تمهيد

كانت حالة إسبانيا قبل فتح العرب لها أشبه بالبداوة منها بالحضارة، ولم يعلم التاريخ لأهلها مدنية قديمة يُذكَرون بها، بل كانوا طوال عمرهم طعمة للفاتحين من فينيقيين ورومان ويونان وقرطاجيين وقوط. وما كانوا يعرفون شيئًا من أسباب الحياة إلا ما كانوا يستخرجونه من معادن بلادهم، فيستبدلون به مادة غذائهم وكسائهم من تجار الأمم المحتلة لبلادهم، حتى دخل فيهم عنصر الدول المتغلبة، فأخذوا يحملون سلاحهم ويدافعون عن حوزتهم، وأصبحوا أمة اشتهرت بأنها حربية، وهي وإن كانت تعيش بين أركان القرى، كان أهلها غارقين في خشونة الهمجية إلى أواخر القرن الرابع للميلاد، ولم تقم لإسبانيا قائمة إلا في المدة التي حكمها القوط في أوائل القرن الخامس للمسيح. ولما دخلتها النصرانية وكثر ورود القسس إليها، دعا الملك ريكارد في أواخر القرن الخامس بطارقة النصرانية إلى مؤتمر في طليطلة، وعلى أثره اعتنق المذهب الكاثوليكي؛ ومن ثَمَّ احتفل بكنيسة طليطلة هو وقومه حتى أصبحت غنية زاهية بكثير من الأواني الذهبية، التي كانت منها تلك المائدة الثمينة البديعة التي أخذها العرب بعد استيلائهم على هذه المدينة، وقدَّمها موسى بن نصير إلى الوليد الأموي مع الغنائم التي وفد بها على دمشق بعد الفتح.

وهنا يقف القلم مبهوتًا حائرًا خجلًا من أن يرى لبعض مؤرخي العرب في بعض الآثار التي تتصل بالتاريخ القديم لإسبانيا أقوالًا لا تنطبق على عقل ولا فكر، بل هي أساطير١ اعتادها بعضهم عندما يريد أن يتكلم على شيء تغلغل تاريخه في بطن الماضي البعيد. ولا بد أن يكونوا قد أخذوا هذه الأساطير عن سكان البلاد بعد فتحهم لها، وتاريخ الإسبان أنفسهم مشحون بكثير من أمثال هذه الخرافات، ولكَوْن العرب أمناء على النقل لم يشاءوا أن يحكِّموا عقولهم فيها ولا في غيرها من هذا القبيل؛ لذلك ترى تاريخهم أنفسهم قبل الإسلام سقيمًا عليلًا فيه كثير من الأساطير التي تضلُّ حقيقة التاريخ بين سطورها، وربما ترى هذه الأمانة نفسها في أيامنا هذه حتى في الأزهر الشريف، فإنك ترى أهله قد يحترمون غلطات المؤلفين، وعلى اعتقادهم أنها أغلاط لا يزالون يتركونها لهم في كتبهم، ولا يريدون أن يصلحوها احتفاظًا بأمانتهم في النقل.

وعلى كل حال إني لم أطَّلِع للعرب على تاريخ للأندلس، بحيث يقوم بحاجة من يريد الاطلاع على تاريخها فحسب، ذلك لأن مؤرخيهم ينتقلون من رواية إلى أخرى، ومن شيء من التاريخ إلى شيء من الأدب، ومن شعر لناظم إلى نثر لكاتب، ومن شيء في الأندلس إلى شيء في العراق أو في مصر يجر إليه سياق الحديث، مما يتعَب له الذي يريد أن يطَّلع منه على شيء في خصوصه. وحسبك أن تُلقِي نظرة على كتاب نفح الطيب، وهو أكبر كتاب في تاريخ الأندلس لتعلم حقيقة ذلك، وخير ما رأيته من روايات التواريخ العامة خاصة بالأندلس هو ما كان لابن خلدون. وفي كتاب «الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى» شذرات مختصرة قيِّمة ذُكِرت فيه هنا وهناك على حسب علاقتها بتاريخ المغرب. ومن المطبوعات الجديدة مختصران قيِّمان: الأول؛ عن رحلة بالأندلس للأستاذ محمد كرد علي، والثاني؛ تاريخ للأمويين بالأندلس للأستاذ محمد عبد الله عنان.

وفي الجملة قد كان للإسبان قبل دخول العرب إليها شيء من المدنية القوطية، وكانت هذه المدنية شائعة في أوربا الوسطى على أثر اكتساح القوط للدولة الرومانية في أوائل القرن الخامس للميلاد. وقد اندمج القوط في البلاد التي فتحوها وفنيت لغتهم في لغتها، واتصلت مدنيتهم بمدنيتها، ولم يضع الإفرنج لها فنًّا خاصًّا بها إلا في القرن الثالث عشر للميلاد، وأقدم أثر لهذا الفن بأوربا هو كنيسة كولونيا بألمانيا، أما إسبانيا فأضخم وأعظم أثر فيها هو دير الإسكوريال الذي بناه فليب الثاني في النصف الثاني للقرن السادس عشر. ووضع الأوربيون بعد ذلك للبناء العربي الأندلسيِّ الجميل فنًّا خاصًّا به سموه استيل مورسك STYLE MAURESQUE أخذوه على الخصوص من قصور الحمراء. وترى شيئًا منه في بعض وجهات أبنية مصر الجديدة (هليوبوليس) ولا سيما في فندقها الأكبر.

وقد دخل أصل هذا الفن مع العرب إلى إسبانيا؛ فإنهم لما جازوا إليها نقلوا معهم بعض مدنية الشرق، ولما فرغوا من حركة الفتح في السنين الأولى من جوازهم إلى الأندلس أخذوا في تخطيط الدور، وتشييد القصور، وحفر الترع، وإقامة الجسور، وبناء القناطر، وشق الخلجان، وتهيئة الأراضي للزرع، والعناية بتربية ذوات الضرع. واستوردوا من مصر والشام كثيرًا من الأشجار والنباتات مما لم يكن له وجود في قارة أوربا، حتى إذا ضربوا بجرانهم، وأناخوا بكلكل سلطانهم، وأخذت ينابيع الثروة تتفجر في كل ناحية من نواحي البلاد، وظهرت معالمها في جميع شئونهم؛ اهتموا بنشر العلوم وتشييد هياكل الفنون، وكانوا يكافِئون كل مَن برز فيها، ويجيزون كل مَن ظهر في آفاقها، ويبالغون في مكافأة المؤلِّفين، فتغيَّر حال البلاد من بداوة مطلقة إلى حضارة متألقة، وتكشفت سماؤها مما كان يتكاثف فيها من سحب الجهالة عن شموس من العرفان تنير أفلاكها، وتملأ أجواءها بمادة العلوم المختلفة من دينية وطبية وزراعية وفلسفية وطبيعية وكيمياوية، وغير ذلك من أدب جامع، ونظم رائع، مما كان مادة للإفرنج بنوا عليه شيئًا كثيرًا من مدنيتهم الحالية. وكان ملوك العرب وأمراؤهم في مقدمة الناس اهتمامًا بهذه العلوم وتحصيلًا لها، حتى لقد كانوا مع شغلهم بأعباء ملكهم لا يريدون أن يروا أنفسهم أو يراهم الناس أقل ممَّن اشتغل بتلك العلوم مهنة وصناعة، وكانت مجالسهم أشبه شيء بأندية علمية يشاطرون فيها العلماء علمهم في وقت فراغهم من أعمال الدولة، بل كانوا في مجالس أُنْسهم ولهوهم يتنقلون في كثير من الشئون: فمن هزل إلى جد، ومن مجون إلى فنون، ومن صحفة شراب إلى صفحة كتاب، وهذا لعمري كان سببًا في شحذ قرائحهم وإرهاف بديهتهم، وتهذيب طبيعتهم، حتى أصبحت لا يصدر عنها إلا كلُّ ما رَقَّ وراق، وبدع وشاق. وكانت قصور قرطبة وسرقسطة وطليطلة وإشبيلية وجيان والمرية وبلنسية وغرناطة مطالع سعود، وموارد وفود، ومرابض أسود، ومساكن جنود، ومراكز بنود، ومجامع عظماء، ومنتديات علماء، كما كانت مجالي سرور، ومراتع حبور، وكُنُس غزلان، وملتقى أخدان، ومزار ندمان. وبالجملة قد جمع أمراء الأندلس في شباب دولتهم من الملك بين جلاله وجماله، ومن الوجود بين نسيمه ونعيمه: فأخذوا من حياتهم بالحسنيين لدينهم ودنياهم، مع أخلاق فاضلة، وحكومة عادلة، ونفوس ماثلة، للعاجلة والآجلة؛ فشادوا للمُلْك قراره، وللعلم مناره، وللفن داره، وللأُنْس مزاره، وسار الناس على سننهم، والناس على دين ملوكهم.

ومَن يطَّلع على أقوالهم في نثرهم وشعرهم يرَ أن مجالس القوم بعد فراغهم من أعمالهم كانت مجتمع أحباب، لكل ما لذ وطاب، من أكل وشراب، وسماع الأغاني، بين المثالث والمثاني، من ذي عِذار، أو ذات سُوار، ولكن في حشمة ووقار. حتى إذا ولَّى شباب نهضتهم، وأسلم الملوك قيادهم لشهواتهم، وتركوا حبل البلاد على غاربها؛ لم يلبثوا أن ظهرت فيهم معالم الخمول، وأخذت زهرتهم في الذبول، ونَجْمُ سعودهم في الأفول؛ فنضب معين ثقافتهم، وانحلت عروة وحدتهم، وتفككت رابطة جماعتهم، وجفت دماء همتهم، وخَبَتْ ريح نعمتهم، وماتت قلوبهم، والقلوب لا تموت إلا إذا غفل الداعي، وهجمت عليهم الذئاب من كل ناحية، والذئاب لا تهجم إلا إذا نام الراعي. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم.

هوامش

(١) نذكر لك باختصار شيئًا مما جاء في نفح الطيب من غير تعليق عليه:
  • أولًا: ذكر أن المائدة التي وجدها طارق في طليطلة وقدمها ابن نصير إلى الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي كانت لسيدنا سليمان عليه السلام، وأنها وصلت إلى طليطلة مع الملك بريان، وكان قد اشترك مع بختنصر في حربه لبيت المقدس، ووقعت هذه المائدة في نصيبه من الغنائم بعد أخذهما مدينة القدس!
  • ثانيًا: ما ذكره من أن سيدنا سليمان وسيدنا عيسى صلوات الله عليهما أتيا إلى طليطلة في حياتهما!
  • ثالثًا: ما ذكره — سامحه الله — من «أن مضيق الزقاق» كان موضعه برزخًا يصل ما بين إسبانيا وبلاد المغرب، فلما حضر الإسكندر ذو القرنين إلى هذه الجهة! اشتكى له أهل إسبانيا من تعدي أهل المغرب عليهم، فأمر فأُزِيل هذا اللسان، وبذلك اتصلت مياه المحيط بمياه البحر الأبيض، ففصلت ما بين البلدين. وهذا القول صحيح من جهة وجود اللسان وزواله، ولكن الذي أزاله هو يد الطبيعة عقب اضطراب بركاني عظيم اندكَّت له أرضه، كما اندكَّت له الأرض التي بين الأناضول والأستانة، ومكانها الآن مضيق البوسفور الذي وصل البحر الأسود بالدردنيل. وكذلك الحال في بوغاز باب المندب الذي فصل بين آسيا وأفريقيا، ومضيق بهرنج الذي فصل بين شمالي آسيا وأمريكا، وذلك كله قبل وجود التاريخ، وقد يكون قبل وجود الإنسان. وبهذه المناسبة نقول إن الطيار السويسري هونتذر الذي وصل على طيارته إلى القاهرة يوم الجمعة ١٤ ديسمبر سنة ١٩٢٦ قال في حديثه لمكاتب الأهرام الغراء إنه يريد السفر إلى أواسط أفريقيا للتحقق من نظرية وجنز الذي يقول بأن القارات كلها كانت متصلًا بعضُها ببعض، وأنه سيأتي زمن ينفصل فيه جنوب أفريقيا إلى نصفين في المنطقة التي تبتدئ من جبل كينيا الذي يبلغ ارتفاعه ٥٨٠٠ متر.
  • رابعًا: ما ذكره من أن الصنم الذي كان بقادس كانت له خاصية عجيبة لما كان يحيط به من الطِّلَسْمَاتِ التي بُنِي عليها، وأنه كان يمنع مرور الرياح من البحر المحيط إلى البحر الأبيض، وأن مفتاح هذه الطِّلَسْمَاتِ كان موضوعًا في صندوق من الفضة في بيت خاص به في طليطلة لا يفتحه أحد. فلما كان زمن لذريق ساقه حب الاطلاع على ما في هذا البيت ففتحه، وفتح الصندوق الذي به، فوجد فيه تماثيل على صورة العرب مكتوبًا عليها «سيملك هذه البلاد قوم على هذه الصورة»، ثم قال: وبفتح الصندوق بطَل عمل الطِّلَسْمَاتِ ودخل العرب إسبانيا!
والقول بالسحر والطِّلَسْمَاتِ قديم في الأمم، وقد عقد ابن خلدون في مقدمته بابًا خاصًّا به قال فيه: «وكان للسحر في بابل ومصر زمان بعثة موسى عليه السلام أسواق نافقة؛ ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون ويتنافسون فيه، وبقي من آثار ذلك في البرابي بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك! إلى أن قال: وأما التفرقة عندهم بين السحر والطِّلَسْمَاتِ فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى مُعِينٍ، وصاحب الطِّلَسْمَاتِ يستعين بروحانيات الكواكب! وأسرار الأعداد، وخواص الموجودات! وأوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر كما يقول المنجمون. ويقولون: السحر اتحاد روح بروح. والطِّلْسَم اتحاد روح بجسم؟ إلى أن قال: وأما الشريعة فلم تفرِّق بين السحر والطلسمات، وجعلته بابًا واحدًا محظورًا.» وذكر ابن خلدون في هذا الباب أن مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات لخَّص كتبها وهذَّبها في كتابه الذي سمَّاه (غاية الحكيم)، ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده.
ومن هذا ترى أن السحر والطِّلَسْمَاتِ كان لها مجال كبير في الأندلس، ولا بد أنها انتقلت منها إلى بلاد المغرب، ولا يزال من أهلها من يشتغل بها إلى الآن، وشهرتهم بذلك في مصر شائعة ذائعة. وبمناسبة استشهاد ابن خلدون ببرابي مصر في أمر الطِّلَسْمَاتِ، يذكر القرَّاء ما كتبته جرائد أوربا وخصوصًا الإنجليزية منها منذ سنتين حين وفاة اللورد كارتارفون بعد كشف قبر توت عنخ آمون على أثر قرصة بعوضة أو ذبابة في المقبرة نفسها، وكانوا يتساءلون: هل كان موته انتقامًا منه لفتحه تلك المقبرة التي باركها الكهنة أثناء دفن هذا الملك برُقاهم وتعاويذهم التي كانت تدور حول لعنة من يجرؤ على فتحها. وقد قويت عندهم هذه الفكرة بعد موت ذلك العالم الأثري الفرنسي عقب زيارته لهذه المقبرة في السنة التالية.
أما التمثال الذي كان بقادس فقد أقامه فيها الرومان عند استيلائهم على إسبانيا لهرقل أو هرقيل، وهو أحد آلهتهم، وهو عندهم إله الزرع وحامي البلاد من عدوها، وحامي المسافرين في البر والبحر. وقد أقاموه في هذه المدينة ليحميها من أعدائها القريبين منها في بلاد المغرب، ومن هذا تجسمت تلك الخرافة في أذهان الإسبان، وانتقلت منهم إلى العرب فذكروها بغير تعليق عليها. وربما توسَّع بعضهم فيها فزاد عليها وجعلها من عند نفسه، وما زال هذا التمثال بقادس حتى ثار علي بن عيسى قائد البحر، فظن أن تحته مالًا وهدمه، فلم يجد شيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤