العاصفة

هدأت العاصفة في الصباح قليلًا بعد أن استمرت الليل كله، لكنها بدأت الآن تجدِّد القوى وتتأهب للهجوم. وقد ساعدت الريح العاتية التي كانت تهبُّ من الجنوب سفينتنا على النجاة؛ إذ زجَّتها داخل اليمِّ حيث الأعماق عظيمة.

مرَّ على ذلك ساعات قليلة هبَّت بعدها الرياح من مختلف الجهات، وأزبدت الأمواج، وغطت السماء طبقة كثيفة من السحاب الأدكن، ومع أن الشهر كان شهر ديسمبر فقد كان وميض البرق يقطع الفضاء، وكان دويُّ الصواعق يختلط بزمجرة المحيط.

اهتزت السفينة اهتزازًا هائلًا، فاهتزت قلوبنا وارتعدت فرائصنا، اهتزت ثانيًا فثالثًا؛ فخيل إلينا أن الأرض زلزلت، أخذت السفينة تهتزُّ اهتزازًا متواصلًا، فحينًا نرى الأمواج قد رفعتها فأوصلتها إلى الفضاء، وأخرى نراها وقد أخذت بها إلى لجة سحيقة لا قرار لها. كان الهواء يصفر صفيرًا مزعجًا يخترق جوانب السفينة، ولكنْ هناك صوت آخر سمع فجأة.

وكان صوتَ انكسار الصارية!

وبقيا كل منهما في مكانه ينظر للآخر نظرة عطف، بل نظرة خوف وإشفاق. لم يلفظ أحدهما ببنت شفة، فما أرهبه من موقف!

قامت «هي» يعلو وجهها الاصفرار، وفي عينيها نظرة رعب، وحاول «هو» عبثًا أن يهدئ روعها.

صعد إلى ظهر السفينة ليُخفِي ضعفه فرأى! ويا لهول ما رأى! رأى الصارية نصفين، ورأى الدفة في غير مكانها، أما مسيِّرها فقد هرب إلى مكان آخر.

التفت الأمواج التي كانت في علوها كالجبال الشامخة حول السفينة، وأخذت قطرات الماء تتناثر على جباه الناس فتطفئ من حرارتها.

أيقن الجميع بالموت، واستعد النوتية للقائه بشجاعة غريبة، ولا عجب! فهم أبناء البحار لا يهتمُّون للموت؛ لأنهم يعرفون أنه مصير كلِّ حي.

ورأى الربان «هو» في اضطراب زائد فقال له: «وددت لو أنقذكما، ولكن لم يبقَ لكما إلا الموت معي مثل الباقين.»

وكان الربان على حق فيما يقول؛ فإنه لم يبقَ إلا الموت للجميع، فقد ثغرت السفينة من جديد، وهجم الماء داخلها كجيش ظافر يدخل مدينة افتتحها.

أراد «هو» أن يندفع نحو الحجرة إلا أنه رآها أمامه مسدلة الشعر، مصفرَّة الوجه؛ فأخذها بين ذراعيه وضمها إلى صدره كأنه يودِّعها.

وإذ هما على تلك الحال رأيا موجة هائلة مقبلة نحو السفينة، وكانت كلما تقدمت عظم حجمها؛ فأخفت هي رأسها بين ذراعيه؛ حتى لا ترى ذلك المنظر المرعب.

انقضَّت الموجة على السفينة انقضاض الوحش على فريسته؛ فقلبتها رأسًا على عقب وابتلعتها.

ولم يبق من آثارها إلا بضع أخشاب صغيرة عائمة.

عن «الفرنسية‏»‏

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤