الفصل الثالث

كان أقدمُ إنسانٍ حَفِظه هواء مصرَ الجافُّ مطمورًا في رمل الصحراء بالقرب من حُلوان، ولا أحدَ يَعرِف زمنَ ما قبل التاريخ الذي ظَهَرَ فيه، ووُجِد محاطًا بقواريرَ وببقايا حيواناتٍ وبسكاكينَ وأسورةٍ من برَونْزٍ ونُحَاسٍ، ووُجِدَ مُنثَنيًا كالجَنين موضوعًا على الشكل الذي كان عليه في بطن أمه، وكان يلوح — بنوعٍ من السحر — أنه يشير من خلال ألوف السنين إلى الأمِّ الأولى أو الأب الأول، فكأنه مُصَدِّقٌ لقاصِّي العرب الذين يَرجِعون — عن جُرْأةٍ — شجرةَ كلِّ خليفة وكلِّ حكيم إلى آدم. ومن أين أتى أولئك الناسُ الذين انتهت أسماؤهم إلينا فنَجِدُ أفيالًا وأنمارًا وأبقارَ ماءٍ وزرائفَ وأفاعيَ ودلادلَ١ محفورة على خناجرهم فتعودُ إلى دورٍ كان النُّحاس والعاج فيه مجهولين حتى في شواطئ الفرات؟ أجاءوا من الشمال أم من الجَنوب؟

تلك المسألة موضع جدلٍ لدى العلماء، فلا يَجِدون لها حلًّا، ولا شيء أكثر عُقمًا من إثارة مسألة العروق في مصر حيث تُحَوِّل الطبيعة والجو المتجبِّر كلَّ من يَدنُو من النيل. ويُثبِت سِيفْرِه أن السِّلْتِيِّين كانوا أولَ الغزاة، ويَرُدُّ فُولْنِه ذلك بأن أولئك من الزنوج، ويَرَى فِينكِلْمِن أنهم من الصينيين، ويَجِدُهم جُونِس من البُولِينِيزِيِّين، ويُجَهِّل بِيتْري جميعَ هؤلاء ويقول موكِّدًا: إن أولئك من الأحباش، ويَسخَر رُوجِه من تلك الآراء كلِّها ويقرِّر أن أولئك من البابليين.

ولم يَتَجَلَّ عدم أهمية العِرق وتأثيرُ الأرض القاطع في مكانٍ مثلَ تَجَلِّيهما هنا؛ ففي هذه الواحة العجيبة غدا جميعُ العروق والأجناس من إنسان وحيوان مصريًّا، ومن المُوضة٢ بين العلماء في الوقت الحاضر أن يُصِرُّوا على الرأي القائل إن المصريين الأولين كانوا من الحاميين المصاهرين للغَلَّا والصوماليين والمختلطين بالساميين المهاجرين إلى الدلتا الشرقية، وليس في هذا ما يُنِير الأمر، وأفضلُ من ذلك كلِّه أن يُقَابَل بين أقدم الأجسام المحنَّطَة ووجوهِ فِتيان الفلاحين، فهنالك يَبْدُو طولُ الأعناق والأنوف الآسيوية مع أنوف الزنوج الفُطْس وشفاههم الغليظة؛ أي تَبدُو نتائج توالدٍ دَامَ ستة آلاف سنةٍ فأسفر عن مَنْح أولئك صحةً ونشاطًا إن لم يَمنَحْهُم عِرْقًا خالصًا.
ولنا أبسطُ الأمثلة من الطبيعة والنهر؛ أي من الشمس والنيل. فالنيل يأتي من الجَنوب، والزوارقُ تجري فيه نازلةً نحو مجراه التحتانيِّ منذ أقدم الأزمان وعلى الرغم من الشلالات. ومما لا ريب فيه أن نَقَلَ الشعوبُ والرعاةُ ثمرةَ تجارِبهم، ثم وَصَلَ الساميون من الشرق مجاوزين الصحراءَ والبحر الأحمر تجارًا وجنودًا أَلَاحِيَ،٣ فلم ينفكَّ الفراعنة على قبورهم يَضْرِبُونَهم أو يَقطَعُون رءوسهم، ومَنْ نَزَلَ من البحر إلى الشمال، إلى الدلتا المستغدرة، فمن الإيجيِّين والفنيقيين والفُرْس والأَقرِيطشيين الذين أَتَوْا بعد الفراعنة التاريخيين.

ومن الطبيعي أن وُجِدَتْ في النيل الأعلى هياكلُ عظميةٌ لزنوجٍ وأن وُجِدَتْ في النيل الأدنى هياكل عظميةٌ لآسيويين. وإذا كان قد وجد في أقدم القبور قَمْحٌ مفحَّمٌ وقِضبانُ كَرْمٍ فإن من الموكَّد أن تكون هذه القضبان — ومن المحتمل أن تكون الحبوب — قد جاءت من شواطئ الفرات. وإذا كان ذو الرأس الكَبشِيِّ أمونُ قد وُجِدَ مرسومًا في الصخور الأفريقية فلِمَ لَمْ يَعِنَّ للأمم المجاورة الكثيرة أن تَمزُجَ الحيوانَ بالإله، ولِمَ لَمْ يفكِّر الفلَّاح الأول على النيل في رسم خطٍّ بالعَصَا على الأرضِ ذاتِ الغِريَن الناعم فيخترعَ المحراثَ على هذا الوجه؟

أجل، عَرَفَ المصريون أن يَشِيدُوا مبانيَ وأن ينحتوا حجارةً من غير أن يعلِّمهم ذلك أجنبيٌّ، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن أولَ صنمٍ مصريٍّ كان إلهةً لها جسمُ بقر الماء.

والنيل لدى أولئك القوم مقياسُ كلِّ شيء في كلِّ زمن، سواءٌ أكان ذلك منذ ستة آلاف سنة أم في الوقت الحاضر، وعند أحد الفراعنة أن المَجدَ من عناصر حياة الخلود فَصَرَخ قائلًا: «يمكن الناسَ أن يقولوا عني ذاتَ يومٍ إنه كان نيلًا!» وعلى مَنْ يَمثُل بين يَدَيْ أُورِيرِس وقضاةِ الموت أن يُبَرِّئَ نفسه مع اليمين من الكبائر الأربع والأربعين فيقول عن إحداها: «إنني لم أُلَوِّثْ ماءَ النيل ولم أَحْبِسْه عن الجريان في موسمه ولم أَسُدَّ قناةً.»

وقد بَلَغَ أولئك القوم من تقديس النهر ما كان أهلُ ضِفافه يحنِّطون معه مَنْ يَغرَق فيه ويَدفنونه مغمورًا بالأزهار كما لو عاد غيرَ بدنٍ بشريٍّ. وقد بَلَغَ النيل من تعيينه الجنسيةَ ما كان معه الإله أمون يُصرِّح بلسان كهنته قائلًا: «إن البلد الذي يَفِيض فيه النيل هو مصر، فكلُّ من يَشرَب من النيل في مجراه التحتاني بعد بِلاق٤ فهو مصريٌّ.»

وحُقِّقَ ذلك بما هو أعمقُ عن روحٍ شعريةٍ، ويَستعمل أوميروس ضميرَ المذكَّر للنيل وضميرَ المؤنَّث لمصر، ويَرمُزُ هذا الفرق النحويُّ إلى مصر. ولم تكن التماثيل التي جَعَلَ النحَّاتون بها من النيل رجلًا منتفخًا بطينًا ذا ثَدْيٍ، ولم تكن الأناشيدُ المصرية، ولم تكن الصُّوَرُ الرائعة التي رَسَمَها من ظَهَرَ من المصوِّرين في تاريخٍ متأخر، لتُعَبِّر عن الأسطورة بمثل الكلمة التي صَدَرَت عن ذلك الإغريقيِّ الأجنبيِّ المُدرِك لِمَا في النهر من قوةٍ مولَّدة قبل هيرودوتس بأربعة قرون.

وقد حَدَّد نيلُ النوبة — ويختلف عن نيلِ مصرَ بشلالاته الستِّ المكوَّنَة من الغرانيت والحجر الرمليِّ الصوَّانيِّ — أمورَ الريِّ والزراعة تحديدًا لم تكن الفِلاحة معه لتمتدَّ في ١٢٠٠ كيلومتر على غير كيلومترين أو ثلاثة كيلومتراتٍ من العرض، ويُسَيْطِر الكِلْسُ الصَّدَفِيُّ تحت أُسوان حيث تَبدَأ مصرُ جيولوجيًّا، فيَحفِر النيلُ مجراه العريضَ في هذه الأرض اللَّيِّنَة ويستطيع في نهاية الأمر أن يَخزُن هنا ما يَجُرُّه من غِرْيَن في ألوف الكيلومترات، وهكذا يتكوَّن بلدٌ خصيب أوسع مما في السودان خمسَ عشرةَ مرة. والآن ترى الواديَ البالغَ الضيق وغيرَ الموجود في الغالب بين وادي حلفا وأُسوان يمتدُّ مع اتساع يَستُر ما بين عشرة كيلومترات وخمسةٍ وعشرين كيلومترًا، ولو كان طوله مناسبًا لعرضه بدلًا من أن يبلُغ ألف كيلومتر لظَهَرَت واحةٌ كبيرة في الصحراء.

ومع ذلك تَفصِل خطوةٌ واحدة ما بين الحقل الأخضر والصحراء ذات اللون الأصفر، وَمَنْ يُشَاهِد هذا المنظرَ من الطائرة المتجهة إلى الشمال لا يكاد يصدِّق أنه من الحقائق، وإنما يخيَّل إليه وجودُ خريطةٍ تحت قدميه دالَّةٍ على الوجه الذي يتغلَّب به الماء على الرمل والذكاءُ على الماء، وعلى الوجه الذي ينتصران به على الشمس.

١  الدلادل: جمع الدلدل، وهو حيوان على ظهره شوك طويل، وهو معروف بالقنفذ.
٢  Mode, Fashion.
٣  الألاحي: جمع الألحى، وهو الطويل اللحية.
٤  Eléphantine.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤