حلم يوم من أيام الصيف

عن الكاتب الأمريكي الكبير «كيت ريتشاردز»

من مذكراته ٧ يوليو

وها أنا ذا في مصيف صديق المدرسة «جاك رينولدز»، والحق أنه قصر حديث البناء محاط ببضع مئات الفدادين، تعلوها جبال المين. وقد ودعتني والدتي وفي نفسها بعض الشك وقالت: «بوب، إني أسمع أن لجاك رينولدز أختًا ساحرة الجمال. وستكونون بلا ريب كثيري العدد، وأمامكم أنواع كثيرة من الملاهي، ولكن يجب أن تذكر أن أمامك عملًا شاقًّا يجب أن تؤدِّيه، وأن ليس لك من الزمن ما يسمح لك باللهو.»

والدتي تعلم أني سريع التأثر، ولكن لا يجب أن تقلق؛ فإن لديَّ فكرة رواية سأكتبها، وسيكون هذا أنسب مكان لكتابتها. وقد جعلني والد جاك ووالدته أشعر في الحال كأني في منزلي، وأخبراني أن لديَّ حرية العمل والدرس، وكذلك حرية اللعب وقت الفراغ.

من مذكراته ٨ يوليو

أخت جاك، واسمها «هيلين»، ساحرة الجمال، لها عينان رماديتان وشعر ذهبي مموج، ولها طريقة خاصة أيضًا حين يحمرُّ وجهها خجلًا، تغرُّ الشاب يغير أن يعرف السبب، وإنه عزاء أن يجد الإنسان في هذه الأيام فتاة يمكن أن يحمرَّ وجهها خجلًا؛ فكلهن يستعملن «الأحمر» بدرجة هائلة بحيث لا يظهر عليهن أثر للخجل حتى ولو خجلن حقًّا! هيلين لا تستعمله، ويظهر أنها مهتمَّة بعملي.

من مذكراتها ٨ يوليو

حضر صديق جاك واسمه «بوب هرتلي» ليلة أمس، وهو ممتلئ الجسم حسن الهيئة جميل العينين أسودهما، وهو يعرف أيضًا كيف يستعملهما، وقد كتب رواية لا شك أنها ستنجح، جاك يقول إن المستر هرتلي فنان واسع الآمال، جم الأدب. وقد حذرني أن بوب من الشبان الذين يصل حبهم سريعًا إلى القلوب، ولكنه متفرغ لعمله، لا يجب أن يقلق جاك؛ فإن هذا الصنف من الرجال يكون دائمًا محبًّا لنفسه كثير الغرور، وإذا قُدِّر لي أن أحب أحدًا فسيكون من أحبه من غير هؤلاء الذين وقعوا في غرام أنفسهم! وقد غنى ليلة البارحة: «هيا اشربي معي!» له صوت جميل أعجبني، ولكن كان يجب ألا يهتم بعينيه هذا الاهتمام.

من مذكراته ١٠ يوليو

هنا رهط من الرجال والنساء، لم أكتب كلمة من روايتي؛ إذ يجب على الإنسان أن يستريح بعض الراحة: هنا فتيات جميلات كثيرات، ولكن ليس فيهن من هي أجمل من هيلين أو أكثر رزانة منها.

يمر اليوم في ركوب الخيل ولعب «الجولف» و«التنس»، وبالليل نرقص في «الفراندا» الكبيرة على ضوء القمر. إن هيلين فتاة رياضية عجيبة، لا يصيبها التعب أبدًا، ومع ذلك فهي قلَّما تتزيَّن أو تتبرج، وشعرها طبيعي التجعد، وجسمها مرن كأجسام الأطفال، ولها لون بهيج.

من مذكراته ١١ يوليو

رقصت مع هيلين ليلة أمس أربع مرات، وفي الصباح طلبت منها أن تخرج معي على جوادها فأجابتني: «سنركب جميعنا معًا ونذهب للنزهة، وأنت تعلم أنه لا يمكنني أن أهمل ضيوفي.»

إن هذا من المضايقات! قد أنهيت ملخصًا لروايتي فقط، وإني أعجب إذا كانت توافق على أن تكون إحدى شخصياتها.

من مذكراتها ١٢ يوليو

ركب كل منا — أنا والمستر هرتلي — جواده اليوم؛ فكانت النتيجة أن وقعنا في ورطة، فبينما كنا جميعًا على ظهور الخيل بعد ظهر اليوم تأخرت أنا صدفة قليلًا عن الآخرين، فرجع هو إليَّ وأخبرني أنه اكتشف في الصباح منظرًا طبيعيًّا بديعًا جدًّا، وأنه يود أن يفرجني عليه الآن.

فناديت رفاقي: «تعالوا! إن المستر هرتلي يريد أن يفرجنا على منظر بديع.» فأظهروا كلهم اشمئزازًا من الطريق الذي كنا سنسلكه، ولكنهم سمحوا لنا عن طيب خاطر أن نذهب منفردين؛ فلوينا عنانيْ جوادينا ونحن نودعهم ضاحكين، وكان طريقنا جبليًّا وضيقًا، وصاح بنا جاك: «تذكرا أن هذه الطرق غادرة، ولم يبق غير ساعات قليلة على غروب الشمس.»

ولما انفردنا مر الوقت سريعًا، ولكني لاحظت المستر هرتلي بعد برهة وهو ينظر بقلق في ساعته، وظهر لي أن كل ما يحيط بنا كان مناظر لم آلف رؤيتها بالمرة. لقد فقدنا الطريق وضللنا، واقترب الغروب، وحينذاك فقط عثر جوادي ووقع، وقد ارتعبت حين رأيت أنه قد عرج عرجًا شديدًا، وأنه كان من الصعب أن أجبره على التقدم، خصوصًا وأن الطريق كان يزداد وعورة، وسرنا في الممر وقد أمسك كل منا بعنان جواده، إلى أن وصلنا إلى كوخ صياد، وكان فيه فراشان من القش وبعض أغطية وبعض علب معدنية فيها كبريت، وصحت به: «ألسنا سعداء الحظ؟»

فنظر إليَّ وهو ساهٍ كأنه قد فقد ذاكرته، فشعرت بالعطف عليه وقلت له: «أظن أن مسدسك معك، فهل لك أن تسرع لتصطاد شيئًا، فإني جائعة؟!»

ولكي تكون مغامرتنا تامة من جميع الوجوه جمعنا أخشابًا وأوقدنا نارًا كبيرة. ثم اختفى المستر هرتلي برهة وعاد إليَّ ومعه سنجاب معد للطهي وقبعته ملأى بالطيور الصغيرة، وقد أتقنَّا من طهي الصيد قدر استطاعتنا، وكان الظلام قد أرخى سدوله فأوقد بعض الشموع داخل الكوخ، وأخرج لنفسه فراشًا من الفراشَيْن، وترك لي كل الأغطية، ولم يختص نفسه بغير واحد منها. وقد صمَّم على إيقاد نار بالقرب من الكوخ.

إن الغابة في غاية الهدوء، أسمع صوت حركة الخيل وهي تصهل وكأنها لا تشعر براحة، وصوت النار، وكذا كل ما هناك.

إنني مسرورة لأن لي عادة حمل دفتر المذكرات الصغير في جيبي وكذلك القلم، وإني مسرورة كذلك لوجود هذه الشموع.

من مذكراته ١٣ يوليو

لقد أوقعت هذه الفتاة الصغيرة في مأزق حرج؛ كنت أريد أن أتنزه معها منفردًا ونحن على ظهور الخيل، ولذا اصطحبتها إلى أعماق الغابة بحجة أن أفرجها على منظر جميل، وها نحن قد ضللنا الطريق ولا أمل لنا في النجاة، وقد وفقنا إلى كوخ صياد، ولا ريب أن الله هو الذي أرسل إلينا هذا الكوخ؛ إذ يمكننا أن نقضي فيه ليلة مريحة، وسأظل مستيقظًا أكثر الليل وسأوقد نارًا، لا ريب أني سعيد الحظ لوجود علبة سجائري معي وأنا مسرور لاعتيادي كتابة المذكرات.

من مذكراتها ١٤ يوليو

إذا لم تكن قد انتابتني فكرة والدتي ووالدي، وقلقهم لغيابي؛ لكنت قد نمت ليلتي على أحسن حال، وقد أوقدنا نارًا كبيرة على أمل أن يراها أحد أو يشم رائحة دخانها على الأقل. إن جوادي المسكين لا يمكنه أن يسير خطوة واحدة. مستر هرتلي يريد أن يذهب منفردًا لاكتشاف الطريق، ولكنني صممت على أن «نثبت معًا» إلى أن يكشف مقرنا. إنه أعز شاب لدي؛ فهو كثير العطف وكثير الاهتمام بي. وجدنا اليوم ينبوع ماء وحصلنا على صيد كثير. كنت أتمنى أن توجد معي مرآة وبعض المساحيق …

من مذكراته ١٤ يوليو

لم يحضر أحد لتخليصها بعد، لا ريب أن أهلها سيجنُّون قلقًا، هي أكثر الفتيات صبرًا، بل وأحبهنَّ لدي، سأضعها في روايتي كما هي …

من مذكراتها ١٥ يوليو

جمعنا البارحة خشبًا كثيرًا، وجلسنا لنستريح وقد قص عليَّ بوب الكثير عن والدته وحياته من عهد الطفولة، وهو كثير الرغبة في النجاح، وأنا على ثقة من أنه سينجح.

وقد راقبنا القمر وهو يصعد فوق الأشجار، وعندما تذكرت المنزل ومن فيه من الأشخاص الأعزاء بدأت في البكاء؛ فأمسك بوب بيدي، وظلت معه مدة طويلة، ومع أنه لم يتكلم أي كلمة غرام، غير أني أظن أن كلامنا قد فهم!

من مذكراته ١٥ يوليو

جلسنا البارحة قرب النار، ويظهر أن هيلين كانت حزينة فبكت، وقد أمسكت بيدها وحاولت أن أخفف عنها ألمها، كنت أودُّ أن تكون في منزلها تنعم بالراحة حتى يمكنني أن أخبرها كل ما يكنه قلبي من نحوها، ولكني على ثقة من أن كلامنا قد فهم.

من مذكراتها ١٦ يوليو

تجولنا اليوم قليلًا في هذه الغابة السحرية، وقد جمعنا بعض الأخشاب، وأمسكنا بعض الطيور، وتمتَّعنا بالراحة في كل ساعة من ساعات النهار. إذا لم يكن من أجل أهل المنزل لأمكنني أن أمكث هنا دائمًا. كيف أمكنني أن أظن في وقت ما أن بوب شخص محب لنفسه كثير الغرور؟ إنه أكثر الناس تفكيرًا.

من مذكراته ١٦ يوليو

هذه هي حديقة «أردن». كان الخيام محقًّا فيما يقول:

مقامي غصن مظل بقفر
ورغيفان مع زجاجة خمر
كل زادي والأهل ديوان شعر
وحبيب يهواه قلبي المعنَّى
بشجى يذيبني يتغنى
هكذا أسكن القفار نعيما
وأرى هذه القصور خرابا

وأنا أوافقه كلَّ الموافقة، ولكن لأجلها هي أرجو أن يجدوا مقرنا اليوم.

من مذكراتها ١٧ يوليو

هل هناك أمل في حضورهم؟ بالطبع عندما يكون الشخص عاشقًا لا يهمه أي شيء آخر: الملابس، الأصدقاء، المأكل؛ كل هذه الأشياء لا تهم، كنت أودُّ أن يكون معي ما يمكنني من وضع المساحيق. إنه من حسن حظي أن أجد هذا الدفتر الصغير في جيبي أدوِّن فيه مذكراتي بدلًا من علبة «بودرة» أو أصبع «أحمر». لقد اختلَّ نظام شعري من الهواء، وفقدت كل دبابيس الشعر في بحثي عن الخشب، لو كان بوب معه آلة حلاقته فقط! فإنه مخيف المنظر بهذه الذقن الطويلة الكثة الشعر! ولكن لا بأس بمنظره في ضوء القمر! لقد كرهت أكل الطيور.

من مذكراته ١٧ يوليو

إن عمر كان رياضيًّا قديمًا ولا شك! ولكن بعد قضاء أيام قليلة في هذه «القفار» تراني أعجب إذا لم يكن يفضل اﻟ «رغيفان مع زجاجة خمر» على «حبيب يهواه قلبي المعنى … بشجى يذيبني يتغنى» أظن أنني لا أفضل شيئًا عن رغيف واحد مع زجاجة فيها أي شيء! هذا إذا أغفلت الحديث عن لفافات التبغ التي لا شك أن عمر قد نسي أن يذكرها، فإنني لا أتغذى ألبتة في هذه القفار. أما عن الغناء، إيه! آمل أن لا تجرب أن تغني كي تدخل السرور إلى قلبي مرة أخرى، فهي كل مرة تحاول ذلك تشذُّ عن النغم.

لم يتبقَّ لنا غير عودين أو ثلاثة من الثقاب، وقد أساءت استعمال النار اليوم، ولما طلبت منها أن تكون أشد حرصًا من ذلك، قالت: إني غير لطيف المعشر، فأخبرتها أن اللطف لا يطهي الطيور. فبكت ودعتني بفظٍّ غليظ القلب، ثم تبع ذلك أن قالت لي: إني مدين لها باعتذار.

هي فتاة عزيزة، وكنت أود أن ترتب شعرها بطريق ما؛ ففي المنزل كان يظهر أن شعرها أغزر من هذا بكثير، وكنت أظن أنه طبيعي التجعُّد، وكنت أظن أنها لا تتبرج أو تتزين ألبتة، ولكن الآن أودُّ لو تجد وسيلة كي تصنع كل ذلك!

من مذكراتها ١٧ يوليو

لماذا لا يحضر والدي؟ إني لا أجد سببًا، ولن يعلم بوب إلى الأبد أي مجهود أصنع كي أحافظ على ثباتي؟ لقد سئمت من كل شيء، والبارحة أضعت النار كلها هباءً، فقال: «يا لله! ألا تعلمين أنه لم يتبقَّ لنا غير ثلاث عيدان من الثقاب؟»

وكان فظًّا كأحد سكان الكهوف في العصر المتوسط؛ إن له بعض فضائل، ولكنه يسرف في الحديث عن نفسه، وإني لأعجب إذا كان قد حدث أي حادث في حياته لم يقم بوب هرتلي فيه بدور البطل! وقد عملت كل ما في إمكاني كي أُدخِل السرور إلى قلبه، فالبارحة بعد أن قمت بطهي هذه الطيور الأبدية اجتهدت أن أحفظها في حرارتها إلى أن يحضر؛ إذ كان قد ذهب لإحضار ماء، ولكنه عندما حضر نظر إليها وقال: «أنا لا أحبها!»

وسأموت جوعًا قبل أن أطهي طيرًا آخر من هذه الطيور، إن له هيئة رجال الفطرة الأولى بهذه الذقن الكثيفة الشعر، كيف يمكن للنساء المتزوجات أن يحتملن أزواجهن إذا كان عليهن أن ينظرن إليهم وهم بذقونهم الطويلة هذه؟! أو وهم غير مرتَّبِي الملابس كذلك، لا يمكنني أن أفكر في شيء تشمئزُّ منه نفسي أكثر من هذا الأمر.

من مذكراته ١٨ يوليو

لا تظهر المرأة على حالتها الطبيعية إلا إذا حصل شجار بينها وبين الرجل تحاول على أثره إصلاح ذات البين. إني آسف لأني أحببتها سابقًا؛ فقد كانت تظهر صغيرة لا مُعِينَ لها. وهذا هو ما حداني إلى ذلك، ولم تكن نظراتها بالمرة، كيف أمكنني أن أظن في وقت ما، إن لونها كان طبيعيًّا؟! وأنا آمل أن لا أرى مرة أخرى فتاة في لباس ركوب الخيل، كنت أظن أني أحب اسم «هيلين»، ولكني أفضِّل الآن اسم «جان» البسيط. وعلى كل حال فأنا لا يمكنني ألبتة أن آكل هذه الطيور التي لم يتم نضجها على النار.

«يمكننا أن نعيش بغير الحب …»

«ولكن أين الرجل الذي يمكنه أن يعيش بغير طعام …؟»

وسمعا بعد الظهر نباح كلاب وصوت طلقات نارية، وقد ردَّ بوب على هذه الطلقات بآخر ما بقي لديه من البارود، وظهر جاك رينولدز ووالده والقلق بادٍ على وجهيهما يتبعهما نحو ستِّ رفقاء، وقد أسرعوا جميعًا إليهما وسط مظاهر الفرح: «خمسة أيام في هذه القفار؟! علام عشتما؟!»

فقالت الفتاة الملوثة الملابس: «على لحوم الطير التي ليس عليها ذرة صغيرة من الملح.»

واستعد الجميع للرحيل، وتقدم مصور وهو يُخرِج آلة التصوير من جيبه: «هل ترغبان أن آخذ لكما منظرًا في هذا المكان؟»

فقال الشاب الكثُّ اللحية: «لا! لا! إنني لا أرغب في شيء ما سوى ملابس نظيفة وطعام مناسب!»

وقالت الفتاة وقد حوَّلت نظرها: «وأنا لا أريد أيضًا، أنا لا أريد إلا أن أنسى كل ما كان.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤