مُقدمة المؤلف

لقد صدق اللورد ملنر في قوله: «إن مِصرَ بلد التناقض والتخالف، فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مِصر من الحقائق والأفكار المتناقضة المتباينة، وقد يصل هذا التناقض إلى حدٍّ مدهش فيصير مضحكًا.»

فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبهًا أبدًا متوفيًّا لئلا يُلقيه حُسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم، ويليق بمن يمعن النظر في تاريخ مصر في القرن الماضي ويرغب أن يخرج منه وهو على بيِّنةٍ من أمر تلك البلاد أن يكون قوي العزيمة ثابت الجأش، فإنه إذا أراد أن يطالع عُشر الكتب والرسائل التي شوَّه فيها كاتبوها تاريخَ مِصر تشويهًا قبيحًا يرى نفسه في حاجة شديدة إلى جهاد قوي يستطيع به أن يقاوم تأثير تلك الكتب التي ما كُتبت إلا لتكون سهامًا تصيب أغراض أصحابها، فينبغي للمطالع العاقل أن يقف موقف الحكيم فيتمكن بعد عناء شديد من الوقوف على شيء من الحقيقة؛ لأن كل ما كُتب عن مِصر من رسائل وكتب لم يكتب إلا ليكون لسان حال دولة من الدول التي لها في وادي النيل نفعٌ أو ترجو منه خيرًا. فمثلها كمثل الصحف السياسية التي تبتذل الحقائق حُبًّا بالمطامع الشخصية والمنافع الذاتية؛ من أجل هذا لم تأتِ هذه الكتب بنفع يُذكر وجلبت ضررًا لا يقدر.

فيجب إذن على المراقب العادل أن يمسح لوح فكره، وأن يزيل ما كُتب في صحيفة صدره من معاني التحزب لفريق دون آخر، أو التحامل على فئة دون فئة، فإن التغرض والتعصب والتحامل والمدح والقدح والطعن لا تؤدي جميعها إلا إلى الجدل الباطل الذي يضر ولا ينفع، وقد رأينا نتائج ذلك الجدل الباطل وهي أنه هاج سخط الوطنيين وحرك مراجل عواطفهم حينًا من الدهر كما تهيج الخمر شاربها، ولكنه لم يؤثر أقل تأثير في الدول الأجنبية صاحبة المنافع والمآرب في وادي النيل.

ونحن نرى أن أول واجب على الكاتب إذا أراد أن يفحص المسألة المصرية فحصًا جيدًا ويكتب عنها كتابًا نافعًا يصور فيه البلاد وأهلها كما هم هو أن يعرف الشعب النازل على ضفاف النيل حق المعرفة، وأن يعلم أن هذا الشعب خليط من وطنيين ودخلاء وأجانب، وأن لكل طائفة من الطوائف التي يتكون منها هذا الخليط دينًا ولغة ومبادئ ومنافع خاصة بها، وأن كل تلك الديانات واللغات والمبادئ والمنافع مهما تباينت فإن أصحابها لا يرون أمامهم إلا غرضًا واحدًا هو التماس الرزق والكسب، وأن يعلم أن كل دولة أوروبية لها في مصر غرض تسعى لتدركه ويختلف سعي هذه الدول باختلاف نفوذها في أرض الفراعنة قوة وضعفًا.

فإذا حالت هذه الصعوبات بأسرها ووقفت في طريق المُطالع المؤرخ الراغب في أن يؤلف عن مِصر رأيًّا واضحًا عادلًا مستندًا فيه إلى تاريخها الماضي، فكيف بمن يرغب أن يتخذ تاريخ مصر الماضي مرقاة ووسيلة للحكم على مستقبلها؟ بَيْدَ أنَّ من يُطالع كتب تاريخ مِصر في القرن التاسع عشر لا يجد أمامه إلا حقائق متباينة متخالفة، ولئن كان هذا التناقض والتخالف هو مادة تلك الكتب، فإن ذلك يكون من حُسن حظ القارئ، ولكن مؤلفي كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر جعلوها مجموعة للحقائق الناقصة؛ لذلك يحتاج المطالع إلى قوة فكرية كبيرة وقدرة عقلية هائلة يستطيع بهما أن يزن الأقوال والبراهين، فيتمكن بعد عناء شديد من حلِّ الشلة المعقدة التي يسميها السياسيون والصحافيون بالمسألة المصرية.

وإذا مُنح المُطالع قوة يميز بها بين الغثِّ والسمين وبين الحقيقة والخيال، وكانت في غريزته قوة خارقة للعادة تخرق حجب الباطل حتى تصل إلى الحق، فإنه ولا جرم يبلغ نتيجة ترضيه ويقف على حقائق كثيرة لم يقف عليها غيره، فإذا وقف على تلك الحقائق فقد خطا الخطوة الأولى ولم يبقَ عليه إلا أن يُلم بتأثير العوامل الخارجية والداخلية التي لها في حالة مِصر السياسية وهيئتها الاجتماعية أيد فعالة، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للمطالع أن يهتدي إلى الحكم على مستقبل تلك البلاد. وغرضنا في هذا الكتاب أن نحاول جهد طاقتنا أن نشرح الحاضر ونتكهن بكنه المستقبل.

وقد وطدنا النفس على الثبات وسنزن أقوالنا في ميزان الحكمة والعقل، ونرجو أن لا يميل هذا الميزان مع هوى أو يعدل عن حق، ولعل المحك الذي سنحك عليه ما نكتب لا يخدعنا كما خدع غيرنا فننطق عن جهل كما نطق سوانا من قبل.

على أننا لا نستطيع أن نبلغ هذه الغاية إلا إذا وقفنا على تاريخ مصر بالتفصيل في خلال الثلاثين سنة الماضية، ولا ندرك هذه النتيجة إلا إذا قدرنا نفوذ إنكلترا وفرنسا في مصر حق قدرهما، ولا نستطيع نيل هذه النتيجة إلا إذا وسعنا نطاق دائرة الفكر وتخلصنا من آراء التحزب والتحامل المنبعثة عن كل مسألة سياسية خطيرة مثل المسألة المصرية، وغضضنا النظر عن المنادين بالوطنية رياء وكذبًا لأغراض أخرى في نفوسهم ولبانات يتوقعون قضاءها.

فإذا استعددنا هذا الاستعداد لفحص تلك المسألة فنكون قد وضعناها في مكان تشرق عليها فيه أنوار الحقيقة، ونظرنا لها بمنظار المؤرخ السياسي الحكيم الذي يراعي الحقيقة ويحرص على منفعة البلاد حرص الجبان على نفسه قبل أن يراعي المبادئ الذاتية والأغراض الشخصية.

ولذلك سنلقي نظرة صغيرة على تاريخ مصر في تلك السنين الثلاثين ونضع أساسًا متينًا نبني عليه (تخت رمل) ننظر فيه نظر المُنجِّم إلى طالع هذه البلاد، ونتكهن بما تخبئه لها الأيام والليالي.

وأول ما ينبغي لنا أن ننظر فيه هو علاقة فرنسا بمصر، وألا نبخس هذه الدولة حقها، فإن نفوذها يمتد إلى عهد حملة نابوليون سنة ١٧٩٨، فكانت فرنسا أول دولة غربية مدت يدها إلى مصر وسعت للاستيلاء عليها، ولئن خاب سعيها فإنها فازت فوزًا مبينًا في ترك آثار لها في مصر لا يمحوها كرور الأيام ومرور الأعوام، وليس لدينا شهادة أكبر وأقوى من شهادة اللورد ملنر صاحب كتاب «إنكلترا في مصر»، فإنه قال فيه: «إن المنافع المادية والأدبية التي تمت لمصر على أيدي فرنسا كثيرة لا تحصى.»

فنحن لا نظن أن الذين ينكرون جميل فرنسا أكثر من الذين يعترفون به، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن المدنية المصرية الحديثة هي مدنية فرنسوية صرفة، ويكفي لتصديق هذا القول أن نلقي نظرةً واحدةً على أعمال فرنسا في هذه البلاد، فمَن مِن العالمين لم يسمع باسم فرنكو شامبوليون الذي سهَّل لنا باجتهاده وثباته قراءة تاريخ مصر القديم باللسان الهروغليفي، وأضاف باكتشافه حلًّا لتلك الرموز إلى مصر شهرة فوق شهرتها السابقة، وجعلها ملتقى الأنظار ومحط الرحال، ومن ينكر أن إصلاح الري في عهد محمد علي وبناء القناطر الخيرية وعمل الخزانات لخزن ماء النيل، وأن كل ما نراه اليوم في مصر مما يتعلق بالانتفاع بماء النيل ليس إلا من عمل المهندسين الفرنسويين الذين كانوا عضد محمد علي ويده اليمنى.

ومن ينكر أن المهندسين الفرنسويين كانوا قائمين بكل الأعمال الهندسية عندما كان المستخدمون الفرنسويون قائمين بالأعمال الإدارية؛ بل من ينكر علينا أن قنال السويس — وهو أكبر عمل فني تم في القرن التاسع عشر — هو من صنع الفرنسويين فكرًا وعملًا؟ فيرى القارئ مما تقدم أن الإصلاح الذي جلب لمصر أكثر من نصف ثروتها الحاضرة ليس إلا من غرس الفرنسويين وما جاء الإنكليز إلا منفذين ومكملين.

هذا ومن يفحص نظام التعليم الحالي في مصر يرى لأول وهلة أنه منقول عن نظام التعليم الفرنسوي، وأكبر دليل على ذلك هو سيادة اللغة الفرنسوية على كل لغة أخرى في مصر، فإنها لا تزال لغة مصر الرسمية ولا تزال اللغة المحكية بين الخاصة من المتعلمين، ولا نرى دليلًا على وصول المدنية الفرنسوية إلى قلوب المصريين أكبر من بلوغ لسانهم هذا الشأو البعيد في وادي النيل، وقد سرى هذا النفوذ إلى بعض المستخدمين من الإنكليز، فهم لا يزالون حتى اليوم يكتبون أوراقهم الرسمية باللغة الفرنسوية!

ولكن الذي يُذكر عن فرنسا بالثناء والشكر هو أنها لم تكن تعمل في وادي النيل لتمتص ثروة البلاد، فإن الفرنسويين أفرغوا جهدهم ولم يدخروا وسعًا في القيام بأعمال توازي ما يأخذونه من مال مصر وتزيد، ومن المعلوم أن ثروة مصر منذ خمسين سنة لم تكن كافية لتمهد لها سبيل التقدم الباهر الذي وصلت إليه، فمدت أوروبا يدها بالمال لمساعدة مصر وأقرضتها أكثر من مائة ألف ألف جنيه، فكانت فرنسا أول ملبية لدعوة مصر، وكان معظم هذا القدر الجسيم من مال الفرنسويين.

وقد يصعب علينا كثيرًا أن نهتدي إلى كل المنافذ التي نفذتْ إليها المدنية الفرنسوية في مصر، فإنا لا نجد مجالًا في مصر ماديًّا كان أو أدبيًّا إلا ونرى للفرنسويين فيه جولة، ونخص بالذكر العلماء الفرنسويين الذين تركوا في كل وادٍ أثرًا من آثارهم.

وأعظم الآثار النافعة التي تركها الفرنسويون في مصر تلك المدرسة الكبرى المسماة ﺑ «متحف الآثار» الذي يديره الرجل الفاضل المسيو ماسبرو العالم (الأجيبتولوجيست) الشهير ومؤلف كتاب «تاريخ مصر القديم» الذي هو من أمهات الكتب التي يُرجع إليها في تاريخ مصر.

وحسب القائلين بأن الفرنسويين لا يحسنون إدارة المستعمرات لأنهم ليسوا مستعمرين بطبيعتهم ما ذكرناه من أعمال فرنسا وأبنائها في أرض الفراعنة دليلًا واضحًا وبرهانًا بينًا، فمِن الجهل أن يعترض على المصريين لأنهم أحبوا فرنسا والفرنسويين بعد أن تشبعوا بأفكارهم وآرائهم، وبعد أن امتزجوا بهم امتزاج الماء بالراح.

ويكفينا أن نقول إن حبَّ المصريين لفرنسا هو أكبر دليل على قوة فرنسا والفرنسويين على الاستعمار وتوثيق عرى الوداد بينهم وبين أهل البلاد التي يستعمرونها.

لقد رأينا الآن تأثير فرنسا في مصر ونحن نرى أن ما ذكرناه عن تأثير فرنسا في مصر كافٍ لغرضنا الذي نسعى إليه، فنحن لا نحتاج بعد ما تقدم لي تتبع أدوار السياسة الفرنسوية في مصر أو إلى البحث في السياسة التي اتبعها كل وزير فرنسوي في أثناء نفوذ هذه الدولة في وادي النيل، ولا نرى للقارئ نفعًا فيما إذا كانت سياسة دي فريسينه سابقة لأوانها أو أنها سياسة رجلٍ متراخٍ كسول أو سياسة مجنون متهور، فإن لدينا ما هو أهم من مثل تلك الأبحاث وهو أن ننظر في سياسة فرنسا مراعين سياسة إنكلترا، فنقول: إذا استطعنا أن نقرأ قصة احتلال إنكلترا لمصر كما كتبها مَن امتلأت قلوبهم حقدًا مِن الكتاب على إنكلترا وانطوت جوانبهم على بغضها دون أن نقرأ ما يتخلل السطور؛ بل إذا استطعنا أن ننسى كل ما عرفناه عن الاحتلال وأسبابه وقرأنا هذه القصة على نحو ما يقرأ التلميذ درسه، أي بلا ريب في صدقها ولا احتراس من الوقوع في الأحبولة التي نصبها لنا مؤلفوها، فإننا نقوم لا محالة بعد قراءتها ونحن نسب الأرض والسماء قائلين: «ما أظلم الإنسان وما أشد قسوته على أخيه وما أبشع جوره عليه.»

أجل إننا لو قرأنا قصة احتلال إنكلترا لمصر كما يكتبها هؤلاء الكتاب الناقمون الحاقدون لدهشنا من تلك الجزيرة الصغيرة التي أخرجت ذلك العدد الكبير من السياسيين الذين قاموا بأعمال ودبروا مكايد سياسية يعجز عن أمثالها «ماكيافيلي» على ما اشتهر به من التفنن في أساليب الخداع والبراعة في أنواع الغدر بالأمم لمصلحة الملوك.

نعم إن «ماكيافيلي» نفسه لو بُعث حيًّا لخجل من أعمال هؤلاء الساسة؛ بل إن خجله ينقلب حقدًا وحسدًا لهؤلاء الساسة الإنكليز الذين فاقوه في المكر وأربوا عليه في ميدان الغدر.

هذا ما يخطر ببالنا بعد أن نقرأ القصة ولكننا نعود فلا نتمالك من الدهشة، وقد نرى أن هؤلاء الساسة أنفسهم لم يتجاوز غدرهم وخيانتهم الحد المحدود في السياسة في كل معاملاتهم الأخرى مع أمم العالم وممالكه كافة، فكأن خداعهم لم يكن إلا لاحتلال مصر وكأن غدرهم ومكرهم لم يخلقا فيهم إلا لينالوا بهما مآربهم في وادي النيل!

عند ذلك يبلغ الدهش والاستغراب من القارئ حدًّا كبيرًا.

على أن عددًا عظيمًا من الناس في أوروبا لا يزالون يعتقدون صدق هذه القصة، ولا يزالون يقرءون هذه الكتب الكاذبة التي يتهم فيها كتابها الأبرياء بما ليس فيهم، والأغرب من هذا هو أن هؤلاء القراء لا يدور في خلدهم أن تلك الكتب لم تكتب إلا لتشعل نار غضب العقلاء وتسيل دموع ضعاف القلوب ممن لا يرون سلب حرية شعب من العدل في شيء، ولئلا نُتهم بما اتهم به كُتاب هذه الكتب فقد قصدنا في هذا السفر أن نبتعد جهد طاقتنا عن أي قول تشتم منه رائحة الملام أو الاتهام.

ولا نتطال إلى أن نؤنب أية دولة على ما اقترفته في الماضي؛ فإن ما فات فقد فات ولذلك نرى من الواجب علينا أن نعلن على رءوس الأشهاد أن الظن بأن إنكلترا كانت تدبر لمصر سياسة غدر وخيانة ظن سيء فاسد مبني على جهل القائلين به.

ولذلك ستظهر للملأ أن مصر لم تكن في زمن من الأزمان الغابرة العامل الأول في سياسة إنكلترا الخارجية، وأن ما اتخذته إنكلترا من الذرائع في مصر لم يكن إلا من الضرورة والاحتياج لاتساع نطاق السياسة البريطانية في الشرق فصارت مصر حينئذ عاملًا مهمًّا من عوامل السياسة البريطانية الخارجية ولكنها لم تكن غرض إنكلترا الوحيد.

ورغم كل هذه الحقائق فإن التهم التي ألصقت بوزارة خارجية إنكلترا ظلمًا لم تزل ولن تزال بدون دحض ولا نقض.

وسنبحث فيما إذا كانت إنكلترا قد انتهزت في الحقيقة فرصة الحركة العرابية لتضع يدها على مصر كما انتهزت أية دولة قوية ضعف جارتها، أو أن ذلك الاحتلال جاء عفوًا صفوًا، ثم نبحث فيما إذا كان هذا التداخل الإنكليزي قد ألحق بمصر نفعًا أو ضرًّا. بعد أن بررنا هذا التداخل والتمسنا لإنكلترا فيه عذرًا لدخولها في ميدان الاستعمار الذي جعل احتلال مصر ضربة لازب، فنقول: كل مَن له إلمام بتاريخ إنكلترا ومستعمراتها يذكر أن إنكلترا قامت نحو سنة ١٧٥٧ بأعمال سياسية وحربية في الهند استمرت سبع سنوات، تمكنت بريطانيا عقبها من القبض على صولجان السيادة في ولايات الهند الشمالية الشرقية كافة، فكُتب على مِصر من ذاك الحين أن تكون عاملًا مهمًّا في سياسة إنكلترا الاستعمارية، على أن مصر كانت لها أهمية تجارية قبل ذلك العهد، وهي أنه قبل افتتاح قنال السويس كانت معظم التجارة المستعجلة الآتية من الغرب إلى الشرق تنتهي إلى الإسكندرية، ومن هناك تُحمل على ظهور الجمال إلى ثغر السويس.

ومن هنا تظهر أهمية مِصر التجارية قبل افتتاح ترعة السويس نفسه، ومن يتتبع تاريخ التجارة بين الشرق والغرب يلاحظ أن طريق البحر الأبيض كان يدخل في دور الأهمية سنة عن سنة، ويتجلى له أن عددَ المسافرين الذين كانوا ينزلون مِصر قبل سفرهم إلى الشرق الأقصى كان يزيد عامًا فعامًا، وفي سنة ١٧٨٠ ازدادت قوة إنكلترا في الهند وساعدها الحظ فحصلت على ولاية كارناتيك، فأصبح الاستيلاء على مصر في مقدمات الأمور المهمة لضمان بلاد الهند.

ثم رأت إنكلترا أن أملاكها ومستعمراتها في أفريقية لا تكون أبدًا في مأمن من غارة الأعداء إلا إذا ضمت إليها بلاد الكاب، ثم نظرت فشهدت العلم الفرنسوي يخفق فوق جزيرة موريتيس فهاج من ذلك سخطها ولحقها الجزع لعلمها أن جزيرة موريتيس «ركن خطر»، وإن بقاءَها في يد دولة معادية أيًّا كانت يُعرض إنكلترا لأخطار دائمة، فلو بقيت فرنسا في تلك الجزيرة فإنها تتمكن في أي حين من أن تبعث بسفن حربية من سفنها لمناوأة السفن البريطانية، أو أن تبعث بثُلة من جندها لسلب السفن البريطانية التجارية.

وغنيٌّ عن البيان أن إنكلترا لم تكن لتتحمل كل تلك المتاعب إذا أرادت أن تتوسع في سياستها الاستعمارية، فهل تلام إنكلترا إذن إذا كانت لا تدخر وسعًا في امتلاك بلاد الكاب وجزيرة موريتيس؟ أفنسمي سياسة دولة تنظر في العواقب وتحسب للمستقبل ألف حساب سياسة مكر وخداع؟

ألا نعلم أن السياسة الدولية مبنية على الأنانية وحب الأثرة وتفضيل الذات على الغير، وأن الدولة التي تفضل دولة أخرى على نفسها تداس بالأرجل وتسقط في أقرب زمان.

على أن المقام لا يسمح لنا بالإفاضة في هذا البحث والنظر فيما إذا كانت سياسة الاستعمار التي تتخذها كل دولة لتوسيع أملاكها سياسة حكيمة عادلة مبنية على الفضيلة وحب الخير للإنسانية أم لا، وكل ما نقول هو إن الاستعمار قد أصبح الغرض الوحيد الذي تسعى إليه كل الدول، فلم تبقَ دولةٌ من دول العالم وضربت فيه بسهم، فإن كانت سياسة الاستعمار جديرة باللوم والذم فإن الدول جمعاء جديرة بهما، ومن الظلم أن نرى عيوب دولة ونغض الطرف عن عيوب دولة أخرى.

وغنيٌّ عن البيان أننا لا نبرر استيلاء إنكلترا على الهند لأننا لا نرى لها حقًّا أدبيًّا في ذلك، ولكن إذا كانت إنكلترا قد وضعت يدها فإنها لا تستطيع أن ترى وهي قريرة العين هادئة البال عدوًّا قويًّا ذا بأس شديد كفرنسا على قيد ذراع من الطريق إلى الهند؛ لأن مثل هذا العدو في آونة الحرب الحقيقية يمكنه أن يضرب إنكلترا في مستعمراتها ضربة قاضية قبل أن تصل النجدة الحربية إلى نصف الطريق من ثغر بليموث إلى البحار الهندية.

فإذا كان هذا اهتمام إنكلترا بجزيرة صغيرة في وسط المحيط الهندي فكيف باهتمامها بمصر؟ يرى المتأمل أنه من المستحيل أن ترضى إنكلترا باحتلال نابوليون وادي النيل؛ لأن مثل هذا الاحتلال كان ينذرها بضياع أملاكها في الهند في أقل من لمح البصر، فكانت واقعة أبي قير هي الكلمة الفاصلة بين إنكلترا ونابوليون، وبانتصار الإنكليز وهزيمة بونابرت عادت الطمأنينة إلى قلب إنكلترا لأنها أمنت على مصر وهي أقرب واسطة بين الغرب والشرق.

ونحن لا نرى في عمل إنكلترا لنجاة طريق الهند ختلا أو خداعًا، فإن ما عمدت إليه إنكلترا من الأسباب كانت تعمد إليه كل دولة في أمثال هذه الأحوال.

ولو كانت إنكلترا تضمر لمصر شرًّا من قديم كما يقول المكابرون لانتهزت فرصة فوزها على نابوليون في أبي قير واستولت على مصر، وربما يرد بعضهم علينا بقوله: إن إنكلترا كانت في ذلك العهد ضعيفة في داخليتها فلم تر في نفسها الكفاءة للتغلب على بلاد كمصر، أو أنها لم تجد من نفسها ميلا لاحتلال هذه البلاد خوفًا من عودة نابوليون إليها بقوة وشدة.

وسنقص على القارئ الكريم في الحوادث التي وقعت بعد هذه الحادثة ما يفسر لنا إحجام إنكلترا عن احتلال مصر في ذلك الحين تفسيرًا مرضيًّا، على أن إنكلترا بعد واقعة أبي قير بقيت ساكتة عن مصر أربعين سنة.

وتفسير هذا السكوت هو أنها لا ترى فائدة في الحركة والعمل إذا لم يكن هناك موجب لهما، وما دامت مصر في ضعف وقراها في انحلال، وما دامت ليست في يد قوية، فإنكلترا مطمئنة من جهتها كل الاطمئنان، واستمر هذا السكوت حتى جاء محمد علي، وظهر منه أنه يستطيع تهديد مركز إنكلترا في الشرق ويعيد إلى الحكومة الإنكليزية الآلام التي سببها لها نابوليون، فنهضت إنكلترا حينئذ للعمل وتداخلت في شئون محمد علي وهو في قمة مجده، على أننا لا نرى أن إنكلترا ملومة فيما عملته مع محمد علي، ولا نرى وجهًا لانتقادها انتقادًا شديدًا كما يصنع سوانا.

فإن أعمال إنكلترا لم تكن إلا دفاعًا عن نفسها وحفظًا لمركزها السياسي، ونحن لا نؤيد رأي القائلين بأن إنكلترا رأت من الحكمة أن تقتل «الفرخة قبل أن تخرج من البيضة» بأن تفسد ما أصلحه محمد علي لتوقف مصر عند حدها ولا تسمح لها بالتقدم في طريق المدنية، ولكننا نقول بأن إنكلترا لم يرق في عينها أن ترى محمدًا علي سائرًا بمملكته وشعبه في طريق التقدم، وتنظر بسكون وهدوء اليوم الذي تعادل فيه قوة محمد علي قوة نابوليون الكبير ويعود التعقيد إلى مسألة الهند وطريقها.

لأنه كان من المستحيل على الحكومة الإنكليزية أن تغير سياستها الاستعمارية التي قضت في تدبيرها السنين الطويلة حبًّا بالإنسانية وإكرامًا لخاطر مصر والمصريين. إن إنكلترا لا تطيق أن ترى في مصر يدًا قوية غير يدها، وبذلك تستوي عندها يد إمبراطور فرنسا ويد الألباني المجدود (محمد علي)، على أن يد محمد علي كانت أشد خطرًا عليها من نابوليون؛ لأنه لم يجتهد في إخفاء عواطفه الحبية نحو فرنسا، وأكبر دليل على ذلك كونه قد غمس مصر في المدنية الفرنسوية، ولا يخفى أن محمدًا علي بإظهاره هذا الميل أظهر أيضًا أنه إذا قام نزاع بين الدول ونشبت بينها حرب فإنه لا محالة ينضم إلى فرنسا، فهل يعقل إذن أن إنكلترا كانت تقف مغلولة الأيدي وهي ترى بعينيها نفوذ فرنسا وطيد البنيان ثابت الأركان في أهم بلاد تستطيع تهديد أملاكها؛ لأن فرنسا إذا كانت نافذة الكلمة في مصر فإنها بلا ريب تكون أبدًا على أهبة الاستعداد لتنقض على أملاك إنكلترا في الهند.

وفي عام ١٨٤٠ عقدت إنكلترا مؤتمرًا دوليًّا في لندن لتؤيد فيه سياستها المستمرة التي حافظت عليها من يوم وضعت يدها على بلاد الهند وصارت لها بالشرق علاقة.

وعند قولنا: «السياسة المستمرة» فإنا نصيب كبد المسألة؛ لأن استمرار السياسة البريطانية وصبر الساسة الإنكليز هو الذي جعل الناس يرمونها بالمكر والخداع والغدر، ولا ذنب لإنكلترا إلا استطاعتها أن تنتظر حتى يقع أعداؤها في الضيق فإذا سنحت تلك الفرصة فإنها لا تفر من يد إنكلترا مهما كلفها ذلك، فإن إنكلترا إذا رأت عدوها عاجزًا عن الدفاع عن نفسه ورأت أمامها مقتله معرضًا للضرب فإنها ترمي بسهمها الصائب وهي تعلم أنه ينال من خصمها فوق ما ترغب، فيصرخ العدو الجاهل وأمثاله قائلين: «لله ما أقبح المكر والخداع اللذين تخفيهما إنكلترا تحت طيات سكونها وسكوتها …»

على أننا لا نلوم في هذا المقام إلا الخصيم الجهول الذي لم يتق الضربة الصائبة قبل وقوعها مع علمه بأن العدو القوي لا يشفق عليه إذا رأى عجزه وضعفه ما دام يرى لنفسه في وقوع هذه الضربة نفعًا.

أوليس من العجيب أن تنال إنكلترا جماع أمانيها وتبلغ من أعدائها ما تبلغ دون أن تظهر سرعة أو تهورًا ودون أن يشعر أحد بأعمالها؟

يرى القارئ مما تقدم أن النصر والنجاح كانا حليفي إنكلترا في أعمالها وحركاتها كافة، فلماذا لم تحذ جميع دول أوروبا حذوها وتتخذ سياستها نموذجًا تجري عليه، هل أحجمت تلك الدول لما في أخلاقها من الكمال ولأنها رأت أعمال إنكلترا تدل على الخبث والغدر؟ كلا، فإن دول أوروبا لا تتأخر طرفة عين عن إيصال الأذى إلى أي عدو من أعدائها إذا سنحت لها فرصة ورأت أن ذلك يعود عليها بالخير؛ إذن الجواب عن هذا السؤال هو أن إنكلترا اكتسبت مركزًا ساميًّا خاصًّا بها دون سواها من الدول، وقد عرف ساسة الإنكليز كلهم قدر ذلك المركز واستعملوه فيما عاد على إنكلترا بالخير العميم، ومن هؤلاء الساسة ديزرائيلي (بيكو نسفيلد) الذي صرَّح في محال كثيرة من روايته «سيبيل» بذكر المنافع الجمة والقوة العظيمة التي اكتسبتها إنكلترا من وضع «الكنيسة والتاج» «على الرف»، وقد يظن بعض الناس أن استشهادنا برواية يكون استشهادًا لا قيمة له؛ سيما ونحن نكتب في موضوع جدي كهذا، فنقول لهم إن رواية من قلم وزير كبير وسياسي خطير ﮐ «بيكو نسفيلد» ليست كأية رواية أخرى يكتبها أي رجل آخر، على أن بيكو نسفيلد لم يقل غير الحق، فإن المتتبع لتاريخ إنكلترا يرى أنها بقيت أربعة قرون بلا شقاق داخلي، ومنذ طردت الأمة الإنكليزية أسرة ستيوارت الكاثوليكية في سنة ١٦٨٨ لم تحس البلاد بشبه ثورة داخلية، ولولا بعض الشغب الذي لا يهم أمره لبقيت سياسة إنكلترا الداخلية أنقى من مرآة الحسناء، على أننا لا ننكر أن بعض المتاعب نشأت من حين إلى آخر، ولكن كانت نار هذه المشاغب الطفيفة بأسرها لا تلبث أن تشتعل حتى تخمد.

ومنذ اتفاق إنكلترا مع اسكوتلندا (إيقوسيا) في سنة ١٧٠٧ اطمأنت إنكلترا من جهة الحدود التي كانت تهددها من حين إلى آخر، وقد زاد ذلك الاطمئنان أن إنكلترا وإيقوسيا اتفقتا اتفاق التوءمتين والتاريخ لا يحفظ ذكر اتفاق بين دولتين أمتن من اتفاق إنكلترا واسكوتلندا، فإنهما اتفقتا اتفاقًا لا تُفصم عروته ولا تُحل عقدته، والذي زاد هدوء إنكلترا وساعدها على استتباب الأمن في داخليتها عدم وجود أشراف وأمراء منقسمين يطالبون بالملك أو يحاربون بعضهم بعضًا، وبالإجمال فإن تاريخ إنكلترا في كل ذلك الزمن الطويل لا يحفظ إلا ذكر ثورة أهلية بسيطة ثارها العمال مطالبين ببعض حقوق لهم حسبوها مهضومة، فهي أشبه بحركة اجتماعية منها بثورة داخلية، ولكن تلك الحركة ما كادت تتنفس حتى قُضي عليها في ليلة ويوم.

ومن المعلوم أن المشاغل الداخلية هي العقبة الكئود التي تقف أبدًا في طريق سياسة الدول الأوروبية، وكثيرًا ما يعترض كبار الساسة في أعظم فرصة لديهم فتتلف عليهم في لحظة واحدة ما أخذوا في تدبيره سنين طويلة، ومن حسن حظ إنكلترا أنها كانت آمنة مثل تلك المشاكل التي تعرقل مساعي السياسة الخارجية، ومن يعرف دخائل السياسة الإنكليزية يعلم أن من كان من ساستها يرمي إلى غرض في سياسة بلاده الخارجية وكأن هذا الغرض بعيدًا، كان يدبر له من يريد تدبيره بصبر وعزم لعلمه بأن تلك التدابير ستنال فوق ما يرغب، فكان يتفرغ لهذا الغرض كل التفرغ ضاربًا صفحًا عن كل ما سواه؛ لأنه يرى نفسه في مأمن من المشاكل الداخلية والمشاغب الأهلية التي تعوقه عن تنفيذ مشروعه وإتمام عمله.

فيظهر من هذا أن إنكلترا لم تضع سياستها الخارجية لأجل مشاكلها الداخلية لأنها كانت آمنة شر تلك المشاغب التي تحصل في كل مملكة بدون علم وانتظار، فتقلب نظام السياسة الخارجية رأسًا على عقب، وهذا هو السبب الوحيد في نجاح سياسة بريطانيا الخارجية.

وليس من الصعب على من يقارن بين التاريخ السياسي لبريطانيا والتواريخ السياسية عند سائر الدول الأوروبية في القرنين الماضيين أن يرى لأول وهلة حقيقة واحدة واضحة كل الوضوح وهي أن السلام الدائم في أي مملكة هو الشرط الوحيد للنجاح خارجًا؛ لأنه لا توجد دولة في قارة أوروبا يمكنها أن تنظر بهدوء إلى حدودها وتقول إنها تبقى آمنة طوارق الحدث زمنًا محدودًا من السنين، فإذا لم تكن كل دولة على جانب عظيم من التيقظ والحذر فإنها تكون دائمًا معرضة للخطر، وهذه الحقيقة السياسية الواضحة تقلل عدد الجند والقوة الحربية التي تكون في يد أية دولة إذا أرادت أن تقيم حربًا خارجيًّا؛ لأن قواها الحربية يجب دائمًا أن تكون على استعداد تام لتتقي بها ضربات العدو المهاجم لها في بلادها، ولا نظن أن ألمانيا أو فرنسا تستطيعان إرسال ٢٠٠٠٠٠ من جنودهما أو أقل من ذلك إلى خارج بلادهما بدون أن يختل ميزان قوتهما في داخليتهما؛ لأن تغيب مثل هذا العدد من جنود أية دولة يدعو إلى ضعفها ويسبب عجزها في داخلية البلاد ويضطرها إلى الإذعان لجاراتها القوية، وقد أثبت التاريخ ذلك، فإن فرنسا بعد تجريد حملة نابوليون على مصر أحست بضعف شديد في أوروبا، فاضطر نابوليون إلى العودة إلى بلاده لحمايتها وتخلى عن أعماله الحربية، وترك السياسة الاستعمارية التي كان قد بنى أساسها في مصر.

وكأن فرنسا لم تكتف بهذا الدرس فأعادت الكرة، فبعثت بحملة المكسيك المشهورة في أواسط القرن التاسع عشر ففازت في أمريكا وانهزمت شرَّ هزيمة في حرب السبعين بواقعتي «متز» و«سيدان»، على أن فرنسا لو استطاعت أن تقاوم أعداءها في أوروبا سنة ١٨٦٦ فنحن لا نشك في أنها ربما كانت ألغت حرب السبعين، ولو لم تقع حرب السبعين لكانت السياسة الأوروبية كلها تغيرت، ولكن من سوء حظ فرنسا أنها وجدت نفسها في أزمة ولم تجد لنفسها منها مخرجًا، وعندما كانت جنودها المظفرة تتغلب على أعدائها في المكسيك كانت حدودها الشرقية مهددة بجيوش ألمانيا في أوروبا.

هذا وأضر شيء بسياسة الدول الخارجية بعد ما ذكرناه هو كون الدولة منقسمة في داخليتها، وهذه فرنسا لم تنجح في سياستها الخارجية يومًا لأن داخليتها أبدًا في شقاق وانقسام، وهذا مسبب من مزاحمة سلطة الكنيسة لسلطة الحكومة، فلو نجحت فرنسا كما نجحت إنكلترا في وضع «الكنيسة على الرف» لما فشلت في سياستها الخارجية ذلك الفشل الذي جعلها مثلًا بين الدول.

ونحن لا نود أن نطيل هذا البحث الذي يخرجنا عن الموضوع الأصلي على ما فيه من اللذة، بيد أننا لا نتمالك من أن نشير إلى أن لكل دولة آفة، فآفة ألمانيا حزب الاشتراكيين، وآفة النمسا خوف الانقسام الذي يعقبه الانحلال، وآفة فرنسا الكنيسة، وآفة إيطاليا فقر أهلها، وآفة روسيا اتساع سلطانها واستبداد حكومتها، ولكن إنكلترا لا آفة لها؛ ولذلك نرى سياستها الخارجية سائرة على الدوام في طريق النجاح والفوز، فهذه الدول جمعاء تحسد بريطانيا وترميها بالمكر والخداع والغدر والمخاتلة، وما أبعد هذا القول عن الصواب!

إن إنكلترا عمدت إلى سياسة بسيطة سهلة، هي سياسة التأني والانتظار لانتهاز فرصة ضعف عدوها وعجزه، وكثيرًا ما يحدث أن ترى إنكلترا دولة أخرى قد وقفت في طريقها فتسكت إنكلترا وتربض كما يربض الأسد وتتحين فرصة تقع فيها هذه الدولة المعاكسة في أزمة تلجئها إلى المعاونة أو تضعفها عن العمل فتتقدم إنكلترا وتضطرها للتخلي عن طريقها فتتخلى تلك الدولة مختارة أو مضطرة، وتستمر إنكلترا في طريقها، فإذا رأت الدول استمرار إنكلترا في طريقها عادت تسلقها بألسنة حِداد وترميها بالظلم والغدر والخداع، وهذا هو الذي دعا بعض المتقولين أن يتقولوا على بريطانيا بأنها كانت تضمر لمصر سوءًا من زمن بعيد، فلو سلمنا جدلًا لهؤلاء المتقولين بصحة زعمهم فما الذي عاق إنكلترا عن وضع يدها على مصر عقيب نصرها الباهر في واقعة أبي قير؟ يقول المتقولون إن مركز إنكلترا السياسي في ذلك الحين لم يكن ليسمح لها بإضافة مصر إلى مستعمراتها، نقول قبلنا فأجيبونا عن سبب تخلي إنكلترا عن مصر في سنة ١٨٤٠؟ تقولون إن محمدًا علي كان واقفًا في وجه إنكلترا وخلفه فرنسا تشد أزره. كل هذا حسن ولكن قولوا لنا سبب تخلي إنكلترا عن مصر سنة ١٨٧٠ عندما سنحت لها فرصة لا تسنح في العمر إلا مرة. وكلنا يعلم أن إنكلترا كانت في هذه السنة مطلقة الأيدي وكان الجو لها خاليًّا، ولم يكن أمامها من يحرك لسانه أو يرفع يده. يقول المتقولون إن نتيجة حرب السبعين كانت لا تزال مجهولة فخشيت إنكلترا إن هي وضعت يدها على مصر أن يعقد النصر لفرنسا فتنتقم هذه الدولة الظافرة من إنكلترا انتقامًا رهيبًا.

ولكن ما أبعد هذا الجواب عن الحقيقة، فإن الحرب أعلنت في يوم ١٩ يوليو سنة ١٨٧٠، وفي ٢ سبتمبر من السنة نفسها سقطت سيدان ودفنت الآمال وهدأت المخاوف التي كانت متعلقة بتلك الحرب، ومع كل هذا فإن إنكلترا بقيت ساكتة ولم تقدم رجلًا نحو مصر، فلو كان الحق ما قال هؤلاء المتقولون وكانت إنكلترا حقيقة تسعى في الحصول على مصر منذ سبعين سنة لما تأخرت لحظة واحدة عن انتهاز هذه الفرصة لتضع يدها على مصر، وقد ثبت للقارئ الآن أن هؤلاء المتقولين هم الذين أساءوا الظن بسياسة إنكلترا ولم يفقهوا ما ترمي إليه تلك الدولة العظيمة.

وقد يعترض علينا معترض ويقول ما هذا المدح للإنكليز، وما تلك المحاباة إذا سلمنا بأن سياسة إنكلترا نحو مصر لم تكن سياسة مكر وخداع، فلماذا أظهرت بريطانيا إباءً شديدًا ومعارضة قوية عندما أذيع مشروع قنال السويس؟

على أننا لو نظرنا إلى مسألة قنال السويس بنفس المنظار الذي نظرنا به إلى المسألة الماضية لتغيرت المسألة في طرفة عين، فنقول: لا ننكر أن إنكلترا أظهرت استياءً شديدًا عندما أذيع مشروع ترعة السويس وحاولت جهد طاقتها أن تلقي في سبيل القائمين به كل ما تستطيع إلقاءه من العقبات والعراقيل، فهل لذلك من سبب؟

نعم … إن لذلك أسبابًا شتى؛ منها: أولًا الصعوبات الطبيعية التي كانت تعترض القائمين بهذا المشروع؛ سيما في ذلك الزمن الذي كانت فيه فنون الهندسة لم تبلغ ما بلغته الآن، وأن ديلسبس نفسه وهو صاحب المشروع وخالقه كان يتهيب الإقدام على العمل.

وكل معاصريه يذكرون لنا أنه كان يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، فلا يستغرب إذن من المهندسين الإنكليز قولهم باستحالة خروج هذا المشروع من حيز الفكر إلى العمل، وهنا يخطر ببال القارئ خاطر ولكننا نجل مقام هؤلاء المهندسين عن أنهم كانوا يقولون ما لا يعتقدون …

ومما جعل إنكلترا تظهر معارضة شديدة للمشروع أسباب سياسية أخرى أهمها أن إتمام عمل ترعة السويس كان يقف في طريق سياستها الشرقية؛ لأنه يسهل الطريق من الشرق إلى الغرب على كل الدول، ولنعلم أن نابليون الثالث كان في ذلك الحين في قمة مجده، ولم يكن نابليون الثالث في ذلك العهد بالرجل الذي تستهين به إنكلترا وتصغر من شأنه، وغني عن البيان أن مَن التفَّ حول نابليون الثالث من السياسيين كانوا يهمسون في آذان بعضهم قائلين لبعضهم: «سيكون لهذا الملك شأن كبير»؛ لأنهم لم يطلعوا على صحف الغيب ولم يقرءوا ما كانت تخبئه الأيام لذلك الملك من مثل الحرب الألمانية التي كذبتهم شرَّ تكذيب، وعكست آمالهم، وقلبت تدابيرهم رأسًا على عقب.

وكلنا يعلم أن إنكلترا لم تدخر وسعًا في الزمن الماضي في سبيل إبعاد أعدائها عن مصر، فكيف ترضى بافتتاح ترعة السويس مع العلم بأن هذه الترعة تجعل مصر مملكة دولية تتنازعها كل مملكة، وتدعي كل أمة بحق لها فيها؟ بل وكيف ترضى إنكلترا بنابليون الثالث وقد رأيناها أنفقت ما أنفقت من مال وأزهقت ما أزهقت من نفوس رجال في محاربة نابليون الأول ومحمد علي؟ فهل تسمح إنكلترا بأن تذهب أعمال سبعين سنة هباءً منثورًا؟

بعد هذا كله يتبين للقارئ الكريم عذر إنكلترا في معارضتها الشديدة إبان فتح ترعة السويس وبقي علينا أمر واحد لم نعره لفتة، وآن لنا أن نتناوله بالبحث، وهو أن بعض الجهلة من الوطنيين وغيرهم لا يزالون يحسبون أن إنكلترا أشعلت نيران فتنة عرابي، وسنزن هذا القول بميزان الحكمة والتعقل، فنقول: ستمضي قرون طويلة قبل أن يعلم العالم تاريخ مصر الحقيقي في الثلاثين سنة الماضية؛ لأن وزراء الدول لا يخطر ببالهم أن يفتحوا خزائن أسرارهم لمعاصريهم، وكثيرًا ما تبقى بعض دخائل الأعمال الصغرى في أعماق قلوب الذين قاموا بها، فكيف بمسائل السياسة التي تتناول الأمم والشعوب؟

على أننا لا نغالي في المقال إذا قلنا بأنه لو حدث أن بريد سفارات أوروبا يفتح كله لا يتم اليوم حتى تشتعل نار حربٍ دولية لا يعرف نتيجتها إلا الله، وعلى ذلك فنحن لا ننتظر من الحكومة الإنكليزية أن تفتح خزائنها وترينا أوراقها السرية لأننا لا نرى فائدة في مثل هذا العمل، ولو فرضنا أن الحكومة الإنكليزية نشرت في كتاب من كتبها السياسية كل أسرار المسألة المصرية (إن كان هناك أسرار)، فإن ذلك لا يقنع الجهلة، ولا يخرص ألسنة المتقولين، هذا ونحن لا نعتقد بأن الحكومة الإنكليزية دبرت الثورة العرابية؛ لأن إثبات هذه التهمة السياسية يحتاج إلى أدلة أقوى من الأدلة التي يستند عليها القائلون بهذا الرأي الفاسد.

ويكفي لدحض هذا الرأي كلمة واحدة وهي أن ما قام به الأسطول البريطاني الذي كان تحت قيادة الأميرال سيمور أمام ثغر الإسكندرية لم يكن إلا بإشارة فرنسا ونصيحتها، فكيف يصدق الظن بأن إنكلترا دبرت هذه الثورة مع أنها لو لم تشر فرنسا عليها بضرب الإسكندرية لما حركت ساكنًا؟ ألم يكن ذلك السكون يؤدي بالطبع إلى قلب تدابيرها الثورية رأسًا على عقب؟

وحقيقة الأمر هي أن احتلال إنكلترا لمصر لم يكن إلا لوضع المسألة المصرية «على الرف» مؤقتًا؛ لأن هذه المسألة كانت أبدًا تهدد سلام أوروبا تارة وتهدد إنكلترا في الهند تارة أخرى، ولكن لا نحسب أن أحدًا يظن أن هذا الاحتلال هو الحل النهائي لهذه المسألة، ولو أن إنكلترا لم تعين ميعادًا للجلاء فإنها بلا ريب لم يخطر ببالها أمر البقاء على كر الدهور.

بقي علينا أن ننظر لحظة في الأعمال التي قامت بها إنكلترا في مصر، فنقول: إنه من المحقق أن إنكلترا من عهد احتلالها مصر لم تمثل دور المحب لذاته، ولا ينكر أحد أن عهد الاحتلال كان على الدوام عهد نجاح مادي لم تر مصر له مثيلًا في تاريخها الماضي، وأول دليل على ذلك أن إنكلترا عندما استلمت قياد مصر وجدت المالية في حال يرثى لها، وقد ظن كثيرون من الذين شاهدوا فساد المالية المصرية أنه من المستحيل إعادة النظام إليها بعد الفوضى الهائلة التي سادت عليها.

على أن هؤلاء لو عاشوا إلى عهد الاحتلال البريطاني لاندهشوا من التقدم الباهر الذي حازته المالية المصرية تحت المراقبة الإنكليزية، وغني عن البيان أن مثل هذا التغيير لا يتم إلا بالعمل المتواصل الخالي من كل غاية وغرض، ولم تحصل إنكلترا على هذه النتيجة الحسنة إلا بوضع الاقتصاد العادل في موضع الإسراف الفاحش، فلم تقتر ولم تبذر على أن الأرقام في مثل هذه الموضوعات هي أعدل الشاهدين، فنحن ننتخب من كتاب «السياسي» لسنة ١٩٠٥ ما يأتي عن تاريخ المالية والديون المصرية:

إن دين مصر ابتدأ سنة ١٨٦٢ عندما عقدت قرضًا قدره ٤٢٩٢٨٠٠ج، ثم عقدت غيره على التتابع وفي سنة ١٨٧٠ بلغت الديون الأجنبية ٣٨٣٠٧٠٠٠، وقد أضيف إلى هذا الدين في سنة ١٨٧٣ قرض قدره ٣٢٠٠٠٠٠٠ لتسديد الدين الأصلي الذي بلغ ٢٨٠٠٠٠٠٠، وفي سنة ١٨٧٥ أعلن الخديوي إسماعيل أنه في ضيق مالي شديد، وفي سنة ١٨٧٦ أصدر الخديوي قرارًا وحد فيه الديون المصرية فصارت كلها دينًا واحدًا قدره ٩١٠٠٠٠٠٠، وفي سنة ١٨٧٧ اجتمع مندوبو المداينين الإنكليز والفرنسويين لتوحيد الدين المصري فقسموه إلى قسمين: الدين المفضل وقدره ١٧٠٠٠٠٠٠ بسعر ٥ في المائة، والدين الموحد وقدره ٥٩٠٠٠٠٠٠ بسعر ٧ في المائة.

ووحدت ديون الدائرة السنية في دين واحد قدره ٨٨١٥٤٣٠ بسعر ٥ في المائة، وفي سنة ١٨٧٨ عقد قرض على أملاك الدومين قدره ٨٥٠٠٠٠٠ بسعر ٥ في المائة، وفي سنة ١٨٧٩ ابتدأت مراقبة إنكلترا وفرنسا، وفي يناير ١٨٨٠ أصدرت هاتان الدولتان تقريرًا صرحتا فيه بأن مصر لا تستطيع أن تسوي حسابها، وفي يوليو من هذه السنة ذاتها اجتمعت لجنة من مندوبي الدول العظمى وقررت عمل تصفية مالية؛ وبهذه الطريقة خفض سعر الدين الموحد إلى ٤ في المائة، وحدثت تغييرات كثيرة كانت نتيجتها أن الدين الموحد أصبح قدره ٦٠٩٥٨٢٤٠ج، وأضيفت ديون شتى لم تكن موحدة إلى الدين المفضل فصار ٢٢٧٤٣٨٠٠، وبلغ دين الدائرة السنية ٩٥١٢٨٨٠ وخفض سعره إلى ٤ في المائة.

وفي سنة ١٨٨٥ عقد قرض بضمان الدول بمبلغ ٩٤٢٤٠٠٠ بسعر ٣ في المائة. وفي سنة ١٨٨٨ عقد دين قدره ٢٣٣٠٨٠٠ بسعر في المائة لأجل استبدال المعاشات.
وفي سنة ١٨٩٠ أضيف الدين المفضل إلى دين ١٨٨٨ الذي ذكرناه آنفًا ووحدا في دين مفضل قدره ٢٩٤٠٠٠٠٠ بسعر في المائة، وفصل من هذا الدين المفضل مبلغ ١٣٠٠٠٠٠ ج.م لإصلاح الري واستبدال المعاشات.
ثم أصدرت ديون الدائرة السنية البالغة ٧٢٩٩٣٦٠ بسعر ٤ في المائة، وفي سنة ١٨٩٣ استبدلت ديون الدومين البالغة ٨٥٠٠٠٠٠ التي كانت بسعر ٥ في المائة بدين سعره في المائة.
وهاك جدول بالديون المصرية في شهر يناير سنة ١٩٠٤:
الدين المبلغ العهدة
المجموع ١٠٢١٨٦٩٢٠ ٣٨٥٨٦٦٣ج.م
الديون المضمونة بسعر ٣ ٨٠٧٧٩٠٠ ٣٠٧١٢٥ج.م
الدين الممتاز بسعر ٣١١٢٧٧٨٠ ١٠٦٢٥٥٦ج.م
الدين الموحد بسعر ٤ ٥٥٩٧١٩٦٠ ٢١٨٢٩٠٦ج.م
قرض الدائرة السنية بسعر ٤ ٤٩٥٢٨٦٠ ١٩٨١١٤ج.م
ديون الدومين بسعر ٢٠٥٦٤٢٠ ١٠٧٩٦٢ج.م

وتبلغ العهدات على الديون كافة بما فيها الجزية على حساب سنة ١٩٠٥م ٤٥٩٣٦٠٢ جنيهًا مصريًّا.

وفي سنة ١٨٨٧ وضعت المبالغ الاحتياطية وحسابها في سنة ١٩٠٤ كما يأتي:
مجموع الاحتياطي ٨٠٥١٢١٧ج.م
ما توفر من توحيد الديون ٥٥٠٧٠٥٥ج.م
المبالغ الاحتياطية ٩٦٦٧٨١ج.م
المبالغ الخاصة ١٥٧٧٣٨١ج.م

وهنا لا نستطيع أن نسهب الكلام على الإصلاحات الأخرى التي تمت في مصر على أيدي بريطانيا، وقد يكون ذِكرنا لها بعد أن عرفها القاصي والداني تحصيل حاصل؛ لأنه لا ينكر إلا المكابر ما قام به رجال الإنكليز من الأعمال العظيمة في وادي النيل، سيما ما يتعلق منها بإصلاح الري والزراعة، ونذكر في هذا المقام خزان أسوان وقناطر أسيوط التي تشهد لإنكلترا بالفضل على مصر، وقد وفَّتْ الصحفُ هذين العملين العظيمين حقهما من الوصف والمدح، وذكرت في ذلك الحين أن خزان أسوان يغير مستقبل مصر ولا يجعلها في الأيام الآتية تحت رحمة فيضان النيل، ومهما تكن المبالغ الطائلة التي أنفقت على خزان أسوان، فإن المهندسين قد بنوه بإتقان ما جعل استرداد ما أنفق مضمونًا، ولن يضيف هذا الخزان دينًا إلى كاهل مصر فوق ديونها التي تئن منها، ولسنا نرى دليلًا أقوى من خزان أسوان على حسن نيات إنكلترا في وادي النيل، ويحق لإنكلترا أن تفخر لنجاحها في مشروع خابت فيه آمال غيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤