الفصل الرابع

١

(الخلفية مُعتمة. لحن البراري ممزوجٌ بمؤثراتٍ صوتيةٍ لأصوات حيواناتٍ ورياح. بقعة ضوءٍ واحدةٍ تتابع جلجامش وإنكيدو يتحرَّكان على المسرح في رقصةٍ تمثِّل التطوُّح في البراري الموحِشة، وصيد حيواناتٍ مفترسة. نسمع صوت الكورس المشترك دون أن نراه.)

الكورس :
بعد عشرين ساعةٍ مضاعفة،
توقَّفا لبعض الزاد.
بعد ثلاثين ساعةٍ مضاعفة،
توقَّفا لقضاء الليل.
خمسين ساعةً مضاعفة قطعا في كل نهار،
فاجتازا مسيرة شهر ونصف في ثلاثة أيام،
ثم حفرا بئرًا قربانًا لشَمَشْ.

(يركن الصديقان إلى النوم. ينهض إنكيدو قبل صاحبه ثم ينتبه جلجامش.)

جلجامش :
هل ناديتني فانتبهت،
أم لمستني فأفقت؟
أُحسُّ الشلل في أطرافي،
فهل مرَّ بنا إله؟
آه. كلَّا إنه حلم،
وإنه لحلمٌ مخيف؛
أرعدت السماء واهتزت الأرض،
غاب ضوء النهار وهبط الظلام،
الْتمع البرق وتوهَّجت نيران،
انعقدت السحب، أمطرت غبارًا،
ثم خبا البرق وتلاشت النار،
وهدأت من حولي الأشياء.
إنكيدو :
إنها لرؤيا طيبةٌ أيها الصديق،
وإنه لحلمٌ عظيم.
سنُحبط هجوم خمبابا، سنقتله،
سنرمي بجثته في الفلاة.
هيَّا بنا ننطلق،
فشعاع شَمَشْ قد بدأ ينير
ذُرى الأرز القريب،
وها البوابة المسحورة تُنادي
منذ القدم فاتحها، فهيا نُجيب.

(يهبط الصديقان نحو الغابة. تتسارع الموسيقى في لحنٍ مترقب.)

٢

(يُضاء المشهد تدريجيًّا. يمكن أن يوضع في الخلف تابلو لأشجار الأرز. الكورس منتشرٌ على المسرح على هيئة أشجار. جلجامش وإنكيدو يجولان في المكان في استثارةٍ وانبهار. يستل جلجامش فأسه ويهوي على قاعدة إحدى الأشجار. يهزُّ المكان فجأةً صوت خمبابا مع موسيقى عالية، بينما ينتفض الاثنان يحاولان التعرُّف على مصدر الصوت.)

خمبابا :
من الذي تجرَّأ على غابتي،
من مدَّ يده لقطع أشجاري؟
من يا تُرى سكب روحه
قربانًا لهذي الأرض الحرام؟

(يظهر خمبابا يسبقه زئيره المُخيف. يتقدَّم إنكيدو خطوتين في محاولة لحماية جلجامش ولكن جلجامش يدفعه نحو الخلف ويواجه خمبابا.)

جلجامش :
أنا جلجامش سيد أوروك.
تعرفني البلاد طرًّا،
ويرتعش لذكري الملوك.
أقسمت بحياة أمي ننسون،
أن أقطع شجرك،
وأمحو عن الأرض ذِكرك.
خمبابا :
سنعرف في معمعان القتال
إن كنت حقًّا جلجامش سيد النزال،
أم أفَّاقًا هان عليه عمره.

(ينقضُّ خمبابا، يلتحم الثلاثة في معركةٍ على إيقاع موسيقى خاصة. أخيرًا يُضيِّق خمبابا الخناق على جلجامش وإنكيدو حتى يبدو أن الغلبة ستكون له … وهنا يصرخ جلجامش رافعًا يديه نحو السماء.)

جلجامش :
أي شَمَشْ السماوي،
لقد تبعتك وسرت في الطريق المقدرة،
فاحفظ عهدك معي.

(صوت رياحٍ عاتية بينما كورسا النساء والرجال يهتفان على التتابع بأسماء الرياح التي يرسلها شَمَشْ إلى أرض المعركة.)

الكورس :
الريح الكبرى، ريح الشمال، ريح الجنوب،
ريح الزوبعة، ريح العاصفة، ريح الصقيع،
ريح الإعصار، ريح اللهب.
ثمانية رياحٍ تهبُّ في وجهك يا خمبابا،
فأين تُخفي وجهك، من يحميك من غضب
شَمَشْ، ومن يحمينا؟

(خمبابا يدور على نفسه وهو يحمي عينيه بيده ويصرخ صراخًا مهولًا.)

خمبابا :
إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟
أي إنليل، إلهي إنليل …
لم أعرف لي أمًّا ولا أبًا،
أنت الذي أوجدني ورعاني،
فلماذا الآن تركتني؟ …

(ينقضُّ الصديقان ويشلَّان حركته. تهدأ الموسيقى، خمبابا يستعطف محاوِلًا مدَّ يده إلى جلجامش.)

خمبابا :
أطلقني يا جلجامش تكن لي سيدًا،
والأشجار التي رعيتها عمري،
سأقطعها وأبني لك منها البيوت.
أطلقني يا سيد أوروك،

(جلجامش يهدأ ويفكِّر.)

جلجامش :
دعنا نُطلقه يا إنكيدو؛
فالعفو من شيم الملوك.

(إنكيدو ما زال في قمة الانفعال.)

إنكيدو :
إن من لا حصافة عنده،
سرعان ما يأوي إلى الهُوة السُّفلى.
إذا بقي خمبابا على قيد الحياة،
فلن ترى أوروك ثانية،
ولن ترى وجه أمِّك.
خمبابا :
لقد نطقت بالشر ضدي أيها الأجير،
(في ثورة غضبٍ عارمة) فأبشر بغضبٍ من السماء وشرٍّ مستطير.
ألَا لعنة إنليل تحلُّ على من يستبيح دمي،
ألَا لعنة مقيمة أبد الآبدين.

(تُثير كلماته حفيظة الصديقَين فيرفع جلجامش فأسه ويهوي بها على عُنق خمبابا، يليه إنكيدو. يُدحرجان الجثة جانبًا، ينتصب جلجامش واقفًا رافعًا ذراعيه نحو السماء والفأس في يُمناه.)

جلجامش :
إليك يا نور العدل والحق
أسكب دم هذي الذبيحة المقدَّسة.

(بروق ورعود وصوت انقضاض صواعق، موسيقى قوية. يدور جلجامش حول جثة خمبابا. يُلقي فأسه ويصرخ كمن به مس.)

جلجامش :
أنا جلجامش (صوت صدًى).
أنا جلجامش، قاتل خمبابا.
فلتكتبي يا دهور،
بدمه ألَا فاكتبي هذه السطور.

(ظلامٌ تامٌّ على المسرح تشقُّه الْتماعات البرق … تخفت الموسيقى تدريجيًّا. صمت.)

٣

صوت رجلٍ يُنادي : جلجامش على أبواب أوروك.
صوت امرأةٍ تُنادي : جلجامش على أبواب أوروك.

(يُضاء المسرح. سور أوروك في الخلف … الكورسان يرقصان في حلقتين الواحدة ضمن الأخرى. موسيقى احتفالية.)

كورس النساء :
عاد إلينا، عاد إلينا، عاد.
يحمل رأس خمبابا عاد.
يحمل خشب الأرز المقطوع.
كورس الرجال :
عاد إلينا فغنِّي بذكره يا بلاد،
واهتفي لمليك نُقش اسمه
على صفحة الزمن، على لوح القدر.
كورس النساء : عاد إلينا، عاد إلينا، عاد.

(يدخل جلجامش وإنكيدو، تنفتح حلقتا الكورسين فتحتويهما. تدور الحلقتان على بعضهما بشكلٍ متعاكس، ثم تنفتحان ليخرج منها البطلان إلى زاوية المسرح. يعود الكورس إلى تشكيل نفسه من جديدٍ في مواجهة البطلين وهما ينضوان عنهما السلاح.)

الكورس المشترك :
غسل جلجامش شعره الطويل،
مسح أسلحته، نضا عنه ثياب السفر.
لبس عباءةً وأحاطها بحزام،
أسدل شعر رأسه على كتفيه.
وعندما وضع تاجه على رأسه،
شخصت عشتار العظيمة إلى جماله.

(أثناء الإنشاد تقوم فتاتان بحمل العباءة والحزام ثم التاج إلى جلجامش. بعد أن يُكمل جلجامش زينته تظهر عشتار على قمة السور، يرافق ظهورها لحنٌ غامض خاص. تُطفأُ الأنوار. بقعة ضوء على الإلهة وأخرى على جلجامش وإنكيدو.)

عشتار :
تعالَ يا جلجامش وكن عريسي.
هبني ثمارك هدية،
كن زوجًا لي وأنا زوجةٌ لك.
سآمر لك بعربةٍ من لازورد،
عجلاتها من ذهب وقرونها من كهرمان،
تعدو بها عفاريت العاصفة جيادًا،
ومُضَمخًا بشذى الأرز تدخل بيتنا.
فإذا دخلت قبَّلت قدميك المنصة والعتبة،
وانحنى لك الملوك والحكام والأمراء،
يضعون أماك غلة السهل والجبل.
ستحمل عنزاتك ونعاجك توائم مثنى وثُلاث،
ويبزُّ حمير الجر لديك البغالا،
وخيول عرباتك تطبق الآفاق شهرة جريها،
أمَّا ثيرانك فلن يكون لها تحت النير نظير.
جلجامش :
ما عساني أُعطيك لو تزوجتك؟
هل أعطي الزيت لجسدك والكساء؟
هل أُقدِّم الخبز لك أم الغذاء؟
وأنت الغنية المكتفية عن بذلي والعطاء.
وما نصيبي منك لو تزوجتك؟
ما أنت إلا موقد تُخمد ناره وقت البرد.
باب مُتداعٍ لا يحمي من ريحٍ أو عاصفة.
قصر منيف يسحق من يلج إليه.
قار يلوِّث حاملَه وقِربة تُبلل ناقلَها.
حفرة يُخفي غطاؤها كلَّ غدر.
حجر كلسي يُعطي بريق ماس كاذب.
أي حبيب أخلصت له أبدًا؟
وأي زوجٍ حفظت له العهد والودَّا؟
تعالَي أفضح لك حكايا عشاقك:
تموز، زوجك الشاب، أسلمته للظلمات،
للهوة السفلى، لعالم الأموات؛
فالناس تندبه عامًا إثر عام.
أحببت طائر الشقراق المُرقَّش،
ثم ضربته فكسرت له جناحه.
أحببت الأسد الكامل القوة،
ولكنك حفرت له مصائدًا سبعًا.
أحببت الحصان السبَّاق في المعارك،
ولكنك قدَّرت عليه السوط والمهماز.
أحببت راعي القطيع،
الذي نحر في كل يومٍ لك جديًا،
فمسخته ذئبًا تُطارده الكلاب.
أحببت إيشولانو بُستاني البلح،
الذي أقام لك في كل يومٍ مائدة،
لكنك مسخته خُلدًا يسكن الجحور المعتمة.
أفلا يكون نصيبي منك كهؤلاء؟

(عشتار تصرخ في جنون، ثم ترفع رأسها ويديها نحو السماء.)

عشتار :
الويل لك يا جلجامش
الويل لمن تجرَّأ على عشتار.
أبتاه يا رب السماء،
هل سمعت مهانة ابنتك؟

(تتحوَّل بقعة الضوء عن عشتار وعن البطلين وتُسلَّط على الكورس.)

الكورس المشترك :
عندما سمعت عشتار مقالة جلجامش،
تفجَّر غضبها وعرجت إلى السماء.
مثلت في حضرة أبيها آنو،
مثلت في حضرة أمها آنتوم.

(يردِّد الكورسان حوار عشتار وآنو.)

كورس النساء (بلسان عشتار) :
أبتاه لقد شتمني جلجامش،
أبتاه لقد أهانني وعدَّد قبائحي،
أبتاه وحقك لأُهلكنَّه،
وأمحو عن الأرض ذكره.
أعطني ثورَ السماء فيصرع لي جلجامش،
وإلا حطَّمت بوابة عالم الأموات،
فينتشر الموتى في الأرض يأكلون مع الأحياء،
ويتكاثرون حتى تغصُّ بهم الأرجاء.
كورس الرجال (بلسان آنو) :
لقد جلبتِ على نفسك المذلة يا ابنتي؛ إذ دعوته فتمنَّع.
والآن، لو حقَّقتُ لك ما طلبت،
لعمَّ الجفاف وحلَّت سبعٌ عجاف.
فهل زرعت قمحًا يُعيل الناس؟
وهل جمعت علفًا يُقيت الماشية؟
كورس النساء (بلسان عشتار) :
بذور الحياة في عنقي أمانة.
سأزرع قمحًا يُعيل الناس،
سأجمع علفًا يُقيت الماشية.
أعطني ثور السماء ودع لي ما تبقَّى.

(موسيقى قوية وصوت خُوار ثور. يندفع ثور السماء … تتدافع نساء الكورس صارخاتٍ ويتجمَّعن في زاوية المسرح، بينما يتراكض الرجال أمام الثور هنا وهناك.)

كورس النساء :
هبط ثور السماء،
ها هو ثور السماء،
في خُواره الأول قتل مائة،
فمائتين فثلاثًا.
في خواره الثاني قتل مائة،
فمائتين فثلاثًا.
في خُواره الثالث انقضَّ
على إنكيدو.

(يدخل إنكيدو فيشتبك مع ثور السماء يتبعه جلجامش. ينقضُّ الثور على إنكيدو الذي يُحاول عبثًا الإمساك بقرنيه. يرمي الثور إنكيدو على الأرض بنطحةٍ قوية، ثم يلتفت إلى جلجامش فيرميه أيضًا. ينهض الصديقان في محاولةٍ هجومية أخرى ولكن الثور يرميهما أيضًا. تتكرَّر المحاولات المخفقة للإطباق على الثور. كورس الرجال يتحرَّك مع الثور في الانقضاض أو التراجع ويُصدر معه خَوارًا عاليًا، بينما كورس النساء يتحرك مع جلجامش وإنكيدو يُصدر أصوات الفزع أو الإشفاق. أخيرًا يُفلح إنكيدو بالإمساك بقرنَي الثور بينما يُمسك جلجامش بعجيزته وذيله.)

إنكيدو :
لقد تفاخرنا بقتل خمبابا،
ولم يكُ قتله إلا لهوًا،
وها قد جد الجد يا صديق.
اطعن بين العنق والقرنين،
اطعن وإلا صرنا هزو الساخرين.
جلجامش :
جد الجد وأقسمت بأمي ننسون
لأقتلنه وإن غضب الخالدون.

(ينفلت جلجامش ويضرب عنق الثور بسيفه، يخور الثور خُوارًا عاليًا ثم يتهاوى. ترتفع صرخةٌ عالية وتظهر عشتار على السور، تُردِّد نساء الكورس صرخة عشتار ويأخذن في النواحي على ثور السماء.)

عشتار :
ويل لجلجامش.
قد مرَّغني بالتراب من قتل ثور السماء.
ويلي عليك يا ثور السماء،
ويلي قد مرَّغني جلجامش بالتراب!
كورس النساء :
ويلي ويلي ويلي،
ويلي عليك يا ثور السماء،
ويلي قد مرَّغني جلجامش بالتراب!

(ينهض إنكيدو، يلتقط شيئًا من الأرض ويرميه في وجه عشتار صارخًا.)

إنكيدو :
كفى عويلًا يا امرأة.
لو كان ليد بشرٍ أن تطال إلهة،
لنالك منِّي مثل الذي ناله.
عشتار (تتابع النواح) :
ويلي ويلي ويلي،
ويلي عليك يا ثور السماء.
كورس النساء : ويلي ويلي ويلي.

(يقطع جلجامش رأس الثور، يضعه على الأرض ثم يسجد وإنكيدو ثلاثًا. يقف جلجامش رافعًا ذراعيه نحو الأعلى.)

جلجامش :
إليك يا شَمَشْ العلي.
هذه الذبيحة الثانية.

(تختفي عشتار. يُعيد الكورس تشكيل نفسه.)

كورس الرجال :
انتزع إنكيدو فخذ الثور الأيمن،
رماه في وجه الإلهة.
جمعت عشتار منذورات المعبد وبغاياه،
وعلى فخذ الثور أقمن مناحة.

(جلجامش وإنكيدو ينزعان قرنَي الثور ويتأملانهما بإعجابٍ ودهشة، بينما يتابع الكورس.)

أمَّا جلجامش فقد جمع الحرفيين
للمشهد العُجاب.
فدُهشوا لرؤية القرنين.
وزن واحدهما ثلاثون رطلًا،
وغلاف قشرته إنشان،
سكب فيهما جِرارًا من الزيت،
قدَّمهما قُربانًا لأبيه لوجال بندا،
ثم جاء بهما زينةً لقاعة العرش.

(ينهي كورس النساء نواحه مع عشتار ويعود لتشكيل نفسه.)

كورس النساء :
بماء الفُرات غسلا أيديهما،
ثم أخذا بيد بعضهما وسارا.
قادا عربتهما بين الجموع في طرقات أوروك،
فتجمَّع أهل المدينة على الصفين.
كورس الرجال :
من المجيد بين الأبطال؟
من الظاهر فوق الرجال؟
الكورس النساء :
جلجامش المجيد بين الأبطال.
إنكيدو الظاهر فوق الرجال.

(يتحرَّك بعض فِتيان الكورس فيُحضرون طاولة، وتتحرَّك فتيات الكورس فيجلبن إليها أطباقًا مثقلة بأنواع الأطعمة. يجلس إلى المائدة جلجامش وإنكيدو ورجال الكورس، بينما تقوم بعض النساء بالخدمة وأُخريات بالرقص والغناء. تخفت الموسيقى والأصوات تدريجيًّا ويظلم المسرح.)

(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤