١٨ أكتوبر

كان أول ما فعلت عقب رجوعي إلى مكتبي أن أرسلت في طلب الشيخ عصفور، فحضر أمامي مطرقًا صامتًا، فابتدرته: البنت ريم تعجبك؟

فرفع رأسه ونظر إليَّ نظرة أحسست أنها نفذت إلى أعماق نفسي، ثم عاد فأطرق ولم يجب.

فقلت له: أنا مستعد أطلب المأذون، وأعقد عليك وعليها حالًا.

فلم يبدِ حراكًا، فمضيت أقول: لو كانت موجودة هنا كنت حالًا …

وجعلت أستحثه على الكلام، فلم يخرج عن صمته. وأخيرًا ترنم بصوت كالهمس لكنه واضح النبرات:

نهيتك ما انتهيت
والطبع فيك غالب،
وديل الكلب ما ينعدل
ولو علقوا فيه قالب.

فما تمالكت أن صِحت: اخرس يا بهيم!

وأسرعت بطرده، وقد تبيَّن لي أن لا فائدة تُرجى من مثله. ورأيت أن أسأل حلاق الصحة؛ فاستدعيته وسألته في أمر المرأة المخنوقة، وكيف صرَّح بدفنها بدون إذَن النيابة، فقال من فوره: وشرفك يا سيدنا البك ما أعرف إن كانت مخنوقة أو محروقة، حضرة حكيم الصحة أمر بالدفن كالمعتاد.

– بدون توقيع كشف؟

– لو كنا نقعد نكشف يا سعادة البك على كل متوفى، كان زماننا توفينا من بدري.

– بقى بالاختصار لا حد كشف ولا نظر …

– الجاري عليه العمل يا سعادة البك أن حلاقين الصحة في الجهات تبلغ الدكتور المفتش بالتليفون، وحضرته قاعد على مكتبه هنا ما عليه إلا أنه يسأل في كل حالة عن سبب الوفاة، نرد عليه في التليفون: ماتت يا دكتور موتة ربها، فيقول: ادفن، ادفن، ادفن!

– ما شاء الله، ما شاء الله، ما شاء الله!

ولم أرَ فائدة كذلك من البحث مع هذا الحلاق، فأنا أدرى الناس بحلاق الصحة. إن كل مهمتهم أن يقبضوا من أهل المتوفى خمسة قروش، ويحصلوا لهم على الإذن بالدفن دون أن ينظروا في وجه جثة، أو ينتقلوا إلى منزل متوفى. إنْ هم إلا سماسرة «دفن»! حتى مع فرض وجود النزيه منهم الذي يريد القيام بواجبه، فيذهب للكشف على الجثة، ماذا يستطيع مثل هذا الجاهل أن يستكشف؟ إنه سيرى رجلًا أو امرأة فاضت روحها، وليس بها إصابات ظاهرة. فكيف يعرف أن الوفاة مشتبه في أمرها؟ إن «نظام» حلاق الصحة نفسه، هذا النظام الذي لا تعرفه أيَّة دولة على بسيط الأرض هو موطن الداء. ومثله عندنا نظام «الدايات». وإني ما زلت أذكر ما قصَّه عليَّ طبيب مستشفى المركز ذات يوم. قال لي إنه دُعي إلى حالة ولادة عسرة في إحدى جهات الريف؛ فذهب مسرعًا، فوجد المريضة مُلقاة على ظهرها وقد تدلَّت منها ذراع الجنين، وبجوارها عجوز حمراء الشعر والشدقين، قيل له إنها «ست هندية الداية»، وأخبروه أن المريضة قد مضى عليها ثلاثة أيام على هذه الحال، بهذه الذراع الخارجة منها. فسأل الداية: لماذا انتظرتِ كل هذا الوقت، ولم تخطري الطبيب؟ فأجابت: «كنا منتظرين ستر ربنا، قلنا المولى ينتعها بالسلامة.» ووضع الطبيب يده في الرحم؛ فإذا الرحم محشو بالتبن، وإذا مثانة المريضة قد تهتكت، وأنها هالكة لا أمل فيها، وأن المولود قد مات منذ يومين. وألقى نظرة حوله؛ فإذا كومة من «التبن» القذر عند أقدام المرأة، فالتفت إلى «ست هندية الداية الصحية» مستفهمًا، فقالت: «أصل يا سيدي الدكتور، لما دخلت يدي أسحب الولد، لقيتها راحت «مزفلطة»، قمت قلت «أحرش كفي بشوية تبن».» ومدت للطبيب يدًا ملوثة ﺑ «التبن» قد بدت منها أظافر طويلة سوداء. وقال لي الطبيب: «إن الداية تولِّد المرأة كما لو كانت جاموسة.» وماتت المريضة مع طفلها، واكتفت الصحة بأن سحبت من هذه الداية «الصحية» التصريح، ولكنها لم تغير النظام، وهي تعلم أن ألوف الأطفال يموتون على هذه الصورة كل عام.

نظرت إلى حلاق الصحة مليًّا، وأدركت أن أرواح الناس في مصر لا قيمة لها؛ لأن الذين عليهم أن يفكروا في هذه الأرواح لا يفكرون فيها إلا قليلًا. وطردت هذا الرجل أيضًا، وقلت في نفسي: إن خير السبل في مثل هذه القضية أن أعرف مرسل البلاغ المجهول، وفكرت لحظة، وخطر لي أن أعرض خطه على القاضي الشرعي، وهو يتحرى لي بين موظفي محكمته وبين المحامين الشرعيين. ولعله هو نفسه قد مر به هذا الخط. وما دمت أعتقد أن صاحب هذا الخطاب أزهري؛ فليكن البحث في دائرة المحكمة الشرعية، وطلبت في الحال عبد المقصود أفندي رئيس القلم الجنائي، وهو من أصدقاء القاضي الشرعي، وكلفته أن يرافقني في الحال، ولم يمضِ قليل حتى كنا في بناء تلك المحكمة، فسألنا عن القاضي، فدلونا على حجرة أمام بابها «قبقاب»، فهمس عبد المقصود أفندي في أذني أن فضيلته، لا شك، كان يتوضأ كي يصلي الظهر. وسرد لي في عبارتين مبلغ ورع هذا القاضي وزهده، وضربنا على الباب ودخلنا، فرأينا القاضي خالعًا جبته وعمامته وهو جالس على حصير الصلاة، فلما رآنا نهض وحيَّانا، وأجلسنا على الكراسي، وطلب لنا «زنجبيل»، ورأى عبد المقصود أفندي أن يوفر عليَّ مئونة بدء الحديث، فالتفت إلى القاضي الشرعي وقال: البك وكيل النيابة غرضه يطلب من فضيلتك …

فأجاب القاضي سريعًا في شيء من القلق: خير إن شاء الله! طلب خصوصي أو …

وذكرتني هيئته وقلقه بقصة عنه قصها عليَّ المأمور. قال لي يومًا: إن المدير اقترح، تحسينًا لمظهر المركز ومراعاة للصحة العامة، إنشاء متنزه في وسط البلد، وقد تبرع بعض الأعيان بما استطاعوا التبرع به من مالهم، وبلغ القاضي الشرعي ذلك، فذهب إلى المأمور وسفَّه له هذا المشروع، واقترح أن يقام بدل المتنزه مسجد لعبادة الله وحض الناس على التقوى والصلاح، فأمَّن المأمور الخبيث على كلام القاضي، وتحمس لرأيه أعظم التحمس، وقال له: لا بد من عرض اقتراح المسجد على سعادة المدير، وأنا متأكد أنه موافق مقدمًا، وزيادة في إدخال السرور على قلب سعادته، نكتب اسم فضيلتك في رأس قائمة التبرعات، باعتبار أنك متبرع بمبلغ خمسة جنيهات.

وأخبرني المأمور أن القاضي، وكأنه لم ينم الليل، حضر إليه في الصباح المبكر يجري ويقول له في تردد: مشروع المسجد بلغته لسعادة المدير؟

فأجاب المأمور في ابتسامة خفية: طبعًا اليوم آخر النهار أنا ناوي أقابل سعادته.

هذه الواقعة تمثلت في رأسي فجأة عندما قال لنا القاضي في قلق: «طلب خصوصي؟» فقد قرأت ما جال في نفسه. فهو لا شك قد خاف أن نكون قادمين لطلب تبرع من هذا النوع؛ فأسرعت أرد إليه الاطمئنان، وأخبره أن حضورنا هو لعمل من أعمال وظيفتنا، وأخرجنا في الحال من ملف أوراقنا الخطاب الغفل، وعرضناه عليه وحادثناه فيما نريد منه، فانشرح صدره وقال: موضوع بسيط. نشرب الزنجبيل أولًا، ثم ننظر بعد ذلك في أمر البلاغ.

وصفق بيديه وصاح: يا شيخ حسنين، استعجل لنا الفرَّاش.

ثم صمت قليلًا، وعاد فحيَّانا: أهلًا وسهلًا، حصل لنا الشرف.

ورأى عبد المقصود أفندي أن يبدي صلته بالقاضي ومعرفته له، فأشار إليه والتفت إليَّ قائلًا: فضيلته من كبار العلماء الراسخين في العلم.

ووجه الكلام للقاضي: أنا يا فضيلة القاضي لا أنسى يوم المحاضرة لما رديت على الولد المدرس …

فقاطعه القاضي مستغفرًا مستعيذًا: أخزاه الله. أنا لا أطيق الصبر على الكفر والجهل.

والتفت القاضي إليَّ وقال: تصوَّر يا سيدي البك أن هذا الأفندي مدرس جغرافيا في المدرسة الثانوية، ألقى فيها محاضرة علنية عن عالم نصراني اسمه «شنتون»، قال إنه عرف بالضبط وزن الأرض والسماء. أستغفر الله العظيم.

وتأملت قليلًا في الاسم الذي نطقه القاضي، واهتديت آخر الأمر إلى أن المقصود به العالم الرياضي «أينشتين»، ولذَّ لي أن أعرف ما جرى، فهذا، من غير شك، صراع بين عقليتين، واصطدام بين رأسين يحلو لمثلي دائمًا أن يشاهده ويقف على مداه، فقلت للقاضي في شيء من الاهتمام: وحضرت المحاضرة يا فضيلة الشيخ؟!

– حضرت والأمر لله من قبل ومن بعد.

– وماذا حصل؟

– حصل يا سيدي أن هذا المدرس قام وقال في حضرة الباشا المدير، وكبار الموظفين والأعيان، إن هذا العالم الكافر قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل والأواخر، فقمت وصِحت به: «كذاب يا حضرة المدرس، لقد قال الله في كتابه العزيز: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ؛ فأسكتني الحاضرون، فسكت تأدبًا لوجود سعادة المدير، ولولا هذا ما سكت ورب الكعبة، ثم استمر هذا الأفندي في كلام لا هو بالمعقول ولا بالمنقول، إلى أن قال إن عالمه النصراني قد استطاع بمعادلات جبرية أن يزن الأرض والسماء! فما تمالكت نفسي، ونهضت وأنا أنتفض وصِحت به: «مهلًا يا حضرة الأفندي مهلًا، أخبرنا قبل كل شيء، هل هذا العالم «شنتون» وزَن السموات والأرض بالكرسي أم بدون الكرسي؟» فارتبك المدرس، ونظر إليَّ قائلًا: «كرسي إيه؟» فرددت عليه بالآية الشريفة: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أجب أيها المدرس الأفَّاك، ها هنا الحاصل والجوهر، الوزن كان بالكرسي أو بغير الكرسي؟

فكتمت ضحكي، وقلت في هيئة الجد: وأخيرًا؟

– وأخيرًا يا سيدي لا شيء، لم يستطع المحاضر أن يجيب، واحتج وانسحب، وضج الحاضرون واختلط الحابل بالنابل، وغضب مني سعادة المدير واعتبرها إهانة لمجلسه، وترك الناس المحاضرة، وهي المسألة الأصلية، والتفتوا إلى اعتدائي على مقام المدير، وهي مسألة فرعية، وتكاثروا عليَّ يطلبون إليَّ الاعتذار، فاعتذرت وأمري لله! ولكن مع ذلك أشعر أن من يومها والباشا المدير لا ينظر إليَّ بعين الرضا.

وسكت قليلًا، ثم قال في لهجة أخرى: بمناسبة الحالة السياسية اليوم، أظن الوزارة الجديدة ستُجري حركة تغيير وتبديل بين المديرين ورجال الإدارة كالمعتاد.

فلم أكد أفتح فمي لأجيب حتى دخل الفراش، وهو نصف شيخ، أعني أنه يلبس العمامة على جلباب عادي قذر كجلابيب الفلاحين، وهو عاري القدمين. وقدَّم لنا فنجانين من طرازين مختلفين قد كُسر مقبضاهما، فشربت في احتراس وأنا أنظر إلى داخل الفنجان؛ خشية أن يكون فيه بدل السكر صرصار. وفرغنا من الحديث والزنجبيل، وبدأنا العمل. وطلب القاضي أوراقًا بخط موظفيه، ضاهيناها بخط البلاغ، فلم نجد مشابهة. وعرضنا البلاغ على مَن في المحكمة لعل أحدًا يذكر لنا أنه يعرف صاحب هذا الخط، فلم نظفر بطائل، وخرجنا من المحكمة كما دخلنا، ومشينا في طريقنا إلى إدارة النيابة. فقال عبد المقصود أفندي: نمر بالمرة نفتش سجن المركز ونخلص.

فلم أُبدِ اعتراضًا. وذهبنا إلى المركز فوجدنا المأمور وقد جمع بعض العُمد في حجرته، وجعل يشرح لهم وجهة النظر الجديدة، ويصدر إليهم تعليماته بنفس الحماسة التي كان يبديها في مبدأ تولي الوزارة السالفة. فما إن رآني وعلم بالغرض من زيارتي، حتى خفَّ لاستقبالي وأجلسني في صدر حجرته. وفض مجلسه وهو يشيِّع العُمد إلى الباب قائلًا: فتَّح عينك يا عُمدة أنت وهو. مرشح الحكومة في الانتخابات لازم ينجح. أنا نفضت يدي وأنتم أحرار، مفهوم؟

فأجابوا في صوت واحد: مفهوم يا حضرة البك.

وتردد أحدهم وقال: فيه يا جناب البك جماعة مشاغبين أقويا كلمتهم مسموعة من العائلة الثانية الكبيرة …

فدفع المأمور في كتفه دفعًا، وقال له: المشاغبين اتركهم لي أنا! تفضل.

فخرجوا جميعًا، وعاد إليَّ المأمور يتنفس الصعداء، ويقول في صوت متعب: بقى لي يومين بليلتين في القرف ده.

وأردت أن أداعبه وأخيفه قليلًا، فقلت: لكن يا حضرة المأمور معروف عنك إنك من حزب الوزارة السابقة.

فقال على الفور: اسكت اعمل معروف! أنا طول عمري مع الوزارة الجديدة بلساني، واللي في القلب في القلب، والأعمال بالنيات.

فابتسمت وقلت له: نترك السياسة ونتكلم في الشغل.

وأخبرته بنتيجة فحص الجثة، ووجود العظم اللامي مكسورًا، وضرورة البحث عن المجرم في جناية الخنق الجديدة، وطلبت إليه أن يوجه عنايته لمساعدتنا في الكشف عن الفاعل، فقال في الحال: المركز مش فاضي اليومين دول للخنق والحرق.

– عجايب! إنتم لكم شغل غير المحافظة على الأمن؟!

– يعني حضرتك مش فاهم؟

– لأ مش فاهم!

– نترك الانتخابات ونلتفت للقتل والخنق؟

– طبعًا!

– التعليمات اللي عندنا غير كده!

وتركني وجعل يعبث بقيود حديدية وسلاسل معلقة على حائطه، وغمزني عبد المقصود أفندي كي أغلق هذا الموضوع، وأراد أن يغير مجرى الحديث فقال: البك المأمور يسمح بطلب دفاتر السجن.

وشعرت أن كرامة عملي في خطر، فصِحت قائلًا: لا بد أن أفتش بنفسي السجن والمركز كله.

ونهضت في قوة وعزيمة أزعجت المأمور، فتردد ثم قال في رفق: تفضل السجن تحت أمرك، انتظر سعادتك دقيقة واحدة.

وخرج سريعًا من الحجرة وهو ينادي: يا شاويش عبد النبي!

واختفى عن نظري. ودفعني دافع إلى النظر من نافذة للحجرة تطل على فناء المركز؛ فرأيت المأمور والجاويش يسرعان إلى سجن المركز ويفتحانه ويخرجان منه أشخاصًا تدل هيئتهم على أنهم من أهالي النواحي ذوي الرخاء، ويزجَّان بهم في حجرة التبن والعلف، ويغلقان عليهم بابها بالمفتاح، فقلت لعبد المقصود أفندي: تعالَ وطل بعينك، ده ولا سجن الباستيل! المأمور أخفى بعض الأهالي في أودة التبن.

فقال لي عبد المقصود في شيء من التوسُّل: يا بك، الوقت بطَّال، والسياسة متحكمة في البلد، مافيش داعي للتدقيق.

– يعني نترك الناس في الحبس من غير جريمة؟!

– يا سعادة البك، رئيس المأمور، ولا يخفاك، هو وزير الداخلية ورئيس الوزارة في الوقت نفسه، أما رئيسنا فهو وزير الحقانية فقط، وقد سبق أن قضاة ووكلاء نيابة وقفوا للإدارة في ظروف سياسية مواقف من هذا القبيل، قاموا نقلوهم الصعيد!

– يعني نمضي على دفاتر المركز ونسكت؟

– يا سيدنا البك، إحنا حانكون أحسن من مين؟ كان غيرنا أشطر.

– طيب، قم استعجل لنا الدفاتر والسلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤