الفصل الثالث

سياسة بريطانيا الاستعمارية

قد حاولنا فيما تقدم من هذا الكتاب جهد طاقتنا أن نسير على الخطة التي رسمناها في أوله، ففصلنا كل حبل من حبال الشبكة على حدة فاستطعنا بذلك أن نحل عقدة المسألة المصرية، فوقف بنا البحث على حقيقة واضحة وهذه الحقيقة هي أنه لا يوجد دافع قوى يدفع أي دولة أوروبية لأن تسعى في إبقاء المسألة المصرية في شكلها الحاضر، ونحن نقصد بقولنا دافع قوى الدافع السياسي؛ لأن كل الدول مشتركة في الاهتمام بأمر صندوق الدين ولكن هذا الدافع مالي وسنتكلم عنه فيما يأتي لأن المنافع المالية والمنافع السياسية تختلف اختلافًا شديدًا، فرأينا من المهم أن نبحث في كل من الأمرين على حدة، ولكن هذه النتيجة السياسية التي ظهرت لنا وهي أنه لا توجد دولة تهتم بمصر لأن لا دافع سياسي شديد يدفعها إلى ذلك ليست إلا نتيجة منطقية تصدق ظاهرًا، ولكن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك لأنه للآن لا تزال الدول والأمم تعتبر المسألة المصرية مسألة دولية، ولا تزال مصر أرضًا خصبة لزرع القلاقل والاختلافات السياسية، وأن موضوعها موضوع نحيف لا يمكن مسه إلا باحتراس، وخير للدول جمعاء أن لا تمسه.

ويظهر لنا أن المسألة المصرية كالزر الكهربائي لا يمسها أحد إلا وتحدث له هزة ورعشة، وكثيرًا ما خشي من ذلك «الزر الكهربائي» على السلام في أوروبا كلها وهذا هو الذي اضطر دول أوروبا للرضى باحتلال بريطانيا لمصر أولًا، ويجعل هذا الاحتلال غير محدد الزمن ثانيًا؛ لأن احتلال إنكلترا لمصر جعل أوروبا في راحة من جهة المسألة المصرية مؤقتًا، فكأن أوروبا حلت المسألة المصرية حلًّا وقتيًّا، وقد ساعد على هذا العمل براعة الساسة من الإنكليز الذين عينتهم إنكلترا لينوبوا عنها في مصر.

فإننا مهما حاولنا فلا نستطيع أن نوفي اللورد كرومر حقه من المدح والثناء، ومهما ذكرنا من فضائله فإننا لا نأتي على آخرها، ولسنا نحن وحدنا الذين نقول هذا القول فإن أشد أعداء السياسة الإنكليزية الذين لا تخفى عن أعينهم سيئة؛ لأنهم يلتمسون السيئة أنى وجدوها ليشيعوها ويذيعوها، قد كفوا من زمن طويل عن نقد اللورد كرومر وتوجيه سهام الملام إليه.

أجل إن اللورد كرومر حاز ثناء الكل لأنه تمكن من سلوك مسلك وعر بدون أن يظهر ما يدل على تعبه من المشاغب والمصاعب التي صادفته في طريقه، ولم يتعد كرومر مرة في العمر واحدة حد الملاطفة والملاينة، وقد عرف كيف يذعن بلطف عندما لا يرى في الإذعان شرًّا لبلاده، وعرف كيف يأمر بشدة بدون أن يمس أحدًا بسوء على أننا لم نره يلجأ إلى الأمر الأخير إلا عندما اضطرته منافع السياسة الإنكليزية لركوب ذلك المركب الخشن.

وقد كفانا أن قد كان اللورد كرومر نموذجًا لكل المستخدمين الإنكليز الذين تخلقوا بأخلاقه واتصفوا بصفاته طوعًا أو كرهًا، فكانت نتيجة ذلك أن كل شيء سار بسكون وهدوء.

قلنا إن المركز السياسي في مصر قد تغير تغييرًا بينًا وأن المسألة المصرية أخذت تبرد شيئًا فشيئًا وابتدأت أهميتها في نظر الدول تقل يومًا فيومًا حتى أصبحت جميعها ترى أن بقاء الاحتلال البريطاني في مصر وعدمه لديها سيان.

وقد حدثت في السنين الأخيرة أمور جعلت الحرب الدولية في أوروبا مستحيلة، ونعني بالحرب الدولية الحرب التي تجر رجل أكثر من ثلاث دول أروبية؛ وما سبَّبَ ذلك إلا أن المسائل الدولية الكبرى كلها قد حلت حلًّا مرضيًّا ولم تبق إلا مسألة اقتسام المملكة العثمانية، ومما يحسن ذكره أن أغلب الدول الأوروبية خوفًا من القلاقل والاختلافات الصغيرة الشأن التي تشب نارها بينهن اجتهدن في إيجاد ممالك صغيرة مستقلة معتزلة فجاءت هذه الممالك كالجبل يفصل الواديين، أو كالحاجز القوي بين النهرين، وهذه الممالك الصغيرة الحاجرة هي: هولاندا، وبلجيكا، وإمارة لوكسمبرج، وجمهورية سويسرا، فهذه الممالك في الحقيقة لا قوة لها ولا حول ولا تعد بين ممالك أوروبا، ولكن إحداها تستفيد وتفيد أكثر من أية دولة كبرى، فإنها محمية برضاء الكل فلا تستطيع أي دولة معادية أن تمد لها يدها بسوء، وهي أيضًا تمنع الدول التي حولها من الاحتكاك ببعضها البعض، وبعد هذا التغيير السياسي الذي نشأت عنه هذه الممالك أصبحت المسائل السياسية المتعلقة بعلاقات دول أوروبا ذاتها في زوايا الإهمال وأركان النسيان، وأصبحت ممالك أوروبا وهي لا يهمها إلا مسائلها الداخلية أو المسائل المتعلقة بمصالحها السياسية والاستعمارية في القارات الأربع، وهكذا صار السلام في قارة أوروبا مضمونًا.

فيظهر من ذلك أن دول أوروبا الآن مستعدة لأن تحل المسألة المصرية بلا خوف من عواقبها؛ لأن أهم أسباب النزاع بين الدول قد زالت، وأصبحت «الحرب العامة» من أحلام الماضي ولن يحققها المستقبل أبدًا، وانتهى الدور الذي كانت فيه المسألة المصرية مسألة دولية تهم كل دولة بمفردها وصارت المسألة المصرية الآن لا تهم إلا الإنكليز والمصريين دون سواهم.

وبناءً على ذلك فسنبحث في منافع إنكلترا في مصر، وقبل ذلك نشير إشارة صغيرة إلى سياسة بريطانيا الاستعمارية ونبدي بشأنها ما نراه موافقًا من الملاحظات، وإنا نرى أنه من السهل علينا أن نقارن بين سياسة الدولتين بريطانيا العظمى وفرنسا في الاستعمار، وقد قررنا فيما مضى أن الفتوحات البعيدة لا توافق فرنسا وكثيرًا ما تضر بها، وبهذا تختلف سياسة إنكلترا عن سياسة فرنسا الاستعمارية على خط مستقيم، فإن إنكلترا منذ نشأتها كانت ولا تزال دولة فاتحة لأنها بطبيعتها غير قادرة على أن تكون مملكة زراعية كبرى، فهي لا تأمل ولا تتعشم أن تعتمد في رزقها على أرضها وبلادها، فهي بحكم الطبيعة مضطرة لأن تؤسس مستعمرات بعيدة، ومن سوء حظها أنها لا تجد ميدانًا موافقًا لفتوحها واستعمارها على مقربة منها مثل مستعمرات فرنسا في أفريقيا، وهي: تونس، والجزائر. وزد على ذلك أن إنكلترا منذ القرون الوسطى طلقت فكرة الاستعمار في قارة أوروبا لأنه لا يخطر ببال إنكلترا في الحال أو في الاستقبال أن تضع يدها على ذراع واحد من أراضي قارة المدنية، وليس لدينا دليل على صدق قولنا أقوى من محالفة «فينا» التي عقدت سنة ١٨١٥، فإن إنكلترا لم تجرأ في هذه السنة على طلب حصن واحد من حصون فرنسا بقصد وضع اليد أو التملك.

وقد ذكرنا فيما تقدم الوسائل العديدة التي سهلت على إنكلترا النجاح في سياستها الاستعمارية، وذكرنا أن كل المسائل المتعلقة بالسياسة الداخلية منذ عودة شارل الثاني في أواسط القرن السابع عشر قد صارت كل شيء، ولا ننكر أن إنكلترا بعد ذلك أصيبت بمصائب شتى من الكنيسة والثوريين، ولكن كل تلك المصائب كانت صغيرة ومثلها كمثل الجرح الصغير السريع الاندمال بعكس الممالك الأوروبية الأخرى التي كانت جروحها لا تندمل إلا بعد أن يسيل دمها مدرارًا.

ولا نرانا في حاجة للبحث عما إذا كانت كل هذه الظروف قد حدثت لإنكلترا عفوًا، أو أن إنكلترا أفرغت جهدها في صفاء داخليتها لتتفرغ لحوادثها الخارجية، إنما نحن في حاجة إلى البحث والنظر في النتائج، ولا نحسب أن إنسانًا ينكر أن أول شرط من شروط نجاح بريطانيا هو أن تكون بارعة في فن الاستعمار لتكون لها أملاك واسعة خارج بلادها؛ لأن هذه الأملاك إذا أحسنت بريطانيا إدارتها تكون أبدًا سببًا في قوتها داخلًا وخارجًا، ومثل جنون إنكلترا بالاستعمار كمثل القمر كان هلالًا ثم صار بدرًا ولن يعتريه أفول، فإنك إذا دخلت قلب كل إنكليزي لقيت فيه معبدًا للاستعمار فكلهم مستعمرون إنما يختلفون في المذاهب والطرق.

وكل إنسان يتذكر حمَّى الاستعمار التي أصيبت بها إنكلترا في العشر سنين الأخيرة من القرن التاسع عشر، وكان سببها أن إنكلترا اكتشفت أنها ليست الدولة الوحيدة بين الدول؛ بل إن لها أندادًا يسابقونها إلى فخار الاستعمار وبين هؤلاء الأمة العظيمة والدولة الضخمة ألمانيا، ففزعت إنكلترا لذلك لعلمها بأن ألمانيا لم تتخذ الاستعمار فنًّا للتلذذ به؛ بل هو لديها ابن الضرورة والاحتياج.

وفي هذا الوقت أشرقت شمس الرودسيزم (مذهب سيسيل رودس) فقام أصحاب مذهب الاستعمار من الإنكليز كشمبرلين وغيره وتعلقوا بأهداب هذا المذهب وناصروه.

ولما تم الفوز لإنكلترا في أم درمان تحققت من أن آمالها سريعة النوال وتحمس الإنكليز تحمسًا فوق العادة وجاءت هزيمة الدراويش التي تمت على أيدي كتشنر وحملته التي شهدت بفضل قائدها وذكائه، فأنالها الإنكليز أكثر مما تستحق من المدح والثناء، وقال المرجفون إن بريطانيا قد أصبحت دولة رومانية ثانية، وفي ذلك الحين جن الإنكليز جنونًا بحب الاستعمار سيما ولم يروا أحدًا يقف في وجه قوتهم، وقال ساسة الإنكليز لأنفسهم إنهم إن لم ينالوا المستعمرات بالحيلة والتدبير فإنهم ينالونها بالقوة، فضاقت الدول بدولة الإنكليز ذرعًا ورأين من الشؤم عليهن أن تبقى بريطانيا صاحبة الجبروت بينهن، فقام الكتاب من الغربيين غير الإنكليز يؤلفون الكتب عن بريطانيا، فلم تكن تمر بمكتبة إلا وترى كتابًا مثل «سر تقدم الإنكليز السكسونيين» وغيره من الكتب، ولم ينبه إنكلترا بعد أن ثملت بفوزها على ضفاف النيل إلا فشلها على ضفاف «الفال» و«الأورابخ»، فإن الحملات العظيمة التي جردت على غير طائل، والملايين الكثيرة التي أنفقت، والنفوس البشرية التي أزهقت على هيكل مناجم الذهب في جنوب أفريقيا؛ نبهت شعور الإنكليز وأعادتهم إلى حظيرة التعقل والصحو بعد الجنون والسكر، وبخسارة إنكلترا في جنوب أفريقيا عاد ميزان القوى الأوروبية إلى الاعتدال، وبدأ الناس ينظرون بعين غير التي كانوا ينظرون بها من قبل إلى إنكلترا وسياستها الخارجية، سيما وقد ظهر لهم أنه وإن كانت سياسة الاستعمار نافعة مفيدة ولكنها إذا زادت عن حدها عادت بضرر شديد وأذى، وابتدأ الناس يفهمون أنه توجد طرق شتى للوصول إلى أي غرض، وبعض هذه الطرق سليم العاقبة وبعضها يؤدي إلى الهلاك ولا يؤدي إلى الغرض، وظهر للملأ أن القوة الحيوانية لا تنجح دائمًا وتكلف أصحابها ما لا يطيقون، وأن اللين ينال ما لا تناله الشدة، وأن بعض الأغراض يستحق السعي والبعض لا يستحقه، وقد امتلأت عقول بعض الناس بهذه الأفكار والآراء امتلاءً بدلهم تبديلًا، وجعل من عرفهم قبل حرب البوير ينكرهم بعدها، ووضح لساسة الإنكليز في ذلك الحين أن تأسيس الإمبراطورية لا يكون بهضم حقوق الأعداء، وأن البيض لا يذعنون للتهديد ولا يسلمون إلا بعد حرب تشيب من هولها الولدان مهما كانت بلادهم وأوطانهم، كل ذلك جعل إنكلترا تقدر الطرق السياسية القديمة حق قدرها وجعلها تعرف أيضًا أن الدولة تستطيع أن تنال من عدوها بالسياسة اللينة أكثر مما تناله برءوس الرماح وحد السيوف، وتحقق الكل صدق قول نابليون «يستطيع الإنسان أن يعمل ما يريد بالرماح ولكنه لا يستطيع أن يركبها …»

ومن هذه اللحظة ابتدأت إنكلترا تغير خطة سيرها وعادت إلى حظيرة السياسة الأوروبية، فطلقت الوحدة المضرة التي اشتهرت بها لأنها علمت وتحققت بأنها لا تنال شيئًا ما دامت تنصب نفسها لمعاداة أوروبا بأسرها، وأنها تنال فوق ما تحب لو دخلت ميدان السياسة الأوروبية وخلعت رداء الانزواء، فقام جلالة الملك إدواردو السابع بهذه السياسة الحكيمة وكان ذكاؤه الخارق للعادة ولطفه سببًا في «الوفاق الودي» الذي تم بين إنكلترا وفرنسا.

بيد أن السياسة الخارجية القوية تحتاج إلى تقدير الأغراض حق قدرها وإلى العلم بأن مذهب الحصول على أي شيء بأي ثمن ليس من الحكمة والصواب، وأن الاستعمار يتم بثلاث طرق الفتح أو السياسة أو التقهقر، وأما سياسة «هنا أنا وهنا أبقى» فهي سياسة عقيمة تعود على أصحابها بالضرر الشديد وسنأتي للقارئ بأدلة قاطعة وبراهين حاسمة تدل على أن إنكلترا تحققت من أن كثيرًا ينال بالتساهل والتسامح.

ونحن لا نود أن نتعب القارئ بالإتيان بالحوادث العديدة التي تقهقرت فيها إنكلترا من أملاك لها لعلمها بأن بقاءها ليس من السياسة والحكمة في شيء، ونكتفي هنا بمثالين شهيرين أولهما أن إنكلترا تخلت عن جزيرة كورسيكا للفرنسويين وسلمت جزر «ايونيون» لليونانيين، وكلتا هاتين الحادثتين محتاجة إلى نظرة تاريخية لأهميتها، فنقول: لقد خمدت النيران التي كانت متأججة في صدور الإنكليز بعد أن تنازلوا عن كورسيكا ونسيها كلهم وتناساها من لم ينسها، حتى أصبح أغلبهم في شك من أنها حقيقة كانت جزءًا من الإمبراطورية البريطانية، ولكن لا يحفظ التاريخ ذكرى براعة سياسية مثل البراعة التي أظهرتها إنكلترا بتسليمها هذه الجزيرة لأصحابها.

فإن إنكلترا بامتلاكها هذه الجزيرة التي تكاد تمس شواطئ فرنسا الجنوبية. كانت تستطيع دائمًا أن تهدد أعظم مركز بحري لفرنسا وكانت إنكلترا تقدر أيضًا أن تتلف تجارة فرنسا في البحر الأبيض أو تجرد حملة حربية تفزع بها فرنسا والفرنسويين.

ولكن احتلال إنكلترا للجزيرة الذي لم يطل أمده أكثر من سنتين وثلثي سنة — أي من نوفمبر سنة ١٨٩٣ إلى يوليو سنة ١٨٩٦ — أقنع إنكلترا بأن مركزها في هذه الجزيرة يكون أبدًا في خطر رغمًا عن رضاء أهالي الجزيرة وطاعتهم لها، أضف لذلك أن إنكلترا رأت أنها ما دامت تملك هذه الجزيرة فإنها لا تأمل أن يصفو ما تكدر بينها وبين فرنسا، ورأت إنكلترا أيضًا أنها ستنفق على فتح هذه الجزيرة وإخضاع أهلها أكثر مما تطيق ماليتها وجنديتها مع علمها بأنها لن تجني بعد التعب والنفقة إلا ما لا تحب، فلم تر إنكلترا لها بدًّا من إخلاء الجزيرة وتسليمها لأصحابها فأخلتها وسلمتها.

هذا ومن ينظر إلى خريطة البحر الأبيض لا يستطيع أن يتغافل عن الأهمية الحربية التي لجزر «ايونيون» لا سيما جزيرة كورفو، فإن هذه الجزيرة واقعة إلى غرب الشواطئ اليونانية تجاه «كعب» شبه جزيرة إيطاليا فكأنها حارس يحرس البحر الإدرياتيكي أو رقيب يرقب جنوب إيطاليا، ومن يضع يده على هذه الجزر يستطيع أن يسد باب البحر الأبيض في وجه النمسا بأن يحصر مخرجها الوحيد، وزد على ذلك أنه يقدر أيضًا أن يهدد شواطئ إيطاليا الشرقية على الدوام، ولم تكن أهمية جزيرة «زانتي» «وكورفو» لتخفى على أهل فينسنا أيام عزها فوضعوا أيديهم عليهما، ولو ضربنا صفحًا عن كل ذلك فإن أمامنا دليلًا واحدًا هو أهم الأدلة وهذا الدليل هو شهادة نابوليون بونابرت نفسه الذي لا يشك أحد في قدرته النادرة على الحكم على مركز حربي حكمًا لا يوجد أصدق منه، فإن من يقلب صفحات الكتاب الذي جمعت فيه مكاتيب نابوليون ورسائله التي بعث بها إلى أصحابه في سنة ١٧٩٦ يرى نابليون يقول في كتاب: «لا بد لي من احتلال كورفو مهما كلفني ذلك الاحتلال»، ويقول في آخر: «إنه من الهين علي أن أضحي فينسيا وشمال إيطاليا بأسره لأجل كورفو فإنها مفتاح الأدرياتيك.»

على أن لِكورفو مزايا غير التي ذكرت فإن قربها من ألبانيا يجعلها لمن له يد في مسائل الشرق الأدنى من الأهمية بأعظم مكان لأن مالك كورفو يقدر أن يصنع في البلقان ما يريد بدون أن ينال منه عدوه ما ينال هو منه.

ولا نستطيع هنا أن نأتي على تاريخ جزر إيونيون وعلى ذكر الملوك الفاتحين الذين وضعوا أيديهم على هاتيك الجزر قبل أن أهداها الملك لويس الثامن عشر لإنكلترا في سنة ١٨١٤ جزاءً على ما قامت به نحوه، ويكتفي أن نقول إن نابوليون استعمل تلك الجزيرة مرقاة ووسيلة وصل بها إلى مصر ولو صنعت له الأقدار على ما أراد لكانت تلك الجزر وسيلة إلى بلاد الهند. على أن نابوليون كان ينوي أن يجعل تلك الجزر قاعدة أعماله الحربية عندما خطر بباله فتح ممالك أوروبا الوسطى، ولكن واقعة أبي قير عكست آمال ذلك البطل الكبير واستولى الأسطول البريطاني على ثلاث جزر من جزر الإيونيون ما عدا كورفو التي ما زالت محافظة على ولاء نابوليون حتى تنازل عن الملك وكان ما كان.

وقد صادق مؤتمر فينا على هدية لويس الثامن عشر لإنكلترا، وبعبارة أخرى قرر هذا المؤتمر إعادة الجمهورية في جزيرة كورفو تحت حماية بريطانيا العظمى، فعينت إنكلترا من قبلها رجلًا اسمه «ميتلند» مراقبًا على الجمهورية الكورفية، فاتخذ ذلك المراقب سياسة غير حميدة وأسس حكومة توافق أغراضه وعامل أشراف كورفو على ما هم مشهورون به من الجموح والشدة بالغلظة والقسوة ووضع عليهم سيطرة من حديد، ولكنه أصلح إصلاحًا كثيرًا فمهد السبل في الجزيرة وحصنها، ولما ذهب «ميتلند» وجاء غيره مكانه ضعف نفوذ إنكلترا لضعف ذلك الغير، مع أن من حلوا محل «ميتلند» كانوا على جانب عظيم من الذكاء والبراعة، ونحن لا نستطيع أن نطيل البحث أكثر من هذا إنما نلفت نظر القارئ إلى كتاب «أملاك إنكلترا الضائعة» تأليف المستر لورد فإنه يتضمن كل ما يتعلق بهذه المسألة وغيرها من أمثالها.

هذا وقد استمرت الحال في كورفو على هذا المنوال إلى سنة ١٨٦٤، ونقول كما قلنا سابقًا إنه لم تفتح لنا خزائن أسرار الحكومة فلا نستطيع أن نعلم الأسباب القوية التي اضطرت المستر غلادستون لتسليم هذه الجزيرة في السنة المذكورة آنفًا (١٨٦٤)، ولا يخفى أن أهل كورفو كانوا شديدي الخزوانة، ولكن إنكلترا صرفت خمسين سنة في تهذيبهم وتهدئة خواطرهم وكبح جماحهم ولم ينفد صبرها على طول هذا الزمن، ولا نعتقد بأن إنكلترا اضطرت لتسليم هذه الجزر مقابل إبعاد الدوق «لوكتنبرج» الذي رشحته روسيا وفرنسا للعرش اليوناني.

ولسنا في حاجة إلى ذكر سخط الأمة الإنكليزية التي هاجها هذا التسليم، فإن الإنكليز ظنوا لذلك العهد أن النفوذ الحربي لإنكلترا في البحر الأبيض قد ضاع ولن يعود أبدًا، ولكن كذبت الأيام هذا الظن وأخمدت نار ذلك الهياج، ولو أن إنكلترا جادت بهذه الجزر كرمًا منها لعد ذلك العمل جنونًا وجهلًا ولا نظنها اقترفت مثل ذلك الذنب، وسنترك أسباب الجلاء ونتكلم عنه وعن طبيعته لأهميته، فنقول: إن إنكلترا رغبت في أن تهب أهل جزر كورفو حريتهم بشروط تجعل كورفو في مستقبل الأيام تنفع إنكلترا أكثر مما تضرها، وأظهرت إنكلترا رغبتها الشديدة في الانسحاب من مكان لا يمكنها الاستيلاء عليه تمامًا إلا إذا ظلمت أهله وأجحفت بحقوقهم؛ ولذلك فهي لم تكن لتقبل أن تخلي تلك الجزر ليأتي غيرها ويستولى عليها ويستعملها سلاحًا يحارب به بريطانيا، وضمت النمسا صوتها إلى صوت إنكلترا وطالبتا كلتاهما بحياد هذه الجزر وأشارتا على حكومة اليونان بإتلاف كل الحصون والقلاع الحربية التي في الجزيرة، وسألتاها أن تعد وعد حر بأن لا تقيم أعمالًا حربية في الأرخبيل فأجيب طلب الدولتين وصارت جزيرتا كورفو وباكسو على الحياد، وقد دلت إنكلترا بإخلائها كورفو على عزة نفس وشهامة قل أن يوجد لهما مثيل، ولكن لا نحسب أن تلك الشهامة كانت خالية من نظر سياسي بعيد، فإن إنكلترا بلا ريب كانت في كوفو في «مركز كاذب»، وربما كان يقف هذا المركز في سبيل سياستها حجر عثرة، ومن الغريب أن الأمر الذي أصدرته لاحتلال تلك الجزر كان غريبًا جدًّا، فإنها صرحت فيه بأن تلك الجزر مستقلة تمام الاستقلال ولكنها «تحت أمر المراقب البريطاني العالي»، وقد حاولت إنكلترا سنين طويلة أن تنفذ منطوق هذا الأمر ولكنها لم تنجح؛ لأنه كان من اللازم أن يعلم العالم إن كانت هذه الجزر بريطانية أو غير بريطانيا أي «مستعبدة» أو «مستقلة»، فليس بنافع أن تعذب إنكلترا أهل كورفو برجاء كاذب فإما تمنحهم حريتهم وإما تمنعهم إياها، ولم تكن إنكلترا لتتحمل مجالس الأمة والجمعيات العمومية التي كانت تجتمع في الجزيرة تحت إدارة الوطنيين، ولو هي أغضت عنها فإن ذلك كان يعد منها احتقارًا لنظام الحكومة الكورفية.

ثم رأت إنكلترا أنه من المستحيل أن تهزأ بعهود الدول وتعلن امتلاكها للجزيرة لأن ذلك كان يضر بشرفها وبمنافعها السياسية معًا.

ولو أننا لم نطلع على الأوراق السياسية السرية ولكننا لا نغالي إذا قلنا بأن مركز إنكلترا الكاذب في كورفو سهل على أعدائها تهديدها، وكثيرًا ما اضطروها إلى الإذعان لهم رغم أنفها. وزد على ذلك أن أهل كورفو ذاتهم كانوا في كل يوم يفتحون أعينهم لينظروا إلى استقلالهم الخيالي نظر السجين إلى الحرية الموهومة، فظهر لإنكلترا أنها إذا صحت نيتها على إخضاع كورفو بالسيف بعد أن تنال رضاء الدول، فإن ذلك الإخضاع لا بد وأن يكون سببًا في سفك شيء كثير من الدماء الزكية.

ولا يخفى أن إنكلترا لم تخف عليها أهمية المركز الحربي الذي كانت تضحيه بتسليم جزيرة كورفو، ولكن الذي صغر عليها المصيبة هو الحياد الذي منح لتلك الجزر وتركها كالرجل الأعزل، وفوق ذلك فإن نجاة إنكلترا من ذلك المركز الحرج كان أثمن لديها من كل شيء؛ لأن ذلك المركز ربما يكون سببًا في تعطيل سياستها وإضعاف قوتها على أن قوة إنكلترا في البحر الأبيض لم تضعف بعد التنازل عن كورفو كما كان يتقول المتقولون، ولو قام بين الدول في المستقبل نزاع فإن إنكلترا تكون أولى الدول باحتلال كورفو.

كل هذا الذي تقدم يرينا أن التقهقر في السياسة الاستعمارية كثيرًا ما ينفع عندما ترى الدولة المستعمرة فيه خيرًا، ولا يخفى علينا أن القوة ربما كانت تعضد إنكلترا في كورفو إذا ركنت بريطانيا إليها ولكن القوة لا تنتج دائمًا نتيجة مرضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤