الفصل الثالث

(١) هَدِيَّةُ «الْمُرامِقِ»

وَما كادَتْ تُشْرِقُ شَمْسُ الْيَوْمِ الْتَّالِي حَتَّى سَمِعا طَرْقًا بِالْبَابِ، فَذَهَبَ «فَضْلُ اللهِ» لِيَتَعَرَّفَ مَنِ الطَّارِقُ؟ فَرَأَى زَنْجِيًّا مَدِيدَ الْقَامَةِ (أَيْ: طَوِيلَ الْقَدِّ) يَحْمِلُ رَيْطَةً (أَيْ: ملاءَةً) كَبِيرَةً، فِيها ثِيابٌ، فَتَوَهَّمَ «فَضْلُ اللهِ» أَنَّ «الْمُرامِقَ» أرْسَلَهُ إلَيْهِ بِهَدِيَّةٍ يُعَبِّرُ بِها عَنْ سُرُورِهِ وَتَهْنِئَتِهِ بِزَواجِهِ السَّعِيدِ الَّذِي تَمَّ عَلَى يَدَيْهِ. وَلَكِنَّ فَرَحَ الْفَتَى لَمْ يَطُلْ؛ فَقَدْ فاجَأهُ الزَّنْجِيُّ أسْوَأَ مُفاجَأةٍ، حِينَ قالَ لَهُ، فِي لَهْجَةِ الشَّامِتِ السَّاخِرِ: «إنَّ سَيِّدِي يُحَيِّيكَ، وَيَتَمَنَّى لَكَ التَّوْفِيقَ والسَّعادَةَ فِي زَواجِكَ، وَيَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ تَرُدَّ لَهُ الثِّيابَ الْفاخِرَةَ الَّتِي اسْتَعَرْتَها مِنْهُ أمْسِ، لِتَظْهَرَ بِمَظْهَرِ أمِيرِ «الْمَوْصِلِ». وَها هِي ذِي أسْمالُكَ (أَيْ: ثِيابُكَ الْقَدِيمَةُ الْبالِيَةُ) قَدْ بَعَثَها إلَيْكَ سَيِّدِي «أبُو ثَعْلَبَةَ» لِتَظْهَرَ — أمامَ سادَتِكَ — بِمَظْهَرِكَ الحَقِيقِيِّ، فَلا يَنْخَدِعُوا فِيكَ بَعْدَ الْيوْمِ.»

(٢) دَهْشَةُ «زُمُرُّدَ»

فاشْتَدَّتْ دَهْشَةُ «فَضْلِ اللهِ» لِهذِهِ الْمُفاجَأةِ، وَأدْرَكَ — فِي الْحالِ — خُبْثَ «الْمُرامِقِ» وَدَهاءَهُ. وَلَمْ يَرَ بُدًّا مِنَ الْإِذْعانِ (أعْنِي: لَمْ يَجِدْ مَفَرًّا مِنَ الْخُضُوعِ) لِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، فَخَلَعَ ما عَلَيْهِ مِنَ الثِّيابِ، وَرَدَّ إلَى الزَّنْجِيِّ أثْوابَ مَوْلاهُ. ثُمَّ ارْتَدَى ثِيابَهُ الْخَلِقَةَ، وَهُوَ حائِرٌ فِي أمْرِهِ، لا يَدْرِي ماذا يَصْنَعُ؟ وَلا يَعْرِفُ كَيْفَ يَقُولُ؟ وَكانَتْ زَوْجُهُ «زُمُرُّدُ» تُصْغِي إلَى الْحِوارِ، (أَيْ: تَمِيلُ بِسَمْعِها نَحْوَ الْمُناقَشَةِ)، فَلَمَّا رَأتْ زَوْجَها يَرْتَدِي الْأسْمالَ، (أَيْ: يَلْبَسُ الثِّيابَ الْبَاليَةَ)، قالَتْ مُتَعَجِّبَةً حَائِرَةً: «يا للهِ! ماذا حَدَثَ؟ وَأَيُّ كَارِثَةٍ (أَيْ: مُصِيبَةٍ) حَلَّتْ بِنا؟ وَبِماذا حَدَّثَكَ الزَّنْجِيُّ؟»

figure

(٣) أمِيرُ «الْمَوْصِلِ»

فَقَالَ لَها زَوْجُها، وَقَدْ عادَتْ إلَى نَفسِهِ الطُّمَأْنِينَةُ وَالثِّقَةُ: «لَقَدْ كَشَفَ اللهُ لِي خُبْثَ هَذا الرَّجلِ وَسُوءَ نِيَّتِهِ، وَلَكِنَّ اللهَ — سُبْحانَهُ — أَبَى إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ السَّهْمَ الَّذِي سدَّدَهُ إلَيَّ، وَيَرُدَّ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ (والنَّحْرُ: أعْلَى الصَّدْرِ)، فَقَدْ سَوَّلَتْ (أَيْ: زَيَّنَتْ) لَهُ نَفْسُهُ أَنْ يُزَوِّجَكِ بِرَجُلٍ فَقِيرٍ أفَّاقٍ، رَغْبَةً فِي الْكَيْدِ لِأَبِيكِ والانْتِقَامِ مِنْهُ. وَقَدْ خُدِعَ فِي مَنْظَرِي — حِينَ رآنِي مَعَ جَماعَةٍ مِنَ اللُّصوصِ — فَحَسِبَنِي طِلْبَتَهُ. وَكُنْتُ — لِحُسْنِ حَظِّي — قَدْ كَتَمْتُ حَقِيقَةَ أمْرِي عَنْهُ، وَحَجَبْتُ سِرِّي دُونَهُ؛ فَقَدْ قُلْتُ لَهُ إنَّنِي مِنَ «الْمَوْصِلِ» وَلَكِنَّنِي لَمْ أقُلْ لَهُ: إنَّنِي أَمِيرُها، وَوَلِيُّ عَهْدِها، وَوَرِيثُ مُلْكِها. وَقَدْ كُنْتُ أعْجَبُ كَيْفَ فَطَنَ إِلَى حَقِيقَتِي مِنْ غَيْرِ أنْ أُخْبِرَهُ بِها؟ وَقَدِ اسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَيَّ حِينَئِذٍ فَلَمْ أدْرِ: كَيْفَ عَرَفَ أنَّنِي لَمْ أُسافِرْ مِنَ «الْمَوْصِلِ» إلَى «بَغْدادَ» إلَّا لِأَتَزَوَّجَ بِنْتَ «أبِي حَمْزَةَ الْمُوَفَّقِ»؟ وَلَمْ أَعْلَمْ كَيْفَ أدْرَكَ — مِنْ مَلامِحِي — أنَّنِي أمِيرٌ؟

فالْآنَ زالَ عَنِّي الْعَجَبُ وانْجَلَى اللَّبْسُ (أَي: الإشْكالُ)، وَعَرَفْتُ أنَّهُ اخْتَلَقَ لِي (أَيْ: كَذَبَ عَلَيَّ وافْتَرَى) هذِهِ الإمارَةَ، وَهُوَ يَحْسَبُنِي أفَّاقًا مُتَعَطِّلًا، أوْ صُعْلُوكًا مُتَبَطِّلًا. وَلَقَدْ خُيِّلَ إلَيْهِ أنَّهُ قَدْ نَجَحَ فِي تَدْبِيرِ مُؤَامَرَتِهِ لِيُوقِعَكُمْ فِي أُحْبُولَتِهِ (أَيْ: شَبَكَتِهِ). وَأبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُخَيِّبَ ظَنَّهُ، وَيُحْبِطَ كَيْدَهُ (أَيْ: يُبْطِلَهُ)، فَقَسَمَ لَكِ الزَّواجَ بِأمِيرٍ أصِيلٍ فِي الْإِمارَةِ، هُوَ أَمِيرُ «الْمَوْصِلِ» وَوَلِيُّ عَهْدِها.»

(٤) ثِيابُ الإِمارَةِ

ثُمَّ قَصَّ عَلَيْها الْأمِيرُ «فَضْلُ اللهِ» قِصَّتَهُ كُلَّها. وَلَمْ يَكَدْ يَنْتَهِي مِنْها حَتَّى تَهَلَّلَ وَجْهُ عَرُوسِهِ، وَأشْرَقَتْ أسارِيرُها (أَيْ: خُطُوطُ وَجْهِها)، ثُمَّ قالَتْ لَهُ: «لَقَدْ رأيْتُ مِنْ نُبْل أخْلاقِكَ — أيُّها الْأَمِيرُ — ما أَقْنَعَنِي بِكَرَمِ أصْلِكَ. وَلَنْ يَكُونَ — إِنْ شاءَ اللهُ — إِلَّا ما يَسُرُّكَ. فَلا تَجْزَعْ مِمَّا حَدَثَ، وَلا تَحْزَنْ مِمَّا فَعَلَهُ ذلِكَ الْمُسِيءُ الْحَاقِدُ، فَإنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ.»

فَشَكَرَ لَها الْأَميرُ «فَضْلُ اللهِ» بُعْدَ نَظَرِها، وَأصَالَةَ رَأْيِها.

وَأسْرَعَتْ «زُمُرُّدُ» فَنادَتْ إحْدَى جَوارِيها، وَأمَرَتْها أَنْ تَذْهَبَ منْ فَوْرِها (أَيْ: لِلْحالِ) إلَى السُّوقِ، لتَشْتَرِيَ منْها ثِيابًا فاخِرَةً لِلْأمِيرِ. وَلَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يَسِيرٌ حَتَّى عادَتِ الْجارِيَةُ وَمَعَها أكْسِيَةٌ فاخِرَةٌ، وَحُلَلٌ ثَمِينةٌ، جَدِيرَةٌ بِأمِيرٍ مِثْلِهِ، فارْتَداها الأمِيرُ، فَعادَ إلَيْه رُوَاؤُهُ (أَيْ: حُسْنُ مَنْظَرِهِ) وَبَهاؤُهُ بِأحْسَنَ مِمَّا كانَ بِالْأمْسِ.

(٥) وَعِيدُ «زُمُرُّدَ»

فَقالَتْ «زُمُرُّدُ» ضَاحِكَةً مُسْتَبْشِرَةً: «تُرَى كَيْفَ يَكُونُ شُعُورُ «الْمُرامِقِ» الْآنَ؟ لَقَدْ حَسِبَ أنَّهُ أوْقَعَنا فِي أُحْبُولَتِهِ (أَيْ: شَبَكَتِهِ)، وَلَمْ يَعْلَمْ أنَّهُ قَدْ هَيَّأ لَنا سَعادَةً لَمْ تَكنْ لِتُيَسَّرَ لَنا لَوْلاهُ! لَقَدْ أرادَ أَنْ يُزَوِّجَ بِنْتَ «أبِي حَمْزَةَ الْمُوَفَّقِ» بِلِصٍّ أفَّاقٍ، فَخَيَّبَ اللهُ أمَلَهُ، وَأنْقَذَها مِنْ كَيْدِهِ، فَزَوَّجَها بِأمِيرٍ جَلِيلٍ، مِنْ سُلالَةٍ عَرِيقَةٍ (أَيْ: مِنْ نَسْلٍ أصِيلٍ) فِي الإِمارَةِ وَالْمُلْكِ، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأهْلِهِ. عَلَى أنَّنِي سَأعْرِفُ كَيْفَ أنْتَقِمُ مِنْهُ انْتِقامًا لا يَنْساهُ إلَى الْأبَدِ، وأُعاقِبُهُ عِقابًا لا يَخْطُرُ لَهُ عَلَى بالٍ، لِيَكُونَ لَهُ فِي ذلِكَ دَرْسٌ بَلِيغٌ يَرْدَعُهُ (أَيْ: يَرُدُّهُ) عَنِ الْكَيْدِ لِلنَّاسِ، فَيَكُفُّ عَنْ خِدَاعِهِمْ وَالْمَكْرِ بِهِمْ.» وَحَاوَلَ الْأمِيرُ أَنْ يَرْجِعَها عَنْ عَزْمِها عَلَى الانْتِقامِ مِنَ «الْمُرامِقِ»، فَذَهَبَتْ جُهُودُهُ أدْراجَ الرِّياحِ. ثُمَّ حاوَلَ أَنْ يَتَعَرَّفَ مِنْها ما دَبَّرَتْهُ لِخَصْمِها مِنْ كَيْدٍ، فَلَمْ تُخْبِرْهُ بِشَيءٍ مِنْ سِرِّها.

(٦) انْتِقَامٌ باطِشٌ

وَلَقَدْ صَدَقَتْ «زُمُرُّدُ» وَعِيدَها (أَيْ: كانَتْ صَادِقَةً فِي التَّهْدِيدِ وَالتَّخْوِيفِ)، وَكانَ انْتِقامُها مِنْ خَصْمِها وَخَصْمِ أبِيها عَنِيفًا باطِشًا (أَيْ: مُتَناهِيًا فِي الشِّدَّةِ)، فَقَدِ اعْتَزَمَتْ أنْ تَجْعَلَهُ مُضْغَةً فِي أفْواهِ النَّاسِ — مِنْ خاصَّةٍ وَعامَّةٍ — يَتَفَكَّهُونَ بَها، وَتَرْوِيها الْأخْلافُ عَنِ الْأسْلافِ (أَي: الأَبْنَاءُ عَنِ الْآباءِ)، فَتَمَّ لَها ما أرادَتْ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ رَجاءِ الْأمِيرِ «فَضْلِ اللهِ»، الَّذِي كانَ لا يُحِبُّ الانْتِقَامَ، وَلا يَرْضَى مُقَابَلَةَ الْإسَاءَةِ — مَهْما عَظُمَتْ — بِغَيْرِ الْإحْسانِ والصَّفْحِ وَالْغُفْرانِ.

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤