الفصل السادس

١

(تُفتح الستارة على مشهد سلسلتين غريبتين من الجبال بينهما وهدةٌ منخفضة تحتضن فُوهة واسعةً أشبه بفُوهة بركانٍ خامد. يجب أن يوحي المشهد بطبيعةٍ غريبة أقرب إلى طبيعة سطح القمر. عن يمين الخشبة يقف الكورس وعن اليسار مدخل كهفٍ يخرج منه رجل نصفه إنسان ونصفه عقرب تتبعه زوجته. موسيقى إلكترونية غريبة.)

الكورس :
غربًا غربًا غربًا غربًا،
واصل جلجامش رحلته قدمًا.
يتبع درب خيول النار،
تعدو، تسحب مركبة الشمس.
بلغ حدود الأرض القصوى،
ورأى ما لم يرَه إنسان.
بلحوم الوحوش اغتذى،
وبجلود الآساد اكتسى،
حتى بلغ آخر الأبعاد،
وصل جبال ماشو الراسية،
تُناطِح ذروتها أذيال السحاب،
وتحرس للشمس بوابة الغياب.
يقوم عليها البشر العقارب،
يستقبلون ركب الشمس الغارب،
فيشيعونه حتى حدود الظلام،
ليسير في باطن الأرض إلى صحو الأنام.
الرجل العقرب :
تعالَي فانظري مشهدًا عجبًا!
أمن عالم البشر هذا القادم إلينا
أم من عالم الأرواح الهائمة؟
المرأة العقرب :
ليس من عالم الإنسان، لا،
وليس روحًا معذبة هائمة.
ثلثاه، ويا للعجب، إله، وثلثه إنسان،
فأيُّ أمرٍ ساقه إلينا؟
أي قدر؟

(يقع بصر جلجامش على العقارب وهي تخرج من كهفها، فيتملكه الخوف، ثم يتماسك ويتقدَّم منها بخطًى ثابتة حذرة.)

الرجل العقرب :
من أنت أيها الغريب
الضارب في متاهات الأرض؟
من طينة الآلهة جبلتك،
ومن شقاء البشر.
فلأي أمرٍ قطعت المفازات إلينا،
وكيف جزت المسافة المستحيلة؟
جلجامش :
أنا جلجامش ملك أوروك،
وإنِّي لباحثٌ عن أوتنابشتيم الحكيم
ملك شوريباك قبل الطوفان،
الذي نال الحياة الخالدة من دون البشر،
فأسأله عن سر الحياة والموت.
المرأة العقرب :
سمعت بك الدنيا يا جلجامش،
ودانت لك البلاد والعباد.
رفعتَ أسوارًا وهياكل وقصورًا،
وكانت لك جناتٌ من نخيلٍ وأعناب،
فلماذا ناطحت السماء،
لماذا تشبَّهت بالأرباب؟
وها أنت تجري هربًا من الموت،
لتلقاه رابضًا عند كل زاويةٍ وباب.
جلجامش :
سألت ولم أجد في نفسي
ولا عند الآلهة الجواب،
وغرَّني سراب خلود الذكر
حتى رأيت الدود لم يسمع
بذكر الرجال.
لا فرق عنده بين عزيز قومٍ وبهيمة.
الرجل العقرب :
سراب ما تبحث عنه يا جلجامش،
سراب سراب.
والطريق إلى أوتنابشتيم محالة على البشر.
تمتد عبر مسار الشمس السفلي،
من فُوهة الغروب إلى فُوهة الشروق،
وتنتهي عند حافة السكون والظلمات،
حيث مياه الموت لا تقود إلى مكان،
ولا تسمح لقادمٍ بالإياب.
جلجامش :
كذا فليكن.
في الحرِّ والقرِّ سأمضي،
في التنهُّد والنحيب وصرير الأسنان،
لألقى بغيتي أو أهلك في تلك المسالك.
فلتُفتح أمامي الآن بوابة الجبال.
الرجل العقرب :
امضِ يا جلجامش،
ها بوابة الجبال مفتوحةٌ أمامك،
ولتعد بك قدماك سالمًا ديارك.

٢

(يتقدَّم جلجامش، يُظلم المشهد. موسيقى إيقاعيةٌ تتصاعد تدريجيًّا. يُشكِّل الكورس ما يشبه النفق الطويل الذي يُغِذ جلجامش السيرَ خلاله. بروجكتور إضاءة جانبي يلقي حزمة ضوءٍ أفقيةً على المشهد.)

الكورس المشترك :
عبر جلجامش بوابة الجبال،
هبط من فُوهة الغروب،
ومضى عبر طريق الشمس.
كورس النساء : قطع ساعةً مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا من خلفه.
كورس النساء : قطع ساعتين مضاعفتين.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا من خلفه.
كورس النساء : قطع ثلاث ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.
كورس النساء : قطع أربع ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى من أمامه ولا من خلفه.
كورس النساء : قطع خمس ساعات مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامسٌ وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.
كورس النساء : قطع ست ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.
كورس النساء : قطع سبع ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.
كورس النساء : قطع ثماني ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.
كورس النساء : قطع تسع ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.
كورس النساء : قطع عشر ساعاتٍ مضاعفة.
كورس الرجال :
ظلامٌ دامس وما من شعاع،
لا يرى مَن أمامه ولا مَن خلفه.

(تتداخل أصوات الكورسَين ويتسارع الإيقاع ثم يتباطأ تدريجيًّا وتخفت الأصوات.)

الكورس المشترك :
في الساعة الأخيرة
لاحت لعينيه بشائر النور.
قطع المرحلة الأخيرة.
عمَّ الضياء.

(تتوقف الموسيقى فجأة. لحظة صمتٍ وظلام.)

٣

(يُعيد الكورس تشكيل نفسه ليتوزَّع على شكل أشجارٍ تتدلَّى منها ثمارٌ من عقيق ولازورد. تعود الإنارة إلى المشهد. موسيقى سحرية. خلفية المشهد سماء زرقاء وبحرٌ ساكن بلا موج. خلف الأشجار وعلى مستوًى أعلى من الأرض تجلس سيدوري فتاة الحان في وضعيةٍ ساكنة تمامًا على شرفة حانة الآلهة.)

الكورس المشترك :
وجد نفسه أمام جناتٍ
أشجارها من حجرٍ كريم.
كان شجر العقيق يحمل عناقيده
عنبًا، فتنةً للناظرين.
وشجر اللازورد ينوء بثمره
تفاحًا ورمانًا ومن كُل
ما تشتهي العيون.
جناتٌ تكشَّفت عن جنات،
حتى انفتح أمامه مشهد
البحر العظيم.
ماء بلا موجٍ بلا صخب،
ماءٌ بلا مدٍّ بلا جزر.
هناك حان الآلهة،
وهناك سيدوري ساقية الخالدين.

(في هذه الأثناء يتجوَّل جلجامش بين الأشجار مدهوشًا يتحسَّس بيده الثمار المدلَّاة. بعد انتهاء خطاب الكورس ينفضُّ مُشكِّلًا نفسه من جديد. سيدوري التي كانت جامدةً في وقفتها تتحرَّك الآن، تُهلع لرؤية جلجامش فتدخل إلى الحانة وتغلق بابها. يتقدَّم جلجامش نحوها.)

جلجامش :
أي سيدوري يا فتاة الحان،
لماذا تواريت؟
ولماذا أوصدتِ بابك دوني؟
سيدوري :
لستَ إلهًا، لا
ولستَ من طينة البشر!
فأي أمرٍ رمى بكَ إلينا
أي قدر؟
جلجامش :
أنا جلجامش ملك أوروك،
من فتح غابة الأرز وصرع خمبابا،
من أمسك بثور السماء وقتله،
من قنص الآساد في مسالك الجبال،
وعبَر المهالك في الطريق،
إلى أقاصي الأرض هذه.
سيدوري :
إذا كنتَ حقًّا جلجامش
الذي فتح غابة الأرز وصرع خمبابا،
الذي أمسك بثور السماء وقتله،
الذي قنص الآساد في مسالك الجبال،
وعبر المهالك كلها،
إلى أقاصي الأرض هذه.
فلماذا ترتدي جلود الآساد؟
لماذا تهيمُ على وجهك
في البراري والقفار؟

(يتحوَّل اللحن الغامض السابق إلى لحنٍ حزين.)

جلجامش :
كيف لا أرتدي جلود الآساد؟
كيف لا أهيمُ على وجهي
في البراري والقفار؟
صديقي، أخي الأصغر
الذي سابق حمار وحش البراري
وفهد الفلاة،
إنكيدو، أخي الأصغر
الذي سابق حمار وحش البراري
وفهد الفلاة،
أدركه مصير البشر
وفارقني إلى غير رجعة.
معًا قهرنا الصعاب ورقينا مسالك الجبال،
أمسكنا ثور السماء وقتلناه،
اقتحمنا الغابة على خمبابا وصرعناه.
صديقي الذي أحببته جمًّا
ومضى معي عبر المهالك.
إنكيدو الذي أحببته جمًّا
ومضى معي عبر المهالك،
أدركه مصير البشر،
وفارقني إلى غير رجعة،
ستة أيامٍ وسبع ليالٍ بكيت عليه،
حتى سقطت دودة من أنفه،
فانتابني هلع الموت حتى همت في البراري،
صديقي الذي أحببت صار إلى تراب.
خلع فؤادي موته،
فهِمت في كل حدبٍ وصوب
أهرب من موتي.

(تنويع على اللحن السابق خاصٌّ بالمقطع التالي.)

سيدوري :
إلى أين تمضي يا جلجامش،
وإلى أين تسعى بك القدم؟
الحياة التي تبحث عنها لن تجدها،
لأن الآلهة لمَّا خلقت البشر
جعلت الموت لهم نصيبًا
وحبست في أيديها الحياة.
فعد أدراجك يا جلجامش، عُد إلى بلدك.
املأ بطنك وافرح ليلك ونهارك.
اجعل من كل يومٍ عيدًا،
وارقص لاهيًا عن كل همٍّ وغم.
اخطر بثياب نظيفةٍ زاهية.
اغسل رأسك واستحم بالمياه.
دلِّل صغيرك الذي يمسك يدك،
وأسعد زوجك بين أحضانك؛
فهذا نصيب البشر في هذه الحياة.
جلجامش :
أبعدَ جريي البراري وتطوافي،
أقنع من الغنيمة بالإياب،
وأسند رأسي في باطن الثرى،
أنام الدهور الآتية؟
لا، لا يا سيدوري.
وكما أرى وجهك الآن،
سيُكتب لي ألَّا أرى الموت الذي أخاف.
فأين الطريق إلى أوتنابشتيم؟
كيف التوجُّه إليه كيف المسير؟
لأقطعن البحر إن استطعت وإلا
سأبقى هائمًا في البراري دهري.
سيدوري :
أبدًا لم تُعبَر هذي المياه،
ولم يقدر قادمٌ على قطع هذي البحار.
فيها مياه الموت تصدُّ الطامحين،
فمن أي مكانٍ تعبر يا جلجامش؟
وماذا تفعل إن وصلت مياه الموت؟
شَمَشْ العلي وحده يقطعها،
وأورشنابي ملَّاح أوتنابشتيم.
لديه رُقُم من حجرٍ عليها صورٌ سحرية،
تشقُّ بمركبه الأخطار،
بين جزيرة سيده النائية
وأطراف هذه الديار.
وإنه اليوم هنا يحتطب،
وأكاد أسمع صوت فأسه
في الغابة القريبة،
فإن استطعت فاعبر معه،
أو فعد إلى وطنك سالمًا.
جلجامش (يصرخ) : أورشنابي، أورشنابي.

(يتجه راكضًا نحو أورشنابي الذي يحتطب، وفي طريقه يدوس على رُقمٍ فخاريةٍ فتتحطم تحت قدميه.)

أورشنابي :
أنا أورشنابي ملاح أوتنابشتيم
فمن أنت؟
جلجامش :
أنا جلجامش ملك أوروك،
من فتح غابة الأرز وصرع خمبابا،
من أمسك بثور السماء وقتله،
من قنص الآساد في مسالك الجبال،
وعبر المهالك كلها
إلى أقاصي الأرض هذه.
أورشنابي :
إذا كنت حقًّا جلجامش
الذي فتح غابة الأرز وصرع خمبابا،
الذي أمسك بثور السماء وقتله،
الذي قنص الآساد في مسالك الجبال
وعبر المهالك كلها
إلى أقاصي الأرض هذه.
فلماذا ترتدي جلود الآساد؟
لماذا تهيمُ على وجهك
في البراري والقفار؟

(اللحن الحزين الذي رافق في السابق المقطع الذي سيتكرَّر أدناه.)

جلجامش :
كيف لا أرتدي جلود الآساد،
كيف لا أهيم على وجهي
في البراري والقفار؟
صديقي، أخي الأصغر
الذي طارد حمار وحش البراري
وفهد الفلاة.
إنكيدو، أخي الأصغر
الذي طارد حمار وحش البراري
وفهد الفلاة.
أدركه مصير البشر
وفارقني إلى غير رجعة.
معًا قهرنا الصعاب ورقينا مسالك الجبال.
أمسكنا بثور السماء وقتلناه.
اقتحمنا الغابة على خمبابا وصرعناه.
صديقي الذي أحببته جمًّا،
ومضى معي عبر المهالك،
أدركه مصير البشر،
وفارقني إلى غير رجعة.
ستة أيامٍ وسبع ليالٍ بكيت عليه
حتى سقطت دودة من أنفه،
فانتابني هلع الموت حتى هِمت في البراري.
صديقي الذي أحببت صار إلى تراب.
خلع فؤادي موته،
فهِمتُ في كل حدبٍ وصوب
أهرب من موتي.
فأين الطريق إلى أوتنابشتيم؟
كيف التوجُّه إليه، كيف المسير؟
لأقطعن البحر إن استطعت وإلا
سأبقى هائمًا في البراري دهري.
أورشنابي :
قد حالت يداك دون عبورك،
قد كسرْتَ الصور الحجرية
التي تقود سفينتي عبر مياه الموت.
فما عسانا نفعل الآن؟
جلجامش :
لن نُعدم وسيلة،
لن يُعدم جلجامش وأورشنابي
الوسيلة.
أورشنابي :
اسمع يا جلجامش.
(بعد تفكير) سنجدِّف بأيدينا حتى حدود
مياه الموت،
حيث لا تجديف ينفع ولا ريح تدفع،
ويسكن المركب فلا وصول ولا إياب،
وحيث لمس الماء يأتي بالموت الزؤام.
هناك سندفع المركب بأعمدةٍ طوال،
نركِّزها في قاع الماء فندفع ثم نخليها.
هيَّا اهبط الغابة يا جلجامش
واحتطب مائةً وعشرين مُردِيًّا
أطول من صارية السفينة.
شذِّبها. اطلها بالقار وائتنا بها.

(المشهد التالي يجب أن ينفَّذ بطريقةٍ استعراضيةٍ فائقة الزخم والقوة من حيث الموسيقى والإيقاع والرقص التعبيري. يمكن استخدام عناصر بشريةٍ إضافية لإضفاء الروعة على المشهد. بدائل التنفيذ متعدد؛ إذ يمكن أن تشكَّل مجموعتان من الكورس تحملان جلجامش وأورشنابي على هيئة مركبٍ بينما يُشكِّل البقية كتلةً بشرية ترتفع وتنخفض موحيةً بالماء، أو يمكن أن يُشكِّل الكل كتلةً متماوجة تحت أقدام جلجامش وأورشنابي اللذين يجدفان في مياه الموت.)

الكورس المشترك :
أمسك البلطة بيده،
واستلَّ سيفه من حزامه،
هبط أعماق الغابة
فاحتطب مائةً وعشرين مُرديًّا
أطول من صارية السفينة،
شذَّبها وطلاها بالقار فجاء بها،
وانطلق المركب في مياه السكون.
كورس النساء :
جدف جدف يا جلجامش،
قد صرت قريبًا من منية قلبك.
ها أتعابك ها أوجاعك
قد آلت لمنال المقصد.
كورس الرجال :
جدف جدف جدف
جدف جدف يا جلجامش.

(يمكن ترداد المقطعين السابقين وفق ما يتطلَّبه المشهد واللحن المرافق.)

كورس النساء :
ها قد صرت مُحاطًا بمياه الموت.
اضغط بعزمٍ يا جلجامش.
خذ مُردِيًّا أولًا،
لا تلمس يدك مياه الغدر.
خذ مُردِيًّا ثانيًا وثالثًا ورابعًا،
لا تلمس يدك مياه الغدر.
خُذ مُردِيًّا خامسًا وسادسًا وسابعًا،
لا تلمس يدك مياه الغدر.
خذ مرديًّا يا جلجامش،
خذ مُردِيًّا يا جلجامش.

(تهدأ الموسيقى ويخفت الإيقاع وتتباطأ حركة المشهد. يُخلي الراقصون تدريجيًّا الجهة اليسرى من المسرح؛ ليظهر عليها أوتنابشتيم وزوجته يقفان على صخرةٍ عند الشاطئ.)

أوتنابشتيم (يستطلع الأفق) :
لقد فقدَت سفينتي رُقُمها السحرية،
وغريبٌ قادمٌ من أعماق الأرض
يدفعها نحو شاطئنا.
الزوجة :
مُرسَل الشعر أشعث أغبر،
يكتسي جلود الآساد،
ولكني ألمح في وقفته كبرياء الآلهة.

(يحطُّ جلجامش وأورشنابي عند الصخرة. يتقدَّم جلجامش بتؤدة. ينظر بانشداه إلى أوتنابشتيم.)

أوتنابشتيم :
من الغريب الهابط في الأرض الحرام؟
من قِطع البحار الغادرة،
من جاز المسافة المستحيلة؟
جلجامش :
أنا جلجامش ملك أوروك،
من فتح غابة الأرز وصرع خمبابا،
من أمسك بثور السماء وقتله.
من قنص الآساد في مسالك الجبال،
وعبر المهالك كلها
إلى أقاصي الأرض هذه.
أورشنابي :
إذا كنت حقًّا جلجامش
الذي فتح غابة الأرز وصرع خمبابا،
الذي أمسك بثور السماء وقتله،
الذي قنص الآساد في مسالك الجبال،
وعبر المهالك كلها
إلى أقاصي الأرض هذه؛
فلماذا ترتدي جلود الآساد؟
لماذا تهيم على وجهك
في البراري والقفار؟
جلجامش :
كيف لا أرتدي جلود الآساد؟
كيف لا أهيم على وجهي
في البراري والقفار؟
صديقي، أخي الأصغر
الذي طارد حمار وحش البراري
وفهد الفلاة.
إنكيدو، أخي الأصغر
الذي طارد حمار وحش البراري
وفهد الفلاة.
أدركه مصير البشر،
وفارقني إلى غير رجعة.
معًا قهرنا الصعاب ورقينا مسالك الجبال،
اقتحمنا الغابة على خمبابا وصرعناه.
أمسكنا بثور السماء وقتلناه.
صديقي الذي أحببته جمًّا،
ومضى معي عبر المهالك،
أدركه مصير البشر،
وفارقني إلى غير رجعة.
ستة أيامٍ وسبع ليالٍ بكيت عليه
حتى سقطت دودة من أنفه،
فانتابني هلع الموت حتى همت في البراري.
صديقي الذي أحببت صار إلى تراب.
خلع فؤادي موته؛
فهِمت في كل حدبٍ وصوب
أهرب من موتي.
وها أنا ذا آتٍ إلى أوتنابشتيم الحكيم.
هِمت أطوف البلاد والأصقاع،
عبرت شعاب الجبال العصيَّة،
سِرت في نفق الشمس السفلي،
قطعت بحارًا لم يقطعها إنسان.
قتلت وحوش البرية وطرائد الفلاة،
بلحومها اغتذيت، وبجلودها اكتسيت.
أنهك التطواف جسدي وسكن الوجع مفاصلي،
ومن النوم العذب لم أنل إلا كفافًا.
فهل يُكتب لي ألَّا أرى الموت الذي أخافه.
أوتنابشتيم :
هل نُشيِّد بيوتًا لا يدركها الفنا؟
وهل نعقد ميثاقًا لا يصيبه البِلى؟
هل يقتسم الإخوة ميراثهم ليبقى دهرًا؟
وهل ينزرع الحقد في الأرض دوامًا؟
هل يرتفع النهر ويأتي بالفيض أبدًا؟
وهل ينحبس المطر عامًا فعامًا؟
فمنذ البدء لا تُبدي الأمور ثباتًا
كذا فالحياة تقوم إذا الممات رفيقًا.
جلجامش :
لم أجد في كل ذلك مغزًى،
ولم أرَ فيه معنًى،
ولم أقطع الأرض طولًا وعرضًا
لأرجع في آخر التطواف
إلى أول المبتدا.
أتيت إلى أوتنابشتيم الحكيم
الذي نال الخلود من دون البشر،
فأسأله علَّه يصدقني الخبر،
عن سر الحياة والموت،
وكيف نكسر من حولنا طوق القدر؟
أوتنابشتيم :
منذ البدء يا جلجامش،
منذ أن خلق الآلهةُ البشر،
وزَّعوا الآجال على الخلق،
وحبسوا في أيديهم الحياة.
جلجامش :
ولكنك بشرٌ مثلي
تعيش من أقدم الأزمان،
من أيام ما قبل الطوفان!
فقل لي كيف صرت مع الآلهة؟
كيف نِلت الخلود؟

(يتحرَّك أوتنابشتيم من مكانه إلى وسط المسرح يفكِّر ويتذكَّر تفاصيل الحكاية التي سيرويها لجلجامش عن الطوفان العظيم. خلال المشهد الطويل التالي يقوم أوتنابشتيم بسرد القصة يُعينه الكورس في أداء بعض مقاطعها وفق ما يرتئيه المُخرج. يجب القيام بالدور بحيويةٍ فائقة وباستخدام أقصى طاقات الممثِّل على الحركة والتعبير. كما يجب على الموسيقى أن تُرافق تتابُع الأحداث بدقة.)

أوتنابشتيم (موسيقى خلفية خافتة) :
سأكشف لك يا جلجامش
سرًّا من أسرار الآلهة،
وأُطلعك على ما لم يعرفه إنسان.
شوريباك، مدينة أنت تعرفها،
قامت منذ القدم على ضفة الفرات.
تقدَّمت بها الأيام وشاخت،
فسد أهلوها ونسوا أربابهم؛
فاجتمع الآلهة الكبار،
وقرَّروا طوفانًا لا يُبقي ولا يذر.
إنليل كان المحرِّض، وإنليل كان المنفذ.
أمَّا إيا فقد نقل لعبده أوتنابشتيم
خبر الطوفان الآتي العظيم.
أتاني فيما يُشبه المنام وقال لي
كورس الرجال :
قوِّض بيتك وابنِ سفينة.
اترك مملكتك وأنقذ حياتك.
اهجر متاعك خلِّص نفسك.
احمل في السفينة بذرة كل مخلوقٍ حي.
وما إن لاحت تباشير الصباح،
حتى دعوت إليَّ الصُّناع من كل صوب.
عصيرًا وخمرًا وزيتًا بذلت لهم،
فعملوا معي أطراف الليل وآناء النهار.
وفي اليوم السابع أنزلتها في الماء،
فغاص في الفرات ثلثاها،
واستقرَّت في انتظار الموعد المشئوم.
حملت إليها كل ما أملك،
كل ما أملك من فضةٍ حملت إليها،
كل ما أملك من ذهب حملت إليها،
كل ما استطعت من بذور الحياة
حملت إليها.
أهلي وأقاربي، طرائد البرية ووحوشها
من كلٍّ زوجين اثنين،
وكل صاحب حرفةٍ وصنعة.
ثم حدثني ربِّي شَمَشْ،
وعيَّن لي شارةً ووقتًا:
كورس الرجال :
«عندما يرسل حدد من علاليه وابلًا مُدمرًا في المساء،
ادخل الفلك وأغلق عليك الأبواب.»
حلَّ الموعد وأزفت الساعة.
(تبدأ الموسيقى بالارتفاع) أرسل حدد في المساء وابلًا مدمرًا.
قلَّبتُ وجهي في السماء. عرفت الإشارة.
دخلت السفينة وغلَّقتُ الأبواب،
وللملامح بوزو آموري أسلمت قيادها.
وما إن لاحت تباشير الصباح،
حتى علت الأفق غيمةٌ كبيرة سوداء،
يُجلجل في أعماقها صوت حدد،
يسبقها نذيراه عبر السهول والبطاح.
فانفتحت كُوى السماء وسالت مدرارًا،

(موسيقى قويةٌ ومؤثرات صوتية تُوحي بانهمار المطر وصفير الرياح.)

وانفتحت كُوى المياه السفلى،
ففاضت الأرض بمخزونها،
وبلغت ثورة حدد تخوم السماء.
ثارت العاصفة. أحالت كل نورٍ
إلى ظلمة.
عمي الأخ عن أخيه،
وحُجب أهلُ الأرض عن أهل السماء،
حتى الآلهة ذُعرت من هول الطوفان،
هرب جميعهم صُعدًا يرتقون السموات،
سماءً فسماء حتى سماء آنوا السابعة،
لجئوا إلى جدارها الخارجي يرتعدون.
والعاصفة تأتي على الأحياء،
والطوفان يبتلع البشر.
صرخت عشتار كامرأة في المخاض،
ناحت سيدة الآلهة بصوتها العذب
كورس النساء :
«لقد آلت إلى طينٍ تلك الأيام القديمة؛
لأني نطقتُ بالشر في مجمع الآلهة،
فكيف نطقتُ بالشر في مجمع الآلهة؟
كيف أمرتُ بالبلية تحصد شعبي،
تُفني من وهبتهم، أنا، الميلاد؟
وها هم يملئون البحر كالأسماك الطافية.»
بكت عشتار وأبكت معها الآلهة،
تهالكوا وانحنَوا ينتحبون
ستة أيام وسبع ليال،
والعاصفة تُعوِل وسيول الماء
تطغى على الأرض،
وفي اليوم السابع هدأ البحر وسكنت
العاصفة وتراجع الطوفان.

(موسيقى هادئةٌ حزينة.)

فتحتُ النافذة فسقط النور على وجهي.
نظرتُ إلى البحر. كان الهدوء شاملًا،
وقد آل البشر إلى طين،
فتهالكت أبكي وأنتحب.
ثم تطلَّعت في كل الاتجاهات مستطلعًا
حدود البحر.
في نهاية الآفاق العميقة
ظهرت رءوس الجبال،
ثم حملت الأمواج السفينة فاستقرَّت
على جبل نصير.
أمسك الجبل السفينة ستة أيام،
وعندما حلَّ اليوم السابع،
أتيتُ بحمامةٍ وأطلقتها،
طارت الحمامة بعيدًا ثم عادت إليَّ،
لم تجد مُستقرًّا لقدمها فعادت.
ثم أتيت بسنونو وأطلقته.
طار السنونو بعيدًا ثم عاد إليَّ،
لم يجد مستقرًّا لقدمه فعاد.
ثم أتيت بغرابٍ وأطلقته،
طار الغراب بعيدًا ولم يعد،
حام وحطَّ وأكل ولم يعد،
فأطلقت الجميع للجهات الأربع،
وذبحت أضحيةً أشعلت تحتها النار،
أشعلت تحتها القصب الحلو وخشب
الأرز والآس.
فتشمَّمت الآلهةُ الرائحة الزكية،
وتجمَّعت على الأضحية كالذباب.
وعندما وصلت عشتار العظيمة،
رفعت عقدها الكريم وقالت:
كورس النساء :
«أيها الحاضرون،
هذا عِقدي اللازوردي، أرفعه علامة.
سأذكر هذه الأيام ولن أنساها.
تعالَوا جميعًا إلى الذبيحة إلا إنليل؛
لأنه دونما تروٍّ أرسل الطوفان،
وأسلم شعبي للدمار.»
عندما أتى إنليل ثارت ثائرته وصاح غاضبًا:
كورس الرجال :
«هل نجا أحدٌ من البشر؟
ألم نقرِّر إهلاك الجميع؟»
فقال ننورتا مخاطبًا إنليل:
كورس الرجال :
«عند إيا وحده الجواب.»
فقال إيا مخاطبًا إنليل:
كورس الرجال :
«أيها المحارب، أيها الحكيم بين الآلهة،
كيف أرسلت هذا الطوفان دون تروٍّ؟
لو أنك حَمَّلتَ الآثم إثمه،
وحاسبت المعتدي على عدوانه؛
لَمَا صرنا إلى ما نحن فيه الآن.
لو أرسلت بدل الطوفان أسودًا جائعة،
لو أرسلت بدل الطوفان ذِئابًا ضارية،
لو أرسلت بدل الطوفان المجاعة الفاتكة،
لأنقصت عدد البشر ولم تقطع دابرهم.
وبعد، فلستُ من أُفشي سر الآلهة،
لقد أوحيتُ لأوتنابشتيم حلمًا،
لم يُخطئ بحكمته معناه،
فاعقد أمرك بشأنه الآن.»
فصعد إنليل إلى السفينة،
وأصعدني معه وزوجتي.
جعلنا نركع ووقف بيننا،
وضع يديه على رأسينا مباركًا وقال:
كورس الرجال :
«ما كنتَ قبل اليوم إلا بشرًا فانيًا
يا أوتنابشتيم،
ولكنك منذ الآن ستغدو وزوجك
مثلنا خالدَين،
وفي أقاصي الدنيا عند فم الأنهار
ستعيشان.»
ثم أخذوني وأسكنوني في هذا المكان

(لحظة صمت يلتفت بعدها أوتنابشتيم إلى جلجامش.)

والآن يا جلجامش،
من سيدعو مجلس الآلهة إلى
الاجتماع من أجلك،
فتجد الحياة التي تبحث عنها؟
جلجامش :
أمي ننسون وثلثاي إله،
فلماذا أقضي كأني بشر؟
أوتنابشتيم :
إذن، هلمَّ إلى امتحان
يُظهر فيك صفة الإله،
وتُقفر فوق شرط البشر.
هلمَّ امتنع عن النوم
ستة أيام وسبع ليال،
وبعدها لكل حادث حديث.

(يجلس جلجامش قرب صخرةٍ على عجيزته مُتربعًا وظهره منتصب.)

جلجامش :
ليكن ما تشاء، سأمكث هنا،
فأعلمني إذا انقضى ربع القمر.

(لحن مسائي يُوحي بالغروب، يمكن استعمال البوق أو الناي. بينما جلجامش يُغالب النوم، ثم يميل جزعه إلى الصخرة ويغرق في نومٍ عميق.)

أوتنابشتيم :
انظري إلى الرجل القوي الباحث
عن الحياة،
لقد داهمه النوم كعاصفةٍ مطرية.
الزوجة :
أيقظه بلمسة،
وليعد بأمانٍ من حيث أتى.
أوتنابشتيم :
الخداع من طبع البشر.
سيقول إنه ما سها
إلا لطرفة عينٍ عابرة.
تعالَي فاخبزي له رغيفًا
لكل يومٍ ينامه،
وحُزي بقربه على الصخر علامة.
الكورس المشترك :
فخبزت له أرغفةً وضعتها عند
رأسه،
ولكل يومٍ نامه حزَّت على الصخر علامة.
كورس الرجال :
خبزت له رغيفًا أولًا،
وحزَّت على الصخر علامة.
كورس النساء :
خبزت له رغيفًا ثانيًا،
وحزَّت على الصخر علامة.
كورس الرجال :
خبزت له رغيفًا ثالثًا،
وحزَّت على الصخر علامة.
كورس النساء :
خبزت له رغيفًا رابعًا،
وحزَّت على الصخر علامة.
كورس الرجال :
خبزت له رغيفًا خامسًا،
وحزَّت على الصخر علامة.
كورس النساء :
خبزت له رغيفًا سادسًا،
وحزَّت على الصخر علامة.
الكورس المشترك :
وقبل خَبْز الرغيف السابع،
لمسه أوتنابشتيم فأفاق.

(يهز أوتنابشتيم جلجامش برفقٍ فيصحو متطلعًا حواليه.)

جلجامش :
لم يكد يغلبني النُّعاس
حتى عاجلتني بلمسة.
أوتنابشتيم :
لقد خبزنا لك رغيفًا
لكل يوم نمته،
ووضعنا على الصخر علامة،
فعُدَّ علاماتنا ياجلجامش،
عُدَّ أرغفتك، الْمسها، شمها،
ينبئك واحدها عن قِدم أيامه.

(لحن حزين)

جلجامش :
أواه يا أوتنابشتيم،
ماذا أفعل، أين أسير؟
لقد تسلَّل البِلى إلى أطرافي،
وسكنت المنية في أعضائي،
وحيثما قلَّبت وجهي أجد الموت.

(يضع رأسه بين يديه وينخرط في البكاء بينما يتحدَّث أوتنابشتيم إلى الملاح.)

أوتنابشتيم :
لينبذك المرفأ يا أورشنابي،
وليبرأ منك هذا الشاطئ.
أمَّا الرجل الذي قُدته إليَّ،
يُغطي جسده الشعر الطويل،
وتخفي قامته المهيبة جلود الحيوان،
فخُذه إلى مكان الغسل؛
ليغسل شعره الطويل فيطهر،
ولينفِّض عنه جلود الحيوان،
ويظهر جمال جسده؛
وليعطِ بعد ذلك ثوبًا
يستر عُريه.
وإلى أن يصل وطنه،
إلى أن يلقي عصا الترحال؛
لتبقَ ثيابه جديدةً لا تنمُّ عن قِدم.

(يأخذ أورشنابي بيد جلجامش. يتحرَّكان مطرِقَين، بينما تتحدَّث الزوجة مخاطبةً زوجها.)

الزوجة :
لقد أتعب جلجامش نفسه
في الوصول إلينا وأضناها،
أفلا نعطيه شيئًا يحمله إلى بلاده؟

(يتوقَّف جلجامش لسماعه الحديث ويستدير إليهما.)

أوتنابشتيم (بعد هنيهةٍ من تفكير) :
لقد أتعبت نفسك يا جلجامش
في الوصول إلينا وأضنيتها،
فماذا نعطيك تحمله إلى بلادك؟
اسمع، سأبوح لك بأمر خبيء،
وأُطلعك على سرٍّ من أسرار الآلهة.
في قاع البحر تحت هذه الصخرة،
هناك نبتة تُشبه الشوك،
بها يستعيد الشيخ شبابه،
وتُطيل في عمره.
فإذا جنت يداك تلك النبتة
وجدت حياةً جديدة.

(يندفع جلجامش دون ترددٍ نحو الصخرة، ويقفز إلى الماء. يُظلم المسرح تمامًا. ضوء على الكورس في طرف المسرح.)

كورس النساء :
لمَّا سمع جلجامش خبر النبتة،
ربط إلى قدميه حجرًا ثقيلًا،
وهبط غائصًا إلى الأعماق.
هناك رأى النبتة السحرية،
أقبل عليها، وخزته، أدمت يديه.
اجتثَّها، حل عن قدميه الحجر الثقيل
فأعاده الماء إلى الشاطئ.
وهناك قال لأورشنابي:
كورس الرجال :
إنها لنبتة عجيبةٌ يا أورشنابي،
بها يستعيد الإنسان قواه.
سأحملها معي إلى أوروك،
وأعطيها للكهول يقتسمونها،
وأدعوها رجوع الشيخ إلى صباه.
ولسوف آكل منها أيضًا،
فأعود إلى شبابي إذا لاحت كهولتي.
كورس النساء :
بعد عشرين ساعةً مضاعفة
توقفا لبعض الطعام.
بعد ثلاثين ساعةً مضاعفة
توقَّفا لقضاء الليل.
فرأى جلجامش بركة ماءٍ بارد،
نزل فيها واستحم بمائها.
فتشمَّمت أفعى رائحة النبتة،
تسلَّلت خارجةً من الماء وخطفتها،
وفيما هي عائدة، تجدَّد جلدها.

(بقعة ضوء على جلجامش وأورشنابي. يغيب الكورس. يُضاء المسرح تدريجيًّا. موسيقى حزينة. جلجامش جالسًا يبكي.)

جلجامش :
لمن أضنيت يا أورشنابي يديَّ،
ولمن بذلتُ دماء قلبي؟
لم أجنِ لنفسي نعمةً ما،
بل لحية التراب جنيت النعمة.

(يهدأ، ثم يرفع رأسه متأملًا.)

أتدري يا أورشنابي؟
عندما مددت يدي لقلع النبتة
جاءني خاطرٌ بألَّا أفعل ذلك،
وعلمت بأني لن آكل منها.
في قاع البحر ألقى إيا
رب الأعماق، في قلبي كلمات
لعلَّها لم تكن سوى كلماتي.
لا أدري؛
فعندما نكدُّ وراء سؤال
يأتينا الجواب في كشفٍ مباغت،
فنحار في أصله وفصله.

(ينهض ويسير الهُوينى يتبعه أورشنابي.)

الموت حقٌّ يا أورشنابي،
ولكن الحياة حقٌّ أيضًا.
فإن لم نقبل الموت
لا نستطيع أن نقبل الحياة.
أتدري يا أورشنابي
إن الإنسان مفضَّلٌ على الآلهة؟
مفضَّلٌ لأنه يموت؛
لأن عليه أن يفعل الكثير
قبل أن يمضي.
لقد حُكم عليه بالامتحان الكبير
وعليه أن يتعلَّم كيف يعيش،
وعليه أيضًا أن يتعلَّم كيف يموت.
أتدري يا أورشنابي؟
لقد تركتُ أوروك وأهلها،
ولم أكن في الحقيقة إلا باحثًا عنها وعنهم،
وها أنا ذا عائدٌ إليهم؛
فبهم ومعهم سأحيا
وبينهم سأموت.

(يتحرَّك الاثنان وظهرهما للجمهور، بينما تخفت الأضواء. ظلام. يختفيان. إضاءة خفيفة. يدخل الكورس ويصطف عن اليمين وعن الشمال بشكلٍ متقابل.)

الكورس المشترك :
بعد عشرين ساعةً مضاعفة توقَّفا للطعام،
وبعد ثلاثين ساعةً مضاعفة توقَّفا لقضاء الليل.
وعندما وصلا أوروك المنيعة،
قال له جلجامش، قال لأورشنابي.

(في هذه الأثناء يعود جلجامش وأورشنابي إلى المنصة، يتقدَّمان في مواجهة الجمهور جلجامش يسير في ثقةٍ واطمئنان. وموسيقى حيوية توحي بالبهجة، يتوقفان. يُجيل جلجامش بصره يتفحَّص عن بُعد سور أوروك.)

جلجامش :
أي أورشنابي، هذه مدينتي،
وهذه أسوارها التي بنيتُ.
هلمَّ اقترب.
اعلُ سور أوروك، امشِ عليه،
المس قاعدته، تفحَّص صنعة آجُرِّه.
أليست لبناته من آجُرٍّ مكين،
والحكماء السبعة من وضع له الأساس؟

(ينضم الاثنان إلى الكورس الذي يُشكِّل نفسه في مواجهة الجمهور. تعود الموسيقى إلى اللحن الذي ابتدأت به المشهد الأول.)

الكورس :
هو الذي رأى كل شيءٍ إلى تخوم الدنيا،
هو الذي عرف كل شيءٍ وخبر كل الأمور.
سيد الحكمة الذي سبر أعماق الوجود.
مضى في سفر طويل وبرَّحه الترحال.
عبر بحار الموت إلى حيث تشرق الشمس،
وجال أصقاع الأرض بحثًا عن الحياة.
رأى أسرارًا خافيةً وعرف أمورًا ماضية،
فجاءنا بنبأ عن أزمان ما قبل الطوفان،
هل مثله من ملك في أي وقت، في أي مكان؟

(تتصاعد الموسيقى بينما تهبط الستارة ثم تخفت وتتوقف.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤