الفصل التاسع

وكيف يُدَاوِم شعبٌ يُرسِل في كلِّ سنة ألوفَ الحَجِيجِ إلى القدس على السَّكَن مع الأنعام في أكواخٍ مصنوعة من سوق الشجر ومن العَوْسَج١ والعشب والبعر؛ أي يأتي أمرًا لا يُطِيقُه معظم الزنوج؟ وفي كلِّ يومٍ، وباللاسلكي، تَتَّصِل العاصمة بأوروبة، ويصل العاصمة بالبحر خطٌّ حديديٌّ، ولا ترى — مع ذلك — طريقًا صالحًا لمرور العربات، ويطفح البلد بالحديد والرُّخام، ولا يستطيع ابنُ البلد أن يُجَندل شجرةً مع ذلك، وابن البلد يحرقها بالقرب من الأرض إسقاطًا لها مع ذلك، ولا تقل إن القوم هنالك لا يزالون يعيشون في القرون الوسطى، فقد دخلت الحضارة والنصرانية في الحبشة قبل دخولهما في فرنسة بزمنٍ طويل.
ومنذ نحو ثمانين سنةً؛ أي أيامَ الحملة الإنكليزية في سنة ١٨٦٢، اخترع الأحباش عذابًا جديدًا قائمًا على شدِّ الأُسارى بالوَثَاق٢ وقتلهم بإدخال مساميرَ طويلةٍ إلى صدورهم، ولا ريب في أن جِبِلَّتَهم مصدرُ هذه الوحشية، وأن المطر والريح والجبل والسيلَ مصدر هذه الجبلَّة.

ومن الطبيعيِّ أن يظلَّ عاطلًا من الحِراثة والثقافة ذلك البلدُ ذو الجبال الموحشة، والذي تتحوَّل طُرُقُه في كلِّ صيف إلى أنهارٍ، والذي يسيطر عليه أشرافٌ متحاربون يحافظون على أنفسهم بجيوشٍ من العبيد، ولا يطمئن الفلاح إلى الغد ولا يَعرِف مصيرَ أرضه فيُثير طَرَفًا من الحقل متراخيًا ويلجأ إلى أحد المخابئ التي تَكثُر في البراكين الهامدة، وتنمو البسالة والقسوة هنالك تحت ظل نصرانيةٍ مُشَذَّبة تشذيبًا غليظًا.

وما تُبْصِره من نُدوبِ٣ كيٍّ٤ كثيرةٍ في الأولاد فيَنِمُّ على الأسلوب الذي يُلَقَّنُون به الشجاعةَ، والبطل هو الذي يُمْسِك في يده عُصَافَةً٥ ملتهبةً أو خشبةً مشتعلةً في أطول زمنٍ ممكن، وإن التِّينيا،٦ التي جعل الإفراط في أكل اللحم النيِّئ والقذارة منها مَرَضًا قوميًّا، هي من كثرة الشيوع ما يَعُدُّ بعض القبائل عدمَ وجودها أمرًا مخزيًا.
أجل، إن الزنجي يخشى المرض، ولكنه لا يسير على غِرار كثيرٍ من القبائل الحبشية فيحرق بيتًا يشتمل على مصابين بالجدري ويمنع هؤلاء المرضى من الفرار بقوة الحراب. أجل، إن الزنجي يعلِّق رأس عدوِّه المقهور في ميدانٍ عام، ولكن الحبشيَّ يحمل على زُنَّاره قضيبَ عدوِّه المقتول كحِزام الفَشَك٧ وكآيةٍ على الخصاء الذي هو من خواصِّ ذلك البلد. أجل، إن النصراني الأبيضَ يَذبح بقرًا أيضًا، ولكنه لا يوجِّهه في بدء الأمر شطرَ القدس٨ صارخًا: «باسم الأب والابن والروح القدس!»
أجل، إن الزنجيَّ يأكل اللحمَ التِّيء، ولكن المسَّايي يحتكرون أفظعَ العادات الحبشية، فهم إذا ما أولموا٩ أتوا بثورٍ إلى الرَّدهة وقطَّعوه حيًّا من غير مَسِّ شرايينه لكي يموت بنزيفٍ بطيءٍ على أعين الضيوف وهو يَخُور،١٠ ولا تزال هذه العادة قائمةً منذ قرون وإن أُنكر أمرها، وهي لم تَزُلْ، وقد وكَّد الرُّوَّاد المعاصرون خبرَها كما وكَّده الروَّاد السابقون، وأيُّ الرجلين أكثرُ ضراوةً: آلرجل الذي يأكل لحم إنسان ميتٍ أم الذي يَعْضُو١١ حيوانًا حيًّا؟
ومن شأن الخرافات — التي يستتر الخوف تحتها لدى القساة — أن تَزِيد اضطرابَ المشاعر، ومن ذلك أن الحبشيَّ يَتَلفَّف ليلًا في نسائجَ خَشيَةَ اللَّامَّةِ،١٢ فالزوجان المزَّمِّلان على هذه الصورة يُشَابِهان الأجسام المحنَّطة.

وللغِلَاظِ حركاتٌ جميلةٌ أحيانًا، والغِلاظُ يقومون بأوضاعٍ فَخْمةٍ تعويضًا من أعمال أَتَوْها منافيةٍ للأدب وإعادةً لنظام قوَّضوا دعائمه، وإذا ما التقى رجلان راكبان بغلين ترجَّلا قبل أن يسلِّم أحدهما على الآخر، ورَفَعَا من الصدر طَرَفَ نوع من الحلة يتخذونه ثوبًا، وهما كلما تجرَّدَا كان ذلك دليلَ احترامٍ عميق.

والنكاح سرٌّ مقدسٌ يستطيع كلُّ واحدٍ أن يأخذ به ما طاب له من النساء، ويكون جميع أولاد الرجل شرعيين خلافًا لأولاد النجاشي، وتَنَال كل زوجةٍ ما تدَّعيه من نفقة، وعلى ما يُقضَى هنالك من حياةٍ جديرة بالقرون الوسطى تَرَى الناس يتمتعون بنظامٍ عصريٍّ تامِّ الجِدَّة، وهو الزواج التجرِبيُّ مع الشِّعار: «لِنُبصِر هل تَحْمِل أولادًا.» وترتبط البنات بأبويهنَّ في الزواج الأول بين السنة الحاديةَ عشرةَ والسنة الثالثةَ عشرةَ، ثم يصبحن حُرَّاتٍ في الاختيار، وإذا لم تَجِد البنت الغنية زوجًا اتخذت لها خليلًا عاشقًا فتدفع إليه جُعلًا وتعامله مثل خادم، وهو يُدْعى «فوتبيتًا» أي «طاهيًا»، ويُلزَم بأن يعيش في الجوار، وأن يظلَّ وفيًّا لها مع احتفاظها بحريتها!

ولا يحق للخاطب أن يزور خطيبته، فإذا فعل ذلك وجب عليها أن تفرَّ مذعورةً عند وصوله مع أن من حقوقها أن تستقبل شبانًا آخرين أفرادًا، ويَجهل الأحباشُ القُبلة، وإنما يَدْلُكون مقابلةً مَيَامِنَ أنوفهم بالسبَّابات،١٣ وهم يشترون أزواجهم كالزنوج، وهم كالبيض يُولِمون ويَقصُفون١٤ يوم الزواج، حتى إنه يُدعَى إلى المأدبة «تِلْقامٌ»١٥ يبتلع خمسًا وعشرين لِترةً من الجِعَة، ويلتهم من الطعام مثل هذا المقدار، وتشابه هذه الجِعَة شرابَ العسل، وهي لا تُشَرَّفُ — كما في ألمانية — بأسماء الملوك والنسر والأسد، وهي تسمى شرابَ الغَلَّا؛ أي «شراب العبيد».

والقس يمثِّل دورًا مهمًّا عند الولادة وإن كان غير ذي قيمةٍ في حفلة الزواج، ويجتنب الرجال الآخرون بيت النفساء خَوْفًا من التدنس، وهم يفرُّون تحت وابلٍ من سَخَر صدائق الأمِّ الفتاة، وليس للزوج غير حقِّ رَكْزِ حربته في وَسَطِ الباب ليكون الوليدُ شجاعًا، وينشأ عن اعتقاد دَنَس الزوجة، وهو اعتقادٌ غريبٌ لدى النصارى، مَنْعُها من صُنع خبز الذبيحة، والزوجات يخاطبن أزواجهم بصيغة الجمع المخاطب، والأزواج يخاطبون زوجاتهم بصيغة المفرد المخاطب، ويسهل حل النكاح كما يسهل عقده، ويمكن الزوجَ أن يبيع زوجته نَيْلًا للمال، والزوجة تصنع ما ترى انتقامًا لنفسها.

١  العوسج: من شجر الشوك.
٢  الوثاق: ما يشد به من قيد وحبل ونحوهما.
٣  الندوب: جمع الندبة، وهي أَثَر الجرح الباقي على الجلد.
٤  الكي: إحراق الجلد بحديدة ونحوها.
٥  العصافة: ما سقط من السنبل كالتبن.
٦  التينيا: هي جنس من الديدان العريضة الطفيلية، وتُعرف بالدودة الشريطية والدودة المعترضة.
٧  Cartridge.
٨  شطر القدس: نحو القدس.
٩  أولم: عمل الوليمة.
١٠  خار البقر: صاح.
١١  عضا الحيوان: جزأه.
١٢  اللامة: العين التي تصيب بسوء، وكل ما يخاف من فزع وشر، ويقال: «أعيذه من كل هامة ولامة.»
١٣  السبابة: الأصبع التي بين الإبهام والوسطى.
١٤  قصف: أقام في أكل وشرب ولهو وأكثر من ذلك.
١٥  التلقام: العظيم اللقم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤