الفصل الخامس

١

(تُفتح الستارة. المسرح مظلم. إنكيدو في سريره على يسار المسرح، يتقلَّب ويُصدر أنينًا وصرخاتٍ مكتومة. موسيقى غامضة تُوحي بجو كابوسي.)

كورس النساء (بصوتٍ هامس وواضح) :
ها أنت تحلم يا إنكيدو،
وترى رؤيا صادقة.
مجلس الآلهة انعقد،
وبشأنك يتداول الخالدون.

(أصوات ضخمةٌ ذات صدًى تصدر عن مجلس الآلهة. يتشاورون.)

صوت ١ :
ها قد الْتأم مجلس الآلهة الكبار؛
آنو وإنليل وإيا وشَمَشْ.
فما نحن فاعلون بشأن هذين المارقَين؟
صوت ٢ :
للبشر حدودٌ معلومة،
ولهم أقدارٌ محددة مرسومة،
فمن تطاول منهم أو تجاوز،
حقَّ عليه عقابنا والعذاب.
صوت ٣ :
لقد اقتحما الغابة الحرام،
لقد صرعا خمبابا وثور السماء؛
فواحد منهما يجب أن يموت،
من جرَّد جبل الأرز يموت.
كورس الرجال : سيموت إنكيدو.

(يُطلق إنكيدو صرخةً عالية ويجلس في فراشه وقد اشتدَّت عليه الحُمَّى. يُسلَّط ضوءٌ باهت على باب الغرفة المصنوع من خشبٍ فاخر.)

إنكيدو :
لا، لن أموت،
لن أموت، لن أموت.
كفاك هزوًا أيتها الآلهة،
كفاك سخريةً بأقدار البشر.

(يرفع رأسه.)

أتسمعون أيها الأعلَون؟
لن يموت إنكيدو.

(يخفض رأسه ويتربَّع على السرير مرتعشًا يهزُّ رأسه في وضعية التأدُّب، تتحوَّل الموسيقى الكابوسية إلى لحنٍ حزين.)

كيف أموت كيف أموت؟!
من قبضة طين في الفلاة نهضت
لم أعرف لي أُمًّا، لم أعرف لي أبًا.
لم أولد من رحمٍ، لم تُهدهدني امرأة.
لم أنم في مهد، لم أعرف الصدر الحنون.
فعلتُ الذي من أجله خُلقت،
فما بالها تدبُّ إليَّ المنون،
ولم أقطف من ثمار العمر،
إلا ومضةً لاحت كبارقٍ عارض.

(يرفع رأسه نحو باب الغرفة الذي تُركَّز عليه الإضاءة.)

كلمني بغير لسانٍ أيها الباب،
حدِّثني يا فاقد الجنان
أيَّ شرٍّ جلبتَه عليَّ، أي مصير؟
من غابة الأرز حملت خشبك
فصنعك المَهَرة لي في نيبور،
ورفعتك أمامي، في كل يوم تذكرة.
بقتل خمبابا، باقتحام الغابة الموصدة.
فيا باب، لو كنت أعلم الآتي،
وأن جمالك جالب عليَّ المآسي،
لحملت فأسًا به حطَّمتك،
وألقيت أجزاءك إلى ماء الفرات.

(يتوقَّف كمن يتذكَّر ثم يتابع.)

وأنت أيها الصياد،
يا من قادني من جنة البراري
إلى امتحان البشر،
فلتطَلك لعنة شَمَشْ،
فتفر الطرائد من مصائدك،
وتفقد مملكتك وتخسر بيتك،
وتنهش الأوجاع جسدك.
وأنت يا كاهنة الحب المراوغة،
يا من زيَّنت لي ألَق المدينة الزائفة،
تعالَي أيتها المرأة أرسم لك قدرك،
وألعنك لعنةً مقيمة؛
لتكن الطرقات لك سكنًا،
وظلال الجدران لك ملجأً،
وشوك الأرض في قدميك حذاءً،
وليلطم خدك الصاحون والسكارى.

(يهدأ إنكيدو قليلًا. تتوقَّف الموسيقى، لحظة صمت، ثم يسمع في الغرفة صوت الإله شَمَشْ يتكلَّم بحنوٍّ وإشفاق.)

شَمَشْ : إنكيدو، إنكيدو.
إنكيدو (مُتحفِّزًا وقد أسند ذراعيه على السرير يجول ببصره في أنحاء الغرفة) :
إلهي ومولاي،
لبيك يا شَمَشْ العلي.
شَمَشْ :
لماذا تلعن من علَّمتك أكل الخبز،
طعام الآلهة، وشرب الخمر،
شراب الملوك؟
من كستك ثيابًا فاخرة،
وأخذت بيدك إلى أوروك،
فأعطتك جلجامش الرائع صديقًا،
فقبَّل أمراء البلاد الأرض أمامك،
ولهجت ألسنة الناس بذكر فعالك.
وغدًا سيندبك جلجامش والشعب طرًّا.
إنكيدو :
بالصدق نطقت يا شَمَشْ القدير،
فخوف الموت أعمى بصيرتي.
شَمَشْ :
لا تجزع من الموت يا إنكيدو،
بل تأمَّل ما جنيت في هذي الحياة.
إنكيدو :
نعم، لأمرٍ ما خُلق البشر،
ولأمرٍ ما يسعَون في هذا العمر.
لهفي على امرئ مُدَّت له السنون،
ولم يحصد سوى جَزَع المنون.
تعالَي يا كاهنة الحب أمسح لعنتي
عنك وأُعطي بركتي:
ألَا فلتتبوئي مكانتك الحقة،
ويُحبك الملوك والأمراض والعظماء،
وتُفتح لك كنوزٌ من ذهبٍ وعقيق ولازورد،
وتُدرك الخيرات كل من ذاق عناقك.

(يظلم المكان وتبقى بقعة ضوءٍ على إنكيدو الذي يعود للاستلقاء في فراشه يهذي مُجدَّدًا. تعود الموسيقى الكابوسية ثانية. بقعة ضوء على الطرف الآخر من المسرح حيث يظهر رجلٌ مخيف له رأس طائر وفي نهاية أصابعه مخالب حادة، يقوم برقصةٍ طقوسية عنيفة، ثم يتقدَّم من إنكيدو ممسكًا بجِزَّته. ينهض إنكيدو منقادًا إلى الرجل الطير نحو وسط المسرح ثم يحاول التملُّص منه. يدور الاثنان على إيقاع الموسيقى بين شدٍّ وجذبٍ وفرار وإمساك إلى أن تخور قوى إنكيدو ويتهاوى مستسلمًا للرجل الطير الذي يحمله بين ذراعيه. يظلم المسرح.)

(ثم يشقُّ المكانَ صراخُ إنكيدو الذي يستفيق من نومه. بقعة ضوء على السرير. صرخات متتالية تند عن إنكيدو المضطجع … يدخل جلجامش مسرعًا. إنكيدو ينهض بجذعه في إعياء.)

٢

جلجامش :
أي خطبٍ حلَّ بأوروك،
أية مصيبة؟

(يتقدَّم نحو إنكيدو ويُمسك بكتفيه المرتعشتين.)

ألعنة آلهة غضبي طالتك،
أم أشباحٌ عابثة سكنتك؟
إنكيدو :
بل قُضي الأمر يا صديق،
والهُوة السفلى من تحت تدعوني.
لقد عقد الآلهة الكبار مجلسهم بشأننا،
وجاءني الحلم بالخبر اليقين.
قال آنو :
لأنهما اقتحما الغابة الحرام،
لأنهما صرعا خمبابا وثور السماء،
واحد منهما يجب أن يموت،
من جرَّد جبل الأرز يموت.
فقال إنليل :
سيموت إنكيدو،
ونرد جلجامش لأرذل العمر.
وقال الآلهة إلا شَمَشْ،
سيموت إنكيدو،
سيموت إنكيدو.
ثم رأيت الهُوة السُّفلى عين اليقين.
أرعدت السماء، وردَّدت صداها الأرض.
وبينهما وقفت وحيدًا بلا سند.
ظهر أمامي رجلٌ مخيف،
له رأس النسر ومخالبه.
هربت من وجهه، تمكَّن مني.
وما إن أمسك بجِزتي،
حتى اكتسيت بريش الطيور،
فغاص بي إلى بيت الظلام،
إلى دارٍ لا يرجع منها داخل إليها،
إلى مكانٍ لا يرى أهله نورًا،
لباسهم كالطير أجنحةٌ من ريش،
طعامهم ترابٌ وشرابهم ماءٌ عكر.
جلجامش (جاثيًا على ركبتيه) :
أي أخي، يا أخي الحبيب،
لماذا برَّءوا ساحتي وأدانوك؟

(يرفع رأسه منتفضًا.)

كلا، كلا، ما برءوني كلا،
بل أنزَلوا قصاصًا أشد وأدهى.
أخذوا إنكيدو، أخي الحبيب،
وزرعوا عمري بالتنهُّد والنحيب.

(يبكي بصوتٍ عال.)

٣

(يدخل الكورس يدور في حلقتين حول جلجامش وإنكيدو. إنكيدو يتقلَّب في فراشه، وقد اشتدَّ مرضه.)

كورس الرجال :
استلقى إنكيدو على فراشه يومًا وثانيًا،
مريضًا استلقى إنكيدو ثالثًا ورابعًا.
كورس النساء :
الإنسان مولودٌ للمشقَّة يا إنكيدو،
كما الجوارح لارتفاع الجناح.
إنكيدو :
سهام الآلهة في كبدي تَفري،
والحمَّى تشرب من روحي.
كورس الرجال :
استلقى إنكيدو على فراشه يومًا خامسًا،
مريضًا استلقى إنكيدو سادسًا وسابعًا.
كورس النساء :
من ظلمة الرحم إلى ظلمة اللحد نعدو،
نجري هربًا من الموت ولكنَّا إليه نفر.
إنكيدو :
لقد نلتم جسدي أيها الخالدون،
فلماذا تُرجئون اقتناص الروح.
كورس الرجال :
استلقى إنكيدو على فراشه يومًا ثامنًا،
مريضًا استلقى إنكيدو تاسعًا وعاشرًا.
كورس النساء :
أيامك امتلأت بالعظائم يا إنكيدو،
وها قد جاءت ساعة الامتحان الكبير.
إنكيدو :
في الليل تروعني رؤى الهُوة السفلى،
وفي النهار أصرخ وما مَن يُجيب رجائي.
كورس الرجال :
استلقى إنكيدو على فراشه يومًا حادي عشر،
وثاني عشر وفي الثالث عشر.
كورس النساء :
اهتزَّت الظُّلمة السفلى لاستقبالك،
وقام إليك عظماء سادوا قبلك ثم بادوا.
إنكيدو :
جلجامش جلجامش.
قد جاء وقتي وحانت ساعتي،
اقتُلع رجائي، وضاقت أحبولة الهلاك
حول عنقي.
مُبارك من في ساحِ القتال يموت،
ولكن يا صديقي لماذا في الخزي أقضي؟

(يتسلَّل نور الصباح إلى المكان بينما يأخذ جلجامش في ندب إنكيدو. لحنٌ جنائزي.)

جلجامش :
إنكيدو يا صديقي يا أخي الأصغر،
مع ذوات الذيل قد نشأت،
ومع حيوانات الفلاة.
لتبكِ عليك، مسالك غابة الأرز.
ليبكِ عليك شيوخ أوروك المنيعة،
فتردِّد البراري صوت نُواحهم وتبكي.
ليبكِ عليك الدُّبُّ والضبع والفهد،
النمر والأيل والأسد والثور والغزال،
وكلُّ وحوش الفلاة تنوح وتبكي.
ليبكِ عليك الفُرات النقي.
ليبك عليك شباب ساحات المدينة،
حيث قتلنا ثور السماء.
لتبكِ عليك كاهنة الحب،
التي مسحتك بالزيت وقادتك إليَّ.
لتبكِ عليك نساء أوروك بكاء الأمهات،
ولتبكِ عليك عَذارى أوروك بكاء الأخوات.

(يحتضن إنكيدو موسدًا رأسه بين ذراعيه ويُتابع.)

أنصتوا إليَّ يا شيوخ أوروك، اسمعوني.
إنني أبكي صديقي إنكيدو،
أبكي بحرقة النساء الندابات.
كان البلطة إلى جنبي والقوس في يدي،
المُدية في حزامي والترس الذي أمامي.
حُلة عيدي، فرحي، فرحي الوحيد.
يا صديقي يا أخي الأصغر،
يا من سابق حمار الوحش وفهد الفلاة.
معًا ذلَّلنا الصعاب ورقينا الجبال.
أمسكنا بثور السماء قضينا عليه.
صرعنا خمبابا ساكن غابة الأرز.
فأي نومٍ هبط عليك،
فغبت في ظلامٍ لا تسمع كلماتي؟

(يُمسك جلجامش وجه إنكيدو بكفَّيه مذعورًا، يهزُّه هزًّا عنيفًا، يستمع إلى نبض قلبه، ثم يُطلق صراخًا عاليًا. يتركه ويبتعد عنه وهو ينظر إلى الجثة المسجاة غير مصدق. يدور حوله متمتمًا بصوتٍ مكتوم، ثم يزأر.)

جلجامش :
مات، مات، مات إنكيدو.
مات إنكيدو.
مات إنكيدو فالويل لمن عاش بعده.
كورس النساء :
ويلي ويلي ويلي،
ويلي عليك يا إنكيدو،
ويلي يا نور البلاد.
ويلي عليك كلما مال الريح
بأعواد القصب،
كلما ترنَّم شاد، كلما اهتزَّت
أوتار الطرب.
كورس الرجال :
قد حُم القضاء وقُضي الأمر،
وإنكيدو يعبر بوابات الهُوة السفلى.
ظُلمة بعد ظُلمةٍ إلى قاع السكون.
فلنوارِه القبرَ يا جلجامش،
لأن الجسد المكشوف عذاب للروح.

(يعود جلجامش إلى إنكيدو يضمه بقوة.)

جلجامش :
كلَّا … لن تأخذوا أخي.
سأبكي عليه حتى يفيق،
سأبكي وأُبكي البلاد معي؛
عسى من بُكائي عليه يفيق.
كورس النساء :
ويلي ويلي ويلي،
ويلي عليك يا إنكيدو،
ويلي يا زين الرجال!
كورس الرجال :
ستة أيَّام وسبع ليال،
بكى جلجامش أخاه الصغير،
بكى عسى من بكاءٍ عليه يفيق.
كورس النساء :
ويلي ويلي ويلي،
ويلي عليك يا إنكيدو،
ويلي يا زين الرجال!
كورس الرجال :
ستة أيامٍ وسبع ليال،
بكى جلجامش أخاه الصغير،
وفي اليوم السابع، يا لهوله، يا للهول!

(موسيقى قويةٌ مفزعة، جلجامش يصرخ صراخًا متواصلًا وهو يحدِّق في وجه إنكيدو. يتراجع مذعورًا لا يكفُّ عن الصراخ.)

جلجامش :
الدود، الدود، إنه الدود.
دودة على وجهك يا إنكيدو،
دودة على طلعة الأمس البهية.
(يبكي) إنك لميت حقًّا، ميت ميت،
ميت حقًّا، ميت ولن تعود.

(يقف يتجوَّل في المكان وهو يُتمتم.)

ميت يا إنكيدو ميت.
وأنا، أنا حيٌّ حي،
ولكن ألن يصيبني إن مت
الذي أصابك؟
الدودة أقوى من ثور السماء،
أعتى من خمبابا الرهيب.
تأتي علينا، لا تُنجدنا أفعالنا،
تأتي علينا لا تميِّز بين عظيمٍ ووضيع.

(يصرخ رافعًا يديه نحو السماء.)

أيتها الآلهة المطمئنة في السماء،
أجيبي إن كنت تحيرين الجواب،
فجلجامش لن يموت.
إذا لم يعرف لماذا الحياة وفيمَ الفناء.

(يخرج من الباب لا يلوي على شيء. موسيقى طبول قوية ثم سكون يليه لحنٌّ حزين.)

كورس الرجال :
وارى جلجامش أخاه الثرى.
ثلاثة أيام بكى وأبكى الورى،
ولآلهة الظلام قدَّم القرابين وصلَّى.
وفي ليلةٍ دهماء غاب عنها القمر،
غادر القصر وحيدًا فلا خبر ولا أثر،
يبحث عن أوتنابشتيم الحكيم،
الذي نال الخلود من دون البشر،
يسأله عن سرِّ الحياة والموت.
قنص الضواري وبلحومها اغتذى،
وقتل الأسود وبجلودها اكتسى،
لا يثنيه شيء عمَّا عقد عليه العزم
وما انتوى.
كورس النساء :
ويلي ويلي ويلي،
ويلي عليك يا إنكيدو،
ويلي عليك يا جلجامش!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤