الجزء الأول

كلُّ شيءٍ يَصنعه خالقُ البرايا حسن، وكلُّ شيء يَفسُد بين يدي الإنسان؛ فالإنسانُ يُلزِمُ أرضًا بإنماء غلَّاتِ أرضٍ أخرى، والإنسان يُلزِم شجرةً بحملِ ثمارِ شجرةٍ أخرى، وهو يَخلِط بين الأقاليم والعناصر والفصول، وهو يَبْتُر كلبَه وفرسَه وعبدَه، وهو يُخَرِّب كلَّ شيء ويشوِّهه، وهو يحب القُبح والمُسُوخ، وهو لا يريد شيئًا كما صنعتْه الطبيعة، حتى الإنسانَ، فيجب ترويضُه لنفسه كالفرس الرَّكُوب، ويجب أن يُكيَّف على نهجه كشجرةٍ في حديقته.

ولولا ذلك لسار كلُّ شيء إلى ما هو أسوأُ أيضًا، فلا يريد نوعُنا أن يُصوَّرَ نصفَ تصوير، والإنسانُ في الحال التي تكون عليها الأمورُ بعدئذ، يبدو أكثر من الجميع شَوَهًا إذا ما تُرِك وشأنُه بين الآخرين؛ فالمُبْتَسَراتُ١ والسلطةُ والضرورةُ والقدوةُ وجميعُ النُّظم الاجتماعية التي نَغرَق فيها تَخنُق الطبيعةَ فيه من غير أن تَضَع شيئًا في مكانها، وهي تَغْدو فيه كالشُّجيرة التي تُنبِتها المصادفةُ في وَسَطِ طريق، فلا يلبث المارُّون أن يُهْلِكوها بصَدْمها من كلِّ جهةٍ وحَنْوِها نَحْوَ كلِّ ناحية.
فإليكِ أوجِّه حديثي أيتها الأمُّ الحنونُ البصيرة،٢ التي تَعرِف أن تبتعد عن الشارع، وأن تصون الشجيرةَ الناشئة من صَدْم الآراء البشرية! وتعهَّدِي الغرسَ الحديث وروِّيه قبل أن يموت، فستكون ثماره مدارَ سعادتك ذات يوم، وأقيمي مُبَكِّرَةً نطاقًا حول روح ابنك. أجل، يمكن آخرَ أن يرسُم الدائرة، ولكنه يجب عليكِ وحدكِ أن تضعي الحاجز.٣
وتُكيَّف النباتات بالزراعة، ويُكيَّف النَّاس بالتَّربية، وإذا كان الإنسان يُولد طويلًا قويًّا فإنه لا فائدة له من قامته وقوته حتى يتعلَّم الانتفاع بهما، وهما يكونان وبالًا عليه عند منعِ الآخرين من الإسراع إلى مساعدته،٤ وهو إذا ما وُكِل إلى نفسه مات بؤسًا قبل أن يَعْرِفَ احتياجاته، ويُرثَى لحال الطفولة، ولا يُبصَرُ أن النوع البشري يَهلِك إذا لم يبدأ الإنسان بأن يكون طفلًا.

نحن نُولد ضعفاء، ونحن محتاجون إلى القوة، ونحن إذ نُولد خالين من كلِّ هذا فإننا نحتاج إلى العَون، ونحن إذ نُولد بُلْهًا فإننا نحتاج إلى الإدراك، وكلُّ ما ليس لدينا عند ولادتنا، وكلُّ ما نحتاج إليه، إذ كان عظيمًا فإننا نناله بالتَّربية.

وتأتينا هذه التَّربية من الطبيعة أو من النَّاس أو من الأشياء، ونشوءُ خصائصنا وأعضائنا نشوءًا باطنيًّا هو تربية الطبيعة، وما نتعلَّمه من إعمال هذا النشوء هو تربية النَّاس، وما نكتسبه بتجربتنا الخاصة مما يحيط بنا هو تربية الأشياء.

إذن، صُوِّر كلُّ واحدٍ مِنَّا بثلاثة أنواع من المُعلِّمين، والتلميذ الذي يتباين فيه مختلف دروسهم يُعدُّ سيئ التهذيب، ولا يكون مطابقًا لنفسه مطلقًا، والتلميذ الذي تقع فيه كلُّها على عين النقاط وتهدف إلى نفس الأغراض يسير وحدَه نحو غايته ويعيش وَفقَ هذا، ويُعَدُّ حَسَنَ التهذيب.

والواقعُ أن تربية الطبيعة، من بين هذه التربيات المختلفة الثلاث، لا تتوقف علينا مطلقًا، وأن تربية الأشياء لا تتوقَّف علينا إلا من بعض النواحي، وأن تربية النَّاس وحدَها هي التي نهيمن عليها حقًّا، ومع ذلك فإن سيطرتنا عليها ليست سوى افتراض، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن يأمل توجيه أقوال جميع مَن يحيطون بالولد وأفعالهم توجيهًا تامًّا؟

وعندما تُعَدُّ التَّربية فنًّا يكون نجاحها إذن متعذرًا تقريبًا، ما دام التضافر الضروري لنجاحها لا يتوقف على أحد، وكلُّ ما يمكن بذله من جُهْدٍ هو أن يُقتَرَب من الهدف بعض الاقتراب، ولكن لا بُدَّ من الحظِّ لبلوغه.

وما هذا الهدف؟ هذا هو هدف الطبيعة، وهذا ما يُثْبَت، وإلى التَّربية التي لا سلطان لنا عليها يجب أن تُوجَّه التربيتان الأخريان ما دام تضافر التربيات الثلاث أمرًا ضروريًّا لكمالها، ولكن قد يكون لكلمة الطبيعة هذه معنًى بالغُ الإبهام، فلنعملْ على تعيينه هنا.

والطبيعة ليست سوى العادة٥ كما يُقال لنا، وما معنى هذا؟ ألَا يوجد من العادات ما يُؤلَفُ كَرْهًا فلا يُطفئُ الطبيعةَ مطلقًا؟ ومِن هذا عادة النباتات التي تُحمَل على اتجاهٍ أُفقي، والنبات إذا أُطلق حافظَ على الميل الذي أُكرِه على اتخاذه، غير أن النُّسْغَ لم يُغيِّر قَطُّ اتجاهه الأوَّل لهذا السبب، والنبات إذا داوم على النمو عاد تمدُّده عموديًّا، وقُلْ مِثلَ هذا عن ميول النَّاس؛ فالإنسان إذا ما بقي على الحال عينه أمكن احتفاظه بميوله الناشئة عن العادة التي هي أقلُّ الأمور طبيعةً عندنا، ولكن الوضع إذا ما تبدَّل انقطعت العادة وعاد الطبيعي. والتَّربية ليست غير عادةٍ في الحقيقة، أَوَلَا يوجد من النَّاس مَن يَنسون تربيتهم ويخسرونها، وآخرون مَن يحتفظون بها كما هو الواقع؟ وما مصدر هذا الاختلاف؟ إذا ما وجب قصرُ اسم الطبيعة على العادات الملائمة للطبيعة أمكن اتقاء هذه البلبلة.

ونحن نُولد ذوي إحساس، ولا ننفكُّ بعد ولادتنا نتأثر على وجوهٍ مختلفةٍ بالأشياء التي تحيط بنا، فإذا ما صِرْنا شاعرين بإحساساتنا وُطِّنَت نفوسنا على طلب الأشياء التي تؤدي إليها أو تجنُّبِها، وذلك وَفْقَ كونها مستحَبَّةً أو مستكرَهَةً أوَّلًا، ثُمَّ وَفْقَ ما نَجد من مطابقة أو تباين بيننا وبين هذه الأشياء، وأخيرًا وَفْقَ الحكم الذي نحمله عن ذلك حول فكرة السعادة أو الكمال التي يوحي العقل بها إلينا، وتتسع هذه الأحوال وتَثْبُت كلَّما غدونا أكثر إحساسًا ومعرفة، ولكنها إذ تُقْتَسَرُ بعاداتنا فإنها تَفْسُد بمُبْتَسَراتنا زهاء، وهي قبل هذا الفساد تكون ما أسميه الطبيعة فينا.

ويجب ردُّ كل شيء إلى هذه الأحوال الابتدائية إذن، وهذا ممكن لو كانت تربياتنا الثلاث مختلفةً فقط، ولكن ما العمل إذا كانت متناقضة، إذا كان الرجل يُربَّى من أجْل الآخرين بدلًا من أجْل نفسه؟ فهنالك يكون الاتفاق مستحيلًا، وإذ لا بُدَّ من مكافحة الطبيعة أو النُّظُم الاجتماعية فلا بُدَّ من الخيار بين صُنع رجلٍ أو مواطن؛ وذلك لأنه لا يمكن صنع هذا وذاك معًا.

وكلُّ مجتمعٍ جزئيٍّ يميل إلى الانفصال عن المجتمع الكبير إذا كان ضيقًا حسن الاتحاد، وكلُّ موطنٍ قاسٍ على الأجانب؛ فالأجانب ليسوا سوى أُناس، ولا يُعدُّون شيئًا في نظره،٦ ولا مفرَّ من هذا العيب، ولكنه واهٍ، والمهمُّ أن يكون المرء صالحًا نحو مَن يعيش معهم، وكان الإسبارطي طامعًا بخيلًا ظالمًا في الخارج، ولكن النزاهة والإنصاف والاتفاق كانت سائدةً داخل أسواره. واحذَروا أولئك المواطنين العالميِّين الذين يُغرِبون في كتبهم بحثًا عن الواجبات التي يزدرون القيام بها فيما حولهم، فمثلُ هؤلاء الفلاسفة يحبُّون التتر ليُعفَوا من حُبِّ جيرانهم.

ويعيش الإنسان الطبيعيُّ من أجل نفسه، وهو وحدةٌ عددية، وهو كلٌّ مطلق، فلا علاقة له بغير نفسه أو شبيهه، وليس الإنسان المدنيُّ غيرَ وَحدة كَسْرِية تتوقف على المَخْرَج وتكون قيمتها في علاقتها بالكُل؛ أي بالهيئة الاجتماعية. والنُّظم الاجتماعية الصالحة هي التي تَعرف أحسن من سواها إفسادَ الإنسان وتجريدَه من كيانه المطلق لتمنحه كيانًا نسبيًّا وذاتيةً ضِمْنَ الوَحدة المشتركة، فيعود كلُّ فردٍ لا يعتقد معه أنه واحد، بل جزءٌ من الوَحدة، ويعود معه غير مُحِسٍّ في غير المجموع. ولم يكن المواطن في رومة كايُوس أو لُوسْيُوس، بل كان رومانيًّا، حتى إنه كان يُحبُّ الوطن أكثر من نفسه، وكان رِيغُولُوس يدَّعي أنه قرطاجيٌّ ما صار مالَ سادته، وهو كأجنبي كان يَرفِضُ تبوُّءَ مِقْعدِه في سِنات رومة، فوجب أن يأمره قرطاجيٌّ بذلك، وقد استشاطَ غيظًا عندما أُريد إنقاذُ حياته، وقد فاز فعاد ظافِرًا ليموت شَرَّ موتة، ويلوحُ لي أنه لا يوجد شَبهٌ كبيرٌ بين ريغولوس ومَن نعرف من الرجال.

ويُقَدِّم الإسبارطي بيداريت نفسه ليُقْبَل في مجلس الثلاثمائة فيُرفَض، وينصرف مسرورًا كثيرًا لوجود ثلاثمائة رجل في إسبارطة أفضلَ منه، وأفرِضُه مخلصًا فيما أظهر، ويوجد ما يَحمِل على اعتقاد الأمر كهذا، فذاك هو المواطن.

وكان لامرأةٍ إسبارطيةٍ خمسة أبناء في الجيش، وكانت تنتظر أنباء عن المعركة، وَيفِد إيلوتي،٧ وتسأله عنها وهي ترتجف: أبناؤك الخمسةُ قُتِلوا.

– هل سألتك عن هذا أيها العبد الوغد؟

– لقد انتصرنا.

وتُهْرَع الأمُّ إلى المعبد لتحمَد الآلهة؛ فهذه هي المواطنة.

ومَن يَوَدُّ أن يحتفظ في النظام المدني بصدارة مشاعر الطبيعة فإنه لا يَعْرِف ما يريد؛ فهو إذ يناقض نفسه دائمًا مترجِّحًا بين ميوله وواجباته، فإنه لن يكون رجلًا ولا مواطنًا، ولن يكون صالحًا لنفسه ولا للآخرين، وإنما يكون واحدًا من رجال أيامنا، وإنما يكون فرنسيًّا، إنكليزيًّا، بُرجوازيًّا، ولن يكون هذا شيئًا.

وعلى مَن يَودُّ أن يكون شيئًا، على مَن يَودُّ أن يكون هو إياه، واحدًا دائمًا، أن يفعل كما يقول، أن يُقرِّرَ السبيل الذي يسلكه، أن يتخذه حازمًا وأن يتَّبِعَه دائمًا، وأنتظرُ دلالتي على نادرة الزمان هذا لأعرِفَ هل هو رجلٌ أو مواطن، أو لأعْرِف ما يصنع ليكون هذا وذاك معًا.

وينشأ عن هذه الأغراض المتباينة شكلان للنظام مختلفان، أحدهما عامٌّ مشتركٌ والآخر خاصٌّ أهلي.

وإذا أردتم أن تعرفوا ما التَّربية العامة فاقرءوا جمهورية أفلاطون؛ فهي ليست كتابًا في السياسة مطلقًا، خلافًا لمن يَحكُمون في الكتب بعنوانها، وهي أجمل رسالةٍ وُضعت عن التَّربية.

وإذا أُريد بعثُ أوهامٍ إلى البلد ذُكِرَ نظام أفلاطون، ولو لم يصنع لِيكُورْغُ غير تدوين نظامه كتابةً لوجدتَه أشدَّ وهمًا؛ فأفلاطون لم يفعل غير تصفية قلب الإنسان، وقد أفسده لِيكُورْغ.

وعاد النظام العام غيرَ موجود، وعاد لا يُمكن أن يكون موجودًا؛ وذلك لأنه عاد لا يُمكن وجود مواطنين حيث عاد لا يمكن وجود وطن، ويجب محو كلمتَي الوطن والمواطن من اللغات الحديثة، وأعْرِف سببَ هذا، ولكني لا أريد قوله؛ فليس هذا من موضوعي مطلقًا.

ولا أَعُدُّ نظامًّا عامًّا تلك المؤسسات المضحكة التي تُسمَّى كليات،٨ وكذلك لا أعُدُّ التَّربية الدارجة منه؛ وذلك لأن هذه التَّربية إذ تنزَع إلى غايتَين متباينتَين، لا تُدركهما، وهي لا تصلح لغير صُنْع رجالٍ مُرائين، مُظهِرين دائمًا، أنهم يعيشون في سبيل الآخرين مع أنهم لا يفكِّرون في غير أنفسهم. والواقع أن هذه البيانات، إذ كانت شائعة بين جميع النَّاس، لا تخدع أحدًا، وهي لا تعدو كونها جهودًا ضائعة.

وينشأ عن هذه المتناقضات ما نشعُر به في أنفسنا بلا انقطاع، ونحن إذ نُقاد بالطبيعة وبالرجال على طرُقٍ متباينة، ونحن إذ كُنَّا مُلزَمين بأن نُوزَّع بين هذه العوامل المختلفة، فإننا نتَّبع فيها مُركَّبًا لا يَسُوقنا إلى إحدى الغايتَين أو إلى الأخرى، ونحن إذ كُنَّا مكافَحين مذبذَبين في جميع مجرى حياتنا، فإننا نختمها من غير أن نستطيع مطابقة أنفسنا، ومن غير أن نكون نافعين لأنفسنا وللآخرين.

وأخيرًا تبقى التَّربية الأهلية أو تربية الطبيعة، ولكن ما يكون أمرُ رجلٍ نُشِّئ لنفسه فقط نحو الآخرين؟ لو أمكنَ جمعُ الغرضَين المقترَحَين في واحد بأن تُزال متناقضات الرجل لَأُزيلَ عائقٌ كبيرٌ من سعادته، ويجب للحكم في الرجل أن يُرَى كامل التكوين، فتُلاحَظ ميولُه ويُبصَر تقدُّمه ويُتَّبَع سيرُه، والخلاصةُ أن من الواجب معرفةَ الإنسان الطبيعي، وأعتقد أنه يُسارُ بضع خُطُواتٍ في هذه الأبحاث بعد قراءة هذا الكتاب.

وما علينا أن نفعل لتكوين هذا الرجل النادر؟ كثيرًا، لا ريب، أي أن يُحال دون صُنع شيء، وإذا ما وجبت معاكسة الريح وجب الرَّوْغُ يُمْنَى ويُسرَى، ولكن البحر إذا كان هائجًا وأُريد البقاء في المكان وجب إلقاءُ المِرساة. واحذَرْ أيها الرُّبَّان الشَّاب، أن يَمْلَصَ قَلْسُك٩ أو أن تُجَرَّ مِرساتُك وأن يزوغ مركبك قبل أن تعرف ذلك.

وفي النظام الاجتماعي؛ حيث جميع المواضع مُعيَّنة، يجب أن يُربَّى الرجل لموضعه، فإذا خرج من موضعه فردٌ نُشِّئ لهذا الموضع عاد لا يكون صالحًا لشيء. ولا تكون التَّربية نافعةً إلا عند مطابقة الطالع لإلهام الأبوين، وتكون التَّربية ضارَّةً للطالب في جميع الأحوال الأخرى ولو بسبب ما تمنحه من مُبْتَسَرات. وفي مصر؛ حيث كان الابن مُلزمًا بانتحال حال أبيه، كان للتربية غرضٌ ثابتٌ على الأقل. وأمَّا عندنا؛ حيث المراتب وحدَها قائمة، وحيث النَّاس يُغيِّرونها بلا انقطاع، فإنه لا أحدَ يَعْرِف أنه يعمل ضد ابنه بتنشئته على مرتبته.

والنَّاس في النظام الطبيعي إذ كانوا كلُّهم متساوين، فإن حال الإنسان هو إلهامُهم المشترَك؛ فمَن تُحْسَن تربيتُه لا يستطع أن يصنع سوءًا فيما يُرَدُّ إليه، ولا يهمني كثيرًا أن يميل تلميذي إلى الجيش أو الكنيسة أو الفقه، والطبيعةُ تدعوه إلى الحياة البشرية قبل إلهام الأبوين، والحياة هي المهنة التي أريدُ أن أعلِّمه إياها، وهو إذا ما تخرَّج عليَّ لن يكون كما أضمنُ قاضيًا ولا جنديًّا ولا قسِّيسًا، بل يكون رجلًا أوَّلًا، وكلُّ ما يجب أن يكونه الرجل يتعلَّمه عند الاقتضاء بسرعةٍ كما يكون عليه، ومن العبث أن يحمله النصيب على تغيير موضعه؛ فهو يكون في مكانه دائمًا؛ «فقد علمتُ بأمرك أيها النصيب وحملت على اعتقالك، وقد سددت عليك جميع المسالك التي تستطيع أن تَزْلَقَ منها إليَّ.»

وحالُ الإنسان هو ما يقوم عليه بحثنا، وعندي أن الذي يكون بيننا أحسنَ علمًا باحتمال خير هذه الحياة وشرِّها يكون أحسنَ تنشئة؛ ومِنْ ثَمَّ تقوم التَّربية الحقيقية على التمارين أكثر مما على التعاليم، ونبدأ بتعليم أنفسنا بأن نبدأ بالحياة، وتبدأ تربيتنا معنا، ومُرْضِعُنا هي مُعلِّمتنا الأُولى. وكان لكلمة التَّربية عند القدماء معنًى غيرُ الذي عُدنا لا نُطلِقه عليها؛ فهي تعني الغِذاء، ويقول فارُّون: «إن القابلة تتلقَّى، والمُرْضِعَ تُنشِّئ، والمهذِّب يَفتُق الذهن، والأستاذ يعلِّم.» وهكذا تكون التَّربية والتهذيب والتعليم ثلاثة أمور مختلفة في موضوعها اختلافَ الحاضنة والمُهذِّب والأستاذ، غير أن هذا التفريق غير مُبتغًى، فلا ينبغي للولد أن يتَّبع غيرَ دليلٍ واحد.

ويجب إذن تعميم مقاصدنا، وأن يُرى الرجل المجرد في تلميذنا، الرجلُ المُعرَّضُ لجميع عوارض الحياة البشرية، وإذا كان النَّاس يُولَدون مرتبطين في أرض بلد، وإذا كان عينُ الفصل يدوم في جميع السَّنة، وإذا كان كلُّ واحدٍ يبلُغ من تعلُّقه بنصيبه ما لا يقدر معه على تغييره مطلقًا، فإن العادة القائمة تكون صالحة من بعض النواحي، وإذ إن الولد الذي يُنشَّأ على حرفته لا يخرُج منها مُطلَقًا فإنه لا يُمْكِن أن يكون عُرْضةً لمحاذير حرفة أخرى، ولكنه إذا ما نُظِر إلى تقلُّب الأمور البشرية، وإلى روح هذا العصر المضطربة القلقة التي تَقْلِب كل شيء في كل جيل، فهل من الممكن أن يُتصوَّرَ منهاجٌ أخرَقُ من تنشئة ولد لا يخرُج به من غرفته مطلقًا، ويجب معه أن يُحاطَ بخدمة دائمًا؟ فإذا ما وَطِئَ هذا الشقيُّ الأرض خُطوة، أو نزل درجة، هلكَ، فليس هذا تعليمَه احتمالَ الألم، بل تدريبه على الشعور به.

ولا يُفكِّر الإنسان في غير حِفْظ ولده، وليس هذا كافيًا، فيجب تعليمه حفظَ نفسه رجلًا، واحتمالَ ضربات القدَر، ومجاوزةَ العُسر واليُسر، والعيشَ في جليد أيسلاندة وعلى صخرة مالطة المحرقة. ومن العبث أن تتخذوا من الاحتياطات ما لا يموت معه، فلا بُدَّ من موته مع ذلك، وإذا لم يكن موتُه نتيجةَ عنايتكم فلأن هذه العناية أخطأت غَرَضَها، والمسألة هي أن يُعلَّم ما يُحالُ به دون موته أقلَّ من جعله يحيا، وليست الحياةُ تنفُّسًا، بل سَيْر، بل استعمالٌ لأعضائنا وحواسِّنا وخصائصنا وجميع أجزاء كياننا استعمالًا نشْعُر معه بوجودنا. وليس الرجل الذي عاش أكثر من غيره هو الأكثر عَدًّا للسنين، بل الذي شعر بالحياة أكثرَ من سواه، وقد يُدفَن الرجل ابنًا للمائة مع عَدِّه ميِّتًا منذ ولادته، وكان أصلح له أن يكون قد مات شابًّا لو عاش حتى هذا الدور على الأقل.

وتقوم جميعُ حكمتنا على مُبْتَسَراتٍ دَنِيَّة، وليست جميع عاداتنا غير تسخير وعُسْر وقَسْر، ويُولَد الرجل المدنيُّ ويحيا ويموت في العبودية، وذلك أنه يُخاط في قِماطٍ عندما يُولَد، وأنه يُسمَّرُ في تابوت إذا مات، وأنه يُقيَّد بنُظمِنا ما حافظ على وجهٍ بشريٍّ.

ويُقال إن كثيرًا من القوابل يزعُمْنَ أنهن بِدَلْكِهن رءوس الأطفال المولودين حديثًا يمنحنها شكلًا أكثر ملاءمة فيُسْمَح بذلك! ولذا تكون رءوسنا سيئة التصوير على الوجه الذي يُكوِّنُها به صانعُ وجودنا، فيجب تكييفُها من قِبَل القوابل خارجًا ومن قِبَل الفلاسفة داخلًا؛ ولذا يكون الكرايب أسعد حالًا منها.

«لم يَكَدِ الولدُ يخرُج من بطنِ أمِّه، ولم يَكَدْ يتمتَّع بحريَّةِ الحركةِ ويمُدُّ أعضاءه، حتى يُعطَى قيودًا جديدة؛ فهو يُقْمَطُ ويُضجَعُ مُثبَّتَ الرَّأسِ مُمَدَّدَ الساقين، مُدلَى الذِّراعينِ بجانبِ الجسم، وهو يُحاطُ بالبياضاتِ والعصائبِ من كلِّ نوعٍ إحاطةً لا تسمَحُ له بتغييرِ وضْعِه، وهو يكونُ سعيدًا إذا لم يُشَدَّ شَدًّا يمنعهُ من التنفُّس، وإذا حدَثَ من الحذرِ ما يُضجَعُ معه على الجانبِ حتى يُمكِنَ السائلَ الذي يجري من فمِه أن يَسقُطَ من تلقاءِ نفسِه! وذلك لأنه لا يكون لديه من حريَّةِ إدارةِ الرأسِ ما يَسْهُل به جريانه.»

ويحتاجُ المولودُ حديثًا إلى مَدِّ أعضائهِ وتحريكِها إنقاذًا لها من الخَدَرِ الذي يستمرُّ زمنًا طويلًا عن جمْعِها ضِمنَ لِفَافة. أجَلْ، إنها تُمَد، ولكنها تُمنَعُ من الحركة، حتى إن الرأس يُقيَّدُ بِكُمَّة،١٠ فيلوح أنه يُخشَى ظهورُه ذا حياة.
وهكذا فإن اندفاع أجزاء البدن الداخلية التي تميل إلى النموِّ يجدُ عائقًا منيعًا للحركات الضرورية، ولا ينفكُّ الولدُ يأتي جهودًا غيرَ مُجدية تستنفد قواه أو تؤخِّر تقدُّمها، وقد كان في السَّلَى١١ أقلَّ ضِيقًا وعُسْرًا وضغطًا مما ضِمْن بياضاته، ولا أرى ماذا رَبِح من ولادته.
ولا يؤدِّي الجمود والقَسْر اللذان تُمسَك أعضاءُ الولد بهما إلى غير عَوْق دَوْرة الدم والأخلاط، ومنع الولد من التقوِّي والنمو، وإلى غير الإضرار ببُنيته. ويكون النَّاس في جميع الأمكنة التي لا تُتَّخَذ فيها هذه الاحتياطات الطائشة مطلقًا، طِوالًا أقوياء حَسَني التناسب، وتكون البلاد التي يُقمط فيها الأولاد بلادًا يَكثُر فيها الحدْبُ والعُرْج والفُلْج١٢ والقُفْد١٣ وجميع أنواع الشُّوه من النَّاس، ويُبادَر إلى تشويه الأجسام بضغطها خشية أن تُشوَّه بالحركات الطليقة، وهي تُجعَل شُلًّا ليُحالَ دون خَبَلها!١٤

ألَا يؤثِّر القَسْرُ البالغُ هذه الدرجةَ من القسوةِ في مِزاجهم، كما يؤثِّر في بُنيَتهم؟ يقوم إحساسُهم الأوَّل على شعورٍ بالألم والَغم، ولا يجدون غير عوائقَ في جميع ما يحتاجون إليه من حركات، وهم إذ يكونون أشقى من الجاني الموثَقِ بالقيود، فإنهم يَبذُلون جهودًا على غير جدوى، فيغضبون ويصرخون، ألَا ترون أن أصواتهم الأُولى دموع؟ أعتقد هذا جيِّدًا، وذلك أنكم تصدونهم منذ ولادتهم، والقيود هي أُولى العطايا التي يتلقونها منكم، والأوجاع هي أوَّل ما يبتلون من معاملات، والصوت هو كل ما عندهم من أمرٍ حُر، فكيف لا يستعملونه إعرابًا عن توجُّعهم؟ أجل، إنهم يصرخون من الألم الذي توجبونه فيهم، ولو قُيِّدتم مثلهم لكان صراخكم أشدَّ من صُراخهم.

وما مصدرُ هذه العادة المخالفة للصواب والمضادة للطبيعة؟ لم تُرِد الأمهات إرضاع أولادهن منذ ازدرائهن واجبهن الأوَّل، فوجب تفويضُ أمرهم إلى نساء مرتزقات يَجِدن أنفسهن أمهاتٍ لأولادٍ غرباء غير مرتبطات فيهم بروابط الطبيعة، فلا يحاولن غيرَ دفع التعب عنهن، وتقضي الضرورة بتعهد ولد طليق، ولكن هذا الولد إذا ما كان مُوثَقًا جيِّدًا أُلقي في زاويةٍ من غير أن يُبالَى بعويله، وما أهمية هلاك الرضيع أو بقائه عليلًا في بقية أيامه ما فُقِدَ الدليل على إهمال المُرضِع، وما دام الرضيع لا يَكسِر ساقه أو ذراعه؟ تُحفَظُ أعضاؤه على حسب بدنه، وتُبرَّأ المُرضِعُ مهما وقع.

وهل تَعرِف هؤلاء الأمهاتُ الناعمات، اللائي تَخلَّصْن من أولادهن فَرِحاتٍ مُسْلِماتٍ أنفسَهن إلى ملاهي المدينة، ما يُعامَل به الولد في قِمَاطه في القرية؟ إذا ما طرأ على المُرضِع أقلُّ عملٍ عُلِّقَ الولدُ في مِسمارٍ كصُرَّة ثياب، وبينا تقوم المُرْضِع بأعمالها من غير استعجال يبقى الطفلُ التَّعِس مصلوبًا هكذا. وكانت وجوه جميع مَن وُجدوا في هذا الوضع بنفسجيةَ اللون، وإذ كان الصدرُ المضغوط على هذا الوجه لا يَدَعُ الدم يَسرِي فإن الدم يصعد في الرأس، ويُعَدُّ الولد المتوجِّعُ هادئًا جِدًّا ما خلا من القدرة على الصُّراخ، وأجْهل مقدارَ الساعات التي يستطيع الولد أن يبقى بها في هذه الحال من غير أن يَفقد حياته، ولكنني أشكُّ في دوام هذا زمنًا طويلًا، وأرى أن هذا من أعظم منافع القِماط.

ويُزعَمُ أن الأولاد إذا كانوا طُلَقاء أمكَن أن يتخذوا أوضاعًا سيئة، وأن ينتحلوا من الحركات ما يمكن أن يؤذي حسنَ تكوين أعضائهم؛ فهذا هو برهانٌ فارغٌ من براهين حكمتنا الفاسدة التي لا تؤيِّدُها أية تجرِبة كانت، ولا يُرى بين جَمْع الأولاد الذين هم في أممٍ أرصنَ مِنَّا، فيُرضَعون مع حريةٍ جامعةٍ لأعضائهم، واحدًا يَضُرُّ نفسه أو يخبُلُها، وهم لا يُمكِن أن يَمنحوا حركاتِهم من القوة ما يجعلها خَطِرة، وهم إذا ما اتخذوا وضعًا عنيفًا أنذرهم الألمُ بضرورة تغييره حالًا.

ولمَّا يَعُنَّ لنا أن نضعَ في القِماط صغارَ كلابنا وسنانيرنا، فهل يُرى أنه أصابها سوءٌ من هذا الإهمال؟ أوافق على أن الأولاد أكثرُ ثِقَلًا، ولكنهم أشدُّ ضَعْفًا بهذه النسبة، وكيف يَخبُلُون إذا ما كادوا يتحركون؟ إذا ما أُلقُوا على ظهورهم ماتوا على هذا الوضع، كالسُّلحفاة، عاجزين عن التقلُّب مطلقًا.

وإذ لم يَرضَ النساء بانقطاعهن عن إرضاع أولادهن، فإنه ينقطعن عن الرغبة في عمل هذا، والنتيجة أمرٌ طبيعي، وذلك أن الأمومة إذ كانت عبئًا ثقيلًا فإنه يُوجد في الحال من الوسائل ما يُتخَلَّصُ به منها تمامًا، ويُراد إتيانُ عملٍ غيرِ مُجْدٍ استئنافًا له دائمًا، فيُحوَّل التَّوَقانُ إلى تكثير النوع بما يضرُّه، فإذا أُضيفت هذه العادة إلى أسباب نقص السكان الأخرى، أُنبِئنا بمصير أوروبة القريب. ولن يُعتِّم ما توجبه من العلوم والفنون والفلسفة والطبائع أن يجعل منها بَلقعًا، فتُعمَرُ بالضواري، ولا تكون بهذا قد استبدَلَتْ سكانًا بسكان كثيرًا.

وقد لاحظتُ في بعض الأحيان حيلةَ صُغريات النساء اللاتي يتظاهرن بالرغبة في إرضاع أولادهن، وذلك أنهن يَفعلن ما يُحمَلن به على العدول عن هذا المراد بتدخُّل الأزواج والأطباء،١٥ ولا سيَّما الأمهات، وذلك أن الزوج الذي يكون من الجرأة ما يوافق معه على إرضاع الأم لولدها يَهْلِك، وأن مَن يودُّ أن يتخلَّى عنها يُعدُّ قاتلًا؛ فعلى الأزواج الفُطْن أن يُضَحُّوا بالحبِّ الأبوي من أجل السلام، ومن حسن الحظِّ أن يوجد في الأرياف نساءٌ أكثرُ عفافًا من نسائكم! وأحسنُ حظًّا من ذلك أن يكون الوقت الذي يظفَر به هؤلاء غيرَ مُعَدٍّ لآخرين سواكم.

ولا مراءَ في واجب النساء، ولكنه يُجادَل، عند ازدرائهن لهذا الواجب، في هل يتساوى لدى الأولاد أن يُرضَعوا من لبنهن أو من لبنٍ آخر؛ فهذه مسألةٌ يقضي فيها الأطباء وَفْقَ رغبة النساء، وأمَّا أنا فأرى أنه يَجدُر بالولد أن يمتصَّ لبنَ مُرضِعٍ ذات صحة، لا لبنَ أمٍّ فاسدة، إذا كان عليه أن يخشى شرًّا جديدًا من عينِ الدَّم الذي صُوِّرَ منه.

ولكن هل يجب أن يُنظَر إلى المسألة من الناحية البدنية فقط؟ وهل الولدُ أقلُّ احتياجًا إلى عناية أمٍّ مما إلى ثديها؟ يُمكِن نساءً أُخَرَ وحيواناتٍ أيضًا، أن تعطيه اللبنَ الذي تبخل به عليه، ولكن لا شيءَ يقوم مقام عطف الأم، وتُعَدُّ الأم التي أرضعت الولدَ من ثدي أخرى بدلًا من ثديها أُمًّا فاسدة؛ فكيف تكون مُرْضِعًا صالحة؟ يمكنها أن تكون هكذا، ولكن على مَهْل، ويجب أن تُغيِّرَ العادة الطبيعة، ويكون لدى الولد السيئ الرعاية من الوقت ما يَهْلِك فيه مائة مرةٍ قبل أن يكون لدى مُرْضِعه حنانُ الأم.

وينشأ عن هذا الخير نفسِه محذورٌ يكفي وحدَه لأن ينزِع من كلِّ امرأة جرأةَ إرضاع ولدها من قِبَل امرأة أخرى، وذلك هو اقتسام حقوق الأم، وإن شئتَ فقُل نَقلَ هذه الحقوق، وذلك أن ترى المرأةُ ولدَها يُحِبُّ امرأةً أخرى كما يحبُّها وأكثرَ مما يحبُّها، وذلك أن تشعُرَ بأن العطفَ الذي يحفظه لأمِّه الخاصةِ هو لطف، وبأن العطفَ الذي يحمله لأمِّه المنتَحَلَةَ هو واجب، وذلك ألا أُلزَم بُحبِّ ابنٍ حيث وجدتُ عنايةَ أم؟

ويقوم الوجه الذي يُعالَج به هذا المحذورُ على تلقينِ الأولادِ ازدراءَ مَراضعهم بأن يُعامَلن كخادمات حقيقيات، فإذا ما أكمَلنَ خدمتهن استُخلِص الولد، أو سُرِّحَت المُرْضِع، وتُرَدُّ المُرضِع من رؤية الرضيع بسوء استقبالها، فإذا مضت بضعُ سنين عاد لا يراها وعاد لا يَعْرِفها، وتَغُرُّ نفسَها الأمُّ التي تعتقد أنها تقوم مقامها وتتلافى إهمالها بغلظتها؛ فهي تُعوِّد الرضيع الفاسد إنكار الجميل بدلًا من أن تجعل منه ابنًا عطوفًا، وهي تعلِّمه أن يزدري ذات يومٍ تلك التي ولدته كازدرائه التي أرضعته من لبنها.

وما أكثر ما أُوَكِّد هذه النقطة لو كانت أقلَّ تثبيطًا في تكرار موضوعات مفيدة على غير جدوى! يتوقف هذا على أمور أكثر مما يُظَن، أَوَتريدون رَدَّ كلِّ واحدٍ إلى واجباته الأُولى؟ ابدءوا بالأمهات، فستَحَارون من التحولات التي تُحْدِثونها، وكلٌّ يأتي من هذا الفساد الأوَّل بالتعاقب، ويَفسُد جميعُ النظام الخلقي، وينطفئ الطبيعيُّ في جميع الأفئدة، ويتخذ داخل البيوت شكلًا أقل حياة، ويعود منظر الأسرة الناشئة المؤثِّر غير جامع بين الزوجين، غيرَ فارض رعايةً للغرباء، ويقلُّ احترام الأمِّ التي لا يُرى أولادها، ولا يكون في الأُسَرِ مقرٌّ مطلقًا، وتعود العادة غيرَ مقوِّية لروابط الدم، ويعود الآباء والأمهات والأولاد والإخوة والأخوات غيرَ موجودين، ولا يكاد الجميع يتعاشرون، فكيف يتحابُّون؟ ويعود كلُّ واحدٍ لا يفكِّر في غير نفسه، ومتى عاد البيت لا يكون غير مكانٍ كئيبٍ للعزلة وجب البحث عن المسرَّة في مكان آخَر.

ولكن لِتتفضَّلِ الأمهاتُ بإرضاع أولادهن، وهنالك تَصلُح الأخلاقُ من تلقاء نفسها، وتنتبه مشاعر الطبيعة في القلوب، وتُعْمر الدولةُ ثانية، وتَجمع هذه النقطةُ الأُولى، هذه النقطةُ الوحيدة، كلَّ شيء. فجاذبيةُ الحياة المنزلية هي أحسن تِرياقٍ للعيب، ويَغْدو ضجيجُ الأولاد الذي يُظَنُّ أنه مُزعجٌ أمرًا مستحبًّا، وهو يجعل الأب والأمَّ أكثرَ لزومًا، ويجعل أحدهما أكثرَ قيمةً لدى الآخر، ويشُدُّ الرابطة الزوجية بينهما، ومتى كانت الأسرة حيَّةً ذاتَ نشاطٍ صارت رعاية المنزل أعزَّ عملٍ تقوم به المرأة وأحلى لهوٍ يتمتع به الزوج، وهكذا ينشأ من تقويم سوء واحدٍ كهذا إصلاحٌ عامٌّ حالًا، فلا تلبث الطبيعة أن تستردَّ جميع حقوقها، ومتى عاد النساء يكنَّ أمهاتٍ مرةً لم يُعتِّم الرجال أن يكونوا آباءً وأزواجًا.

كلامٌ فارغٌ! لا يَرُدُّ حتى سَأَمُ ملاذِّ العالَم إلى تلك مطلقًا؛ فقد انقطع النساء عن كونهن أمهات، وعُدْن لا يكُنَّ هكذا، وصِرْن لا يُرِدْن هذا، ومتى أرَدْنه لم يكَدْن يقدِرْن عليه، واليوم إذا قامتِ العادة المعاكسة ناهضَ كلٌّ منهن معارضةَ جميع اللائي يقتربن منها متحالفاتٍ ضِدَّ مثالٍ لم يُعطِه بعضُهن ولم يرغب الأخريات في اتِّباعه.

ومع ذلك يوجد أحيانًا فتياتٌ ذواتُ صلاحٍ طبيعي، يجرُؤْن، من هذه الناحية، على اقتحام ما لِهَوَى جنسهنَّ وضوضائه مِن سلطان، فيقُمْن عن إقدامٍ نقي، بهذا الواجب البالغ الحلاوة الذي تَفرضه الطبيعة عليهن، وهل يمكن أن يزيد عددهن عن جاذبية المحاسن المقدَّرة لِمَن يُقبِلْنَ عليها؟ أستند إلى نتائج ناشئة عن أبسط استدلال، وإلى ملاحظاتٍ لم أرَ تكذيبًا لها قَط، فأبشِّرُ هؤلاء الأمهات الفاضلات بولعٍ مكينٍ ثابتٍ من قِبَل أزواجهن، وبعطفٍ بَنويٍّ حقيقيٍّ من قِبَل أولادهن، وبتقديرٍ واحترامٍ من قِبَل الجمهور، وبنفاسٍ سعيدٍ بلا مكروهٍ ولا سوءِ عاقبة، وبصحة قوية متينة، ثُمَّ بنعمةِ رؤيتهنَّ بناتهنَّ يقتدين بهنَّ ذات يوم، فيُورِدنهنَّ قدوةً لبنات أُخريات.

لا ولدَ، لا أمَّ؛ فالواجباتُ بينهما متبادَلة، وإذا ما تمَّ القيامُ بها من طَرَفٍ قيامًا سيِّئًا أهْملَها الطَّرَفُ الآخر، ويجب أن يحترم الولد أمَّه قَبْلَ أن يَعْرِف وجوب هذا، وإذا لم يُقوَّ حنان الدم بالعادة وبالعناية خَمَدَ في السِّنين الأُولى ومات القلبُ قبل أن يُولَد، وهكذا نخرُج عن الطبيعة منذ الخطوات الأُولى.

وكذلك يُخْرَج منها عن طريقٍ معاكس، وذلك عندما تُفْرِط الأمُّ في العناية بدلًا من إهمالها، وذلك عندما تجعل من ولدها معبودًا لها، وذلك عندما تبلُغ من زيادة ضعفه وإنمائه ما تَحُول معه دون شعوره به، وذلك أنها إذ ترجو إنقاذَه من سُنن الطبيعة تُبْعِدُ عنه ما شقَّ من التجارِب، غير مُفكِّرةٍ في مقدار ما تجمَع من حوادث وأخطارٍ تقع على رأسه في المستقبل في مقابل معاسِرَ قليلة تقيه منها لوقتٍ قصير، وغير مُفكِّرةٍ في مقدار ما تنطوي عليه من حذرٍ جافٍ إطالةُ ضعف الطفولة تحت متاعب إنسان نامٍ. وتقول القصة إن تِيتِس أرادت جعْلَ ابنها غير قابل للجَرح، فغطسته في ماء ستيكس، وهذا الرمزُ رائعٌ واضح، وعكس هذا ما يصنع الأمهات الجافيات اللائي أتكلم عنهن؛ فهن إذ يغمُرن أولادهن في الترف يُعدِدنهم للألم، وهن يفتحن مسامَّهم لكلِّ ضرر لا يفوتهم أن يذهبوا فريسته عندما يكبرون.

ولاحظوا الطبيعة، واتَّبِعوا الطريق التي ترسُمها لكم، فهي تُمرِّن الأولاد دائمًا، وهي تقوِّي مِزاجهم بمحنٍ من كلِّ نوع، وهي تُعلِّمُهم ما الألم وما التعب باكرًا، وتؤدي الأسنان التي تطلُع إلى الحُمَّى فيهم، ويؤدي المَغْصُ الحادُّ إلى تشنُّجات فيهم، ويختنقون بالسعال الطويل، وتؤذيهم الديدان، وتُفسد الأخلاط دمَهم، وتتخُّ فيه خمائرُ شتَّى فتوجب بثورًا خطِرة، ويُعدُّ دَورُ الطفولة دَوْرَ المرض والخطر تقريبًا، ويَهلِك نصفُ الأولاد قبل بلوغهم الثامنة من سنيهم، ومتى تمَّت التجارِب اكتسب الولدُ قُوًى، ومتى استطاع الولد أن ينتفع بالحياة كان مبدؤها أكثر ضمانًا.

هذه هي قاعدة الطبيعة، فلِمَ تعاكسونها؟ ألَا ترون أنكم بتفكيركم في إصلاحها تقضُون على عملها وتَحُولون دون فعل عنايتها؟ وعندكم أن ما يُصْنَعُ في الخارج مماثِلًا لِما تَصنَع في الداخل ينطوي على مضاعفة الخطَر، وأن اجتنابها ينطوي على العكس؛ أي على إزاحة الخطر، وتدلُّ التجرِبة على أن نسبة موت الأولاد الذين يُنشَّئون تنشئةَ رفاهٍ أعظمُ من نسبة موت غيرهم، ويكون الخطر في استعمال قواهم أقلَّ من مداراتها، على ألَّا يُجاوَز معدَّل طاقتها، فمرِّنوهم إذن على الإصابات التي سيعانونها يومًا ما، وعوِّدوا أجسامهم احتمالَ تقلباتِ الفصولِ والجِواءِ والعناصر، والصبرَ على الجوع والعطش والتعب، واغْطِسوهم في ماء ستيكس، ويُلقَّى الجسم ما يُراد من عادةٍ بلا خَطَر قبل أن يكتسب عادته، ولكن الجسم إذا ما نال صلابته صار كل تغييرٍ فيه أمرًا خَطِرًا؛ فالولد يُطيقُ من التحولات أكثر مما يطيق الرجل، وذلك أن ألياف الولد إذ كانت لينةً مرنةً فإنها تكتسب ما تُعطاه من ثني بلا جُهد، وأن ألياف الرجل إذ كانت أشدَّ تصلُّبًا فإنها لا تُغيِّر الثني الذي اكتسبته إلا بعنف؛ ولذا يُمكِن جعل الولد عُصْلُبيًّا من غير أن تُعرَّض للخطر حياته وصحته، حتى إنه لو وُجِدَ مِثْلُ هذا الخطر وجب ألَّا يُؤبَه له، وبما أن هذه الأخطار ملازمة للحياة البشرية أفلا يوجَدُ ما هو أفضل من مواجهتها في وقتٍ توجب فيه أقلَّ ما يمكن من ضرر؟

ويصبح الولدُ أكثرَ قيمةً كلَّما تقدَّم في السِّن، وذلك أنه يُضاف إلى قيمةِ شخصٍ قيمةُ العناية التي مُنِحَها، ويُضاف إلى ضَياع حياته ما فيه من شعورٍ بالموت؛ ففي المستقبل على الخصوص إذن يجب أن يُفكَّر عند السَّهر على سلامته، وضدَّ أمراض الشباب ما يجب تسليحه قبل وصوله إليه. فإذا كان ثمن الحياة يزيد على السِّنِّ التي تصبح فيها نافعةً فما أشد الحماقة في وقايته من بعض أمراض الطفولة زيادةً لهذه الأمراض في سنِّ الرشد! وهل هذه هي دروس المُعلِّم؟

قُدِّر على الإنسان أن يألمَ في جميع الأزمنة، حتى إن العناية بسلامته مرتبطةٌ في الألم، ومن سعادته أنه لا يَعْرِف في طفولته غير الأمراض البدنية، هذه الأمراض التي هي أقلُّ من الأخرى قسوةً وألمًا، والتي يَندُر أن تدفعنا إلى ترك الحياة! فالإنسان لا يقتل نفسه نتيجة لآلام النقرس مطلقًا، ولا يوجد غيرُ آلام النفس ما يؤدي إلى اليأس، ونحن نتوجَّع لِنَصيب الطفولة، ونصيبُنا هو ما يجب أن نتوجَّع له، فأعظمُ أمراضنا تصدُر عنَّا.

والولد إذا ما وُلِدَ صاح، وتمُرُّ طفولته الأُولى في البكاء، والولد يُهَزْهَز أو يُلاطَف تارةً ليُسكَّن، ويُهدَّد أو يُضرَب تارةً أخرى ليُسَكَّت، ونحن إمَّا أن نفعل ما يروقه، وإمَّا أن نطالبه بما يروقنا، وإمَّا أن نخضع لأهوائه، وإمَّا أن نُخضِعه لأهوائنا، ولا وَسَط؛ أي إمَّا أن يُلقِيَ أوامر، وإمَّا أن يتلقَّى أوامر. وهكذا فإن أفكاره الأُولى أفكارُ سيطرةٍ أو أفكارُ عبودية، والولد يأمر قبل أن يَعرِفَ الكلام، والولد يُطيع قبل أن يستطيع العمل، والولد يجازَى أحيانًا قبل أن يُمكِنه معرفة ذنوبه، وإن شئت فَقُل قبل أن يقدِر على اقترافها. وهكذا فإنه يُصَبُّ في قلبه الفتيِّ من الإحساسات باكِرًا، ما يُعزَى إلى الطبيعة فيما بعد، وإنه يُتوَجَّع من كونه شَرِيرًا بعد أن بُذِل جهدٌ في جعله على هذه الحال.

وهكذا يَقْضِي الولدُ ستَّ سنين أو سبعَ سنين بين أيدي النساء اللائي هنَّ ضحيةُ هواهن وهواه، والولدُ بعدَ أن يُعلَّم هذا وذاك؛ أي بعد أن تُشحَن ذاكرتُه بكلماتٍ لا يستطيعُ فهْمَها، أو بأمورٍ ليست صالحةً له قطْعًا، والولدُ بعد أن يُطْفَأ الطبيعيُّ فيه بشهواتٍ مُحْدَثة، يُوضَع هذا الموجودُ المصنوعُ بينَ يدَي مُعلِّمٍ يُتِمُّ إنماءَ البذورِ المصنوعةِ التي يَجِدُها مُكوَّنةً فيه سابقًا، فيُعلِّمه كلَّ شيءٍ خلا معرفةَ نفسِه، خلا الانتفاعَ بنفسه، خلا عِلمَ السلوكِ ونيلَ السعادة. وأخيرًا، عندما يُلْقَى في العالَمِ هذا الولدُ العبدُ والطاغية، والمملوءُ عِلمًا والمُجرَّدُ من الإدراك، والضعيفُ جسْمًا وروحًا، دالًّا على عَجْزهِ وزَهوهِ وجميعِ عيوبه، يُوجِبُ رثاءً لبؤسِ النَّاسِ وفَسادِهم، ونحن على خطأٍ في هذا؛ فذاك رجلُ أهوائنا، ويكون رجلُ الطبيعةِ على خلافِ ذاك.

أَوَتريدون إذن أن يُحافِظَ على شَكْلهِ الأصْلي؟ حَافِظوا على هذا الشكلِ منذ ولادتِه، فإذا جاء إلى الدنيا فاقْبِضوا عليه، ولا تتركوه حتَّى يُصْبحَ رَجلًا، ولن تنجحوا بغيرِ هذا مطْلقًا. وكما أن المُرضِعَ الحقيقيةَ هي الأم، فإن المُعلِّمَ الحقيقيَّ هو الأب، وليتفِقا في نِظامِ واجباتِهما كما في مِنْهاجِهما، ولْيَتضافَرا على هذا؛ فهو يكونُ أفضلَ تنشِئةً على يدِ أبٍ عاقلٍ محدودٍ مما على يدِ أمهرِ مُعلِّمي العالَم؛ وذلك لأن قيامَ الغَيْرةِ مقامَ النُّبوغِ أحسنُ من قيامِ النُّبوغِ مقامَ الغَيْرة.

ولكن الأشغالَ والوظائفَ والواجبات … آه! الواجِبات! واجبُ الأبِ آخِرُ الواجباتِ لا ريب!١٦ لا نعجبُ من استخفافِه بتنشئةِ الولدِ بعد أن نرى استخفافَ زوجتِه بإرضاعِ هذا الذي هو ثمرةُ قِرانِهما. لا توجد صورةٌ أدعَى إلى الفُتُون من صورةِ الأُسْرة، ولكنَّ خطًّا ناقصًا يُشوِّه جميعَ الخطوطِ الأخرى، وإذا كانت الأمُّ من قلَّةِ الصِّحةِ ما لا تكونُ معه مُرضِعًا؛ فإن الأبَ من كثْرةِ الأعمالِ ما لا يكونُ معه مُعلِّمًا. ويجِدُ الأولادُ البُعداءُ الموزَّعون في المدارسِ الداخليةِ والأديارِ والكلياتِ حُبَّ المَنزلِ الأبوي في مكانٍ آخَر، أو الأحرى أن يُقال إنهم يَرجِعون إلى هذا المنزلِ حاملين عادةَ عَدمِ الارتباط في شيء. ولا يكادُ الإخوةُ والأخواتُ يتعاشرون، ومتى اجتمعَ هؤلاء كلُّهم في احتفالٍ أمكنَ أن يكونوا مهذَّبِين نحوَ بعضِهم بعضًا، متعاملين تَعامُلَ الغرباء، ومتى عادَ لا يكونُ بين الأقرباءِ أُلْفة، ومتى عادَ مجتمعُ الأُسْرةِ لا يُنعِم بلطفِ الحياة؛ نُشِدَ سيِّئُ الأخلاقِ ليقومَ مقامَ ذلك، وأين الرجلُ الذي يكونُ من البلاهةِ ما لا يَرَى معه سلْسلةَ جميعِ هذا؟

والأبُ إذا ما أَنْسَلَ أولادًا وغَذَّاهم لم يأتِ بهذا غيرَ ثُلثِ عملِه، وهو مَدينٌ برجالٍ لنوعِه وبرجالٍ سَهْلِي الأُلْفةِ للمجتمعِ وبمواطنين للدولة. ويُعدُّ مُذنبًا كلُّ رجلٍ يستطيعُ تأديةَ هذا الدَّيْنِ الثلاثيِّ ولا يَصْنع، وقد يكونُ أشدَّ ذَنْبًا إذا أدَّاه نصفَ تأدية. ومَن لم يَقْدِر على القيامِ بواجباتِ الأبِ لم يَحِقَّ له أن يكون أبًا على الإطلاق، ولا يوجدُ فقْرٌ ولا عملٌ ولا حياءٌ يُعفي الأبَ من إعاشةِ أولادِه وتَنشِئتِهم بنفسِه. فيا أيُّها القراء، يمكنكم أن تُصدِّقوني، وذلك أنني أُنبِئ كلَّ مَن يحملُ حُبًّا أبويَّا فيُهمِل هذه الواجباتِ البالغةَ القداسةِ بأنه سيبكي بكاءً مُرًّا زمنًا طويلًا لِما اقترفَ من إثم، ولن يجدَ في هذا ما يُسْلِيه أبدًا.

ولكن ما يصنعُ هذا الرجلُ الغني، هذا الربُّ للأُسرةِ الشَّغَّالُ المضطر، على زعمه، إلى إهمالِ أولادِه؟

هو يؤدي أجرًا إلى رجلٍ آخَر ليقومَ مقامَه في هذه العنايةِ المُلقاةِ على عاتقِه. فيا أيُّها الروحُ المِطْمَاع، أَوَتعتقدُ أنك تُنْعِم على ابنِك بأبٍ آخَرَ بالمال؟ لا تُخادِع نفسَك مطلقًا؛ فليس مُعلِّمًا ذاك الذي تعطيه إياه، بل أجيرٌ لا يَلْبثُ أن يجعلَ منه خادِمًا مِثْله.

ويُبَرهَنُ كثيرًا حولَ صفاتِ المُربِّي الصالح، وأُولَى الصِّفاتِ التي أُطالِبه بها هي التي يُقدِّرها فيه كثيرون غيري، وهي ألَّا يكون رجلًا يُباعُ مُطْلقًا، ويوجد كثيرٌ من المِهَنِ الشريفةِ التي لا تُمارَسُ بالمالِ إلا لنبدوَ غيرَ أهلٍ في القيامِ بها، كمهنةِ رجلِ الحربِ، ومهنةِ المُربِّي.

– ومَن يُنَشِّئُ وَلَدِي إذن؟

– أنت كما قلتُ لك.

– لا أستطيعُ هذا.

– لا تستطيعَ هذا؟ فاجْعَلْ لِنفسِك صديقًا إذن، ولا أرى وسيلةً أخرى.

مُرَبٍّ! يا له من روحٍ عالٍ! حقًّا أنَّ تكوينَ الرَّجُلِ يَستلزِمُ وجودَ أبٍ أو مَن هو أكثرُ من رَجُل؛ فهذا هو الواجبُ الذي تُفوِّضونَه إلى مرتزقةٍ بسكُونٍ.

وكلَّما فُكِّرَ في ذلك شُعِرَ بمصاعبَ جديدة، ومما يجبُ وقوعُه أن المُرَبِّي قد نُشِّئ من أجْلِ تلميذه، وأن يكون خَدَمه قد نُشِّئوا من أجْلِ سيِّدِهم، وأن يكون جميعُ مَن يَدنون منه قد تَلقَّوا من الانطباعاتِ ما يوصِّلونه إليه، وأن يُنقَلَ من تربيةٍ إلى تربيةٍ حتى يُرتقى إلى حيثُ لا أدري، وكيف تُحسَنُ تنشِئةُ ولدٍ من قِبَلِ مَن لم يكن قد نُشِّئَ تنشئةً حسنة؟

وهل يَعِزُّ وجودُ هذا الرجلِ النَّادر؟ أجهَلُ هذا، ومَن يَعْرِفُ في أزمنةِ الانحطاطِ هذه دَرجَةَ الفضيلةِ التي يُمكِنُ أن يبلُغَها رُوحُ الإنسان؟ ولكن لِنَفْرِضْ أن هذا النادرَ قد وُجد، فسنرى ما يجبُ أن يكونَه عند النظرِ إلى ما يجبُ أن يَعْمَل. وكلُّ ما أعتقدُ أنني أرى مُقدَّمًا هو أن الأبَ الذي يُحِسُّ ما يُكلِّفُه المربِّي الصالحُ يميلُ إلى الاستغناءِ عنه؛ وذلك أنه يلاقي من المشقَّةِ في الحصولِ عليه ما هو أعظمُ من أن يَكُونه بنفسه، أو يريدُ أن يُصبحَ صديقًا؟ فليُنشِّئ ابنَه ليكونَه، وها هو ذا قد أُعفيَ من البحثِ عنه في مكانٍ آخَرَ ما دامتِ الطبيعةُ قد قامت بنصفِ العمل.

ووُجد رجلٌ لا أعْرِفُ غيرَ مَرتبتِه كان قد عَرَضَ عليَّ أن أُربِّي ابنَه، وقد حباني بشرفٍ كبيرٍ لا ريب، ولكن يجِبُ أن يرضَى عن حَذَري بدلًا من أن يتوجَّعَ مِن رَفْضي؛ وذلك أنني لو كنتُ قد رَضيتُ بما عَرَض فضللْتُ في منهجي لكانت التَّربيةُ ناقصة، وأنني لو وُفِّقْتُ لكان هذا شرًّا من ذاك لِما يقَعُ من إنكارِ ابنهِ لِلَقَبِهِ وعُزُوفِه من أن يكونَ أميرًا.

وأجِدُني كثيرَ الإدراكِ لأهميةِ واجباتِ المُرَبِّي، وأجِدُني كثيرَ الشعورِ بقصوري؛ فلا أَقْبَلُ مِثلَ هذا العملِ مهما كان مقامُ الذي يَعرِضُه عليَّ، حتى إنه لا يكون لعاملِ الصداقةِ عندي غيرُ سببٍ جديدٍ للرَّفْض، وأعتقد أن أناسًا قليلين سيقومون بمثلِ هذا العَرْضِ عليَّ بعدَ قراءةِ هذا الكتاب، فأرجو ممن يُمكِن أن يكونَ من هؤلاء ألَّا يُحَمِّل نفسَه هذا العَناءَ على غيرِ جَدْوى. ومما حدثَ أن قُمتُ بتجرِبةٍ كافيةٍ في هذه المهنةِ سابقًا؛ وذلك لأستيقِنَ أنني غيرُ أهْلٍ لها، وأن أحوالي تُعفيني منها حتى عند استعدادي لها، وقد رأيتُ لِزامًا عليَّ أن أقومَ بهذا التصريحِ العامِّ تجاه مَن يَبْدُون أنهم يبخلون عليَّ بمقدارٍ من التقديرِ ما يعتقدون معه إخلاصي وعَزْمي في مقاصدي.

وإذا كنتُ غيرَ قادرٍ على القيامِ بأنفعِ الأعمال فإنني أجْرُؤ، على الأقل، على محاولةِ القيامِ بالأسهل؛ وذلك أنني أسيرُ على غِرَارِ أُناسٍ كثيرين غيري، فلا أقبِضُ على العمل، بل على القلم، وأنني أجِدُّ في قولِ ما يجبُ بدلًا من فِعْله.

وأعلمُ أن المؤلِّف في مشروعاتٍ مماثلةٍ لذلك، يكونُ على رِسْلِه دائمًا في مناهِجَ يُعْفَى من وضْعِها موضعَ العمل، فيُبرِز من غيرِ جُهدٍ كثيرًا من المبادئ الرائعةِ التي يتعذَّر اتِّباعُها، حتى إن ما يقولُ بإمكانِ العملِ به يَبقى مُهْملًا عند عدمِ بيانِ وجهِ تطبيقه، وذلك عن نقصٍ في التفصيلِ والأمثلة.

وأكونُ إذَن قد التزمتُ جانبَ اتخاذِ تلميذٍ خياليٍّ مُفترِضًا السِّنَّ والصحةَ والمعارفَ وجميعَ الأهلياتِ المناسبةِ لتربيتِه وقيادتِه منذُ ولادتِه إلى الحينِ الذي يصبحُ فيه رجلًا لا يحتاجُ إلى دليلٍ غيرِ نفْسِه. ويبدو لي هذا المنهاجُ نافعًا في منْعِ المؤلفِ الذي يَحذَره من الضلالِ في رُؤًى؛ وذلك أنه إذا ما ابتعدَ عن التعامُلِ المعتادِ لم يكن عليه غيرُ اختبارِ منهاجِه في تلميذه، فلم يلبثْ أن يَعْلَم — أو يَعْلَم القارئُ نيابةً عنه — هل يَتتبَّعُ تقدُّمَ الصَّبيِّ وسَيْرَ القلبِ البشريِّ سيرًا طبيعيًّا.

وهذا ما حاولتُ صُنعَه في جميعِ المشاكلِ التي تَعْرِض، وقد اقتصرتُ على وضْعِ المبادئ التي تُشعِرُ بالحقيقة؛ وذلك صوْنًا للكتابِ من التضخيم على غيرِ جدوى. وأمَّا القواعدُ التي يُمكن أن تحتاجَ إلى دليلٍ فقد طبَّقتُها على إميلَ أو على أمثلةٍ أخرى، مُثبِتًا بالتفصيلِ الواسعِ كيف يُمكن العملُ بما أُقرِّر، وهذا هو المشروعُ الذي أُريدُ اتِّباعَه على الأقلِّ تاركًا الحكمَ في توفيقي إلى القارئ.

ومِن ثمَّ تَرى أنني تكلمتُ قليلًا عن إميلَ في البُداءة؛ وذلك لأن مبادئي الأُولى في التَّربية — وإن كانت تختلفُ عمَّا هو مُقرَّر — هي من الوضوحِ ما يصْعُبُ على كلِّ رَجلٍ حصيفٍ أن يَرفِض معه موافقتَه عليها، ولكنني كلَّما تقدمتُ عاد تلميذي الذي وُجِّه إلى غيرِ ما وُجِّه إليه تلاميذُكم، لا يكون ولدًا عاديًّا، فوجب اتخاذُ نظامٍ خاصٍّ به، وهنالك يكثُر ظهورُه على المسرح، حتى إذا كُنَّا حولَ آخِرِ الأوقاتِ لم أغْفُل عنه طَرْفة عين، وذلك إلى أن يغدوَ غيرَ محتاجٍ إليَّ في أقلِّ شيء مهما قال في ذلك.

ولا أتكلمُ هنا عن صفاتِ المُرَبِّي الصالح؛ فأنا أفْترِضُها، وأفترضُ اتصافَ نفسي بجميعِ هذه الصفات، ومن مطالعة هذا الكتاب يُرى مقدارُ ما أحبُو به نفسي من سخاء.

وأخالفُ الرأيَ الشائع، فأقولُ إنه يجبُ أن يكون مربِّي الولدِ شابًّا، وأن يكون من الشبابِ ما يكونُه الرجلُ الحكيمُ أيضًا، وأودُّ لو يكون المُرَبِّي ولدًا إذا أمكنَ هذا، فيصبحَ رَفيقَ تلميذِه ومحلَّ ثِقتِه مُقاسِمًا لهْوَه، ولا تَجدُ بين الصِّبا والكُهولةِ من الأمورِ المشتركةِ الكافيةِ ما يجعلُ بينهما محبَّةً متينةً حقًّا. أجلْ، إن الأولادَ يُصانِعون الشِّيبَ أحيانًا، ولكنهم لا يحبُّونهم مُطْلقًا.

ويُطْلَبُ أن يكونَ المُرَبِّي قد قامَ بتربية، وهذا كثير؛ فالرجلُ عينُه لا يستطيعُ أن يقومَ بغيرِ تربيةٍ واحدة، فإذا وجبَ قيامُه بتربيتَين لينجحَ فبأيِّ حقٍّ تُؤتَى الأُولى؟

وكلَّما كثُرت التَّربيةُ عُرِفَ أحسنُ ما يُصنَع، ولكنه يُعْجَزُ عن فِعْله، ومَن أحسنَ القيامَ بهذا العملِ ذاتَ مرَّةٍ فشَعرَ بجميعِ مشَاقِّه لم يحاوِلْ قَطُّ إلزامَ نفسِه به ثانية، وإذا كان قيامُه به سيِّئًا في المرةِ الأُولى ظهرَ هذا مُبتَسرًا سيِّئًا للمرةِ الثانية.

وأُسلِّم بأنَّ رقابةَ الولدِ أربعُ سنين تختلفُ كثيرًا عن تسييره خَمسًا وعشرين سنة، وأنتم تأتون بمُرَبٍّ لابنِكم بعْدَ أن يَتمَّ تكوينُه، وأمَّا أنا فأريدُ أن يكونَ له مُربٍّ قبلَ أن يُولَد، ويُمكِن صاحبَكم أن يُغيِّرَ تلميذًا في كلِّ خمسِ سنين، وأمَّا صاحبي فلن يكونَ له غيرُ واحد، وأنتم تَمِيزون المؤدِّبَ من المُربِّي، فهذه حماقةٌ أخرى! أَوَتَمِيزون التلميذَ مِن الطالب؟ لا يوجدُ غيرُ عِلْمٍ يُعلَّمُه الأولاد، وهو عِلمُ واجباتِ الإنسان، وهذا العِلمُ واحدٌ لا ينقَسِمُ على الرغم مما قاله إكزينوفونُ عن تربيةِ الفُرْس، ومع ذلك فإنني أدعو مُعلِّمَ هذا العِلمِ مُرَبِّيًا أكثرَ مِن أن أدعوه مؤدِّبًا ما دام المُهِمُّ عنده في التسييرِ أكثرَ مما في التهذيب، وليس عليه أن يُنعِمَ بتعاليم، وإنما يجبُ أن يَحْمِلَ على لُقْيانها.

وإذا ما وجبَ اختيارُ المربِّي بعنايةٍ فائقةٍ أُبيحَ له اختيارُ تلميذِه أيضًا، ولا سيَّما عند توقُّفِ الأمرِ على تقديمِ نموذج، ولا يُمكِن هذا الاختيارَ أن يقعَ على عبقريةِ الولدِ أو سجيَّتِه ما دام هذا لا يُعْرَفُ في غيرِ نهايةِ العمل، وما دمتُ أَقْبَلُه قَبلَ ولادته، ومتى أمكنني الاختيارُ لم أتخذْ غيرَ روح عاديٍّ كما أفترض تلميذي؛ فلا احتياجَ إلى غيرِ تنشئةِ رجالٍ عاميين، وتربيةُ هؤلاء وحدَها هي التي يجبُ أن تَصلُح مثالًا لأمثالهم، وأمَّا الآخرون فيُنشَّئون على ما فيها من ذلك.

وليس البلدُ خَلِيًّا تجاه ثقافةِ النَّاس، وهم لا يكونون ما يُمكِن أن يكونوا في غيرِ الأقاليم المعتدلة، ويكون الضررُ ظاهرًا في الأقاليم المتناهية. وليس الإنسانُ مغروسًا كالشجرةِ في بلدٍ حتى يقيمَ به دائمًا، ويُلْزَمُ الذي يذهبُ من أحدِ الأقاصي ليصلَ إلى الآخرِ بمضاعفةِ الطريقِ التي يسلُكُها مَن يذهبُ مِن الحدِّ المتوسطِ ليصلَ إلى ذاتِ الحد.

وإذا ما جاء الأقْصَيَيْنِ ساكنُ البلدِ المعتدلِ بالتعاقُبِ كانت فائدتُه واضحةً أيضًا؛ وذلك لأنه وإن كان يتغيَّرُ كلَّما ذهبَ من الأقصى إلى الأقصى يكون أقلَّ ابتعادًا عن كِيانِه الطبيعيِّ بما لا يزيدُ على النِّصفِ من ذلك. أجلْ، إن الفرنسيَّ يعيشُ في غِينْيةَ وفي لابونية، غيرَ أن الزنجيَّ لا يعيشُ مثْلَه في تُورْنِيَا، ولا يعيشُ السَّاموئيديُّ مثْلَه في بينين. ويظهر أن نظامَ الدِّماغِ أقلُّ كمالًا في الأقصَيَيْن؛ فليس عند الزنوجِ ولا عند اللابونِ إدراكُ الأوروبيين، ولو أردتُ إذن كونَ تلميذي ساكنًا للأرضِ لأخذتُه إلى مِنطقةٍ معتدلةٍ كفرنسة، مُفضِّلًا إياها على سواها.

والنَّاس في الشمالِ يستهلكون كثيرًا على أرضٍ جديبة، والنَّاس في الجنوبِ يستهلكون قليلًا على أرضٍ خصيبة، فنشأ عن هذا فرقٌ جديدٌ يجعلُ أولئك أهلَ جِدٍّ، ويجعلُ هؤلاء أهلَ تأمُّل، ويَعرِضُ المجتمعُ علينا في عينِ المكانِ صورةَ هذه الفروقِ بين الفقراءِ والأغنياء؛ فالفقراءُ يسكنون الأرضَ الجديبة، والأغنياءُ يسكنون الأرضَ الخصيبة.

ولا يحتاجُ الفقيرُ إلى تربية؛ فتربيةُ حالِهِ أمرٌ قَسْري، ولا يَقدِر على نَيْلِ غيرها. وعلى العكسِ تكونُ التَّربيةُ التي يتلقَّاها الغنيُّ من حالِه هي أقلُّ ما يُناسِبُه شخصًا ومجتمعًا. وهذا إلى أن التَّربيةَ الطبيعيةَ يجبُ أن تجعلَ الرجلَ صالحًا لجميعِ الأحوالِ البشرية. والواقع أن تنشئةَ الفقيرِ ليكونَ غنيًّا أقلُّ صوابًا من تنشئةِ الغنيِّ ليكونَ فقيرًا؛ وذلك لأنه إذا نُظِرَ إلى نسبةِ عددِ الحالَيْن وُجِد أن مَن افتقروا أكثرُ ممن اغتَنَوا. ولْنخْتَرْ غنيًّا إذن، فبذلك نطمئنُ إلى تكويننا رجلًا زيادةً بدلًا من إمكانِ تحوُّلِ فقيرٍ إلى رجلٍ بفعلِ نفسِه.

ولذاتِ السببِ لا يغيظني كونُ إميلَ أصيلًا؛ فسيكون هذا دائمًا ضحيةً مُنتزَعًا من المُبتَسَر.

إميلُ يتيم، وليس من المهمِّ وجودُ أبٍ له أو أم؛ فبما أنه فُوِّض إليَّ أن أقومَ بواجباتهما فإنني أخْلُفُهما في جميعِ حقوقهما. أجلْ، إن عليه أن يُكْرِم والديه، ولكن ليس عليه أن يُطيع غيري، وهذا هو شرطي الأوَّل، بل شرطي الوحيد.

ويجبُ أن أُضيفَ إليه ما ليس غيرَ تكملةٍ له، وهو ألَّا يفترقَ أحدُنا عن الآخرِ إلا باتفاقنا نحن الاثنين، وهذه الفقرةُ الشرطيةُ أمرٌ جوهري، حتى إنني أوَدُّ أن يَبلُغَ التلميذُ والمُرَبِّي من اتحادهما ما يكون معه نصيبُ أيامِهما أمرًا مشتركًا بينهما دائمًا. وهما إذا ما أبصرا انفصالَهما في الابتعاد، وهما إذا ما أدركا الساعةَ التي يجبُ أن تَجعلَ أحدَهما غريبًا عن الآخر؛ دلَّ هذا على أن حالَهما كان هكذا، وكلٌّ منهما يقوم بمنهاجِه الصغيرِ على حِدَة. وهما حين يُوجِّهان ذهنَهما إلى الوقتِ الذي يكونان فيه غيرَ متَّحدَيْن لا يبقيان معًا إلا كَرْهًا، ولا يَعُدُّ التلميذُ مُعلِّمَه إلا رمزَ الصِّبا وآفتَه، ولا يَعُدُّ المُعلِّمُ تلميذَه إلا عبئًا ثقيلًا يتحرَّقُ شوقًا إلى إلقائه عن عاتقِه، ويطمَحُ بصرُ كلٍّ منهما، متَّفِقًا، إلى الوقت الذي يتخلَّص فيه من الآخر، وبما أنه لا يوجد بينهما حُبٌّ حقيقيٌّ فإنه يكون عند أحدهما قليلُ انتباهٍ ويكون عند الآخرِ قليلُ انقيادٍ.

لكنهما إذا ما أبصرا أنهما مُلْزَمان بقضاءِ أيامهما معًا عُنِيَا بتحابِّهما، وصار كلٌّ منهما عزيزًا على الآخر، ولا يستَحي التلميذُ مطلقًا من اتِّباعه في صِباه مَن يكون صديقَه إذا ما كَبِر، ويُعنَى المُربِّي برعايةِ مَن لا بدَّ من اقتطافِ ثمرتِه، ويُعَدُّ كلُّ فضلٍ يحبو به تلميذَه أساسًا يضعه نفعًا لأيامِ مَشيبِه.

ويَفترِض هذا العَقْد الذي وُضِع مُقدَّمًا وِلادةً موفَّقة وولدًا حسنَ التكوين قويًّا سليمًا، وليس للأبِ خِيارٌ مطلقًا، ولا ينبغي أن يأتي تفضيلًا في الأُسرة التي أنعم الله بها عليه؛ فجميعُ أولادِه أولادٌ له على السواء، وعليه أن يُبديَ نحوَهم ذاتَ العنايةِ وذاتَ الحنان. وهم سواءٌ أكانوا مُقْعَدين أم لا، وهم سواءٌ أكانوا ضعفاءَ أم أقوياء، يُعَدُّ كلُّ واحدٍ منهم وديعةً يسأله المُعطي عنها؛ فالزواجُ عقدٌ مع الطبيعةِ كما بين الزوجين.

ولكنه يجبُ على كلِّ مَن يفرِضُ على نفسِه واجبًا لم تفرضْه الطبيعةُ عليه قطُّ أن يكون قابضًا على وسائلِ القيامِ به مقدَّمًا، وإلا كان مسئولًا حتى عن الذي لم يستطِع فِعْله. ومَن يتولَّ أمرَ تلميذٍ عليلٍ مِسْقامٍ يُحوِّل عملَه كمُربٍّ إلى عملِ مُمرِّض، وهو يُنفِق في العنايةِ بحياةٍ غيرِ نافعةٍ وقتًا كان يُعِدُّه لرفعِ قيمتها، وهو يُعرِّض نفسَه لمواجهةِ أُمٍّ شديدةِ الحُزنِ تَلُومُه ذاتَ يومٍ على موتِ ابنٍ مُلْزَمٍ بحفْظه لها زمنًا طويلًا.

ولن أتولَّى أمرَ ولدٍ مِسْقامٍ مِمْرَاضٍ ولو عاش ثمانين حَوْلًا، ولا أرغبُ مطلقًا في تلميذٍ غيرِ نافعٍ لنفسِه وللآخرين دائمًا، في هذا التلميذ الذي يُعْنَى بنفسِه حصرًا، فيسيء جسمُه إلى تربيةِ الرُّوح. وما أصنعُ بإنفاقي عليه عنايتي سُدًى إن لم يكن مضاعفةَ خُسْرِ المجتمعِ ونَزعَ رَجُلَين منه في سبيلِ واحد؟ إذا ما تولَّى أمرَ هذا العليلِ آخرُ مكاني وافقتُ على هذا ورضِيتُ عن حَسَنته، ولكنني لم أُيَسَّرْ لهذا؛ فلا أعْرِفُ مطلقًا أن أُعلِّم الحياةَ لِمَن لا يُفكِّر في غيرِ منْع موتِ نفسِه.

ويجبُ أن يكون الجسمُ من القوَّة ما يُطيع معه الروحَ؛ فعلى الخادم الصالح أن يكون عُصْلُبيًّا، وأعرِف أن النَّهْمَ يُحرِّك الشهوات؛ فهو يَنْهَكُ البدنَ مع الزَّمن، وأعرِف أن التقشُّف والصوم يؤديان في الغالبِ إلى ذاتِ النتيجةِ للسببِ المعاكس، وكلَّما كان البدنُ ضعيفًا هَيْمَن، وكلَّما كان قويًّا أطاع، وتقيم جميعُ الشهوات الحسية في الأجسام المُخنَّثة، وهي تزيد هياجًا عند أقلِّ قضاءٍ لها.

والجسمُ الواهن يُضعِف الرُّوح؛ ومِنْ ثَمَّ كان سلطان الطبِّ الذي هو فنٌّ أشدَّ ضررًا على النَّاس من جميعِ الأمراضِ التي يزعمُ أنه يَشفيها. وأمَّا أنا فلا أعرِف أيُّ الأمراضِ يشفينا منها الأطباء، ولكنني أعرِف أنهم يُعطوننا ما هو شديدُ الشؤم منها، يُعطوننا النذالةَ والجُبنَ وسرعةَ التصديقِ والفزعَ من الموت، وهم إذا ما شَفَوُا البدنَ قتلوا الشجاعة، وما يهمُّنا أن يُسيِّروا جُثثًا؟ فإلى الرجالِ نحتاج، ولا نرى صدورَ رجالٍ عنهم.

والطبُ مُوضة١٧ بيننا، وهو ما يجبُ أن يكونه؛ فهو لَهْوُ ذوي البِطالةِ والفراغِ الذين لا يَعْرِفون ما يصنعون بوقتهم فيقضونه في حفظِ حياتهم، ولو كان هؤلاء من الشقاءِ ما يُولَدون معه خالدين لكانوا أشدَّ النَّاسِ بؤسًا لِمَا لا يكون للحياةِ التي لا يَخْشون ضَياعَها أيُّ ثمنٍ عندهم، ويحتاجُ هؤلاء النَّاسُ إلى أطباءَ يُهدِّدونهم عن مَلَق، فيُنعِمون عليهم كلَّ يومٍ باللذةِ الوحيدةِ التي يتمتَّعون بها، وهي ألَّا يموتوا.

ولا أريدُ أن أتبسَّطَ هنا حول بُطلانِ الطب؛ فلا يقوم موضوعي على غيرِ النظرِ إليه من الناحيةِ الأدبية، ومع ذلك لا أستطيع أن أمنعَ نفسي من كونِ النَّاسِ يأتون حول عادته من السَّفْسطات ما يأتون حَوْل البحثِ عن الحقيقة، وذلك أنهم يفترضون، دائمًا، أن المريض إذا ما عُولِج شُفِي، وأن الحقيقةَ إذا ما نُشِدت وُجِدت، وهم لا يَرَوْن وجوبَ المقابلةِ بين نفْعِ شفاءٍ يُوفَّقُ له الطبُّ وموتِ مائةِ مريضٍ يقتلهم، كما لا يَرَوْن وجوبَ المقابلةِ بين نفْعِ حقيقةٍ يُهتَدى إليها وضررِ الضلالاتِ التي تقعُ في الوقتِ نفسِه. أجلْ، إن العِلْمَ الذي يُثقِّف والطبَّ الذي يشفي صالحان كثيرًا لا ريب، غيرَ أن العلمَ الذي يُخادِع والطبَ الذي يَقتلُ شرَّان، فعلِّمونا أن نَمِيزَ بينهما إذن، وهذه هي عُقدة المسألة. ولو كُنَّا نعرِف جهلَ الحقيقةِ ما خُدعنا بالأكاذيب مطلقًا، ولو كُنَّا نعرِف الرغبةَ عن الشفاءِ على الرغم من الطبيعة ما قُتلنا على يدِ الطبيب مطلقًا. ويُعدُّ هذان الامتناعان أمرَين حكيمَين؛ ففيهما غُنْمٌ لا مِراء، ولا أُماري إذن في كونِ الطبِّ نافعًا لبعضِ النَّاس، ولكنني أقولُ إنه شؤمٌ على الجنسِ البشري.

وسيُقال لي، كما يُفعَل دائمًا، إن الذنْبَ ذنْبُ الطبيب، ولكن الطبَّ معصومٌ من الزَّللِ في حدِّ ذاته. حسنًا، ولكن لِيأتِ الطبُّ بلا طبيبٍ إذن، وذلك أنهما إذا أتيا معًا كان ما يُخشَى معه خطأُ المتفنن مائةَ مرةٍ أكثرَ من الأملِ في عَوْنِ الفن.

وليس هذا الفنُّ الكاذبُ الذي وُضِعَ لأمراضِ الرُّوحِ أكثرَ مما لأمراض البدن؛ أعظمَ فائدةً لإحداهما مما للأخرى، وهو أقلُّ شفاءً لأمراضنا من إلقائه خَوْفَها فينا، وهو أقلُّ تأخيرًا للموتِ من إشعارِنا به مُقدَّمًا، وهو يُوهِن الحياةَ بدلًا من إطالتها، وهو إذا ما أطالَها كان هذا ضَرًّا بالنوعِ ما دام يَنتزِعُنا من المجتمعِ بما يَفرضه علينا من عنايةٍ، وما دام ينتزعنا من واجباتنا بما يُلقيه فينا من فَزَع. ومعرفةُ الأخطارِ هي التي تجعلنا نخافها، ومَن يعتقد أنه لا يُجرَح لم يخشَ شيئًا. وقد نَزَع الشاعرُ مَزِيَّةَ الشجاعةِ من أَشيلَ بتسليحه ضِدَّ الخطر؛ فكلُّ واحد يصبح أشيلًا إذا ما اتفَّق له هذا التسليح.

وإذا أردتم وجودَ رجالٍ ذوي شجاعةٍ حقيقية فابحثوا عنهم في الأماكنِ التي لا يوجد فيها أطباءُ مطلقًا، في الأماكنِ التي تُجهل فيها نتائجُ الأمراضِ فلا يُحْلَم فيها بالموتِ مطلقًا. ومن الطبيعي أن يألم الإنسانُ دائمًا وأن يموت هادئًا، والأطباءُ بوَصَفاتهم والفلاسفةُ بتعاليمهم والكهنةُ بإنذاراتهم هم الذين يُذِلُّون القلبَ ويخيفونه من الموت.

ولْأُعْطَ تلميذًا غيرَ محتاجٍ إلى جميعِ هؤلاء النَّاس، وإلا رفضتُه، ولا أريد أن يُفسِدَ آخرون عملي مُطلقًا، وأريدُ أن أُنشِّئه وحدي، وإلا لا أتدخَّل في أمره. ويقضي الحكيمُ لوك قِسْمًا من حياته في دراسة الطب، فيوصي بشدةٍ ألَّا يُعالَجَ الأولادُ بأدويةٍ مُطْلقًا، لا عن حَذَرٍ ولا عن ضَعفٍ خفيف. وأذهبُ إلى ما هو أبعدُ من هذا فأُصرِّحُ — أنا الذي لم يَدْعُ أطباءَ لنفسه قَطُّ — بأنني لن أدعوَ طبيبًا لإميل، ما لم تكن حياتُه في خطرٍ واضح؛ وذلك لأنه لا يستطيع أن يصنعَ له حينئذٍ ما هو شرٌّ من قتْله.

وأعْرِف جيِّدًا أن الطبيبَ لن يَغْفُلَ عن الاستفادةِ من هذه المُهلة، فإذا مات الولدُ فإنه يكون قد دُعِيَ بعد الأوان، وإذا ما نجا فإنه يُعدُّ منقذًا له، وليُكتَب الفوزُ للطبيب هكذا، ولكن لتَكنْ دعوتُه عند الرَّمقِ الأخيرِ على الخصوص.

وكما أن الولدَ لا يَعرِف أن يشفيَ نفسَه يَعرِف أن يكون مريضًا، ويقوم هذا الفنُّ مقامَ الآخر، ويُكتَب له النجاح غالبًا أكثرَ من ذاك بدرجات، وهذا هو فنُّ الطبيعة، ومتى كان الحيوانُ مريضًا أَلِمَ هادئًا والتزمَ جانبَ الصمت. والواقعُ أننا لا نرى كالإنسانِ حيوانًا يَضْنَى، وما أكثرَ ما قتلَ الجزَعُ والفزعُ والهلع — والأدويةُ خاصةً — أناسًا كان يُبقي عليهم مرضُهم فيشفيهم الزَّمنُ وحدَه! وسيُقال لي إن الحيوانات، إذ كانت تعيش على وجهٍ أشدَّ ملاءمةً للطبيعة، وجبَ أن تكون أقلَّ عُرضةً للأمراض مِنَّا، والآن هذا هو طرازُ الحياةِ الذي أريد أن أحبوَ به تلميذي حَصرًا، فلْينتفعْ به إذن.

وحفظُ الصحةِ وحدَه هو فصلُ الطبِّ المفيد، ثُمَّ إن حِفظَ الصحةِ فضيلةٌ أكثر منه علمًا. والاعتدالُ والعملُ هما طبيبا الإنسان الحقيقيان؛ فالعمل يَشحذُ شهوته، والاعتدال يحول دون إساءة استعمالها.

وليس على مَن يَودُّ معرفةَ أي النُّظُم أنفعَ للحياة والصحة غيرُ معرفةِ أي النُّظُم تعمل به الشعوب التي تتمتَّع بأحسنِ صحة، فتكون أشدَّ قوةً وأطولَ حياة. وإذا كانت المشاهدات العامة تدلُّ على أن عادةَ الطب لا تمنحُ النَّاسَ صحةً أكثرَ ثباتًا وحياةً أعظمَ طولًا؛ كان هذا الفنُّ ضارًّا لعدم فائدته، ما دام يُنفِقُ الزمانَ والنَّاسَ والأشياءَ فيما هو خُسْرٌ محض. ويجب ألَّا يُقتَصَر على طرحِ الوقت الذي أُنفِق في حفظِ الحياة، لا في التمتُّعِ بها؛ فهذا الوقتُ إذا ما أُنفِقَ في تعذيبِ أنفسنا كان شرًّا من تبديده، أي كان سلبيًّا، فيقضي الإنصافُ في الحسابِ بأن يُطرَح مما بَقِيَ لنا. ويُعَدُّ الإنسانُ الذي عاش عَشرَ سنين بلا طبيبٍ أنه عاش لنفسه ولغيره أكثرَ من الذي عاش ثلاثين سنةً ضحيةَ الأطباء. وبما أنني جرَّبت كِلا الأمرين فإنني أكون أحقَّ مِن سواي في استخراج النتيجة.

هذه هي الأسبابُ التي تجعلني لا أرغبُ في غيرِ تلميذٍ عُصْلُبيٍّ سليم، وهذه هي مبادئي التي تهدِفُ إلى بقائه هكذا، ولا أقفُ عند إثباتي مطوَّلًا فائدةَ الأعمالِ اليدوية والتمرينات البدنية تقويةً للبِنية والصحة؛ فهذا أمرٌ لا يُجادِل فيه أحد، وذلك أن أمثلةَ أطولِ الحيَوات تُستخرج كلُّها تقريبًا من الرجالِ الذين قاموا بتمارينَ أكثرَ من غيرهم واحتملوا نَصَبًا وعملًا١٨ أكثرَ من سواهم، ولن أُفصِّل مُطَوَّلًا ما أتَّخذ من عنايةٍ في هذا الموضوع وحدَه، فسيُرى أنه داخلٌ ضِمن عملي، فيكفي البصرُ برُوحِه حتى يُستغنَى عن القيام بإيضاحٍ آخَر.

ومع الحياة تبدأ الاحتياجات، ولا بُد للمولودِ حديثًا من مُرْضِع، وإذا ما وافقت الأمُّ على القيامِ بواجبها كان هذا خيرًا، وتُعطى تعليماتها خطًّا؛ وذلك لأن لهذه الفائدةِ ثِقَلَها؛ فهي تُمسِك المربِّي بعيدًا بعضَ البُعْد من تلميذه، بَيْدَ أن هنالك ما يَحمِل على الاعتقاد بأن مصلحةَ الولدِ واحترامَ مَن تريدُ أن تُسلِّم الأمُّ إليه وديعةً غاليةً جِدًّا يجعلها منتبهةً إلى آراءِ المُعلِّم، ومن المحُقَّق أن جميعَ ما تريد فِعْله تفعله بأحسنَ مما يفعلُه سواها، وإذا كان لا بدَّ لنا من مُرْضِعٍ غريبةٍ فلنبدأ بحُسنِ اختيارها.

ومِن تَعَسِ الأغنياء أن يُخادَعوا في كلِّ شيء، وهل يُعجَبُ مِن سوءِ حكمِهم في النَّاس؟ إن الثَّروات هي التي تُفسِدُهم، وهم أوَّلُ مَن يشعر، عن رجوعٍ عادل، بعيبِ الآلةِ التي يَعْرِفونها، وكل شيء سيئ الصنعِ عندهم، خلا ما يصنعون بأنفسهم، وهم لا يصنعون شيئًا من ذلك تقريبًا، فإذا وجب البحثُ عن مُرْضِعٍ تركوا هذا للمُوَلِّد، وما يُسفِرُ عن هذا؟ إن أصلحَ مُرضِعٍ هي أحسنُ مَن يُؤدَّى إليها دائمًا؛ ولذا لا أذهبُ لاستشارةِ مُولِّدٍ بحثًا عن مُرْضِعٍ لإميل، وإنما أُعنَى باختيارِها بنفسي. أجلْ، قد لا أُبرهِن حوْلَها برهنةَ الجرَّاح، ولكني أسِيرُ عن إخلاصٍ فأكون أقلَّ زَلَلًا بغيرتي مما بطمعه.

وليس هذا الاختيارُ سِرًّا كبيرًا مطلقًا؛ فقواعدُه معروفة، ولكنني لا أعْرِف هل من الواجبِ بَذلُ شيءٍ من الانتباهِ حولَ عُمْرِ اللَّبَنِ وصِفَتِه؛ فاللَّبنُ الجديدُ مائي، ويجب أن يكون مُليِّنًا تقريبًا للتخلُّصِ من بقيةِ العِقْي١٩ الكثيف في أمعاءِ المولودِ حديثًا، ويَتخثَّر اللبنُ شيئًا فشيئًا، فيتألفُ منه غذاءٌ أكثرُ جمودًا لدى الولدِ الذي يصبح أقوى على هضمه. وليس من العبث، لا ريب، أن تغُيِّرَ الطبيعةُ في الإناثِ من كلِّ نوعٍ كثافةَ اللبنِ وَفْقَ عُمُرِ الرَّضيع.

إذن لا بدَّ للمولود حديثًا من مُرْضِعٍ وَضعتْ حديثًا، وأعرِف أن هذا صعب، ولكنه إذا ما خُرِج من النظامِ الطبيعيِّ اعترضتِ المصاعبُ في سبيلِ كلِّ ما هو حسنُ الصُّنْع، وصُنْعُ السُّوءِ هو السَّبيلُ الوحيدُ السَّهل، وهو أكثرُ ما يُختارُ أيضًا.

ويجب أن تكونَ المُرضِعُ سالِمةً قلْبًا وبدَنًا، ويُمكِنُ عدمُ اعتدالِ الميولِ أن يُفسدَ اللَّبنَ كما يُمكِنُ عدمَ اعتدالِ الأمزجة. وهذا إلى أن الاقتصارَ على الناحيةِ البدنيةِ في ذلك يعني رؤيةَ نصفِ الموضوعِ فقط، وقد يكون اللَّبَنُ صالحًا والمُرْضِعُ فاسدة؛ فالخُلُقُ الصالحُ أمرٌ جوهريٌّ كالمِزاجِ الصالح، وإذا ما اتُّخِذَت امرأةٌ فاسدةٌ فإنني لا أقول إن رضيعَها يكتسبُ عيوبَها، وإنما أقول إنه يعانيها؛ أَوَلَيستْ مُلزَمةً نحوه، مع لبنِها، بالعنايةِ التي تستلزِمُ غيرةً وصَبرًا ورِفقًا ونظافة؟ إذا ما كانت نَهِمةً مِبْطانًا لم تَلْبَث أن تُفسِد لَبَنها، وإذا ما كانت مُهْمِلةً أو غَضُوبًا فما يكون تحت رحمتِها حالُ تُعِسٍ مسكينٍ لا يمكنه الدفاعُ عن نفسِه أو شكايةُ أمْرِه؟ لا يَصْلُح الخبثاءُ لصالح.

ويكون اختيارُ المُرْضِعِ عن عدمِ وجودِ مُرَبِّيةٍ للرَّضِيعِ غيرِها من الأهميةِ كوجوبِ عدمِ وجودِ مُعلِّمٍ له غيرِ مُرَبِّيه، وكانت هذه عادةَ القدماءِ الذين هم أقلُّ برهنةً وأكثرُ حكمةً مِنَّا؛ فما كانت المَراضِع، بعد رَضاعةِ الأولادِ من جنسهن ليتركنهن، وهذا هو السببُ في كونِ معظمِ النَّجِيَّات في رواياتهن التمثيلية من المَراضِع، ومن المتعذرِ أن يكون الولدُ الذي تتعاقبه أيدٍ مختلِفةٌ حسنَ التنشئة؛ فهو يقوم عندَ كلِّ تغييرٍ بقياساتٍ خفيةٍ تؤدي في كلِّ حينٍ إلى تقليلِ احترامِه لِمَن يُرَبُّونه، وإلى نقصِ سلطانِهم عليه من حيث النتيجة. وإذا ما فُكِّر مرةً في وجودِ أناسٍ كِبارٍ لا يفوقون الأولادَ عقْلًا زال كلُّ ما للسنِّ من سلطانٍ، وحَبِطت التَّربية. ولا يجوزُ أن يَعرِفَ الولدُ مَن يَسمُو أباه وأمَّه، أو مُرضِعَه ومُرَبيَه عند عدمِ وجودهما، حتى إن هذين الاثنَين أمرٌ كثير، ولكنه لا مفرَّ من هذا التقسيم، وكلُّ ما يُمكِن صُنْعه لتلافيه هو أن يكون الجنسان اللذان يُرَبِّيانه من الاتفاقِ ما يكونان معه واحدًا بالنسبة إليه.

ويجبُ أن تعيش المُرْضِعُ بما هو أيسرُ بعضَ اليُسر؛ فتتناول من الأغذيةِ ما هو أكثرُ إقاتةً إلى درجةٍ ما، ولكن على ألَّا يُغيِّرَ طرازَ العيشِ تغييرًا تامًّا؛ وذلك لأن التغييرَ السريعَ الجامعَ أشدُّ خطرًا على الصحةِ دائمًا ولو كان من الأدنى إلى الأحسن. وما فائدةُ حمْلها على تغييرِ نظامِها المعتادِ ما دام قد تَركها، أو جعلها سليمةً صحيحةَ البِنية؟

وتأكلُ القَرَوياتُ قليلَ لحمٍ وكثيرَ خُضَرٍ خِلافًا لنساءِ المدن، ويظهر أن هذا النظامَ النباتيَّ أعظمُ نفْعًا من ضَرِّه لهن ولأولادهن، وهنَّ إذا ما كان لهن رُضَّعٌ من البُرْجوازية أُعْطين سلائقَ مع اللحمِ اعتقادًا بأن المَرقَ والحَسَاءَ يَجْعلان أصلحَ كَيْلُوسٍ وأغزَرَ لبنٍ فيهن، ولا أرى هذا الرأي مطلقًا؛ فقد علَّمتنا التجارِبُ أن الأولادَ الذين يُرضَعون على هذا الوجهِ يكونون عُرْضةً للمَغْص والدُّودِ أكثرَ من الآخرين.

وليس في ذلك ما يُثيرُ العجبَ مطلقًا، ما دامت المادةُ الحيوانيةُ تَزدَحِم دودًا عند التعفُّن، وهذا ما لا يطرأ على المادةِ النباتيةِ هكذا. ويُعَدُّ اللبنُ مادةً نباتية وإن كان يُهيَّأ في جسم الحيوان،٢٠ ويَدُلُّ تحليله على هذا، وذلك أنه يتحوَّل بسهولةٍ إلى حامض، وهو يُسفر كالنباتات عن ملحٍ متعادِلٍ بعيدًا من إبرازه أيَّ أثر من القلويات الطيارة التي تنشأ عن المواد الحيوانية.

ولبنُ الأنثى من أكَّالةِ الأعشابِ أحلى من لبنِ آكلةِ اللحومِ وأكثرُ ملاءمةً للصحة، وهو إذ يتألَّف من مادةٍ مماثلةٍ لخاصتها فإنه يكون أحسنَ محافظةً لطبيعته وأقلَّ عُرضةً للعفن. وإذا نُظر إلى الكميةِ وُجِدَ — كما يَعلَمُ كلُّ واحد — أن الموادَّ النشويةَ تُنتِج دمًا أكثرَ مما يُنتج اللحم؛ ولذا وجبَ أن تُنتِج لبنًا أكثرَ مما يُنتج. ولا أرى أن الولدَ الذي لا يُفطم عاجلًا، والذي لا يُفطم إلا مع أغذيةٍ نباتية، والذي لا تعيشُ مُرْضِعه إلا من النبات، يكون عُرضَةً للدودِ مطلقًا.

ومن الممكن أن تُسْفِر الأغذيةُ النباتيةُ عن لبنٍ أكثرَ حُموضة، ولكنني بعيدٌ كثيرًا من عَدِّ اللبنِ الحَمْضِيِّ غذاءً غيرَ صحي؛ وذلك أنك تجدُ أممًا بأسْرِها على أحسنِ حالٍ مع أنها لا تغتذي بغيره، وأن الوعاءَ الماصَّ محضُ خداعٍ كما يلوح. وتُوجَد أمزجةٌ لا يلائمها اللبنُ مطلقًا، ولا تجدُ ماصًّا يجعله أمرًا محتملًا، وتوجد أخرى تحتمله بلا ماصَّات. ويُخشَى اللبنُ الرائبُ أو الخاثر، وهذه حماقة؛ وذلك أن اللبنَ يرُوب في المَعِدةِ دائمًا، وهكذا فإنه يغدو غذاءً قويًّا للأولادِ وصغارِ الحيوان، وهو إذا لم يَرُبْ مضى من غيرِ أن يُغذِّيَهم.٢١ ومن العبثِ مَذْقُ٢٢ اللبنِ على ألفِ وجهٍ واستعمالُ ألفِ ماص؛ فمن يشربُ اللبنَ يَهْضِم الجُبن، وهذه قاعدة لا استثناءَ لها، وتُعَدُّ المَعِدة من حُسنِ التكوينِ لِتَخْثيرِ اللبنِ ما تُؤْخَذ الرَّوْبةُ معه من كَرِشِ العِجْل.
ولذلك أرى أنه يكفي إعطاءُ المَراضِع غذاءهن المعتاد، على أن يكون وافرًا وأحسنَ اختيارًا بدلًا من تغييره، ولا تكون الخُضَرُ عَسِرَةَ الهضمِ عن طبيعةٍ غذائية، بل تعليلُها بالتوابل هو الذي يجعلها وخيمة، فأصلِحوا قواعدَ طهايتكم واجتنبوا القَلْي، وأبعِدوا الزُّبدَةَ والملحَ والألبانَ من النار، ودَعُوا خُضَرَكم تُطبَخ بالماء، ولا تُعلِّلوها بالتوابل إلا عند إحضارِها إلى المائدةِ ساخنة، وهنالك لا تُزْعَج المُرضِعُ بالخُضَر، وهنالك تُزوِّدها الخُضَر بلبنٍ وافرٍ ومن نوعٍ جيد.٢٣ وإذا ما عُرِفَ أن الطعامَ النباتيَّ أصلحُ طعامٍ للولد، فكيف يكون الطعامُ الحيوانيُّ أصلحَ طعامٍ للمُرْضِع؟ ينطوي هذا على تناقُض.

ويُؤثِّر الهواءُ في بِنيةِ الأولادِ في السِّنين الأُولى من حياتِهم على الخصوص؛ فالهواءُ في جِلدٍ رقيقٍ ناعمٍ يَنفُذُ من جميعِ المسامِ فيؤثِّر في هذه الأجسامِ الناشئةِ تأثيرًا قويًّا ويتركُ فيها من الآثارِ ما لا يزولُ أبدًا؛ ولذلك فإنني لستُ من القائلين بأن تُؤخَذَ قَرويةٌ من قريتها حبسًا لها في غرفةٍ بالمدينةِ وحَملًا لها على إرضاعِ الولدِ في منزله، وإنما أُفضِّلُ أن يُرسَلَ الولدُ إلى الأريافِ ليستنشقَ فيها هواءً صالحًا على تَنشُّقهِ هواءَ المدينةِ الوخيمَ، وهو يقتبسُ حالَ أمِّه الجديدةِ، ويَسكُن منزلها الريفي ويتبعه مُربِّيه هنالك، وسيذكرُ القارئُ جيِّدًا أن هذا المُرَبِّيَ ليس رجلًا مأجورًا، بل صديقٌ للأب، وسيُقال لي ما يُصْنع إذا كان هذا الصديقُ غيرَ موجود، أو كان هذا الانتقالُ غيرَ سهل، أو إن ما تُشيرُ به غيرُ يسير؟ لقد قلتُ لكم أن تفعلوا ما تفعلون، فلا ضرورةَ إلى نصيحةٍ في هذا.

ولم يُخلَق النَّاسُ ليُكدَّسوا كقريةِ النملِ في المدن، بل لينتشروا في الأرضِ التي يجب عليهم أن يزرعوها، وهم كلَّما احتشدوا فَسَدُوا. وتُعَدُّ عاهاتُ الجسمِ وآفاتُ الرُّوح نتيجةً لازمةً لهذا الازدحامِ البالغ. والإنسانُ أقلُّ الحيواناتِ قدرةً على العيشِ قِطاعًا، والنَّاسُ إذا ما تجمَّعوا كالضأنِ هلكوا سريعًا، ونَفَسُ الإنسانِ مُبيدٌ لأمثاله، وهذا صحيحٌ حقيقةً ومجازًا.

والمُدُن هُوَّةُ النوعِ البشري، فإذا ما انقضت بضعةُ أجيالٍ هلكت العروقُ أو انحطت، فيجب تجديدُها، والأريافُ هي التي تؤدي إلى هذا التجديد؛ ولذا أرْسِلوا أولادَكم ليتجددوا بأنفسهم ويستردُّوا بين الحقولِ ما يُفقَد من قوةٍ في الأماكنِ الوبيلةِ الزاخرةِ بالسكان. ويُسرِع النِّساءُ الحواملُ اللائي هن في الأريافِ إلى منازلهن في المدنِ حتى يضعن، مع أن العكس هو ما يجب أن يفعلنه، ولا سيَّما اللاتي يُردِن إرضاعَ أولادهن، وعليهن أن يأسَفن أقلَّ مما يتصورن؛ فالملاذُّ في المُقَامِ الأقربِ إلى طبيعةِ النوع، والملاذُّ المرتبطةُ في واجبات الطبيعة، لم تلبثْ أن تَنزِع منهن كلَّ ما لا يلائمها من ذوق.

وأوَّلُ ما يُصنَع في الولدِ بعد أن يُوضَع هو أن يُغْسَل بماءٍ فاترٍ ممزوجٍ بالخمْرِ عادة. ويلوح لي أن هذه الخمرَ الإضافيةَ غيرُ ضرورية؛ فبما أن الطبيعةَ لا تُنتِج شيئًا مختمرًا فإنه لا يوجد ما يحمِل على الاعتقادِ بأن استعمالَ سائلٍ مصنوعٍ يهمُّ حياةَ مخلوقاتها.

ولِعَيْن العلةِ يكون هذا الاحتياطُ لتفتيرِ الماءِ غيرَ ضروريٍّ أيضًا. والواقع أن أممًا كثيرةً تَغْسِل المواليدَ حديثًا في الأنهارِ أو في البحرِ بلا تكلُّف، بَيْدَ أن أولادَنا المُنعَمِين قبْلَ أن يُولَدوا، عن تَرفِ الآباءِ والأمهات، يأتون حين ولادتِهم بِبِنيةٍ فاسدةٍ مُقدَّمًا؛ فلا ينبغي أن تُعرَّضَ في البُداءةِ لجميعِ التجارِب التي تعود بها إلى الصحة. ولا يُمكن أن يُرَدَّ الأولادُ إلى القوةِ الابتدائيةِ إلا بالتدريج. وابدءوا إذن باتِّباعِ العادةِ في بدءِ الأمر، ولا تبتعدوا عنها إلا مقدارًا فمقدارًا. واغسِلوا الأولادَ غالبًا؛ فقذارتُهم تدلُّ على ضرورةِ الغُسل، وإذا ما اقتُصِرَ على مسْحِهم خُدِشوا، ولكنهم كلَّما اشتدُّوا نَقصتم فتورَ الماءِ حتى تتمكَّنوا في نهايةِ الأمرِ من غسْلهم بالماء البارد، وبالماء الجامد أيضًا، سواءٌ أفي الصيف أم في الشتاء. ويقضي اجتنابُ الخطرِ بأن يقعَ هذا النقصُ على مَهْلٍ وبالتعاقُبِ وعلى وجهٍ غيرِ محسوس، ويُمكن استخدامُ ميزانِ الحرارةِ لقياسه تمامًا.

وعادةُ الاستحمامِ هذه إذا ما استقرَّت وجبَ ألَّا تُقطع، ويُقتَضى أن يُحتَفظَ بها مدى الحياة، ولا أَعُدُّها بجانبِ النظافةِ والصحةِ الحاضرةِ فقط، بل أَعُدُّها أيضًا احترازًا نافعًا لجعْلِ العَضَلِ أكثرَ مرونةً ولِجعْلِ هذه العَضَلِ تُواجِه مختلِفَ درجاتِ الحرارة والبرودة بلا جهدٍ ولا خطرٍ. وأودُّ للوصول إلى هذا أن يُتَعوَّدَ، مع النشوءِ وبالتدريج، الاغتسالُ في المياهِ الحارةِ ضِمنَ جميعِ الدرجاتِ المحتملة أحيانًا، وفي المياه الباردة ضمنَ جميعِ الدرجاتِ الممكنةِ غالبًا. وهكذا فإننا بعد أن نتعوَّد احتمالَ مختلِفِ درجاتِ حرارةِ الماءِ الذي هو سائلٌ أشدُّ كثافة، فيمَسُّنا في أكثرِ ما يُمكِنُ من النِّقاطِ ويعْظُم إيلافُنا له، نَغدو غيرَ متأثرين بدرجاتِ الهواء.

وإذا ما خرجَ الولدُ من أغشيته وتنفَّس؛ فلا تسمحوا بحصْره في أُخرى بما هو أوْثَق؛ فلا كُمَّةَ ولا لفائفَ ولا قُمُطَ، بل حزائمُ متدليةٌ واسعةٌ تَدَعُ جميعَ أعضائهِ طليقة، فلا تكون من الثِّقلِ ما تَعُوق معه حركاته، ولا من الدِّفءِ ما تَحُولُ معه دونَ شعورِه بتأثيرِ الهواء.٢٤ وضَعُوه في مهْدٍ كبيرٍ٢٥ محشوٍّ مُشَاقةً٢٦ حيث يستطيع أن يهتزَّ بسهولةٍ وبلا خطر. وهو إذا ما أَخذ يتقوَّى فدَعُوه يزحفُ في الغرفةِ ويَنشُر أعضاءه الصغيرة ويَبْسُطها، وهنالك تَروْنه يشتدُّ يومًا بعد يوم، ولو قابلتم بينه وبين ولدٍ من لِدَاتِه مُقمَّطٍ جيِّدًا لعجبتم من اختلافِ نشوئهما.٢٧

ولا بُدَّ من توقُّع اعتراضاتٍ كبيرة من قِبَل المَراضع اللائي يَجِدن الولدَ المقيَّد أقلَّ إتعابًا من الولدِ الذي يجب أن يُرقَب بلا انقطاع، وذلك إلى أن قذارته تكون أكثرَ ظهورًا في ثوبٍ مكشوف، فيجب أن يُنظَّف دائمًا. والواقع أن العادةَ دليلٌ لا يُرَدُّ في بعض البلدان على حسَب أفراد جميع الطبقات.

ولا تُبرهنوا مع المَراضعِ مُطلقًا، وأمُرُوا، ورَوا التَّنفيذ، ولا تدَّخروا وُسعًا في تبسيط العنايةِ التي تفرضونها عملًا، ولِمَ لا تشاطرونها؟ لا تَرى في الأغذيةِ المعتادة، حيث لا يُنظَر إلى غير البدن، أهميةً للبقية مطلقًا إذا ما عاشَ الولدُ ولم يَهْلِك قَطُّ. وأمَّا هنا، حيث التَّربيةُ تبدأ مع الحياة، فإن الولدَ حينما يُولد يكون تلميذًا للطبيعة لا للمُرَبِّي، ولا يصنعُ المُرَبِّي إذ يخضعُ لهذا المُعلِّم الأوَّل، غيرَ الدرسِ ومنعِ مخالفةِ مناحيه، وهو يرْقُب الرضيعَ ويلاحظه ويتتبعه، وهو يرصد منتبهًا أوَّلَ وميضٍ من إدراكه الضعيف، كما يرْصُد المسلمون دقيقةَ ظهورِ الهلال.

ونُولَدُ قادرين على التعلُّم، ولكن غيرَ عارفين شيئًا، غيرَ عالمين شيئًا، وإذ تكون الرُّوحُ مقيدةً بأعضاءٍ ناقصةٍ نصفِ مُكوَّنة، فإنها لا تكون شاعرةً حتى بوجودِها الخاص، وتكون حركاتُ المولودِ حديثًا وصرخاتُه معلولاتٍ آليةً مَحْضًا خاليةً من المعرفة والإرادة.

ولْنفرضْ أن ولدًا كانت له حين ولادته قامةُ رَجلٍ وقوَّته، وأنه خرجَ من بطْنِ أمِّه تامَّ العُدَّة كما خرج بلَّاسُ من دماغِ جُوبيتر، فهذا الرجلُ الولدُ يكون كاملَ البلاهة، يكون نُصْبًا متحرِّكًا وتمثالًا جامدًا فاقدَ الحِسِّ تقريبًا، فلا يرى شيئًا ولا يسمع شيئًا ولا يَعْرِف أحدًا، ولا يستطيع أن يُدير عينيه نحو مَن يحتاجُ إلى رؤيته، ولا يُدرك شيئًا خارجَ نفْسه، فضلًا عن أنه لا يأتي بشيءٍ إلى عضو الإحساسِ الذي يُشعِره به، ولا تكون الألوانُ في عينيه مطلقًا، ولا تكون الأصواتُ في أذنيه مطلقًا، ولا تكون الأجسامُ التي يَمَسُّها على جسمه، حتى إنه لا يعلم أنَّ له جِسمًا منها، وتكون ملامسةُ يديه في دماغه، وتجتمع جميعُ إحساساته في نقطةٍ واحدة، ولا يكون موجودًا في غيرِ مركز الحواس، ولا يكون له غيرُ فكرةٍ واحدة، غيرُ فكرة الذات التي يَرُدُّ إليها جميعَ إحساساته، وتكون هذه الفكرةُ أو الشعورُ كلَّ ما لديه أكثرَ من ولدٍ عاديٍّ.

ولا يَعرِف هذا الرجلُ المكوَّنُ دفعةً واحدةً أن يقف على رجليه أيضًا، ولا بدَّ له من مرورِ زمنٍ طويلٍ حتى يتعلَّم الوقوفَ معتدِلًا، ومن المحتملِ ألَّا يحاول هذا، فتَرَوْا هذا الجسمَ الكبيرَ القويَّ العُصْلُبيَّ يبقى حيث هو كالحجر، أو يزحف ويحبو كالجَرْو.

وهو يَشعُر بما في الحاجاتِ من زَعْجٍ من غيرِ أن يَعْرِفَها ومن غيرِ أن يتمثَّل أيةَ وسيلةٍ لقضائها، ولا يوجد أيُّ اتصالٍ مباشرٍ بين عَضَل المَعِدة وعَضَل الذراعين والساقين يَدفعه، حتى عند إحاطته بالأغذية، إلى التقدُّمِ خطوةً ليدنوَ من هذه الأغذيةِ أو لِيَمُدَّ يدَه إليها ليتناولها. وبما أن بدنه كان على أتمِّ نُموِّه، وبما أن أعضاءه كانت على أكملِ نشوئها، فلا يكون فيها من حيث النتيجةُ ما في الأولادِ من تبرُّمٍ وحركاتٍ دائمة؛ فإنه قد يموت جوعًا قبل أن يتحرَّك طلبًا لقُوتِه. ومهما يكن من تأمُّلٍ قليلٍ حولَ نظامِ معارفنا وتقدُّمها، فإنه لا يمكنُ أن يُنكَرَ أن هذه تقريبًا، هي حالُ الجهلِ والبَلَهِ الطبيعيةِ في الإنسانِ قبْلَ أن يتعلَّم شيئًا من التجرِبة أو من أمثاله.

وتُعرَف إذن — أو يُمكن أن تُعرَف — النقطةُ الأُولى التي ينطلق منها كلُّ واحدٍ مِنَّا ليبلُغ درجةَ الإدراكِ العامة، ولكنْ مَن ذا الذي يَعْرِفُ الحدَّ الآخر؟ يتقدَّم كلُّ واحدٍ تقريبًا وَفْق ذكائه وذوقهِ واحتياجاتِه ومواهبِه وغَيْرتِه وما يُتاح له من فُرَصٍ لممارستها، ولا أعْرِف فيلسوفًا بَلَغ من الجرأةِ ما يقول معه: هذا هو الحدُّ الذي يمكنُ الإنسانَ أن يَصِل إليه فلا يستطيع مجاوزتَه. ونجهلُ ما تسمح طبيعتُنا أن نكونه، ولم يقِسْ أحدٌ مِنَّا ما يمكنُ أن يكونَ بين إنسانٍ وآخَر من فَرْق. وأيةُ نفسٍ ضعيفةٍ لم يُنعشها الفكرُ الآتي، ولم يخامِر زهْوهَا أحيانًا، وهو: ما مقدارُ ما صنعتُ؟ وما مقدارُ ما يمكنني أن أصنع؟ ولِمَ يسيرُ نظيري إلى ما هو أبعدُ مما أسير؟

وأقول مكرِّرًا إن تربيةَ الإنسانِ تبدأُ عند ولادته، وإنه يتعلَّم قبْلَ أن يتكلمَ أو يفهم، وتسبق التجرِبةُ الدروسَ، ويكتسبُ الإنسانُ كثيرًا قبل أن يَعْرِف مُرْضِعه. ومما يُلقي الحيرةَ فينا معارفُ أجلفِ النَّاس إذا ما تَعقَّبْنا تقدُّمَه من ساعةِ ولادتِه حتى الساعةِ التي انتهى إليها، وإذا ما قَسَمْنا جميعَ علمِ الإنسانِ إلى قسْمَين، فقلنا إن أحدهما مشتركٌ بين جميع النَّاس وإن الآخر خاصٌّ بالعلماء؛ وجدْنا أن هذا صغيرٌ جِدًّا بالنسبة إلى الآخر، ولكننا لا نفكِّر في المكتسباتِ العامة مطلقًا؛ وذلك لأنها تتمُّ من غيرِ أن تخطُر ببالٍ، وتقع قبلَ سنِّ التمييز، وذلك إلى أن المعرفةَ لا تُلاحَظ إلا بفروقِها، وأن المقاديرَ لا يُفطَن إليها كما في المعادلات الجبرية.

حتى إن الحيواناتِ تكتسبُ كثيرًا، وللحيوانات حواسُّ، فيجب أن تعرِف كيف تستعملها، ولها احتياجاتٌ، فيجب أن تعرِف كيف تقضيها، ويجب أن تَعْلَم كيف تأكلُ وتمشي وتطير، ولا تستطيع ذواتُ الأربعِ التي تقفُ على قوائمها منذ ولادتِها أن تمشي لهذا السبب، ويُرَى عند خُطُواتها الأُولى أن هذه تجارِبُ يُعْوِزُها الثباتُ، ولا تَعرِف النِّغْران٢٨ التي تَمْلَصُ من أقفاصِها أن تطيرَ مطلقًا؛ لأنها لم تَطِرْ قَطُّ، ويتعلَّم كلُّ ذي حياة وحسٍّ، ولو كانت للنباتات حركةٌ تقدميةٌ لوجب أن تكون ذاتَ حواسَّ، وأن تنالَ معارفَ وإلا لهلكت الأنواعُ من فَوْرها.

وإحساساتُ الأولادِ الأُولى عاطفيةٌ صِرفًا؛ فهم لا يُدرِكون غيرَ اللذةِ والألم، وهم إذ كانوا لا يستطيعون أن يمشُوا أو يُمسكوا؛ يحتاجون إلى كبيرِ وقتٍ حتى يتمَّ لهم من الإحساسِ التصويري بالتدريج ما يُبدي لهم الأشياءَ خارجَ أنفسهم، ولكن ريثما تنبسط هذه الأشياءُ وتبتعد عن عيونهم وتتخذ أبعادًا وصورًا بالنسبة إليهم، يأخذ رَجْعُ الإحساساتِ العاطفيةِ في إخضاعهم لسلطانِ العادة، وتُرى عيونُهم تتوجَّه إلى النورِ بلا انقطاع، فإذا جاءهم منحرفًا اتجهت نحوَه اتجاهًا غيرَ محسوس؛ ولذا يجب أن يُنتَبَه إلى مقابلةِ وجوههم للضياء حتى لا يصبحوا حُولًا أو لا يتعوَّدوا النظرَ عن عُرْض، ويجب أيضًا أن يتعوَّدوا الظلامَ باكرًا، وإلا بَكَوْا وصاحُوا فوْرَ وجودِهم في الظَّلماء. ويُصبح الغذاءُ والنومُ عند قياسهما بالضبطِ أمرَين ضروريَّين في فواصلَ منتظمة، ولا تلبث الرغبةُ أن تأتي من العادة لا من الحاجة، وإن شئت فقُل إن العادةَ تضيف احتياجًا جديدًا إلى الحاجة الطبيعية؛ فهذا ما يجب تداركه.

والعادة الوحيدة التي يجب أن يُسمَح بها للولدِ هي ألَّا يأْلَفَ أيةَ عادةٍ كانت، وألَّا يُحمَلَ على ذراعٍ أكثرَ من الأخرى، وألَّا يُعوَّدَ مَدَّ يدٍ أكثرَ من الثانية فينتفعَ بها غالبًا، وألَّا يريدَ الأكلَ والنومَ والعملَ في الساعاتِ عينِها، وألَّا يُطيق عدمَ البقاءِ وحدَه ليلًا أو نهارًا. وأعِدُّوا من بعيدٍ عهدَ حريتِه واستعمالَ قُواه تاركين العادةَ الطبيعيةَ لبدنه، جاعلين إياه في حالٍ يكون بها سيدَ نفْسه، ويعمل في كلِّ أمرٍ وَفْقَ إرادته عندما يُصبِح صاحبَ عزم.

ومتى أخذ الولدُ يَميزُ بعضَ الأشياء من بعضٍ؛ كان من المهمِّ أن يُحسِن الاختيار، ومن الطبيعي أن تقف نظرَه جميعُ الأمورِ الجديدة، وهو يَبلُغ من الشعور بضَعف نفْسه ما يَخشى معه جميعَ ما لا يَعْرِف، وما يكون من عادةِ رؤيةِ الأمورِ الجديدةِ من غيرِ سوءِ تأثيرٍ يُبدِّد هذا الخوف، ومَن يُنشَّأ من الأولادِ في المنازلِ النظيفة حيث لا يكابدون العنكبوتَ مطلقًا؛ يخافون العنكبوتَ، فيلازمهم هذا الخوفُ في كِبَرهِم غالبًا، ولم أرَ قَطُّ فلَّاحًا، رجلًا كان أو امرأةً أو ولدًا، يخاف العنكبوت.

ولِمَ لا تبدأ تربيةُ الولدِ قبل أن يتكلَّم ويفهم إذن ما دام اختيارُه الوحيدُ للأشياء التي تُعرَض عليه يجعله هيَّابًا أو شجاعًا؟ أوَدُّ تعويدَه رؤيةَ الأشياء الجديدة والحيوانات البشيعة الكريهة الغريبة، ولكن بالتدريج ومن بعيد، حتى يألفَها، فيتصرَّف فيها تصرُّفَ الآخرين، وإذا ما أبصرَ في صباه من غيرِ ذُعرٍ ضفادعَ وأفاعيَ وسراطينَ فإنه يُبصِرُ في كِبَره أيَّ حيوان كان من غيرِ نفور، ولا يبقى ما يشمئزُّ منه فيما يرى كلَّ يوم.

ويخاف جميعُ الأولادِ الوجوهَ المستعارة، وأبدأ بإراءةِ إميلَ وجْهًا مستعارًا مليحًا، ثُمَّ يضع بعضُهم هذا القِناعَ على وجههِ أمامه، فأضحك ويضحك جميعُ النَّاس، ويضحك الولدُ كالآخرين، وأُعوِّده الوجوهَ المستعارة الأقلَّ ملاحةً مقدارًا فمقدارًا، ثُمَّ أعوِّده الوجوهَ الكريهةَ في آخرِ الأمر، وإذا ما راعيتُ تدرُّجي وأحسنتُ ما راعيتُ فإنه يضحكُ من القناعِ الأخيرِ ضحكَه من الأوَّل بعيدًا من الذُّعر، وإذا ما حدث هذا عُدت لا أخشى خوفَه من الوجوه المستعارة.

ولمَّا وَدَّعَ هِكتُور أنْدرُوماك ذُعِرَ أسْتيَانَكْسُ من الريشِ الذي كان يتموَّج فوقَ خُوذةِ أبيه، فأنكر أباه وارتمى على صدْر مُرْضِعه وهو يبكي، وانتزعَ من أمِّه ابتسامةً ممزوجةً بالدموع، وما كان يجب أن يُصنَعَ لإنقاذه من هذا الفزع؟ أن يُصنَعَ ما فعل هِكتور، فتُوضعَ الخُوذة على الأرض، ويُلاطَف الولد، ولا يُوقَف عند هذا الحدِّ في وقتٍ أكثرَ هدوءًا، بل يُقترَب من الخُوذة ويُلاعَب الريش، ويُحمَل الولدُ على ملامسته، ثُمَّ تتناول المُرْضِعُ الخُوذةَ وتضعُها على رأسها وهي تَضْحك، لو كانت يدُ المرأةِ تجرُؤ على مسِّ أسلحةِ هِكتور.

وإذا ما وجبَ تمرينُ إميلَ على صوتِ سلاحٍ ناريٍّ أشعلتُ بارودًا في طَبنْجة، فيَسُرُّه هذا اللهبُ المفاجئ العابر، هذا النوع من البرْق، وأكرِّر الأمرَ عينَه ببارودٍ أكثرَ من ذاك، وإلى الطبنجة أُضيفُ بالتدريج حشوةً صغيرةً بلا وَبَر، ثُمَّ أُضيف حشوةً أكبرَ من تلك، وأخيرًا أُعوِّده طَلَقات البندقيةِ والأسهمَ الناريةَ والمدافعَ وأفظعَ الانفجارات.

وقد لاحظتُ أن من النادر خوفَ الأولادِ من الرَّعدِ ما لم يكن قصفُه هائلًا مؤذيًا لحاسَّة السَّمْع حقًّا. وهم لا يأتيهم هذا الفَزَعُ إلا حين يعلمون أن الرَّعدَ يجرح أو يَقتل أحيانًا، ومتى بدأ العقلُ يُلقي الرعبَ فيهم، فاجعلوا العادةَ تُسكِّن رَوْعَهم، ويُجعَلُ الرجلُ والولدُ شجاعَين تجاه كلِّ شيءٍ بتدرُّجٍ بطيءٍ مع الحَذَر.

وفي بدْء الحياة، حين تكون الذاكرةُ والمُخيِّلَةُ مُعطَّلتَين، لا يَنتَبِه الولدُ إلى غيرِ ما يؤثِّر في حواسِّه فعلًا، وبما أن هذه الإحساساتِ أُولَى موادِّ معارفه، فإنَّ عَرْضَها عليه بنظامٍ ملائمٍ يعني إعدادَ ذاكرته لتقديمها ضمْن ذاتِ النظامِ إلى إدراكِه ذاتَ يومٍ. ولكنْ بما أنه لا يبالي بغيرِ إحساساته فإنه يَكفي أن يُرَى بجلاءٍ ما بين هذه الإحساسات والعوامل التي تُحدِثها من ارتباط. وهو يريد لمسَ كلِّ شيء، وهو يريد استعمالَ كلِّ شيء، فلا تُقاوِموا هذا الاكتراثَ مطلقًا، لِما يُوحي إليه من تَخرُّجٍ ضروريٍّ جِدًّا. وهكذا يتعلَّمُ الشعورَ بحرارةِ الأجسامِ وبرودتِها وخشونتِها ونعومتِها، وثِقَلِها وخِفَّتِها، والحكمَ في حجْمها وصورتها وجميعِ خواصِّها المحسوسة، وذلك بالنظرِ واللمسِ٢٩ والسمع، ولا سيَّما قياسُه النظرَ على اللمسِ، وتقديرُه بالعين ما يُحِسُّه بأصابعه.

وليس بغيرِ الحركة ما نعرِف وجودَ أمورٍ لم تكن إيانا، وليس بغيرِ حركتنا الخاصة ما نكتسِب فكرةَ الاتساع. وبما أن هذه الفكرة لم تكن لدى الولد، فإن الولدَ يبسُط يدَه بلا تمييز ليمسِك الشيءَ الذي يَمسُّه أو الشيءَ البعيدَ منه مائة خُطوة. ويبدو لكم هذا الجهدُ الذي يبذله دليلًا على السلطان، أمرًا يُصدِره إلى الشيء حتى يدنوَ، أو يُصدره إليكم حتى تأتوا به إليه، وليس الأمر هكذا، والأمر هو أن الأشياءَ التي يبصرها في دماغه في البُداءة، ثُمَّ على عينيه، يراها الآن في طَرَف ذراعيه، ولا يتصوَّر اتِّساعًا غيرَ الذي يستطيع أن يصل إليه، واعْنَوا إذن بأن تَجولوا به غالبًا، وأن تَنقلوه من موضِعٍ إلى آخَر، وأن تُشعِروه بتغيُّر المكان لكي يتعلَّم الحكمَ في المسافات، ومتى أخذ يَعْرِفها وجبَ تغييرُ المنهاج وعدمُ حمْله على غيرِ ما يَروقكم لا كما يروقه، وذلك أنه إذا عاد لا يُخدَع بالحسِّ غيَّرَ جُهدُه العلةَ، وهذا التغييرُ جديرٌ بالاعتبار، ويتطلب إيضاحًا.

إن الإشاراتِ تُعبِّرُ عن اضطراب الحاجات عندما يكون عونُ الآخرين ضروريًّا لقضائها، ومن هنا يجيء صراخُ الأولاد، ويبكي الأولادُ كثيرًا، وهذا ما يجب أن يكون. وبما أن جميعَ إحساساتهم عاطفيةٌ فإنها إذا ما كانت مقبولةً تمتَّعوا بها صامتِين، وإذا ما كانت شاقَّةً أبدَوْها بلغتهم وطلبوا تسلية. والواقعُ أنهم عندما يستيقظون لا يستطيعون البقاءَ في حالٍ من عدم المبالاة تقريبًا؛ فهم إمَّا أن يناموا أو أن يشعُروا.

وجميعُ لغاتنا أعمالُ فن، وقد بُحث طويلًا عن وجودِ لغةٍ طبيعية مشتركة بين جميع النَّاس، ولا ريبَ في وجود لغةٍ من هذا الطراز، وهذه هي اللغة التي يتكلَّم بها الأولادُ قبلَ أن يَعْرِفوا الكلام. أجلْ، إن هذه اللغةَ ليست ذاتَ مفاصل، غيرَ أنها ذاتُ نبرات، غير أنها طنَّانة بيِّنة، وما هو واقعٌ من استعمال لغاتنا يحمِلُنا على إهمالها إهمالًا ننساها به تمامًا، ولْندرُس الأولادَ، ولا نلبث أن نتعلَّمها بجانبهم ثانيةً. ويُعَدُّ المَراضِعُ مُعلِّماتٍ لنا في هذه اللغة؛ فهنَّ يسمعن جميعَ ما يقول رُضَّعُهُن، وهنَّ يُجبنَهم، وتقع بينهن وبينهم محاوراتٌ متساوقة كثيرًا، ومهما تكن الكلماتُ التي ينطِقنَ بها فإنه لا طائلَ تحت هذه الكلمات قطعًا؛ فليس معنى الكلمة هو الذي يسمعون، بل النبْرة التي تلازمها.

وإلى لغة الصوتِ تُضافُ لغةُ الإشارة التي لا تُعدُّ أقلَّ مَضَاء، وليست هذه الإشارةُ في أيدي الأولادِ الضعيفة، بل على وجوههم. ومن موجباتِ العَجَبِ مقدارُ ما يبدو على هذه الوجوهِ غيرِ الناميةِ من تعبيرٍ في ذلك الدور؛ فملامحُهم تتغيَّر بين ثانيةٍ وأخرى بسرعةٍ لا يُمكن تصوُّرُها؛ ففيها تُبصِرون الابتسامةَ والرغبةَ والرهبةَ تَظْهَرُ وتَمرُّ كالبرق، وفي كل مرةٍ تظنون أنكم ترون وجهًا آخَر. ولَعَمْرِي إنَّ عَضَلَ وجوهِهم أكثرُ تحوُّلًا من عَضَلِ وجوهِنا، وبالمقابلة لا تَنطِق عيونُهم الكابيةُ بشيءٍ تقريبًا. وهذا ما يجب أن يكون عليه نوعُ حركاتهم في سنٍّ لا يوجد فيها غيرُ احتياجاتٍ بدنيةٍ ما دام التعبيرُ عن الإحساساتِ يكون في القُطُوب، وما دام التعبيرُ عن المشاعر يكون في النظرات.

وبما أن حالَ الإنسانِ الأُولى تقوم على العَناء والضَّعف، فإن أصواته الأُولى تكون أصواتَ عويلٍ وبكاء، ويَشعُر الولدُ باحتياجاته، ولا يستطيعُ قضاءها، فيلتمس عَوْنَ سواه بالصُّراخ. وهو إذا ما جاع أو عَطِشَ بكى، وهو إذا ما بَرَدَ أو صار محرورًا بكى، وهو إذا ما احتاج إلى الحركة وأُمسِكَ ساكنًا بكى، وهو إذا ما أراد النومَ وحُرِّك بكى، وهو كلَّما قلَّ وجهُ راحته طلب تبديله. وليس لديه غيرُ لغةٍ واحدة، وذلك أنه ليس عنده غيرُ نوعٍ واحدٍ من انحراف المِزاج، وذلك أنه لا يُفرِّقُ بين مختلف انفعالات الأعضاء عن عدم كمالها؛ فجميع الأمراض لا تُحدِث فيه غيرَ إحساسٍ واحدٍ بالألم.

وتنشأ أُولى صِلاتِ الإنسانِ بجميعِ ما يحيط به عن تلك الدموعِ التي يُظنُّ أنها لا تستحِقُّ انتباهَكم إلا قليلًا؛ فهنا تُطرَّق الحلْقةُ الأُولى من تلك السلسلةِ الطويلةِ التي يتألَّفُ منها النظامُ الاجتماعي.

ويَنِمُّ بكاءُ الولدِ على اضطرابه، يَنِمُّ على احتياجٍ فيه لا يستطيع قضاءه، ويُرقَبُ هذا الاحتياجُ ويُبحَثُ عنه ويُوجَد ويُتلافى. وهو إذا لم يُوجَد أو إذا لم يُمكِن تلافيه، دامت الدموعُ وزُعِج منها، فيُدَارى الولدُ إسكاتًا له، ويُهدْهَد، ويُرنَّم له لِينام. وهو إذا ما عاندَ وفرغَ الصبرُ هُدِّدَ وضربته المَراضِعُ الشرساتُ أحيانًا. فيا لهذه الدروس الغريبة عند دخوله الحياة!

ولن أنسى ما رأيتُ من ضرْب المُرْضِع لأحدِ هؤلاء البكَّائين المزعِجِين، وكان يسكُتُ من فوْره، فأظن أنه أُخيف، فأقول في نفسي: «إن هذه نفسٌ ذليلةٌ لا يُنال منها شيءٌ بغيرِ العنف.» وكنت مخطئًا في هذا؛ فكان هذا التَّعِس يختنق غيظًا ولا يستطيع أن يتنفَّس، فأراه بنفسجيَّ اللون، وتمضي دقيقةٌ فتخرُج منه صيحاتٌ حادة، فتتجلَّى في نبراته جميعُ علائم غيظ ذلك العُمُر وغضبه ويأسه. وقد خشيت أن تفيض رُوحُه في أثناء هذا الهيجان، ومتى شككتُ في كون حِسِّ العدل والظلم غريزيًّا في قلبِ الإنسانِ كان في ذلك المثال وحدَه ما يُقنعني. ولا ريبَ عندي في أن جذوةً من النارِ إذا ما سقطت مصادفةً على يدِ ذلك الولدِ كانت ذاتَ وقعٍ أقلَّ من تلك الضربة الخفيفة التي أُنزِلت عليه، ولكن مع نيةٍ بيِّنةٍ للإساءةِ إليه.

ويَتطلَّبُ هذا الميلُ في الأولاد إلى الحدة والغضب والهياج مداراةً متناهية. ويرى بُويرْهاف أن معظمَ أمراضهم من فصيلةِ التشنُّجات؛ وذلك لأن الرأس إذ كان في الأولاد أضخمَ مما في البالغين نسبةً، ولأن الجهاز العصبي إذ كان في أولئك أكثرَ امتدادًا مما في هؤلاء؛ فإن النوعَ العصبيَّ في الأولاد يكون أشدَّ استعدادًا للغضب، فاعْنَوا كثيرًا في أن تُقْصُوا عنهم الخدَمَ الذين يزعجونهم ويهيِّجونهم ويُفرغون صبرهم؛ فهؤلاء أشدُّ خطرًا وشؤمًا عليهم مائة مرة من مضارِّ الهواء والفصول، ولا يُصبح الأولاد عُنُدًا ولا غِضابًا، ويكونون أحسنَ صحةً ما داموا لا يجدون مقاومَةً في غيرِ الأشياء، لا في العزائم مطلقًا. وهذا من جملةِ الأسباب في أن أولاد الشعب، إذ كانوا أكثرَ حريةً واستقلالًا، يَبدُون على العموم أقلَّ سَقَمًا وأقلَّ ضَعْفًا وأشدَّ قوَّةً، من أولئك الذين يُزعَمُ أنهم أحسنُ تربيةً بمعاكستهم دائمًا. ولكن ليُذكرْ دائمًا وجودُ فَرْقٍ بين إطاعتهم ومعاكستهم.

ودموعُ الأولادِ الأُولى تضرُّعات، ولا تلبث أن تصيرَ أوامرَ إذا لم يُحترز منها، ويبدأ الأولادُ بأن يُعاوَنوا، وينتهون بأن يُخدَموا. وهكذا ينشأ عن ضَعْفهم في بدءِ الأمر شعورُ انقيادهم، ثُمَّ تنشأ فكرةُ السيطرة والسلطان. ولكن بما أن هذه الفكرةَ أقلُّ هياجًا باحتياجاتهم مما بخِدَمنا؛ فإنه يُبدأ هنا بالشعورِ بالنتائج الأدبية التي ليس سببُها المباشر في الطبيعة. وهكذا يُرى السببُ منذ هذا الدَّورِ الأوَّلِ في وجوبِ تمييز المَقصِد الخفي الذي يُملي الحركةَ أو العويل.

ومتى مَدَّ الولدُ يدَه بجهدٍ من غيرِ أن يقول شيئًا، اعتقدَ أنه يَبلُغ الشيءَ لعدم تقديره المسافة، وهو مخطئٌ في ذلك. ولكن الولد إذا ما توجَّع وصرخ مادًّا يده عادَ لا يُعَدُّ مخطئًا في أمرِ المسافة، وإنما يأمر الشيءَ بالاقتراب، أو يأمركم بأن تَجلُبوه إليه، واحمِلُوه في الحال الأُولى إلى الشيء رُويدًا رُويدًا وبخطًى صغيرة، ولا تَبدوا في الحالِ الثانية أنكم تسمعون صيحاته؛ فكلَّما صرخَ وجبَ أن يقلَّ استماعُكم له. ويجدُر أن يُعوَّدَ باكرًا عدمَ أمرِ النَّاس لأنه ليس سيِّدًا لهم، وعدمَ أمرِ الأشياءِ لأنها لا تَسمعه مطلقًا. وهكذا يجدُر أن يُؤتى بالولدِ إلى الشيء إذا ما رَغِبَ في شيءٍ يراه ويُرادُ إعطاؤه إياه، أكثرَ من أن يُؤتى بالشيء إلى الولد؛ فهو يستنبط من هذه العادةِ نتيجةً ملائمةً لِسنِّه، ولا توجد وسيلةٌ أخرى لتلقينه إياها.

وكان رئيسُ الدير سان بِيير يَدعو الرجالَ أولادًا كِبارًا، وبالمقابلة كان يمكن أن يُسمَّى الأولادُ رِجالًا صِغارًا. ولهذه القضايا حقيقتُها كالأحكام، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ كالمبادئ. ولكنَّ هُوبْزَ عندما دعا الشَّرِيرَ ولدًا قويًّا قال شيئًا متناقضًا على الإطلاق؛ فكلُّ شَرٍّ يأتي من الضَّعْف، وليس الولدُ شَرِيرًا إلا لأنه ضعيف، واجعلوا الولدَ قويًّا يصبح صالحًا، وذلك أن الذي يقدِر على كلِّ شيء لا يصنعُ الشَّر مطلقًا. وإذا نُظر إلى جميعِ صفات الله القادر وُجِدَ الصلاحُ من صفاته التي يَصعُب تصوُّره بغيرها، وإذا نُظِر إلى جميعِ الأمم التي عَرفت المبدأين وُجِدَ أنها تَعُدُّ الشرَّ دون الخير، وإلَّا لأتت بقضيةٍ مُحالة، وانظروا إلى عقيدة الرسوليِّ السافوِيِّ فيما بعد.

والعقلُ وحدَه هو الذي يُعلِّمنا معرفةَ الخير والشر، ومع أن الشعورَ الذي يَجعَلُنا نحبُّ إنسانًا ونكره الآخَر مستقلٌّ عن العقل؛ فإنه لا يمكن أن ينموَ بغيره إذَن. ونحن نصنعُ الخيرَ والشرَّ قبْل سِنِّ الرُّشد من غير أن نعرِف ذلك، ولا يوجد فضلٌ في أفعالنا مطلقًا، وإن وُجد أحيانًا في شعورِنا بأفعالِ الآخرين الذين لهم صلةٌ بنا. ويَودُّ الولدُ أن يُخِلَّ بكلِّ ما يَرى؛ فهو يكسِر ويُحطِّم كلَّ ما يستطيع أن يصل إليه، وهو يُمسِك الطائرَ كما يُمسِك الحَجر، وهو يخنقه من غيرِ أن يَعْرِف ما يعمل.

ولِمَ هذا؟ أوَّلًا: إن الفلسفة تُسوِّغ ذلك بالعيوب الطبيعية، تُسوِّغه بالزهوِ ورُوحِ السيطرة وحبِّ الذات وسوء الخُلُق، وقد تُضيف الفلسفة إلى هذا كونَ شعورِ الولدِ بضَعْفه يجعله حريصًا على إتيانه أعمالَ قوَّةٍ فيُثبِت لنفسه قدْرته الخاصة. ولكن انظروا إلى هذا الشيخِ العاجز المحطَّم الذي رُدَّ إلى ضَعف الطفولةِ ضِمن دائرةِ الحياة البشرية؛ تجدوا أنه لم يبقَ ساكنًا هادئًا فقط، بل يَودُّ أن يبقى كلُّ شيء حولَه ساكنًا هادئًا أيضًا؛ فأقلُّ تغييرٍ يُزعجه ويُقلقه، وهو يريد أن تَسودَ دَعَةٌ عامة. وكيف يُسفِر عينُ العجزِ المضافِ إلى الأهواء عينِها عن نتائجَ كثيرةِ الاختلاف في الدَّورَين إذا لم يتغيَّر السببُ الأصلي؟ وأين يُمكن أن يُبحَثَ عن اختلاف الأسباب هذا إذا لم يكن في الحالِ البدنيةِ للاثنين؟ ينمو المبدأ الفعَّال المشترك بين الاثنين في أحدهما وينطفئ في الآخر، ويَتصوَّرُ أحدُهما ويتلاشى الآخر، ويتَّجه أحدهما إلى الحياة ويتجه الآخرُ إلى الموت، وتتجمع الفاعليةُ الخائرة في قلبِ الشيخ وتكون الفاعليةُ الغزيرة في قلبِ الولدِ وتمتدُّ إلى الخارج. وهو يشعر بمقدارٍ من الحياة يكفي لإنعاش جميعِ مَن يحيطون به، ولا طائلَ في أن يفعل أو يُبطِل، ويكفي أن يُغيِّر حالَ الأمور؛ فكلُّ تغييرٍ عملٌ، وإذا ما لاح أكثرَ ميلًا إلى الهدمِ لم يكن هذا عن شرٍّ قَطُّ، بل عن كونِ العملِ المُصوِّر بطيئًا دائمًا، وعن كونِ العملِ الهادمِ أحسنَ ملاءَمةً لنشاطه لأنه أكثرُ سرعة.

وبينا يُنْعم صانعُ الطبيعة على الأولاد بهذا المبدأ الفعال، يُعنَى بأن يكون أقلَّ ضررًا، وذلك بتركِه لهم قوةً قليلةً لاستعماله، ولكنهم عندما يَقدِرون على عدِّ الناس الذين يحيطون بهم آلاتٍ يُسيِّرونها؛ فإنهم يستخدمونهم في تنفيذِ رغبتهم والعِوَض من ضَعفهم، وهكذا يَغدون مزعجين باغين متجبرين أشرارًا جامحين. وينشأ التقدُّم الذي لا يأتي من رُوح السيطرة الطبيعي عن الذي يَمنحُهم إياه، وذلك أنه لا يتطلَّب طويلَ تجرِبةٍ أن يُشْعَر بمقدار اللذة في العمل بأيدي الآخرين، وفي عدم الحاجة إلى غيرِ تحريك اللسان لتسيير العالم.

وإذا ما كبُرَ الولدُ اكتسب قوةً وأصبح أقلَّ قلقًا واضطرابًا وأكثر استقلالًا، وهكذا يتوازن الرُّوح والبدن. ولا تطالبنا الطبيعةُ بأكثرَ من الحركة الضرورية لبقائنا، بَيْدَ أن الرغبة في القيادةِ لا تزول مع الحاجةِ التي نشأت عنها؛ فالسلطان يوقِظُ حبَّ الذاتِ ويصانعه، والعادة تقوِّيه، وهكذا يَعقُب الهوى الحاجةَ، وهكذا تكون لمُبتَسراتِ الرأي جذورُها الأُولى.

وإذا ما عُرِف المبدأُ مرةً اتضحت لنا النقطة التي تُترَك منها طريقُ الطبيعة، فلنُبصِرْ ما يجبُ أن يُصنع للبقاء عندها.

ويَبعُد الأولادُ من أن يكونوا ذوي قوةٍ بالغة، حتى إنه ليس عندهم من القوة ما يكفي لِما تطالبهم به الطبيعة؛ ولذا يجب أن يُترَك لهم استعمالُ جميعِ القوى التي تُنعِم الطبيعةُ بها عليهم، فلا يمكِنُهم أن يُسيئوا استعمالَها، وهذا هو المبدأُ الأوَّل.

ويجب أن يُساعَدوا، وأن يُتدارَك ما يُعْوِزُهم من المعرفةِ أو القوة في كلِّ احتياجٍ بدني، وهذا هو المبدأ الثاني.

ويجب أن يُقتَصَرَ في العَوْن الذي يُمَدُّون به على النافعِ الحقيقي، من غير أن يُلبَّى داعِي الهوى أو الرغبةِ بلا سبب؛ وذلك لأن الهوى لا يُزعجهم مطلقًا إذا لم يُحدَث؛ فالهوى ليس من الطبيعة، وهذا هو المبدأ الثالث.

ويجبُ أن تُدرَس لغتُهم وإشاراتُهم بعناية، وذلك لكي يُفرَّق في رغباتهم في سنٍّ لا يَعْرِفون أن يخادِعوا فيها، بين ما يَصْدُر عن الطبيعة مباشرةً وما يَصْدُر عن الرأي، وهذا هو المبدأ الرابع.

وتقوم رُوح هذه المبادئ على مَنْحِ الأولادِ حريةً حقيقيةً كثيرةً وقليلَ سلطان، وأن يُترَك لهم كبيرُ مجالٍ للعملِ بأنفسهم وقليلُ تطلُّبٍ من الآخرين، وهكذا يتعوَّدون باكرًا أن يَقصِروا رغباتهم على قُواهم، فيقلُّ شعورُهم بحرمانهم ما لا يكون ضِمْن طاقتهم.

وهذا إذن سببٌ جديدٌ بالغُ الأهمية لتركِ أجسامِ الأولادِ وأعضائهم طليقةً تمامًا، وذلك على أن يُبعَدوا من الخطرِ والسقوط، وأن يُرَدَّ عن أيديهم كلُّ ما يُمكن أن يؤذيَهم.

ولا مِراءَ في أن الولدَ الطليقَ البدنِ والذراعين يكون أقلَّ بكاءً من الولدِ المشدودِ ضِمن قِمَاط. ولا يبكي الولد الذي لا يَعْرِف غيرَ احتياجات البدن ما لم يتوجَّع، وينطوي هذا على فائدةٍ عظيمة؛ وذلك لأنه يُعلَم بذلك متى يَحتاج إلى العَوْن تمامًا، فلا يُتأخَّر ثانيةً عن منحِه إياه جُهدَ الاستطاعة. ولكنكم إذا لم تستطيعوا تسكينَه فابقَوْا هادئِين غيرَ مدارين إياه تسكينًا له، فلا تَشفِيه ملاطفتُكم عن مَغْصه، ومع ذلك فإنه سيَذكُر ما يجب أن يُصنَع ليُصانَع، وهو إذا عَرفَ أن يحمِلَكم على المبالاة به مرةً وَفْقَ ما يريد أصبح سيدكم، وضاع كلُّ شيء.

ويكون الأولادُ أقلَّ بكاءً إذا قلَّت معاكستهم في حركاتهم، وهم إذا ما قلَّ القلقُ من دموعهم قلَّ الألمُ من حمْلهم على السكوت، وهم إذا ما قلَّ تهديدهم أو مداراتهم غالبًا غدَوا أقلَّ جُبنًا أو عنادًا، وظلُّوا أحسنَ وضعًا في حالهم الطبيعية. وتَحدُث الفتوق في الأولادِ ببكائهم أقلَّ مما بالمبادرة إلى تسكينهم، ودليلي على ذلك كونُ الأولادِ المُهمَلين أقلَّ عُرضةً للفَتْق من غيرهم، ومع ذلك تَجِدُني بعيدًا جِدًّا من كلِّ رغبةٍ في إهمالهم، وعلى العكس أرى أن يُجابوا إلى رغبتهم قبْل أن يُعبِّروا عنها، وألَّا تُعلَم احتياجاتُهم بصُراخهم، ولكنني لا أريدُ أن يُبتعَد عن الفطنةِ في العنايةِ بهم. ولِمَ يكونُ من الخطأ بكاؤهم ما داموا يرون دموعَهم صالحةً لنيلِ كثيرٍ من الأمور؟ إذا ما عَلِموا أيُّ ثمنٍ يكون لسكوتهم احترَزُوا من تبديده، وهم يَبلُغون من الغُلوِّ في استغلاله ما لا يُؤدَّى ثمنُه معه في نهاية الأمر، وهنالك يَجِدُّون ويَضْنَوْن ويسكتون عن بكاءٍ بلا جدوَى.

وليست دموعُ الولدِ غيرِ المقيدِ ولا المريضِ والذي لا يُعْوِزُه شيء، ليست دموعُ هذا الولدِ غيرَ دموعِ عادةٍ وعناد، وليست هذه الدموعُ من عمل الطبيعة، بل من عمل المُرْضِع التي لا تطيق ما توجبه من إزعاجٍ فتزيده، وذلك أنه لا يَخطُر ببالها كونُ الولدِ إذا ما أُسكت اليومَ حُرِّض على البكاء غدًا بما هو أكثرُ من ذاك.

والوسيلةُ الوحيدة للشفاء من هذه العادة أو منعِها هو أن يُتغافل عنها، ولا يَودُّ أحد، حتى الأولاد، بذْلَ جُهدٍ على غيرِ جَدْوَى. أجلْ، إنهم يُصِرُّون على محاولاتهم، ولكنكم إذا كنتم أكثرَ عنادًا منهم فترَت هِمتُهم ولم يعودوا إلى ذلك مطلقًا، وهكذا تُوفَّرُ عليهم دموعُهم ويُعوَّدون عدمَ سكبِ شيءٍ منها ما لم يَحْمِلهم الألمُ على ذلك.

ثُمَّ إنهم إذا ما بَكَوْا عن هوًى أو عن عنادٍ كانت الوسيلةُ الوثيقةُ لِمنعِهم من الاستمرار على هذا أن يُلهَوا بشيءٍ مستحَبٍّ مؤثِّرٍ يَنسَون به أنهم يريدون البكاء، ويُجيدُ معظمُ المَراضِع هذا الفنَّ الذي إذا ما أُحسِنَ استعمالُه كان مفيدًا جِدًّا، ولكن من المهم إلى الغايةِ ألَّا يَشعُرَ الولدُ بِنيَّةِ إلهائِه، وأن يَتلهَّى من غيرِ أن يَعتقِد أنه يُفكَّر فيه، وهذا ما يبدو فيه جميعُ المَراضِع غيرَ ماهرات.

ويُفطَمُ جميعُ الأولاد باكرًا، ويُشارُ إلى الوقتِ الذي يجب أن يُفطَموا فيه بِنبْتِ الأسنان، ويكون هذا النَّبتُ شاقًّا أليمًا على العموم، وهنالك يَحمِلُ الولد إلى فمه، متواتِرًا وبغريزةٍ آلية، جميعَ ما يُمسِك لِيَمْضُغَه، ويُرى أن العملَ يَسهُل بإعطائه جسمًا صُلبًا كأُلْهية، وذلك كالعاجِ أو سنِّ الذئب. وأعتقد أن هذا خطأ؛ فالأجسام الصُّلبة إذا ما وُضعت على اللِّثَّات كان من البعيد أن تُلِينها، وإنما تجعلها جاسئةً وتُصلِّبها وتُعِدُّ تَمزُّقًا أشدَّ مشقَّةً وأعظمَ ألمًا، ولْنتخِذِ الغريزةَ مثالًا دائمًا، فلا تُرى الجِراءُ ممارِسةً أسنانَها النابتةَ على الحَصى أو على الحديدِ أو على العِظام، وإنما تُمارِسها على الخشبِ أو الجِلدِ أو الرِّثاث، وغيرها من الموادِّ اللينة التي تنحني والتي تنطبع عليها السِّن.

ولا نستطيع أن نكون بُسطاءَ في شيء، حتى حَوْل الأولاد. ويا للأجهزةِ غيرِ النافعةِ والضارةِ كالجَلاجلِ الفضية والذهبية والمَرْجانية، وكالبِلَّوْر ذي الوجوهِ، واللُّعَبِ من أيِّ ثمنٍ أو أيِّ نوعٍ كان! لا شيءَ من جميعِ هذا؛ فلا جَلاجلَ ولا لُعَب؛ فله في أغصانِ الشجر الصغيرة مع أثمارها وأوراقها، وله في رأسِ الخَشْخَاش الذي يُسمَع فيه طنينُ الحَب، وله في عِرْق السُّوس الذي يستطيع أن يَمُصَّه ويَمْضُغه؛ أُلهيَّةٌ كما في تلك الأشياءِ الفاخرة، وذلك مع عدمِ اشتمالِها على تعويدِه النفائسَ منذ ولادته.

ومن المعترَف به كونُ الحَساء غِذاءً غيرَ صحيٍّ كثيرًا، وينشأ عن اللبن المغليِّ والدقيقِ غيرِ المطبوخ دَرَن، ولا يلائمان مَعِدَتنا. ويكون الدقيقُ في الحَسَاءِ أقلَّ نَضْجًا مما في الخُبز، فضلًا عن عدمِ اختماره. ويلوحُ لي أن الخبزَ المنقوعَ في ماءٍ وزُبدَة، وقِشْدَةَ الأَرُزِّ أفضلُ من ذاك، وإذا كان لا بدَّ من صُنع حَسَاءٍ كان من الملائمِ تحميصُ قليلٍ من الدقيق مُقدَّمًا. وفي بلدي يُصنع من الدقيقِ المُحمَّصِ هكذا حَسَاءٌ لذيذٌ جِدًّا، صحيٌّ جِدًّا، وكذلك مَرَقُ اللحمِ والثَّريدُ غذاءٌ متوسط؛ فلا ينبغي اتخاذهما إلا قليلًا ما أمكن، ومن المهم أن يتعوَّد الأولادُ المضغَ في البُداءة، وهذه هي الوسيلةُ الحقيقيةُ لتسهيلِ نَبْتِ الأسنان؛ فمتى أخذ الأولادُ يَبْلَعون سَهَّلت الهضمَ عُصارةُ اللُّعَابِ الممزوجةُ بالأغذية.

وسأجعلهم يمضُغُون الفواكهَ الجافَّةَ وكِسَرَ الخبزِ إذن، وسأُعطيهم، كأُلعُوبة، أصابعَ صغيرةً من الخبزِ الناشفِ أو بسكوتًا مشابهًا لخبزِ بِيمُونتَ، فيُسمَّى غرِيسًّا في هذا البلد، ويبتلعون قليلًا من هذا الخبزِ في آخِرِ الأمرِ عن كثرةِ ما يُلانُ منه في أفواهِهم. وتنبُتُ أسنانُهم، ويُفطَم الولدُ من غيرِ أن يُشعَر بذلك. وتُوجَد للفلاحين مِعَدٌ صالحةٌ عادةً فيُفطَمون بلا ضوضاء.

ويَسمع الأولادُ الكلامَ منذ ولادتهم، ولا يُخاطَب الأولادُ قبْل أن يُدرِكوا ما يُقال لهم فقط، بل قَبْل أن يستطيعوا ردَّ الأصواتِ التي يسمعونها، ولا تقوم الأعضاءُ التي لا تزال خَدِرةً بتقليدِ الأصواتِ التي تُملَى عليها إلا بالتدريج، حتى إنه ليس من الثابتِ أن تَقْرَعَ هذه الأصواتُ آذانَهم، كما تَقْرَع آذانَنا بجلاء. ولا ألومُ المُرضِعَ على إلهاءِ الولدِ بأغانٍ ونبراتٍ مَرحةٍ منوَّعة، ولكنني أَكره أن تُزعِجه بطائفةٍ من الكلامِ الفارغِ لا يفقه منها غيرَ ما تَضَعه فيها من نَغم. وكلُّ ما أَودُّ هو أن تكون المفاصلُ الأُولى التي يُسَمَّعُها نفيسةً سهلةً واضحةً مُكرَّرةً غالبًا، وأن تكون الكلماتُ التي تُعبِّر عنها دالَّةً على أشياءَ محسوسة، يُمكن أن تكون أوَّلَ ما تُعرَض على الولد. وتبدأ السهولةُ المشؤمةُ في استعمال الكلمات التي لا نُدرِكها باكرًا أكثرَ مما نظن. ويَسمع الطالبُ وهو في الصفِّ هَذَرَ مُعلِّمه كما كان يسمع ثرثرةَ مُرْضِعه وهو في القِماط. ويلوحُ لي أن من حُسنِ التَّربيةِ تركَه جاهلًا في كلا الحالين.

ومتى أُريدَ الاكتراثُ لتكوينِ لغةِ الأولادِ وكلامِهم الأوَّل أتت التأمُّلاتُ جملة. ومهما يكن من أمرٍ فإن الأولادَ يتعلمون الكلامَ على نمطٍ واحدٍ دائمًا، وهنا تكون جميعُ النظريات الفلسفية غيرَ نافعةٍ إلى أبعدِ حدٍّ.

وذلك أوَّلًا أنَّ لهم نحوًا ملائمًا لعُمُرِهم ذا إعرابٍ وقواعدَ أعمَّ مما في نحونا، وإذا ما أُنعِمَ النظرُ في ذلك دُهِشَ من دقَّتهم في بعض المشابهات الكثيرةِ الانتظامِ مع ما فيها من نقصٍ كبير، والتي لا تكون نابيةً إلا لجفائها أو لأن العادةَ لا تُقِرُّها. ومنذ قليلٍ سمعتُ ولدًا يَنهرُه أبوه لقوله: Mon pére-irai-je-t-y? والواقعُ أن هذا الولدَ اتَّبعَ القياسَ بأوثقَ مما يَتَّبِعُ نحْوِيُّونا؛ وذلك أنه يُقال له: Va-s-y، فلِمَ لا يقول: Irai-je-t-y? وفضلًا عن ذلك فانظُروا مبلغَ المهارةِ التي يتجنَّب بها التقاءَ حرْفَي العِلَّةِ في irai-je-y?، أو y-irai-je?، وهل من خطأ الولدِ أن كُنَّا على غيرِ صوابٍ في نزْعِنا من الجملةِ ظرفَ y القاطعَ لأننا لم نعرفْ ما نصنعُ به؟ إنَّ من الحذْلقةِ التي لا تُطاقُ ومن العنايةِ الفارغةِ أن يُصلَح في الأولادِ جميعُ الأغاليطِ الصغيرةِ المخالفةِ للعادةِ والتي تُصحَّح مع الزَّمنِ من تلقاء نفسها. فليكُن كلامُكم صحيحًا أمامهم دائمًا، واجعلوهم لا يُسَرُّون بأحدٍ سرورَهم بكم، ثُمَّ ثِقُوا بأن لسانَهم يُقوَّم وَفْقَ لسانِكم على وجهٍ غيرِ محسوس، ومن غيرِ أن تَقوموا بإصلاحٍ في ذلك نحوَهم.

ولكنه يُوجَد شرٌّ أبلغُ من ذاك لا يَسهُل اجتنابه، وذلك أنه يُعجِّلُ كثيرًا في حمْلِ الأولادِ على الكلام، كأنه يُخشى ألَّا يتعلَّموه بأنفسهم، وذلك الاستعجالُ الطائشُ يؤدي مباشرةً إلى نتيجةٍ مخالفةٍ للمطلوب، وذلك أنهم يتكلَّمون بذلك مؤخَّرًا على وجهٍ أشدَّ اختلاطًا، وذلك أن العنايةَ المتناهيةَ التي تُبذَل حولَ كلِّ ما يقولون تُعفيهم من الكلامِ بوضوح، وذلك بما أنهم لا يكادون يفتحون أفواهَهم فإن كثيرًا منهم يحتفظ، مدى حياته، بعيبٍ في اللفظِ وبنُطقٍ مختلطٍ يجعلهم أعْياءَ تقريبًا.

وقد عِشتُ كثيرًا بين القرويين فلم أسمعْ قَطُّ واحدًا من رجالِهم أو نسائهم أو بناتهم أو بَنِيهم يَلثَغ، ومن أين يأتي هذا؟ أفَكُوِّنَت أعضاءُ القرويين على غيرِ تكوينِ أعضائنا؟ كلَّا، وإنما دُرِّبت على وجهٍ آخَر. وتوجد أمامَ نافذتي أرضٌ يجتمع فيها أولادُ المحلِّ لِيلعبوا، وأَمِيز ما يقولون تمامًا على ما بيني وبينهم من مسافة، فأستخرجُ منها في الغالبِ مذكِّراتٍ صالحةً لهذا الكتاب. وفي كلِّ يوم تخدعُني أذني حول سِنِّهم، وذلك أنني أسمعُ أصواتَ أولادٍ في العاشرِ من عُمُرهم، وأنظر وأرى قَوامَ أولادٍ وملامحَ أولادٍ تَترجَّح سِنُّهم بين الثالثةِ والرابعة، ولا أَقْصِرُ تجربتي على نفسي، وأستطلع رأيَ الزائرين لي من أهلِ المدن في ذلك، فأجدهم على ذاتِ الخطأ.

ويَنشأ هذا عن كونِ أولادِ المُدن، المترجِّحةِ أعمارُهم بين الخامسِ والسادس، والذين يُنشَّئون في الغرفةِ وتحت جَناحِ مُرَبِّية؛ لا يحتاجون إلى غيرِ الهَمْهمة ليُسْمَعوا، فإذا ما حرَّكوا شِفاهَهم وُجِدَتْ مشقةٌ في الاستماعِ إليهم، ويُلقَّنون كلماتٍ يُردِّدونها ترديدًا سيئًا، فيتنبَّأ عينُ الأشخاصِ الذين يكونون حولَهم في كلِّ وقتٍ بما يريدون أن يقولوا، لا بما يقولون.

والأمرُ غيرُ ذلك في الأرياف؛ فالقَروية لا تكون حولَ ولدِها بلا انقطاع، فيُضطرُّ هذا الولدُ أن يتعلَّم قولَ ما يُريدُ واضحًا عاليًا جِدًّا. ويكون الأولادُ في الأريافِ متفرقين بعيدين من الأبِ والأم والأولاد الآخرين، فيُدرِّبون أنفسَهم على أن يُسمَعوا من مسافةٍ بعيدةٍ وعلى قياسِ الصوتِ بالفاصلة التي تفصلهم عمَّا يريدون إسماعَهم، وهذا هو الوجهُ الذي يُعلَّمون به النُّطقَ حقًّا، لا أن يُتعتِعوا ببعضِ الحروفِ الصوتيةِ في أذنِ مُرَبِّيةٍ يَقْظى. ومما يَحدثُ أن ابنَ القرويِّ إذا ما سُئلَ أمكنَ منعُ الحياءِ إياه من الجواب، غيرَ أن ما يقولُ يقوله واضحًا، وذلك بدلًا من أن تقومَ الخادمةُ مقامَ المترجمِ لابن المدينة، ولولا هذا ما أُدرِك شيءٌ مما يُتمتم بين أسنانه.٣٠

وإذا ما كَبِرَ البنون وجبَ أن يُقوِّموا هذا النقصَ في المدارس، وإذا ما كَبِرَ البناتُ وجبَ أن يقومِّنه في الأديار، والحقُّ أن كلا الفريقين يتكلَّم على العمومِ بأوضحَ من كلامِ مَنْ يُنشَّئون في بيتِ الأب، ولكن الذي يمنعهم من اكتسابِ نطقٍ خالصٍ كنطقِ القرويين هو ضرورةُ تعلُّمِ أمورٍ كثيرةٍ على ظهرِ القلب، وتلاوةِ ما تعلَّموا عن ظهرِ القلب؛ وذلك لأنهم إذا ما درسوا تعوَّدوا اللَّثْلَثةَ وتهاونوا بالنُّطقِ وأساءوا اللفظ، ولأنهم إذا ما تَلَوْا عن ظهرِ القلبِ أتَوْا ما هو أسوأ من ذاك، وهم في ذاك يتلمَّسون الكلماتِ بجهد، وهم في ذلك يَمُطُّون المقاطعَ ويَمْطُلُونها، وليس من الممكنِ ألَّا يُلَجْلَجَ في الكلامِ أيضًا إذا ما ترجرجتِ الذاكرة. وهكذا تُكتَسب عيوبُ النطقِ وتدوم، وسيُرى فيما بعدُ أن إميلَ لا يكتسبُ هذه العيوب، أو أنه لا يكتسبُها عن ذاتِ العللِ على الأقل.

وأُسلِّمُ بأن الشعبَ والقرويين يَنزِلون إلى طَرَفٍ متناهٍ آخَر، وأنهم يتكلَّمون بما هو أعلى مما يجبُ دائمًا تقريبًا، وأنهم إذا ما كانوا دقيقي النُّطقِ كانت مفاصلُهم شديدةً جافية، وأنهم كثيرو النَّبرَات، وأنهم سَيِّئو الاختيارِ لألفاظهم … إلخ.

بَيْدَ أن هذا التناهي يبدو لي أوَّلًا أقلَّ عيبًا بمراحلَ من ذاك ما دام قانونُ الكلامِ الأوَّلُ هو الإسماع، وما دام أعظمُ خطأٍ يُصنع هو أن يقعَ الكلامُ من غيرِ أن يُسمَع. ومَن يفاخِرْ بعدمِ وجودِ نبراتٍ له يعني أنه يُفاخِر بتجريدِ الجُمَل من طلاوتِها وطاقتها؛ فالنبراتُ رُوح الكلام، وهي تُنعِم على الكلامِ بالإحساسِ والصحة، والنبراتُ أقلُّ كذِبًا من الكلام، وقد يكون هذا سببَ خشيةِ النَّاس إياها كثيرًا. وتنشأ عادةُ التهكُّم بالنَّاس من غيرِ أن يَشْعُروا عن عادةِ قولهم كلَّ شيءٍ على وتيرةٍ واحدة، وإذا ما حُرِّمت النبراتُ عَقَبَتْها طُرُزٌ للنطقِ مضحكةٌ مموَّهةٌ عابرةٌ كالتي تُلاحَظُ لدى شُبانِ البلاط. وهذا التصنُّعُ في الكلامِ والوضعِ يجعلُ وصولَ الفرنسي كريهًا مُنفِّرًا لدى الأممِ الأخرى، وفي هيئته، لا في كلامه، ما يَضعُ النَّبرات، وهذا ما لا يكون وسيلةَ جذبٍ إليه.

ولا تُعدُّ شيئًا جميعُ هذه الهَنَاتِ في الكلامِ التي يُخْشَى اكتسابُ الأولادِ لها؛ فمنِ السهلِ جِدًّا منعُ وقوعِها أو إصلاحُها، ولكن الخطأ الذي يكتسبونه لا يُصْلَحُ أبدًا بجعلِ كلامِهم مُبْهمًا غامضًا جافلًا، وبنقدِ لهجتِهم نَقدًا مستمرًّا، وبتنقيةِ جميعِ ألفاظهم، ولا يُسمَعُ الرَّجلُ وهو على رأسِ فرقةٍ إذا ما تعلَّم الكلامَ في رِدَاهِ الاستقبالِ فقط، وقُلْ مِثْلَ هذا عن وضعِه تجاه شعبٍ ثائر، فعلِّموا الأولادَ أن يخاطبوا الرِّجالَ قبْلَ كلِّ شيء، وهم سيَعْرِفون مخاطبةَ النساءِ عند الاقتضاء.

قُوموا بتربيةِ أولادِكم في الأريافِ بكلِّ ما في الريفيةِ من خشونة؛ فهنالك يكتسبون صوتًا أكثرَ رنينًا، وهنالك لا ينالون مطلقًا لجلجةَ أولادِ المدنِ المبهمة، وكذلك لا ينالون تعبيراتِ القريةِ ولا لهجتها، أو إنهم يَفقِدونها بسهولةٍ عندما يمنعها المُعلِّم الذي يعيش معهم منذ ولادتِهم، والذي يعيش هنالك حصرًا يومًا بعد يوم، أو يَمْحو بتقويم لسانِه أثرَ لسانِ القرويين. وسيتكلم إميلُ فرنسيةً أصفَى من كلِّ ما أعلم، ولكنه سيتكلَّمها بأجلَى مما لدي، وسينْطِق بها نُطقًا أحسنَ مما عندي.

ولا ينبغي للولدِ الذي يحاول الكلامَ أن يَسمعَ غيرَ الكلماتِ التي يستطيعُ أن يُدرِكَها، ولا أن يقولَ غيرَ الكلماتِ التي يستطيعُ أن يَلفِظَ بها. وما يَبْذُل من جهودٍ في هذا السبيلِ يَحمِلُه على تكريرِ عينِ المقطعِ كما لو كان يُمرِّنُ نفْسَه على النُّطقِ به نُطقًا أكثرَ جلاء. وهو إذا أخذَ يتلجلجُ فلا تُزعجوا أنفسَكم كثيرًا في اكتشافِ ما يقول. ويُعَدُّ الزَّعْمُ بأن يُسْمَع دائمًا ضَربًا من السيطرةِ التي لا يجوزُ للولدِ أن يمارسَ شيئًا منها. واقتصروا على تَدارُكِ ما هو ضروريٌّ بدقةٍ بالغة، ودَعُوه يحاولُ جعْلَكم تُدركون الباقي، وأقلُّ من ذلك ضرورةُ الإسراعِ في مطالبتهِ بأن يتكلم؛ فهو سيَعْرِفُ الكلامَ من تلقاء نفسه كلَّما شَعرَ بفائدته.

ومما يُلاحَظُ حقًّا كونُ الذين يبدءون بالكلام متأخرين لا يتكلمون بوضوحٍ كالآخرين، ولكن تكلُّمَهم متأخرين لا يعني بقاءَ صوتِهم مرتبكًا، وعلى العكس تجدُ أن وِلادتَهم بصوتٍ مرتبِكٍ سبب تأخُّرهم في الكلام، وإلا فلِمَ يتكلمون متأخرين عن الآخرين؟ أَوَكانت فرصةُ الكلامِ لديهم أقلَّ مما عندَ غيرهم، أمْ إنهم يُحرَّضون عليه أقلَّ مما يُحرَّض عليه سواهم؟ فالواقعُ خلافُ ذلك؛ أي إن ما يُوجِبه هذا التأخيرُ من همٍّ فوْرَ الشعورِ به يؤدي إلى مضاعفةِ الجِدِّ في حَمْلهم على اللجلجةِ أكثرَ من حَمْلِ مَن لفظوا باكرًا. ويُمْكِن هذا التهافُتَ الخاطئ أن يساعدَ على جعْلِ كلامِهم مختلطًا مع أنَّ غيرةً أقلَّ من تلك تجعلُ لديهم وقتًا يكون فيه كلامُهم أكملَ من ذاك.

وليس لدى الأولادِ الذين يُحرَّضون كثيرًا على الكلامِ من الوقتِ ما يتعلَّمون فيه حُسنَ النطقِ ولا حُسنَ تصوُّر ما يُحْمَلون على قوله، وذلك بدلًا من أن يُتركوا وشأنَهم فيُدرِّبوا أنفسهم في البُداءةِ على أسهلِ المقاطعِ في النطق. وهم إذ يُضيفون بالتدريجِ معنًى يُدرَك من حركاتِهم، فإنهم يُعْطُون كلماتِهم قبْل أن يتلقَّوا كلماتِكم، وهم بهذه الوسيلةِ لا يتلقَّوْن كلماتِكم قبْل أن يَفهموها، وهم إذ لم يُحَثُّوا على استعمالِها قَطُّ فإنهم يُحْسِنون ملاحظةَ المعنى الذي تُطلقونه عليها، وهم إذا ما استيقنُوها انتحلوها.

ولا يقومُ أعظمُ سوءٍ في استعجالِ الأولادِ أن يتكلموا قبْل الأوانِ على خلوِّ مقالِهم الأوَّل وكلماتهم الأُولى التي يتلفَّظون بها من المعنى لديهم، بل على وجودِ معنًى آخَرَ لها عندهم غيرِ الذي يكون لها عندنا من غيرِ أن نُدرك ذلك؛ فهم إذ يَبدُون أنهم يجيبونا جوابًا بالغَ الصحةِ يخاطبوننا من غيرِ أن يُدرِكونا ومن غير أن نُدرِكَهم، وهذه المُلتَبِساتُ عادةً هي مصدرُ الحَيرةِ التي يُلقينا كلامُهم فيها أحيانًا، وذلك لِمَا نَعزو إليه من أفكارٍ لم يقصدوها به قَط. ويظهر لي أن عدمَ انتباهنا هذا إلى أن معنى الكلمات لدى الأولادِ علةُ أغاليطهم الأُولى، وتُؤثِّر هذه الأغاليطُ، حتى بعد أن يُشفَوا منها، في طرازِ تفكيرهم في بقيةِ حياتهم، وسيكون لديَّ أكثرُ من فرصةٍ لإيضاح هذا بالأمثلة.

وضيِّقُوا إذن نطاقَ مجموعةِ كلماتِ الولدِ ما أمكن، وذلك للضررِ الكبيرِ في حيازته كلماتٍ أكثرَ من الأفكارِ ولمعرفته قولَ أشياءَ أكثرَ مما يُفكِّر فيه منها. وعندي أن من الأسبابِ في كون القرويين أثقبَ فكرًا من أهلِ المدنِ هو أن مُعجَمَهم أقلُّ اتساعًا. أجلْ، إنهم أقلُّ أفكارًا، غيرَ أنهم يُجيدون المقابلةَ بينها كثيرًا.

ويَتمُّ تقدُّمُ الولدِ في شتَّى الطُّرقِ دفعةً واحدةً تقريبًا. ويتعلَّم الولدُ الكلامَ والأكل والمشي في وقتٍ واحدٍ تقريبًا، وهذا هو دَور حياته الأوَّل حقًّا، ولا يكون قبْل ذلك أكثرَ مما كان عليه في بطنِ أمه لِمَا ليس لديه من شعورٍ وفكر، وهو لا يَكاد يكون ذا إحساس، حتى إنه لا يشعر بوجودِه الخاص:

فهو يعيش، ولا يَشعُر بحياته.

أوفيد
١  Préjugés.
٢  التربية الأُولى هي أكثر ما يهم — ولا جدال — في كون هذه التربية الأُولى خاصة بالنساء، ولو أراد خالق الطَّبيعة أن تكون خاصةً بالرِّجال لأنعم عليهم باللبن لتغذية الأولاد، وفي كل وقت إذن خاطِبوا النساء في رسائلكم عن التربية تفضيلًا؛ وذلك لأنهن فضلًا عن كونهن مُلزَمات بالسهر عليهم عن كَثَب أكثر من الرجال، وفضلًا عن كونهن أكثر عملًا فيهم، يكترثن للنجاح أكثر من اكتراث الرجال بمراحل ما وجد معظم الأرامل تحت رحمة أولادهن تقريبًا، وما جعلهن هؤلاء الأولاد يشعرن شعورًا قويًّا في الخير والشر بنتيجة الأسلوب الذي نشأنهم عليه، وإذ إن القوانين كثيرة العناية بالأموال قليلة العناية بالأشخاص دائمًا، وذلك عن هدف إلى الأمن لا إلى الفضيلة، فإنها لا تمنح الأمهات سلطانًا كافيًا، ومع ذلك فإنهن أثبت حالًا من الآباء وأصعب واجبًا، وإن رعايتهن أشد خطرًا في حسن انتظام الأسرة، وإنهن أشد تعلُّقًا بالأولاد على العموم. أجل، توجد أحوال يُعذر فيها الولد نوعًا ما إذا ما قصَّر في احترام أبيه، ولكن الولد في أي حال إذا كان من فساد الطبع ما يقصر معه في احترام أمه التي حملته في بطنها وغذَّته بلبنها وغفلت عن نفسها في سنواتٍ للعناية به؛ وجب الإسراع في خنق هذا الشقي كغولٍ لا يستحق الحياة. وتدلل الأمهات أولادهن كما يُقال، وهن يخطئن في هذا لا ريب، ولكنهن أقل خطأ منكم أنتم الذين يفسدونهم. وتريد الأم أن يكون ولدها سعيدًا منذ الآن، وهي على حق، وهي إذا ما أخطأت في الوسائل وجب تنويرها، وما عند الآباء من طمع وبخل واستبداد وبصيرة زائفة وإهمال وغلظة أشدُّ شؤمًا على الأولاد مائة مرة من حنان الأمهات الأعمى، ومع ذلك يجب إيضاح المعنى الذي أطلقه على اسم الأم، وهذا ما أصنعه فيما بعد.
٣  لقد وَكَدَ لي أن مسيو فورمه اعتقدَ أنني أردت الكلام عن والدتي هنا، فذكر هذا في كتاب؛ فهذا استهزاء شديد بي أو بمسيو فورمه.
٤  بما أنه مشابه لهم ظاهرًا، ولكن من غير كلام، ومن غير أفكار يُعبَّر عنها بالكلام، فإنه لا يستطيع إطلاعهم على احتياجه إلى مساعدتهم، ولا شيء فيه يوحي إليهم باحتياجه هذا.
٥  يؤكِّد لنا مسيو فورمه أن هذا لا يُقال تمامًا، ومع ذلك يلوح لي أن هذا قيل في الشطر الآتي الذي أعزم على الجواب عنه، وهو:

ليست الطبيعة غير العادة إذا ما صدقتني.

ويعرض مسيو فورمه — الذي لا يريد ازدهاء أمثاله — متواضِعًا، قياس دماغه على أنه قياس الإدراك البشري.
٦  وهكذا فإن حروب الجمهوريات أقسى من حروب الملكيات، ولكن حرب الملوك إذا كانت معتدلةً فإن سلْمهم هائلة؛ فالأفضل أن يكون المرء عدوًّا لهم من أن يكون من رعاياهم.
٧   الإيلوتي: اسم كان يُطلق على العبد في إسبارطة.
٨  يوجد في كثير من المدارس، ولا سيَّما جامعة باريس، أساتذةٌ أحبهم وأقدِّرهم كثيرًا، فأعتقد قدرتهم البالغة على تربية الناشئة لو لم يُحملوا على اتِّباع العادة القائمة، وأستنهض أحدَهم لنشر مشروع الإصلاح الذي فكَّر فيه، وقد يحاول أخيرًا أن يُشفى من الداء بأن يرى أن له دواء.
٩   القلس: حبل للسفينة ضخم.
١٠   الكُمَّة: القَلَنْسُوة المُدوَّرة.
١١   السَّلَى: جِلدة يكون ضمْنها الولد في بطن أمه.
١٢   الفلج: جمع الأفلج، وهو الذي تباعد ما بين قدميه أو يديه.
١٣   القفد: جمع الأقفد، وهو المسترخي العنق.
١٤   الخبل: فساد الأعضاء.
١٥  ما انفك تحالف النساء والأطباء يبدو لي أدعى غرائب باريس إلى الضحك؛ فبالنساء ينال الأطباء شهرتهم، وبالأطباء يركب النساء هواهن، وبهذا يسهل إدراك ما يجب أن يتصف به الطبيب بباريس من براعةٍ ليصير مشهورًا.
١٦  متى قُرِئ في بلوتارك أن الرقيبَ كاتون، الذي حكمَ في رومةَ بجاهٍ كبير، قامَ بتنشِئةِ ابنهِ من المهدِ بعنايةٍ يَتركُ معها كلَّ شيءٍ ليكونَ حاضرًا عندما تَهُزُّه المُرضِع — أي الأم — أو تَرْفعُه، ومتى قُرِئ في سويتون أن أغسطس، هذا السيد للعالَم الذي فتحه وأداره بنفسه، كان يُعلِّم حَفَدَتَه الكتابةَ والسِّباحةَ ومبادئَ العلومِ بنفسِه ويجعلهم حوْله دائمًا، لم يتمالكْ عن الضَّحِك من هؤلاء البسطاءِ الصغارِ من الناسِ الذين كانوا يَتَلهَّون بمِثْلِ هذه التُّرهاتِ في ذلك الزمنِ والذين هم من الذَّكاءِ المحدود، لا ريبَ، ما لا يَقدِرُون معه على القيامِ بشئونِ عظماءِ زمانِنا الكبيرة.
١٧  Mode.
١٨  إليك مثالًا اقتبستُه من صُحُفٍ إنكليزية، فلم يَسَعني غيرُ إيرادِه لتضمنه تأمُّلاتٍ تتصل بموضوعي: «وُلِد المُسَمَّى بتريك أونيل سنة ١٦٤٧، فتزوَّج للمرة السابعة سنة ١٧٦٠، وقد استُخدِم في كتيبةِ الفرسان في السَّنة السابعة عشرة من عهدِ شارل الثاني، كما استُخدم في كتائبَ شتَّى حتى سنة ١٧٤٠ حين سُرِّح، وقد اشترك في جميعِ معاركِ الملكِ وليام والدوك ملبورو، ولم يَحدُثْ أن شرب هذا الرجلُ غيرَ الجِعَة العادية، وتغذَّى بالخضر دائمًا، ولم يأكلْ لحمًا في غيرِ بعضِ الولائمِ التي كان يقيمُها لأُسْرته، ومن عادتِه أن كان ينامُ ويفيق مع الشمس ما لم تمنَعْه واجباتُه من ذلك، وهو الآن في الثالثة عشرة بعد المائة من سِنِيه، وهو حَسَنُ السَّمعِ، حَسَنُ الصحةِ، ويمشي بلا عصًا، وهو لا يبقى عاطِلًا من العمل ساعةً على الرغم من سِنِّه، وهو يذهب في جميعِ أيامِ الأحدِ إلى الكنيسة ومعه أولاده وحَفَدته وحَفَدة أولاده.»
١٩   العِقْي: شيءٌ لَزِجٌ أسودُ يخرج من بطنِ المولودِ قبلَ أن يأكل.
٢٠  تأكل النساء خبزًا وخضرًا وألبانًا، وتأكل إناثُ الكلابِ والهررة من ذلك أيضًا، وكذلك الذِّئبات ترعى، وهذه هي العصارة النباتية في لبنها، وبقي علينا أن نبحث في لبن الأنواع التي لا يمكن أن تتغذَّى بغيرِ اللحمِ على الإطلاق إذا وُجِد منها، وهذا ما أشكُّ فيه.
٢١  يجب استخراجُ العصارات التي تغذِّينا من الأغذيةِ الجامدة وإن كانت مائعة؛ فالرجل العامل الذي لا يعيش إلا من الحَسَاء يضنَى بسرعة، وهو يكون باللبنِ أحسنَ صحة؛ لأن اللبنَ يَخْثُر.
٢٢   مذق اللبن: مزجه بالماء.
٢٣  على مَن يَودُّ أن يناقشَ في فوائدِ النظامِ الفيثاغوري ومضارِّه أن يراجعَ رسائلَ الدكتور كوشي وخَصْمه الدكتور بيانكي حول هذا الموضوع المهم.
٢٤  يغُص الأولادُ في المدنِ نتيجةَ إمساكهم محصورين مسربلين، وعلى مَن يقومون بأمرِ تربيتهم أن يَعْرِفوا أن الهواءَ الباردَ يقوِّيهم بدلًا من أن يضرَّهم، وأن الهواءَ الحارَّ يُضْعِفهم ويُوقِعهم في الحُمَّى ويقتلُهم.
٢٥  قلتُ «مهدًا» مستعمِلًا هذه الكلمةَ الدارجةَ لعدم وجود غيرها، وذلك مع اعتقادي أنه ليس من الضروري مطلقًا أن يُهدهَد الأولادُ لما تنطوي هذه العادةُ عليه من إضرارهم غالبًا.
٢٦   المُشَاقَة: ما سقط من الكتانِ ونحوه بعد مشقه بالمِمْشقة. والمِمْشقة شيء كالمشط لمشقِ الكتانِ ونحوه حتى يَخلُص خالصُه وتبقى مُشاقَتُه.
٢٧  «كان القدماءُ من أهلِ بيرو يتركون ذُرعانَ الأولادِ طليقةً في قماطٍ فضفاض، فإذا ما أخرجوهم منه وضعوهم طُلقاءَ في حفرةٍ مجهزةٍ بنسائجَ حيث يُنزِلونهم حتى نصف الجسم. وهكذا فإن ذُرعانَ الأولادِ تكون طليقةً ويستطيعون تحريكَ رءوسِهم وحنوَ أجسادهم كما يريدون من غيرِ أن يسقطوا ويؤذوا أنفسهم. وإذا ما استطاعوا أن يتقدموا خطوةً عُرض الثدي عليهم من بعيدٍ كطُعْمٍ حمْلًا لهم على المشي. ويكون صغار الزنوج أحيانًا في وضْعٍ أكثرَ مشقةً للرَّضاعة، وذلك أنهم يشتملون على إحدى وَرِكَي الأمِّ بِرُكَبِهم وأيديهم، وهم يبلغون من شدِّها ما يلتصقون بها معه من غيرِ استعانةٍ بذراعَيها، وهم يمسكون الثَّديَ بأيديهم فيمتصونه باستمرارٍ ومن غيرِ زَعَجٍ وسقوط. وعلى الرغم من مختلف الحركات التي تأتيها الأم وهي تشتغل في تلك الأثناء حسَب عادتها. ويبدأ هؤلاء الأولاد بالمشي منذ الشهر الثاني، وإن شئتَ فقُل بالزحف على الرُّكَب والأيدي، وهم يكتسبون بهذا التمرين فيما بعدُ سهولةً في الركض السريع، وهم على هذا الوضع، كما لو كانوا يَعْدُون على أرجلهم» (التاريخ الطبيعي، جزء ٤، ملزمة ١٢، صفحة ١٩٢).
وكان يمكن مسيو دو بوفون أن يضيف إلى هذه الأمثلة مثالَ إنكلترة؛ حيث عادة القِمَاط الوحشية المخالفة للصواب تزول يومًا بعد يوم. وانظر أيضًا إلى «رحلة إلى سيام» ﻟ «لوبير»، وإلى «رحلة إلى كندا» ﻟ «مسيو لابو» … إلخ. وكان يمكنني أن أملأ عشرين صفحةً مستشهدًا لو كنت محتاجًا إلى إثبات ذلك بالوقائع.
٢٨   النِّغْران: جمْع النُّغَر، وهي فِراخُ العصافير.
٢٩  حاسة الشَّم هي آخِرُ ما ينمو من الحواس في الأولاد؛ فالأولاد لا يَحُسُّون الروائحَ الطيبةَ ولا الروائحَ الكريهةَ حتى الثانيةِ أو الثالثةِ من سنيهم كما يلوح، ويشابه الأولادُ من هذه الناحية ما يُلاحظ في حيواناتِ كثيرةٍ من عدم الاكتراث أو عدم الإحساس.
٣٠  ليس هذا بلا استثناء؛ ففي الغالبِ أن أقلَّ الأولاد إسماعًا في البُداءة يصبحون أكثرَ الأولادِ إزعاجًا فيما بعد؛ أيْ عندما يأخذون في رفعِ الصوت، ولكن الأمرَ إذا ما قضى بالدخولِ في الجزئيات لم أنتهِ من الكلام؛ فعلى كلِّ قارئٍ حصيفٍ أن يرى أن الزائدَ والناقصَ المشتقَّيْن من سوءِ استعمالِ واحدٍ يُصححان بمنهاجي على السواء، وأجد أنه لا يمكن فصلُ أحدِ المبدأين الآتيين عن الآخر، وهما: «حُب التناهي غلط، وخيرُ الأمورِ الوَسَط»، ومن المبدأ الثاني ينشأ الأوَّلُ بحكمِ الضرورة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤