الفصل الخامس

تُعانِق سلسلة رُوِنزُوري في حِضنٍ واسعٍ ذلك البلد الرائع الواقع حول البحيرات الغربية، وكان القدماء يسمُّون تلك السلسلة جبالَ القمر، وإذ لم يَسطِع الزنوج أن يفسِّروا وجود الثلج على ذراها كانوا يزعمون أنها اجتذبت إليها نورَ ذلك الكوكب. والحقُّ أن سلسلة رونزوري لم تُصَوَّر من عنصرٍ أرضيٍّ كما يظهر، وهي التي تناطح سماء المساء الذهبي بعزلتها مرتفعةً خمسة آلاف متر في منطقة خطِّ الاستواء حيث تَوَارَى النبات واختفى الصَّوَّان وحيث يبدو جليد قممها وجَمَد قبابها، وهي منزويةٌ كفيلسوف يكفيه شعوره بقدر نفسه، فقاومت زمنًا طويلًا فضول الناس وحَجَبَتْ رءوسها عدة شهورٍ عن ثلاثةٍ من أعظم الرواد، فأخذوا يشكُّون فيما يؤكده الزنوج، وكثيرٌ أولئك السياح الذين اتخذوا الخريطةَ دليلًا لهم في البحث عنها فلم يروها قط، وهي أغنى جبال أفريقية، وهي — لتكاثف المطر على صخرها — تنزل ألوف الجداولُ منها فتتحول إلى أنهارٍ وتجتمع في بحيراتٍ وتؤلِّف نصف النيل الآخر في نهاية الأمر، ويمكن جبالَ القمر أن تُدْعَى ملكةَ ذلك البلد، غير أنها والدة له.

ويتألَّف من هذه السلسلة البالغِ طولُها مائة كيلومترٍ ثلاثةُ مدارج متعاقبةٌ، والسهب أولها، والسهب — وارتفاعه ألف متر — أهمُّها.

والسهب ساطعٌ، والسهب أرضٌ مفتوحة متموِّجة مجزَّأةٌ إلى مروج واسعة مع أنواع كثيرة من شجر السنط، ومن السنط ما هو بلا أوراق وما هو شائكٌ وما هو أبيض ضاربٌ إلى خضرة، ومنه ما هو أبيض ذو أوراقٍ خضرٍ لامعةٍ بين الشوك، ومنه ما هو أسود كثير الورق أسمر الفروع، ومنه ما هو ذو ساقٍ برَّاقةٍ ضاربةٍ إلى حمرةٍ، ومنه ما هو كبير العناقيد نَردِينيُّ١ الزهر أزرقه، ويقوم اليَتُوع٢ بينه قائمًا قاتمًا مستقيمًا مصمتًا،٣ ويلوح كل شيءٍ في اليَتُوع خاصًّا بما قبل الطوفان كالفيل، فهو عصلبيٌّ٤ أزغب، وهو يثير في النفس صورة أُسْرةٍ يرأسها زهرٌ ضخمٌ أصفر وورديٌّ، وتُزهِر السحلبيات العالية والنرجسيات القانية٥ على الأرض اليابسة، وتُوحي ألوف الأزهار فوق ضخم السوق وعلى مستوى الأرض برسم طاقةٍ ذات غبار أحمر، وتجري الأنهار هنالك حيث العشب يلمع مُدهَامًّا وحيث تتجمع الطيور في البردي وفي الأقسام الكثيفة من الغاب، ويبلغ ارتفاع ذلك الكلأ أربعةَ أمتار مع سوقٍ تستغلظ غِلَظَ الخيزران ومع أوراقٍ تنتهي بحرفٍ، ويسمى ذلك الكلأ على طول النيل عشب الفيل، والخَلَنْج٦ الأحمر الشائك الطويل هو الذي يفوقه علوًّا.
وتدنو الوعول من أنهار ذلك السهب غيرَ خائفةٍ تقريبًا، وترفع الغِزلان المُغرُ٧ الشُّعْرُ٨ قرونها الظريفة وتشم الهواء بمناخرها على حين يصل الرَّتُّ٩ متئدًا خافضَ الرأس بين الخوف والشجاعة، وتجاوز الوعول شائك العوسج قافزة، والبقعة الخضراء التي تنمُّ على الماء هي التي تجتذب جميعَ هذه الحيوانات، وفيما يحوم أبو سُعن١٠ فوق أرجال١١ الجراد كالجوارح١٢ يطير الخَضَارِي١٣ فوق غدير البردي مذعورًا من صفير العُقَاب.
وفي منطقة رُوِنزوري الثانية — التي هي بُقعَةُ المضايق والأودية والتي تكثُرُ فيها المساقط — يحيط بالبال نِطَاقٌ يُرَى من بعيدٍ، وهنالك تُبصِر غاباتٍ تكسوها الأُشْنَة١٤ بأسرها، وهنالك يسيطر شجرٌ من طائفة الصَّنَوْبَر والسَّرْو، ويعلو الخَيْزُران وترتفع اللُّوبِيلْيَة١٥ محدِّقةً مُفَتَّحَةَ العيون باديةً شمعةَ زهرٍ كالرمح مع عناقيد متدليةٍ منها، وتنتصب تلك النباتاتُ الكبيرة في غابةِ المطر الخالد كالمِسَلَّات في المقابر المهجورة.

ويُزهر بالقرب منها شجر الخَلَنج الأحمر الوردي والضارب إلى زرقة، ويستر هذا الشجر طُحلُبٌ أخضر برتقاليٌّ أُرجوانيٌّ متصلٌ بلحية غائمة نازلة من ساقه، ويتجمَّع بين هذا الشجر أجدادُه الموتى تحت كَفَنٍ من الطحلب الأبيض، ويئنُّ في كلِّ مكانٍ خيزرانٌ شبه مكسورٍ بفعل الريح والمطر، والحقُّ أن ذلك هو بلد البحيرات وفُوهَاتِ البراكين.

وهي كثيرةٌ، وهي تنظر إلى السماء بعينها السوداء غائصةً بين حواجز وَعِرَةٍ حافظت على شكلها الابتدائيِّ، ويَقطَع الصمتَ العميقَ هَدْرُ اليمام١٦ الرزين، وتُخفِي وجود الإنسان أشجارُ الموز في بقاعٍ محروثةٍ من الغابة مع أكواخٍ قليلة، وهنالك من المَرتَع١٧ البلقع١٨ ما يكون له في النفس أثر الحديقة المتروكة لو لم تُذَكِّرنا ذوات القوائم الأربع بالخطر الداهم من فَوْرها، ومما رُئِيَ هنالك، وعلى عُلُوِّ ١٨٠٠ متر، فُيُولٌ وجواميس، ومما شوهد هنالك أُسُودٌ تتعقب رِتَتَةً على ارتفاع ٢٤٠٠ متر، ومما نُظِرَ على ما هو أعلى من ذلك هنالك وُعُولٌ ورَبَابِيح١٩ وقِرَدَةٌ وهررةٌ وخشيةٌ وأرانب صخريةٌ وثابةٌ، وأنمارٌ تغامر حتى منطقة الثلوج، ومن بين الطيور تجد التُّمَّرة٢٠ ذات الالتماع الضارب إلى خُضرة مَعدِنية تصعد إلى آخر الأشجار باحثةً عن العسل.

والمنطقة الثالثة هي أضيق المناطق. وهي مستورةٌ تقريبًا، وعلى الدوام، بغطاءٍ من الأمطار والغيوم التي تتحول إلى ثلج، وهي سلسلةٌ من الذُّرَى الثلجية بالغةٌ خمسين كيلومترًا ومشابهةٌ لما في القفقاس، وبها يلمع آخر شهود العصر الجليدي من خلال القرون.

وفي سفح تلك الجبال، وفي غرب بحيرة فيكتورية، وفي حوض كاجيرا، حيث يترجح ارتفاع البلد بين ١١٠٠ متر و٣٠٠٠ متر، يصار إلى الطرف الشرقي من تلك الحفرة الكبيرة التي تنخفض إلى ١٥٠٠ متر دفعةً واحدة، ويبلغ الانحدار من الوهر والوعر ما يمتنع معه قطعُه على الحيوانات الوحشية عدا الفيل والجاموس.

وتجمع تلك الحفرةُ التي قَعَّرتها البراكين الفعالة مياهَها من سلسلة البحيرات، وتصل المياه إلى تلك الحفرة بجَرْيٍ دَلُوقٍ، وتقف المياه هنالك وتكسل ثم تشقُّ طريقًا لها بعنف.

ونحو الشمال، وإلى النيل وحدَه، تجري بحيرة إدوارد، التي تنال روافدَ من الجنوب والشمال ويذهب جميع ما يَنزِل من سلسلة رونزوري إلى النيل مارًّا من بحيرة جورج وبحيرة ألبرت، ويتوجَّه جميع ما يَرِدُ أوغندة من سيولٍ وأنهار وبحيرات إلى مَنْبَعَي النيل، حتى إن ما يود أن يتفلَّت منه لا يقاومه، ومن ذلك أن نهر كافو الذي يباري النيلَ الفتيَّ سرعةً في بدء الأمر يتردَّد بين اتجاهين، فإذا ما ذَهَبَ نحو بحيرة كِيُوغا التجأ إلى نيل فيكتورية، وإذا ما جَرَى نحو الغرب انتهى إلى نيل ألبرت، وفي كلتا الحالين ترتبط حياته الوضيعة في مصير رفيقه المرهوب.

١  النردين: نبات طيب الرائحة.
٢  اليتوع: نبات له لبن.
٣  المصمت: الذي لا فرجة فيه.
٤  العصلبي: القوي العظيم.
٥  القانية: الشديدة الحمرة.
٦  الخلنج: شجر كالطرفاء.
٧  المغر: جمع المغراء، وهي مؤنث الأمغر؛ أي ما كان لونه أحمر غير ناصع.
٨  الشعر: جمع الشعراء، وهي مؤنث الأشعر؛ أي الكثير الشعر الطويلُه.
٩  الرت: الخنزير البري، جمعه رتتة.
١٠  أبو سعن: طائر.
١١  أرجال: جمع رجل، وهو جماعة الجراد.
١٢  الجوارح: جمع الجارحة، وهي ذات الصيد من السباع والطير والكلاب.
١٣  الخضاري: جمع الخضيري، وهو عصفور أصفر اللون ضارب إلى الخضرة.
١٤  الأشنة: شيء نباتي يتكوَّن على الشجر والصخور.
١٥  اللوبيلية: نسبة إلى النباتي الفرنسي دولوبيل.
١٦  هدر اليمام هدرًا: قرقر وكرَّر صوته في حنجرته، واليمام هو الحمام البري.
١٧  المرتع: المرعى.
١٨  البلقع: القفر.
١٩  الربابيح: جمع الرباح، وهو القرد الذكر.
٢٠  التمرة: طائر أصغر من العصفور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤