الفصل الثاني

١

(اللحن الرئيسي يخفت تدريجيًّا، نسمع صوت جلجامش من وراء الستار.)

جلجامش :
والآن هذه أوامري يا سِنِمَّار
بخصوص معبد إيانا المقدس، المقام المبارك،
مسكن الإله آنو والإلهة عشتار
ستتوهَّج قبابه كالذهب،
وتُزيَّن قممه بصفائح النحاس.

(تُفتح الستارة على المشهد بينما يتكلَّم سِنِمَّار، معمار أوروك. المكان: قاعة العرش. جلجامش لا يجلس على كرسيه بل يتجوَّل أمامه جيئةً وذهابًا. كبير الحُجاب عن يمين العرش في وقفته التي عهدناها في مشهد القصر. أمامهما يقف المعمار ووراءه ثلاثة من مساعديه.)

سِنِمَّار :
مُطاع سيدي وأمره فوق الجميع،
سِنِمَّار خير بناء، وأفضل معمار.
سيكون لك من معبد إيانا ما شئت،
ومن غيره كل إنجازٍ بديع وفنٍّ رفيع.
جلجامش :
وسور أوروك الذي أُرسيَ منذ القدم،
أيام الحكماء السبعة، قبل الطوفان.
مزيدًا من الرجال إليه، مزيدًا من الفتيان.
دعِّم الأبراج القديمة وزِد في سماكة الجدران.
أجا ملك كيش عدونا العنيد،
لم ينسَ هزيمة الأمس، وعن مطلبه لم ينم.
سِنِمَّار :
لن نستسلم إلى كيش وسنقهرها بكل سلاح. أوروك صنعة يد الآلهة، ومعبدها إيانا هبةٌ من السماء،
صاغت أجزاءه يدُ الآلهة العظام.
أسوارها السامقة تلمس أطراف الغمام،
ومرابعها، إلهنا آنو من وضع لها الأساس.
أنت حاميها يا ابن ننسون الفاتح الغازي
فكيف نخشى أجا وجيشه الباغي؟
جلجامش :
هيا انطلق يا سِنِمَّار.
سأجِدُّ في التطواف على رجالك ليل نهار.

(ينسحب سِنِمَّار ومساعدوه، وعندما تخلو القاعة، يتكلَّم إنمركار.)

إنمركار :
سيدي ومولاي.
في الباب صيادٌ فتًى،
عنده لك خبرٌ عجيب،
قد رأى في الفلاة مخلوقًا فريدًا،
لا يدري أبشرٌ هو أم حيوان،
أم من طينة الآلهة.
جلجامش :
أدخله إلينا في التوِّ والحال،
لعله كاذبٌ يروم مسألة،
فبئس حاله وبئس المآل.

٢

إنمركار (ينادي) : أيها الحراس أدخلوا الصياد.

(يدخل الفتى مذعورًا ويرتمي على الأرض أمام جلجامش، ثم ينتصب على ركبتيه.)

الصياد :
مولاي مليك البلاد.
في أرض تجوالنا ظهر رجلٍ فريد.
أعتى الرجال، أشدُّ بأسًا من بهائم الفلاة.
سامق الهامة، فارع القامة،
لا يعرف الناس ولا البلدان.
يرعى الكلأ مع الغزلان،
ويرد الماء مع الحيوان.
رأيته مِرارًا ولم أجرؤ منه اقترابًا.
ردم حفري التي حُفرت،
وقلع مصائدي التي نُصبت،
ففرَّت من يدي طرائد الصيد.
قصدت أبي بالخبر فوجَّهني إليك،
لأشرح ما رأيت وأقصُّه عليك.
جلجامش :
لعلَّه بهيمة تمشي على قدمين؟
لعله قردٌ أو سعدان يرتع؟
أم لعلك كنت تهذي عند النبع!
الصياد :
يكسو الشعر جسمه وجدائل رأسه
كشأن النساء.
ولكنه رجلٌ وحقِّك لا أكذب،
لم آتِ بالبهتان ولم أكُ نائمًا أحلم.
إنه ابن البراري وسيدُ أهلها الأعظم.
جلجامش (ملتفتًا إلى الحاجب) :
سآتي به وحقِّ الآلهة،
إنسيًّا كان أم حيوانًا فريدًا.
فماذا ترى بشأن ذلك يا إنمركار؟
إنمركار :
أرى أن نلجأ إلى اللين،
إن كان بشرًا فلن تستميله إلا امرأةٌ
نسوقها إليه فتأتي به مُغمض العينين.
جلجامش :
صدقت؛ فالحب يُلين الجماد،
يجمع الأحياء ويذُبُّ عن الكون الفساد.
آتنا بكاهنة عشقٍ من هيكل عشتار،
فتصحب الصياد إلى مرابع تجواله.
وعندما يرد ذلك الوحش أو الإنسان،
لشرب الماء مع القطعان،
تنضو ثيابها وتكشف له عن مفاتنها،
فيفيء أيامًا إلى دفء أحضانها،
وتُنكره بعد ذلك طرائد الفلاة
التي شبَّت معه.
إنمركار : مطاعٌ أمر سيدي مطاع.

(ينسحب الفتى والحاجب، ويخلو جلجامش إلى نفسه.)

جلجامش :
مُحال أن يكون لجلجامش ند،
محال أن يكون له مثال.
فلننتظر ما تكشف عنه الغيوب،
وما تُبدي لنا الأيام.

(فاصل موسيقي؛ اللحن الرئيسي.)

٣

(لحنٌ يُوحي بجو البراري ومؤثرات صوتية. تدخل كاهنة الحب في غُلالةٍ بيضاء قطنية تلتفُّ أردانها بليونة، وهي تؤدِّي رقصةً طقسية هادئة. حولها يدور الصياد الفتى في حركةٍ متناغمةٍ معها. يؤدَّى المقطع التالي غناءً إن أمكن.)

كاهنة الحب :
الحب ملح الأرض، مفتاح السماء.
به يسعَد البشر، به يتناسل الأحياء،
من كاهنات الحب أنا، من بنات عشتار
إلهة الجنس وربَّة الخصب والزرع والنماء.
في هيكلها نحفظ جذوة الحياة مُضرمة الأُوار،
عندنا لكل راغبٍ مسرةٌ ولكل قاصدٍ ما يُريد؛
فهلمَّ إليَّ يا ابن الفلاة، إليَّ أيها الرجل الفريد.
الصياد :
ثلاثة أيام قضينا في الطريق،
وثلاثة أخرى عند هذا الماء.
فمتى يقودكَ العطش إلينا،
متى أيها الهائم الغريب؟

(تجلس الكاهنة في وضع استرخاء، بينما يذرع الفتى المكان جيئةً وذهابًا. لحن البراري السابق، ثم صوت حوافر القطيع من بعيد. يعلو اللحن تدريجيًّا مع اقتراب جلبة القطيع … يجب إدخال تنويعاتٍ جديدةٍ على اللحن، تُوحي بجو استثارةٍ وترقُّب واقتراب المجهول.)

الصياد :
هو ذا آتٍ وحقِّ الآلهة،
(بخوفٍ واضطراب) هو ذا آتٍ وربِّ السماء،
هو ذا يا فتاة البهجة آتٍ آت.
عرِّي صدرك، لا تتردَّدي، حرِّري ثديَيك.
هيَّا اطرحي ثوبك، اجذبيه إليك.
علمي الرجل الوحش وظيفة المرأة،
فتُنكره طرائد البرية التي شبَّت معه.

(كاهنة الحبِّ تُعرِّي ساقها وتكشف عن جزءٍ من كتفها وصدرها وهي في جلستها السابقة.)

كاهنة الحب :
امضِ الآن أيها الفتى،
امضِ إلى بيتك ودعني معه.

(يفر الفتى مذعورًا بينما تبقى المرأة في استرخاءٍ وهدوء. يدخل إنكيدو، يتوقَّف مشدوهًا لمنظر المرأة عند النبع. تتلاشى الموسيقى السابقة والمؤثرات الصوتية ليبدأ لحنٌ عاطفيٌّ رشيق.)

إنكيدو :
لستِ من أهل الفلاة، ولا من جنس الآلهة!
(يقترب برغبةٍ وتوجس) بل أنتِ مثلي.
أنتِ من تخيَّلت، ومن فاضت بها أحلامي.
الكاهنة (فاتحةً ذراعيها) : هلمَّ إلي، اقترب.
إنكيدو :
أنا إنكيدو، فمن أنت؟
وأية أقدارٍ ساقتني إليك؟
الكاهنة :
أنت الرجل وأنا المرأة
فهلمَّ إلى دفء أحضاني،
لتعرف فيها الحياة وسر البقاء.

(يضع إنكيدو كفَّيه على كتفَي المرأة يتحسَّس عنقها وصدرها ثم يقع عليها بقوة. تُطفأ أنوار الخشبة، ثم تتعاقب بؤرة ضوء على مشهد الحب بألوان متعددة؛ لتظهر مشاهد غير واضحة من الْتحام الجسدين. ظلام تام للحظات، ثم إضاءة باهتة. المرأة جالسةٌ وإنكيدو أمامها مُسندًا رأسه إلى ركبتها. لحن عاطفي.)

(يدخل الكورس.)

كورس النساء :
ستة أيامٍ وسبع ليال.
قضاها إنكيدو يغترف اللذات.
وفي الحضن الدافئ يستدرك منه ما فات.
أطفأ رغبة الجسم والحس،
ثم تولَّى يبغي صحبة الأمس،
فولَّت لرؤيته الغزلان هاربة،
ونفرت منه القطعان تعدو أمامه.
تعثَّر في جريه خلفها، خارت ركبتاه.
تخاذل جسمه وضاعت قواه،
لكنه غدا واسع الفهم حكيمًا.
عاد إلى المرأة، قبع عند قدمَيها،
شاخصًا ببصره إلى وجهها.

(يخرج الكورس؛ لحن منفردٌ على الناي، تنويع على لحن البرية المستخدم سابقًا.)

كاهنة الحب :
أيها الغريب الطالع من أعماق البراري،
وهبتك جسدي وهامت بك الروح.
ولولا نَذْري وقَسَمي لأبقيتك إلى جانبي
لنهاية الأيَّام، لآخر عمري الفاني.
ولكني كاهنة حبٍّ أعطي ولا أُبقي لنفسي.
إنكيدو (واقفًا) :
من قبضة طينٍ خُلقتُ في العراء.
لم أولد من رحم، لم أنم في مهد،
لم أرفل في الحرير،
لم تُهدهدني أم رءوم لا،
ولم أرضَع من صدرٍ حنون.
فكيف لي بحب النساء،
كيف لي وحق السماء؟!

(يهدأ ويُطرق مفكِّرًا.)

عرفتُ الآن كيف يفيء الجسد إلى الجسد
ولكن أنى للروح بمن يواسيها؟
كاهنة الحب :
يواسيها ندٌّ لك ولِدٌ حميم.
يعرف خبيئة نفسك،
وما يجيش به الصدر الكظيم.
حكيمٌ أنت يا إنكيدو وسيد هذي الفلاة.
رعتك الآلهة وأودعت في صدرك المعرفة،
فإلامَ ترعى في القِفار مع القطعان؟
تعالَ معي إلى أوروك المنيعة؛
حيث عظيم البأس مليكها جلجامش،
الظاهر فوق جميع الرجال كثورٍ وحشي.
هناك المعبد المقدَّس مسكن آنو وعشتار،
هناك يحضر الناس دومًا بحللٍ زاهية،
وكل يومٍ من أيامهم فرحةٌ واحتفال.
نعم يا إنكيدو الجذل بالحياة.
سأجمعك إلى جلجامش الطَّرِب اللاهي.
إنكيدو :
جلجامش، جلجامش!
نعم أيتها المرأة، خُذيني إلى جلجامش.
فإن بي توقًا إلى صاحب يفهم دخيلة نفسي،
وخِل يطَّلع على ما يجيش به الفؤاد.
خذيني إلى أوروك المنيعة،
حيث عظيم البأس جلجامش،
الظاهر فوق الرجال كثورٍ وحشي.
سأكلِّمه بجرأة وأُبدي له التحدي؛ فالندُّ يُظهر بأسَه الند،
ولا صُحبة إلا في التساوي.
كاهنة الحب :
رويدًا يا إنكيدو رويدًا،
لا يأخذك الغرور ولا حب التباهي.
كامل الرجولة جلجامش عظيم البأس.
أكثر منك قوةً لا يهدأ في النهار،
وفي الليل لا يأوي إلى سرير.
شَمَشْ وإنليل وإيا وهبوه الفهم العميق.
وقبل أن تصل إليه من براريك المترامية،
ستتراءى له في أحلامه.
إنكيدو :
خذيني أيتها المرأة، خذيني إليه،
خُذيني إلى أوروك؛
فلأمر ما خُلقتُ لا لهذي البوادي.
كاهنة الحب :
سنمضي في التوِّ والآن؛
فالطريق طويلةٌ والوقت قد حان.
ستلتقي بجلجامش،
وستحبه كحبك لنفسك.
سنصل إلى أوروك في ذروة الأعياد،
حيث يلتقي الإلهان تموز وعشتار،
في قمة برج المعبد عند مشارف السماء،
فتنتشي الأرض بحبهما ويتفجَّر الربيع،
حاملًا للأحياء كل خصبٍ ونماء وعطاء.
سيحلُّ روحُ الإله في جلجامش،
وروح الإلهة في كبرى الكاهنات،
ويلتقي الاثنان على مرأًى من الحشد ومسمع.

(يُخيِّم الظلام على المسرح بينما الكاهنة تمسك بيد إنكيدو وتقوده معها. لحظة صمتٍ ثم موسيقى تُوحي بترقُّب أمرٍ سيحدث. صوت أنين وهذيان. جلجامش يصرخ. بقعة ضوء على جلجامش الذي يستفيق من نومه مذعورًا.)

٤

(صوت أنين وهذيان في الظلام. صوت صرخة، بقعة ضوء على جلجامش الذي يستفيق من نومه مذعورًا.)

جلجامش :
أأرواحٌ شريرة زارتني أم أطيافٌ حارسة؟
وعبثُ أبالسةٍ هذه الأحلام أم وحي الآلهة؟

(بقعة ضوء أخرى على الربة ننسون تتجلَّى في قاعة نوم الملك.)

ننسون :
أيفزع جلجامش من رؤًى عابرة،
وتُخيف أطيافُ المنام مَن قلبُه جلمود؟
جلجامش (ينهض واقفًا ويتكلَّم في ذهول) :
في رؤى البشر علم الغيوب، بها تُناجينا السماء، بها نعرف المحجوب،
ننسون أماه، هاتي قولك فيما رأيت،
وبَيِّني قصد منامي:
كانت السماء حاشدةً بالنجوم
في ليلةٍ داجية،
وكشهاب آنو الثاقب أحدها انقضَّ علي.
رُمت رفعه فثقل عليَّ.
حاولت إبعاده فصعُب علي.
تحلِّق حوله أهل أوروك.
وبينما رفاقي يسجدون أمامه،
مِلتُ عليه كما أميل على امرأة،
فَلانَ لِساعدي وأسلمني قِياده.
حملته فوضعته عند قدمَيك،
فجعلته بنفسك لي ندًّا.
ننسون :
نجم السماء هذا، نظير لك.
رفيقٌ عتيٌّ يُعين الصديق عند الضيق،
أقوى مَن في الفلاة ذو بأسٍ عظيم،
متين العزم كشهاب آنو الثاقب.
لقد مِلتَ عليه كما تميل على امرأة،
وهذا في عُرف المنام صحبةٌ دائمة،
وصداقةٌ إلى أبد الأزمان قائمة.
جلجامش :
في حلمٍ آخر هناك فأسٌ مطروحة،
تحلِّق حولها الناس في أسواق أوروك.
تدافعت الجموع إليها.
أتيتك بها ووضعتها عند قدميك،
مِلتُ عليها كما أميل على امرأة،
فجعلتها بنفسك لي ندًّا.
ننسون :
إن الفأس التي رأيت، رجلٌ
أقوى من في الفلاة ذو بأسٍ عظيم،
متين العزم كشهاب آنو الثاقب.
لقد مِلتَ عليه كما تميل على امرأة،
وهذا في عرف المنام صحبةٌ دائمة،
وصداقة إلى أبد الزمان قائمة.

(موسيقى هادئة تُوحي بجو الليل، ممَّا سمعناه في القصر أثناء تجوال جلجامش الليلي.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤