الفصل العاشر

ونوحٌ هو مصدر الخطأ، ولا رَيْبَ في أنه كان نَشْوَانَ حين لَعَنَ ابنه حامًا وحَكَمَ عليه بأن يخدم إخوته، فصار جميع تجار الرقيق يستشهدون به، ولم يعرف ماذا كان يفعل، فما كان حامٌ شرًّا من سام، ولم يقلَّ ما أتاه اللاحاميون من ظلمٍ عما أتاه اللاساميون. ومهما يكن الأمر — وعلى ما كان من اضطهاد اليهود — فإن ورطة اليهود دون ورطة حفدة حامٍ الذين قضوا حياتهم مُوثَفين بالقيود، أو عدوا سلعًا وظلوا عبيدًا حتى الساعة الحاضرة، والحق أن المضطهَد يمكنه أن يصارع وينتصر، وأن قيمته الشخصية تَزيد بمقاومته، وهو إذا ما قُهر وذُعر وصَبر ووجد في الانتقام القادم سبب سرورٍ له، والعبد مع ضياع الحرية يخسر أمل الانتقام، وإذا ما جُرَّ القيد جيلًا بعد جيل ذبلت المشاعر كذبول الأعضاء المعطلة وزالت في نهاية الأمر. ويلوح أن نظرة الأسد الذي وُلد في الأسر تنمُّ على أنه يعلم فصل القضبان له عن الحرية في غابة آبائه، وعاد العبدُ لا يدافِع.

وفي ذلك تفسيرٌ للسِّرِّ في وجود عبيدٍ منذ سبعة آلاف سنة وفي قلة عصيانهم، وتاريخ العبيد أطول من تاريخ الطوائف الأخرى ومن تاريخ الكَهَنَة. وكان لأكابر محبي الإنسانية عبيدٌ، وكان للحكيم سُولُون١ وللعادل لِيكورغَ٢ عبيدٌ. وكان قيصر يسيطر على إمبراطورية ثلثاها عبيدٌ، وما كان المسلمون أحسنَ سيرًا، ولكنهم كانوا أقوى دليلًا، وكان محمدٌ، كجوستِينْيَان،٣ الذي عاش قُبَيْل ظهوره، شاعرًا بما بين مذهبه وبين الرقِّ من تناقض، وهو لم يُبْدِ من الإقدام ما يَدُكُّ به ركن الدولة ذلك مع ذلك مكتفيًا بأمره بالرفق بالرقيق، وهو قد أخضع الكافرين من غير إكراهٍ على اعتناق الدين. واليوم يمتنع المسلم في بلاد الرق عن حمل الزنجيِّ على الإسلام لما يؤدي إليه إسلامه من إعتاقه، ولا مكانَ هنا لتَصَنُّع الحنان، ولا أَحَدَ يزعم تساويَ الناس، الله أكبر، ودعنا نبيع الكافرين في دار الحرب إذن! ولم يَعمَل الخَلَفُ بما أمر به صاحب الشريعة من رِفقٍ بالموالي.

والرق في عهد أشدِّ ملوك إسبانية كَثْلَكَةً دام حتى القرن السادسَ عشرَ فدلَّ ما ادَّثَر به من رداءِ رثاءٍ على درجة ابتعاد دين عيسى عن مذهب صاحبه أكثرَ من ابتعاد دين محمدٍ عن مذهب صاحبه. ولمَّا بدأ البرتغاليون، قبل كريستوف كولونبس، بتجارة الرقيق في الشاطئ الأفريقي الغربي كان لهم بلون جلود ضحاياهم راحةُ ضميرٍ. ولما أخذوا يتصيدون الناس ويزرُبُونهم بالألوف فوق سُفُنهم وينقلونهم إلى أمريكة الجنوبية اقتطافًا لثمراتِ البلاد الحارة واستخراجًا للذهب أوجبوا بذلك غزوًا مصنوعًا جاوز بنتائجه جميعَ ما تقدَّمَه من المغازي، وتخلو أفريقية، ويصل الذهب من أمريكة ويُثرِي الزراع ويَفْنَى الزنوج.

وكما باع المسلمون النصارى يَبيعُ النصارى الوثنيين في العصر الحاضر، وقد صرح أحد آباء الكنيسة العظام بأن الرقَّ عمل صالح؛ وذلك لأنه يُتِيح لهؤلاء الكافرين من الحظ غير المنتظر ما يتنصَّرون به، ومن البابوات من قالوا موكِّدين: إن الرِّقَّ نتيجةٌ حتميةٌ للخطيئة الأصلية، فكان موضعَ حمدهم، ثم جاء دور الإنكليز فأمضوا معاهداتٍ لإمداد أمريكة بالعبيد. وإذا كان الأصحابُ٤ الأولون من الإنكليز فإن شرف إيقاظ الضمير البشري يرجع إلى الولايات المتحدة. نعم، هزَّ كلارْكسُن٥ شعورَ الإنكليز، ولكن الرأسماليين من النصارى استعانوا في القرن التاسع عشر بزملائهم من المسلمين في تجارة الرَّقيق، وما انفكت كتب الجغرافية المدرسية، حواليْ سنة ١٩٠٠، تَعُدُّ العاج وريشَ النعام والمطَّاط والرَّقِيق منتجاتٍ لبعض الدول الزِّنجية. والواقع أن كلَّ من لا يحمل سيفًا أو قلنسوةَ راهبٍ في الحبشة يُحْسَب عبدًا.
figure
بقعة ذات منافع.

وكانت الحبشة منذ القرن الثامن محاطةً بمسلمين يستعبدون أُسَارى النصارى. وهل يوجَد ما يوجِب الشكوى من النصارى لسلوكهم هذا النَّجْدَ بعد أن أتاهم السلطان؟ كان يجب أن يكونوا أرقى من إخوانهم البيض بأوروبة لئلَّا يفعلوا ذلك، وقد دام هذا أكثر من ألف عام، ومما رواه مبشِّرون حوالي سنة ١٨٥٠ مشاهدتهم نخَّاسين من نصارى البرتغال هدموا قُرًى بأسرها وذبحوا ١٥٠ زنجيًّا ليغنموا ٥٢ امرأةً، وكانت الفتاة الغَلَّاوية المليحة تساوي ثمنًا يترجَّح بين ٢٥ و٠ تاليرًا في أسواق الشمال.

وحاول بعض النظريين طويلَ زمنٍ أن يدافعوا عن النِّخاسة، ومما كانوا يُثبِتونه خُلُوُّ العهد الجديد من أيِّ حظرٍ لها، وكون مبدأ مساواة الناس أمامَ الرب ليس غيرَ «تلطيفٍ» للنص، وما كانت الثورة الفرنسية التي حاولت تطبيق هذا المبدأ في الحقل السياسي، ولا جهود الأصحاب، لتستطيعَ أن تَقْضِيَ على النخاسة. وكان لا بد — لبلوغ ذلك — من سيادة النظام الآلي الذي يؤدي إلى بطالة كثير من الناس، ونقص قيمةِ العبيد في بعض الأصناف على الأقل، ويُسفِر نقص أثمان العبيد عن نقصٍ في السخط، ويَجِد الرأسماليون البيض — ويتصفون بالحذر دومًا — فَرْقًا بين الرِّقِّ والاتجار بالزنوج، فيحكمون على الأول مع الاستنكار (لخلوه من الربح) ويداومون على مزاولة الثاني.

وكيف يمكن الأحباشَ — الذين يجهزهم إخوانُهم في المسيح بنعم الحضارة — أن ينالوا هذه النعم من غير بيع عاجٍ وأناسٍ؟ أجل، إن صيد الناس نَقَصَ إذا قيس بما كان عليه في القرن السادس عشر، ولكنه لم يبطل تمامًا، وللحلِّ الحاضر من القيمة ما لمبدأ التسلُّح الذي يُرثَى له، ومن شأن إلغاء السلاح أن يؤدِّي إلى نظام أمورٍ جديد. وعن العبيد قال سبيك: «إنهم مسحورون، فهم عاطلون من الشعور بقوتهم عَطَلَ الحيواناتِ الأهلية.»

ومن براهين البِيض من النصارى أن الإعتاق الفوريَّ يؤدي إلى تَعْسِ أناسٍ غير أهلٍ للحرية وارتباكِهم بحِسِّ مسئوليةٍ جَهِلُوها في كلِّ زمن، ولا مِرَاء في أن من المُشَاهَد رجوعَ حيواناتٍ إلى أقفاصها بعد أن سُرِّحَتْ، ولكن صغارها التي وُلدت حُرَّةً لم تفعل مثلَ هذا قَطُّ، ولا يصلح رفق بعض النخاسين — الذي يذكره المدافعون عن الرقِّ — أن يكون دليلًا مقبولًا أكثر من تمجيد مروءة الطغاة. ومما يُرَى وجود عبيدٍ يُعامَلون بأحسنَ مما يعامَل به الخَدَم لما لا يعبِّر عنه الخَدَم بثمنٍ. ومما يُرى وجود قبائلَ كثيرةٍ في الحبشة تَعُدُّ من الجور بيع عبدٍ أقام بينها زمنًا طويلًا، ولكن مثل هذا العبد يكون مهدَّدًا بالبيع على الدوام.

ويُرَى مع التوكيد أن المسلمين أكرم من النصارى في ذلك، ومن يَكُنْ له ولدٌ من أَمَةٍ يُلْزَم بتحريرها مع أن قساوسة النصارى لا يُعْتِقُون عبيدهم. وبما أن القرآن يحرِّم الزواج بأكثرَ من أربعِ نسوةٍ فإن من النادر أن يتزوَّج المسلم أمةً كانت سُرِّيَّةً لديه، والشريعة تكلأ٦ العبدَ في بعض الأحيان، فالعبدُ يُحرَّر إذا ما فقأ سيدُه عينه، وهذه مبادلةٌ جهنميةٌ أدعى إلى الفَزَع من حقِّ القتل!

وما هو مصير العبد بعد أن يُحَرَّر؟ هو يعد نفسه — من فوره — مساويًا لأيِّ شخصٍ كان، وهو يدعو السودَ الآخرين بالوحوش، وهو إذا ما اكتسب — أو سرق — مالًا اشترى عبيدًا، وامتنع عن كلِّ عملٍ وتعاطى النخاسة مفضِّلًا إياها على غيرها. وإذ إن خوف الرب — لا السبب الأدبي — هو الذي أوجب تحريرَه فإنه يؤدِّي إلى أمورٍ لاأخلاقية؛ وذلك لأن عِلَلَ أعمال الإنسان تكون ذاتَ ردِّ فعلٍ في نتائجها، فالعتيق الفاجر الكسلان المنتفخ يحاول كَتْمَ ماضيه ويُفْسِد مستقبلَه، وهذا العتيق إذا ما أَفْلَسَ عاد إلى مولاه القديم ورَكَعَ أمامه، وتَعدِل الجناية القديمة في إبقاء الرجل عبدًا بسبب مولده جنايةً حرمانه كلَّ حقٍّ بسبب عقيدته. والرقية وحدها — لا المعذرة ولا المغفرة — هي التي تُزِيلهما.

١  سولون: مشترع أثينة، وأحد حكماء اليونان السبعة (٦٤٠–٥٥٨ق.م).
٢  ليكورغ: مشترع إسبارطة، وقد عاش في القرن التاسع قبل الميلاد.
٣  جوستينيان: من قياصرة الروم، وهو صاحب المدونة المعروفة باسمه، وقد دام عهده من سنة ٥٢٧ إلى سنة ٥٦٥.
٤  Quakers، وتجيء هذه الكلمة بمعنى المهترين.
٥  كلاركسن: فيلسوف إنكليزي دعا إلى إلغاء الرق بحماسة (١٧٦٠–١٨٤٦).
٦  كلأه: حفظه وحرسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤