تذيقني جلسته مرَّ العذاب، فهي الحبس بعينه، وكأنما قضي عليَّ أن أُربط إلى منصتي لا أبدي حراكًا طول النهار، وقد وُضع حول عنقي وتحت إبطي ذلك الوسام الأحمر الأخضر كأنه الغل. أهو انتقام إلهي لهؤلاء الأبرياء الذين دفعت بهم إلى الحبس دون أن أقصد؟ أتُرى أخطاء المهنة تقع تبعاتها١ علينا؛ فندفع ثمنها في الحياة دون أن نعرف؟

ووجمت لرؤية القاضي؛ إذ أدركت أني وقعت في جلسة لا ترحم بعد ليلة كلها عمل. ولست أدري ما الذي طمس ذاكرتي؛ فحسبت، خطأً، أن اليوم نوبة القاضي السريع.

•••

دخلت الجلسة، وكان أول ما فعلت أن نظرت في «الرول»؛ فإذا أمامنا سبعون مخالفة وأربعون جنحة. عدد، والحمد لله، كفيل أن يُجلسنا بلا حراك مع هذا القاضي طول اليوم، على أن القضايا دائمًا عند هذا القاضي أكثر منها عند القاضي الآخر، والسبب بسيط؛ أن القاضي الموسوس لا يحكم في المخالفة بأكثر من غرامة عشرين قرشًا، بينما الآخر يرفع سعر الغرامة إلى خمسين، وعلم المخالفون والمتهمون بذلك؛ فجعلوا كل همهم الهروب من صاحب السعر المرتفع، والالتجاء إلى صاحب السعر المناسب. وطالما تبرَّم هذا القاضي وشكا من ازدياد عمله يومًا عن يوم دون أن يدري العلة. فكنت أقول في نفسي: «ارفع أسعارك ترَ ما يسرك!» وبدأ المُحضر ينادي أسماء المتهمين من ورقة في يده. وقزمان أفندي المُحضر رجل مسن، أبيض الشعر والشاربين، ذو منظر وهيئة يليقان برئيس محكمة عليا، وهو إذا نادى تعاظم في حركاته وإشاراته وصوته، والتفت إلى الحاجب بالباب التفاتة الآمر الناهي، فيردد الحاجب الاسم خارج قاعة الجلسة كما تلقَّاه من المحضر، ولكن في مدٍّ وغنٍّ ونغمة كنغمة الباعة المتجولين، وقد لاحظ ذلك أحد القضاة مرة، فقال له: «أنت يا شعبان قاعد تنادي على قضايا جنح ومخالفات، أو على بطاطة وبلح أمهات؟» فأجابه الحاجب: «جنح ومخالفات أو بلح أمهات؛ كله أكل عيش.»

ومَثل أول المخالفين أمام القاضي الغارق في الأوراق، فرفع القاضي رأسه ووضع منظاره السميك على أنفه، وقال للماثل بين يديه: أنت يا راجل خالفت لائحة السلخانات بأن أجريت ذبح خروف خارج السلخانة.

– يا سيدي القاضي، الخروف ذبحناه، ولا مؤاخذة، في ليلة حظ «عقبال عندك» بمناسبة طهور الولد.

– غرامة عشرين «قرش». غيره.

فنادى المحضر، ونادى ثم نادى؛ مخالفات متتابعة؛ كلها من ذلك النوع الذي مضى الحكم فيه، وقد تركت القاضي يحكم وجعلت أروِّح عن نفسي بمشاهدة الأهالي الحاضرين في الجلسة، وقد ملئوا المقاعد و«الدكك»، وفاض فيضهم على الأرض والممرات؛ فجلسوا القرفصاء كأنهم الماشية يرفعون عيونهم الخاشعة إلى القاضي وهو ينطق بالحكم كأنه راعٍ في يديه عصًا. وضاق ذرع القاضي بذلك اللون المتكرر من المخالفات، فصاح: فهموني الحكاية! الجلسة كلها خرفان خارج السلخانة!

وحملق في الناس بعينين كالحمصتين خلف المنظار الراقص على طرف أنفه، ولم يفطن أحد ولا هو نفسه لما في هذا العبارة من تعريض. ومضى المحضر ينادي وقد تغيَّر قليلًا نوع المخالفة، ودخلنا في نوع جديد، فقد قال القاضي للمخالف الذي حضر: أنت يا راجل متهم بأنك غسلت ملابسك في الترعة.

– يا سعادة القاضي، ربنا يعلي مراتبك، تحكم عليَّ بغرامة لأني غسلت ملابسي؟

– لأنك غسلتها في الترعة.

– وأغسلها «فين»؟

فتردد القاضي وتفكر ولم يستطع جوابًا؛ ذلك أنه يعرف أن هؤلاء المساكين لا يملكون في تلك القرى أحواضًا يُصب فيها الماء المقطر الصافي من الأنابيب؛ فهم قد تُركوا طول حياتهم يعيشون كالسائمة،٢ ومع ذلك يُطلب إليهم أن يخضعوا إلى قانون قد استُورد من الخارج على أحدث طراز، والتفت القاضي إليَّ وقال: النيابة.

– النيابة ليس من شأنها أن تبحث أين يغسل هذا الرجل ملابسه، ولكن ما يعنيها هو تطبيق القانون!

فأشاح القاضي بوجهه عني وأطرق قليلًا وهز رأسه، ثم قال في سرعة مَن يزيح عن كاهله حملًا: غرامة عشرين. غيره.

فصاح قزمان أفندي باسم المخالف التالي، فظهر رجل كهل من المزارعين يبدو من زرقة «شال» عمامته «المزهرة»، ومن جلبابه الكشمير، وعباءته الجوخ الأمبريال، وحذائه «اللستيك» الفاقع في صفرته، أنه على جانب من اليسار واستواء الحال. فما إن مَثل حتى ابتدره القاضي: أنت يا شيخ، أنت متهم بأنك لم تسجل كلبك في الميعاد القانوني.

فتنحنح الرجل وهز رأسه، وتمتم كأنه يستغفر ويسترجع: عشنا وشفنا الكلاب تتسجل «زي الأطيان» وتبقى لها حيثية!

– غرامة عشرين. غيره.

ومضت الأحكام في جميع المخالفات على هذا النحو، ولم أرَ واحدًا من المخالفين قد بدا عليه أنه يؤمن بحقيقة ما ارتكب، إنما هو غرم وقع عليهم من السماء كما تقع المصائب، وإتاوة يؤدونها؛ لأن القانون يقول إنهم يجب عليهم أن يؤدوها! ولطالما سألت نفسي عن معنى هذه المحاكمة، أنستطيع أن نسمي هذا القضاء رادعًا والمذنب لا يدرك مطلقًا أنه مذنب؟ وفرغنا من المخالفات وصاح المحضر: «قضايا الجنح!» ونظر في ورقة «الرول»، ونادى «أم السعد بنت إبراهيم الجرف!» فظهرت فلاحة عجوز تدب في وسط القاعة حتى بلغت المنصة، ووقفت بين يدَي قزمان أفندي المحضر، فوجهها إلى القاضي، فوقفت تنظر إليه ببصر ضعيف، ثم لم تلبث أن تحوَّلت عنه وعادت إلى الوقوف بين يدَي المحضر الهرِم، وسألها القاضي ووجهه في الورق: اسمك؟

– محسوبتك أم السعد.

قالتها وكأنها توجه الخطاب إلى المحضر، فغمزها قزمان أفندي ووجَّهها إلى المنصة مرة أخرى، وسألها القاضي: صنعتك؟

– صنعتي حرمة.٣

– أنتِ متهمة أنك عضضتِ إصبع الشيخ حسن عمارة.

فتركت المنصة ووجهت الكلام إلى المحضر: وحياة هيبتك وشيبتك إني ما عبت أبدًا. أنا حلفت ووقع مني يمين أن البنية ما يقل مهرها عن العشرين بنتو.

فرفع القاضي رأسه وثبت منظاره ونظر إليها صائحًا: تعالي كلميني هنا، أنا القاضي أنا، العضة حصلت منك؟ قولي نعم أو لا، كلمة واحدة.

– عضة؟ حد الله! أنا صحيح قبيحة، لكن كله إلا العض.

فصاح القاضي في المحضر: «هات الشاهد.» فحضر المجني عليه وقد لف بنصَره في رباط صحي، فسأله القاضي عن اسمه وصناعته، وحلَّفه اليمين ألَّا يقول غير الحق، واستوضحه الأمر. فقال الرجل: أنا يا حضرة القاضي لا لي في الطور ولا في الطحين. والقصة وما فيها إني كنت واسطة خير.»

وسكت؛ كأنه قد أبان وأفصح عن سر القضية. فحملق فيه القاضي وهو يكظم غيظه، ثم انتهره وأمره أن يقص ما حدث بالتفصيل؛ فبسط الرجل الأمر قائلًا: «إن لهذه المتهمة ابنة تُدعى «ست أبوها»، خطبها فلاح يُدعى «السيد حريشة»، وعرض مهرًا قدره خمسة عشر بنتو، فلم تقبل أمها بغير العشرين، ووقف الأمر عند هذا الحد إلى أن جاء ذات يوم شقيق الخاطب، وهو صبي صغير يُطلق عليه اسم «الزنجر»، فذهب من تلقاء نفسه إلى أهل العروس، وأبلغهم، كذبًا، أن الخاطب قد قبل الشرط، ثم رجع إلى أخيه وأخبره أن أهل البنت قد رضوا النزول بالمهر كما عرض، وكان من أثر عبث هذا الصبي ومكره بالطرفين أن حُدد يوم لقراءة الفاتحة في بيت العروس، وانتدب الخاطب الشيخ عمارة هذا والشيخ فرج هذا ليكونا شاهديه. وتقابل الجميع، وذبح والد البنت إوزة. وما كاد الطعام يُهيأ ويُقدم إلى الضيوف حتى ذُكر المهر، وظهرت الأكذوبة، وإذا الموقف لم يتغير؛ واحتدم الجدال بين الطرفين. وصاحت أم البنت تولول في صحن الدار: «يا مصيبتنا الكبيرة! يا شماتة الأعادي! والنبي ما أسلم بنتي بأقل من عشرين.» وخرجت المرأة في وسط الرجال كالمجنونة تدافع عن حق ابنتها، وتخشى أن ينهي الرجال الأمر فيما بينهم بما لا ترضى، وهزت الشيخ حسن الأريحية؛ فلم يضع يده في طعام، وقام إلى المرأة يداورها ويحاورها ويقنعها، بينما مد زميله الشيخ فرج يده إلى الإوزة ينهش منها نهشًا دون أن يدخل في النزاع المحتدم، ويظهر أن التحمس من الجانبين قد جاوز حد الكلام، وإذا الشيخ حسن يرى يده لا في طبق الإوز، ولكن في فم العجوز؛ فصرخ صرخة داوية، وانقلبت الدار شر منقلب، واختلط الحابل بالنابل، وجذب الشيخ حسن رفيقه، فانتزعه من أمام الطعام انتزاعًا، وخرج به وهو يحرق الأُرَّم؛ فهذا الرفيق لم يقل كلمة وحظي بالأكل، وهو الذي تحمس قد خرج من الوليمة بجوعه، وقد أكلت العجوز إصبعه.»

واسترسل المجني عليه في الكلام. وفجأة أخذت القاضي خلجة وتيقظ وسواسه؛ فقاطع المتكلم، وقال كالمخاطب لنفسه: «يا ترى أنا حلفت الشاهد اليمين؟» والتفت إليَّ قائلًا: «يا حضرة وكيل النيابة، أنا حلفت الشاهد اليمين؟» فجعلت أتذكر، ولم يستطع القاضي طرد الشك؛ فصاح: «احلف يا رجل: «والله العظيم أقول الحق».» فحلف الرجل، فصاح به القاضي: «اذكر أقوالك من أولها.»

فعلمت أننا لن ننتهي، وبلغ الضيق أنفي، وتثاءبت، وغرقت في مقعدي وقد عبث النوم بأجفاني، ومضى وقت لست أدري مقداره، وإذا صوت القاضي يصيح بي: «النيابة! طلبات النيابة!» ففتحت عينين حمراوين لا يبدو فيهما غير طلب النوم، فأخبرني أنه اطلع الآن على تقرير الطبيب الشرعي، فإذا الإصابة قد تخلَّف عنها عاهة مستديمة هي فقد «السلامى» الوسطى للبنصر؛ فاعتدلت في مقعدي، وطلبت في الحال الحكم بعدم الاختصاص، فالتفت القاضي إلى العجوز قائلًا: «الواقعة أصبحت جناية من اختصاص محكمة الجنايات.» فلم يبدُ على المرأة أنها فهمت الفارق؛ فالعضة في نظرها هي ما زالت العضة، فما الذي حوَّلها من جنحة إلى جناية؟ آه من هذا القانون الذي لا يمكن أن يفهم كنهه هؤلاء المساكين!

ونوديت القضية التالية؛ فإذا هي شجار بالهراوات وقع بين والد «ست أبوها» وبين أهل الزوج «السيد حريشة»، فلقد تم الزواج بين الطرفين آخر الأمر، وبعث الزوج بعض الأهل ومعهم جمل لاستلام العروس من بيت أبيها، فقابلهم الأب محتدًّا صارخًا في وجوههم: «جمل؟ بقى بنتي تخرج على جمل! أبدًا! لا بد من «الكومبيل».»

وتجادل الطرفان فيمن يدفع ثمن هذه البدعة التي رماها بهم تطور العصر. وأدى الجدال إلى رفع العصي، وإسالة بعض قطرات من الدماء لا مناص منها في مثل هذه الظروف. وانتهى الأمر بأن أخرج أحد الساعين للخير ريالًا من جيبه، واستأجر سيارة من تلك السيارات التي تمر بالطرق الزراعية، وحكم القاضي في هذه القضية ثم صاح: «انتهينا من الفرح و«الدخلة» على خير! غيره!» فنادى المحضر بصوته الممتلئ: «قضايا المحابيس.» وذكر اسمًا من الأسماء، فدوَّت صلصلة السلاسل، ونهض من بين لابسي الخيش رجل فك الحارس قيده، ونهض من بين المحامين أفندي ذو بطن كأنها القربة المملوءة وقال: «حاضر مع المتهم.» فقلت في نفسي: «تلك قضية لها محامٍ لن يتركنا قبل أن يفرغ في رءوسنا ما شاء بحجة حرية الدفاع. فلأغمض عينيَّ منذ الآن؛ فرأسي أحوج ما يكون إلى الراحة بعد سهر الليل.» وسمعت القاضي يقول للمحبوس: أنت متهم بأنك سرقت «وابور غاز».

– أنا صحيح لقيت الوابور قدام باب الدكان، لكن لا سرقت ولا نهبت.

فالتفت القاضي إلى المحضر قائلًا: «هات الشاهد.» فحضر رجل على رأسه لبدة بيضاء، وعلى منكبيه «دفية»، فحلف اليمين، وقال إنه أشعل «وابور الغاز» ليهيئ الشاي لبعض «الزبائن» الجالسين داخل الحانوت. فهو بدال ريفي صغير يبيع السكر والبن والشاي والتبغ، ويجتمع لديه أحيانًا بعض الناس كأنهم في شبه مقهى، ولقد وضع الوابور مشتعلًا عند عتبة الباب في الطريق، ودخل يحضر الإبريق. وما إن عاد حتى رأى المتهم قد حمل الوابور بناره وجرى به. وجعل الشاهد يسهب ويستشهد بمَن حضر ومَن جرى معه خلف السارق، والقاضي مطرق، وقد علمت من هيئته أنه يفكر في شيء آخر. وفجأةً نظر إليَّ وقال كالمخاطب لنفسه: «أنا حلفت الشاهد اليمين؟» فما تمالكت أن صِحت في ضيق: «سبحان الله! أنا سمعت الشاهد حلف.» فقال لي القاضي: «أنت متأكد؟» فشعرت أن روحي تفارقني، فهمست: «تحب أني أحلف لك أنه حلف؟» فاطمأن القاضي بعض الاطمئنان، وأصغى إلى بقية الشهود في صمت وانتباه. ولم يطق المتهم صبرًا فنهض بغتة كالمستغيث: يا حضرة القاضي! في الدنيا «حرامي» يسرق «وابور غاز» بناره؟!

فأسكته القاضي بإشارة من يده قائلًا: «تسألني أنا؟! أنا عمري ما اشتغلت «حرامي»!» ونظر إلى منصة الدفاع، فقام المحامي عن المتهم يصيح قائلًا: «يا حضرة الرئيس! نحن لم نصادف وابورًا، ولا رأينا وابورًا، ولا مررنا في طريق به وابور، والقضية ملفقة من ألفها إلى يائها …» وأراد المحامي أن ينطلق في هذا الكلام، وأن يصول ويجول، ولكن القاضي قاطعه: حلمك يا أستاذ. المتهم نفسه معترف بأنه صحيح لقي الوابور قدَّام باب الدكان.

فضرب الأستاذ وجه المنصة بقبضته وقال: «هذا سوء دفاع من موكلي.»

فأجاب القاضي في هدوء: غرض حضرتك أن أصدق حسن دفاعك وأكذب الحقيقة التي نطق بها موكلك أمامنا جميعًا!

فاحتج المحامي ورفع عقيرته، وقد بدا إليَّ أن كل همه أن يجلجل صوته في الجلسة، وأن يتصبب عرقه فيمسحه بمنديله، وينظر إلى «زبونه» كأنما يريه الجهد الذي يتكبده من أجله، والعناية التي يبذلها في سبيله. وكان التعب والضيق والحبس بلا حراك أمام منصتي قد صيَّرني شخصًا لا يعي ولا يفهم ما يدور حوله؛ فأخفيت وجهي في ملف من ملفات القضايا واستسلمت للنعاس.

١  مسئولياتها.
٢  السائمة: كل إبل أو ماشية تُرسل للرعي ولا تُعلف.
٣  ولية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤